╠الفارس المصلوب..! || مسابقة سِيـَ في رحاب الأصحاب ـرْ ╣

[ منتدى نور على نور ]


النتائج 1 إلى 8 من 8
  1. #1

    الصورة الرمزية تشيزوكو

    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المـشـــاركــات
    4,317
    الــــدولــــــــة
    مغترب
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي ╠الفارس المصلوب..! || مسابقة سِيـَ في رحاب الأصحاب ـرْ ╣




    قبل البداية



    هل جربتَ من قبل أن تترك كل شيءٍ وراءَك وتبدأ من الصفر؟

    لعلك صاحبُ تجارةٍ كبيرة، ومنزلٍ تعبت حتى بنيته بعرق جبينك، وأرضٍ ورثتها عن آبائك، وحرثتَها بيدك، وأهلٍ يعنون كلَّ شيءٍ لك في هذه الحياة..

    هل جربتَ أن تترك كل ذلك، أن تتخلى عنه وتنسلخ منه، وتنتقل إلى مكانٍ جديد، لا دار لك فيه ولا أهل، لا تكاد تحمل من متاع الدنيا سوى نفسك.. ولا تدري ماذا سيحل بك؟

    هذا كان حالهم جميعًا.. تركوا كل شيءٍ وراءهم.. بالكاد حملوا شيئًا.. وهاجروا.. فرارًا بإيمانهم..!

    واحدًا واحدًا في جوف الليل حتى لا يدري بهم أعداؤهم.. وانتظرهم هو.. رسولهم عليه أفضل الصلاة والسلام.. حتى تيقن بلوغهم مأمنهم جميعًا.. فتبعهم في جوف الليل في قصة هجرةٍ شهيرةٍ ومخيفة..

    انتظروه بصبر.. واحتفلوا بوصوله.. وتمكن من دمجهم مع المجتمع الجديد بحكمةٍ بالغة.. وما كادوا يلتقطون أنفاسهم حتى بدأت محنةٌ جديدة..!

    الإشاعات تنتشر هنا وهناك.. والابتلاء الجديد تتشكل ملامحه.. ففي مجتمعم الجديد حفنةٌ من اليهود الذين لن يتركوا الأمر يمر بسلام..

    كانوا قد لاحظوا أن القادمين الجدد لا يُولد لهم ولد! وأعلن اليهود أنهم قد سحروا المسلمين المهاجرين، فأصابوهم بالعقم.. وبهذا انقطع نسلهم..!

    وبدأت الأقاويل تنتشر.. والقلق يتزايد.. ومرّ الشهر تلو الشهر.. ولا يزال المسلمون في كربٍ عظيم.. وهمٍّ جسيم.. يترقبون الأنباء وينتظرون بقلقٍ أيَّ خبرٍ سعيد..

    حتى وصل قباء مهاجران جديدان..

    الزبير بن العوام، ابن عمة النبي صفية بنت عبد المطلب.. ومعه زوجه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين..

    لقد كانت أسماء حاملاً عندما كانت تقطع الطرق الوعرة لتوصل الطعام للرسول صلى الله عليه وسلم وأبيها وهما في الغار خلال رحلة هجرتهما..

    لقد كانت حاملاً عندما لزمت بيتها وصمتت بينما يسألها أبو جهلٍ بغضب عن مكان والدها ثم يلطمها لطمةً توقع قرطها..

    كانت حاملاً عندما قطعت الصحراء مع زوجها لتلحق أخيرًا بالمهاجرين..

    وفي قباء.. على حدود المدينة.. وبمجرد وصولها.. جاءها المخاض.. ووضعت طفلها.. ذكرًا سليمًا لا يعاني من شيء..!

    وانتشرت الأنباء.. لقد ثبتت سلامتهم من السحر..!

    حملت أسماء طفلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكم كانت فرحته وفرحة المسلمين به كبيرة وعظيمة.. قبّله رسول الله صلى الله عليه وسلم وحنّكه بتمرة، فكان أول ما دخل جوفه هو ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمّاه.. عبد الله..!

    ثم إنه سلّمه إلى جده أبي بكر ليؤذن في أذنه، ثم يحمله ويطوف به المدينة وخلفه المسلمون محتشدون في مسيرةٍ مهيبة، يكبّرون باستبشار، فرحين بمقدم هذا الطفل إلى الدنيا..!

    هكذا استقبلته الدنيا.. بتكبيراتٍ تشق السماء فرحًا بمقدمه.. هكذا وُلد عبد الله بن الزبير رضي الله عنه..





    عبد الله فتيًّا


    أيةُ بيئةٍ مغمورةٍ في الإيمان هذه التي نشأ فيها بطلنا؟

    فأمه أسماء بنت أبي بكر.. ذات النطاقين ومن أوائل المسلمات..

    خالته هي عائشة بنت أبي بكر.. أم المؤمنين وحبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وكان يحبها ويأخذ العلم منها وكانت هي تعتني به وتتعهده، حتى أنها كُنِّيت بأم عبد الله!

    جده هو الصديق أبو بكر.. خليفة المسلمين وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وقد كنّى رسولُ اللهِ عبدَ اللهِ بكنية جده، فكان يُكنّى بأبي بكر..
    كما كُنِّي أيضًا بأبي خبيب نسبةً لابنه الأول..

    والده هو الزبير بن العوام.. حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد العشرة المبشرين بالجنة..

    جدته لأبيه هي صفية بنت عبد المطلب، عمة الرسول صلى الله عليه وسلم والتي اشتهرت بشجاعتها وإقدامها..

    في هذه البيئة المؤمنة التقية نشأ بطلنا..

    نشأ على الإيمان والشجاعة منذ نعومة أظفاره..

    فقد كلّم الصحابة مرةً رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجموعةٍ من صغار الصحابة منهم عبد الله بن الزبير، وقالوا: لو بايعتهم فتصيبهم بركتك ويكون لهم ذِكر..

    فجاءوا بالصغار ووقفوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.. ويا له من موقفٍ مهيبٍ لهم!

    تردد الصغار.. هابوا الموقف.. ومن بينهم تقدّم عبد الله مقتحمًا.. وهو ابن سبع سنين فقط!

    فتبسم له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إنه ابن أبيه"! ثم بايعه..

    ~

    ومن المواقف المشهورة له في صباه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم يومًا، ثم إنه ناول عبدَ الله إناء الدم وطلب منه أن يريقه حيث لا يراه أحد..

    فلما ابتعد عبد الله، تناول الدم الشريف وشربه..!

    ثم إنه عاد فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عما فعل بالدم فقال: عمدتُ إلى أخفى موضع علمتُ، فجعلتُه فيه..

    فسأله الرسول: لعلك شربته؟

    قال: نعم!

    فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشر لا تمسُّك النارُ أبداً. وويلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ وَوَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ"!

    ~

    وقد قيل في عبد الله: كان ابن الزبير لا يُنازