{{ رحلة قلم في عالم الأساطير ][ مدينة بلا جسد }}

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 8 من 8

مشاهدة المواضيع

  1. #1

    الصورة الرمزية Hercule Poirot

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    3,514
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    Pen Icon {{ رحلة قلم في عالم الأساطير ][ مدينة بلا جسد }}



    "هل ... ـعني ... ـها ... ـير".
    فتحتُ عينيّ بتثاقل. طنين حاد قد ملأ أذنيّ، لكن حدّته أخذت تخفّ تدريجيًا.
    "هل ... ـعني ... ـها ... ـير".
    ماذا؟ يبدو أن أحدًا يتكلم بالقرب مني. ما زالت رؤيتي ضبابية، فاستجمعتُ ما استطعتُ من تركيزي وصببته على التقاط ما يصل من كلمات إلى أذنيّ.
    "هل تسمعني أيها الصغير؟"
    هززتُ رأسي بالإيجاب بالقدر الذي سمحت لي به قواي الخائرة.
    "هل جسدك على ما يرام؟ لا يبدو أنك مصاب بجروح أو كسور في أي مكان. هيا، حاول النهوض مجددًا".
    بدأ ذهني يستجمع شتاته وعادت الأفكار تنكسب فيه كماء الصنبور المتدفق. من الجيد أن تجد شخصًا لطيفًا يحاول مساعدتك عندما تقع في مأزق. توقف اندفاع الأفكار فجأة كما لو أن صخرة سدّت مجرى منبعها.
    قلتُ لصاحب الصوت وأنا أمدّ يدي نحوه: "هلا ساعدتني في النهوض رجاءً!"
    أجاب بعد لحظة تردد: "بودّي لو أفعل، ولكن كما ترى، ..."، ومدّ يده تجاه يدي حتى تلامستا...
    انتفضت كل حواسي بغتة، وارتجفت كل خلية من خلايا أعضائي الحسية والإدراكية. لقد مّد يده تجاه يدي حتى تلامستا، لكنهما لم تتماسّا، بل استمرت يده تتقدم نحوي مخترقة جسدي وكأنه غير موجود!
    أردف مستكملًا جملته المبتورة: "الأشباح لا تستطيع التفاعل مع العالم المادّي كما تعلم".

    *****

    "اسمي هو آرثر، وأنا أسكن هذه المدينة منذ ألف وخمسمئة عام. لا تتصور مدى سعادتي بالتعرف إلى صديق جديد، فهو أمر لا يحصل كثيرًا في هذا المكان كما تعلم..."
    لم أكن أعلم بطبيعة الحال. لم يكن "صديقي" الجديد شبحًا فحسب، بل يبدو أن طول وحدته في هذا المكان قد جعله ثرثارًا. توقفتُ عن الإصغاء إلى سيل كلماته المنهمر، فقد بات يشغل بالي أمر أهمّ وأخطر. أين أنا؟ ما هذا المكان؟ وكيف وصلتُ إليه؟ ومنذ متى أنا فيه؟!

    لم أفقد ذاكرتي بعد... على الأقل، ليس بالكامل. ما زلتُ أذكر اسمي وعمري، وعملي الذي هو مزيج من التسكع في الطرقات في النهار والنوم على مقعد متنزه في الليل. لم يكن هناك الكثير من ذكريات الماضي لاسترجاعها، فقد قضيتُ طفولتي يتيمًا، وأفضلَ أيامي وحيدًا، وشققتُ طريقي المتعرج بين تأرجحات الأيام وشظف العيش. لكن أيًا من ذلك لم يُلقِ أدنى ضوءٍ أو يُشِر بأقل تلميح إلى ماهية وضعي ومكاني الحاليين!

    تطلعتُ إلى آرثر الذي يمشي، أو بالأحرى يطفو، بجواري. كان مندفعًا منغمسًا في خطاب تعريفي عن الأماكن والأشياء الغريبة التي نمرّ بها، وكأنه مرشد سياحيّ محنّك يُدفع له راتبه حسب عدد الكلمات. رفعتُ يدي ببطء نحو جسده الهلامي شبه الشفاف، فاخترقته ذهابًا أو إيابًا، دون أن يبالي أو تصدر منه ردة فعل تنبئ بالشعور. كان المكان يفيض بالكائنات الهلامية التي تسبح في الجو، وهي تشبه آرثر في الشكل والتكوين لكنها تتباين في الألوان والأحجام. كان آرثر في خضمّ إلقاء درس تاريخي معمق عن فصيلة من الكائنات الشبحية الصديقة تُسمّى "سبيرانوس"، حين لفت انتباهي شيء متلألئ في الجهة المقابلة.

    اقتربتُ لأستطلع عن كثب، فإذا بي أرى إحدى ألطف وأرقّ الكائنات التي وقع عليها ناظري في حياتي. كانت كائنات لؤلؤية صغيرة، بحجم الكتاكيت وَرِقة السناجب وظرافة فئران الهامستر، تطفو على علو منخفض وكأنها مراكب ورقية صغيرة تمخر في سطح دلو من الماء. التفتُّ إلى آرثر الذي ما زال يحدّث الفراغ في الجهة الأخرى وهو يحسبني بجانبه: "وماذا عن هذه الكائنات؟ إياك أن يكون لها اسم غير لطيف أو غير لائق بحقها!"

    استدار آرثر على سماع صوتي وقد أدرك أخيرًا أن زبونه الوحيد قد وجد شيئًا آخر يلفت انتباهه عن الإصغاء له. أجاب: "آه، هذه كائنات النايتميريون"، وهزّ رأسه مؤكدًا ورمقني بنظرة وكأنه يُفترض بي أن أميّز ذلك الاسم أو أفهم معناه، ثم أردف: "إنها مخلوقات تقتات على أحلام ضحيتها وتحولها إلى كوابيس، وهي شهيرة بقدرتها على عدم استطاعة ضحيتها الإفلات منها إن نجحت بالإمساك بها، ولكن لا داعي للقلق، فهي لا تسبب لنا أذى - نحن معشر الأشباح - ففريستها ينبغي أن يكون لها جسد حتـ... أوه..."

    وكان ذلك التأوه بمثابة رصاصة البدء في سباق العدو، إذ انطلقتُ أجري كالمجنون بلا هوادة بينما عفاريت النايتميريون اللعينة في أثري. تبًا لذلك الآرثر، أما كان يستطيع أن يتفوه بالأهمّ من المعلومات أولًا؟! أخذت تلك الكائنات تصدر بعض الشرارات الكهربائية من خلفي، فازدادت خفقات قلبي وسرعة جريي. لا أدري أهو تأثير الأدرينالين المرتفع في دمائي، أم صدى الشرارات الكهربائي في أذني، أم الرعب المستشري في شراييني، لكن الضباب الذي كان يخيّم على جزء من ذاكرتي طفق ينحسر شيئًا فشيئًا، وبدأتُ أرى صورًا عابرة في مؤخر مخيلتي وأنا أركض: خوذة حمراء، رجل يلقي إليّ بضع كلمات بملل، قمرة صغيرة، ارتجاج قوي مفاجئ... مهلًا! هل يُعقل؟... لكن هذا يعني... ما كان ذاك مجددًا...

    وانقطع حبل أفكاري بغتة لدى رؤية لافتة كُتب عليها بحروف ذهبية عاكسة للضوء: "مرحبًا بكم في غابة التيتاروس يا محبي المغامرة وعاشقي الأخطار"!

    *****

    بيتر: "يا له من همّ قد انزاح عن كاهلنا! كان يومًا شديد الطول كونه آخر يوم عمل لنا في ذلك المكان".
    إميلي: "كان ليمرّ بسرعة لو أنك ساعدتَ في إنهاء المهام بدل التقاعس والتكاسل كعادتك".
    بيتر: "بالله عليكِ، من سيسأل أو سيدقق في أفعالنا في كوكب مهجور؟"
    أجابت دون أن تُبعد ناظريها عن لوحة القيادة أو تترك الدفة التي تتحكم بمسار المركبة الفضائية: "صحيحٌ أن مالك الكوكب السابق كان ثريًا غريب الأطوار، وقد اختار كوكبًا نائيًا جدًا عن كواكب المجموعات السكنية الأخرى، لكن ورثته مشغولون بتقاسم ثروته الضخمة بعد موته، وهذا يعني..."
    قاطعها قائلًا: "أجل، هذا ما كنت أقوله، فمن بين ثروة الكواكب والأموال الطائلة التي تركها، لن يبالي أحد من الورثة بكوكب صغير في البُعد السحيق ليس فيه سوى مركز تسالي واحد لم يكن يرتاده إلا القليلون".
    ساد بينهما صمت قصير لبعض الوقت.
    قالت: "هل تأكدتَ من تطبيق بروتوكول إخلاء المكان كما يجب؟"
    أجاب متأففًا: "ماذا تحسبينني؟ كل رواد الملاهي خرجوا قبل مغادرتنا بساعتين، وكل الألعاب ظاهرة للعيان من الخارج بمن فيها، ما عدا مدينة الأشباح الافتراضية. ولكن لماذا أتعب نفسي؟ دُونكِ تقرير الإخلاء فتحققي منه بنفسكِ!"
    وضعتْ لوحة القيادة على نمط الإبحار الآلي وتناولت منه ورقة التقرير. ألقت نظرة متفحصة عليها غير عابئة بتذمره، ثم عبست قليلًا عندما وصلت إلى منتصفها.
    "لم يذكر التقرير شيئًا عن حالة القمرة 13".
    "أوه! أليس ذلك بديهيًا؟ إنه رقم يتشاءم منه الجميع كما تعلمين، ولا أذكر أن أحدًا استخدم تلك القمرة من قبل طيلة سنوات عملي".
    أطرقتْ قليلًا، ثم ما لبثت أن قالت: "نعم، لا ريب أنك محق..."، غير أنها بترت عبارتها عندما لمحت ابتسامة تتراقص على شفتيه.
    كشّرت فيه قائلة: "ما المضحك في الأمر؟"
    "أوه، لا تستائي. خطر لي خاطر عجيب للتو فحسب. ماذا لو أن أحدًا قد بقي فعلًا في تلك المدينة الافتراضية ولم يرحل مع الآخرين. ولكن ذلك مستحيل طبعًا، فقد أخبرنا جميع الرواد عن كلمة الطوارئ (إكسيدوس)، والتي هي الكلمة الوحيدة التي ينقلها نظام اللعبة من العالم الافتراضي إلى مكبرات الصوت الخارجية، فإذا ما نطق اللاعب بهذه الكلمة، فإننا نسمعها من مركز تحكم اللعبة ونخرجه منها على الفور".
    "أجل، أنت محق. أعتقد أنه لا ينبغي أن نشغل بالنا بهذا الأمر بل نصرفه إلى ما هو أهم؛ وظيفتنا التالية مثلًا. هل جربتَ إرسال سيرتك الذاتية إلى كوكب (سيفيرون)؟"

    وتابعا نقاشهما الودي في هدوء، بينما المركبة تشق طريقها بسلاسة بين الكواكب والنجوم.

    *****

    وفي مكان بعيد، جِدّ بعيد، كان صدى صوت معيّن يخرج من مكبرات صوت، فيذوب في غياهب أثير الفضاء المترامي، صائحًا بكل ما أوتي من عزم: "إكسيدوس... إكسيدوس... إكسييدووووووووس!"

    تمّت




    التعديل الأخير تم بواسطة Hercule Poirot ; 25-3-2016 الساعة 09:47 PM

  2. 10 أعضاء شكروا Hercule Poirot على هذا الموضوع المفيد:


المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...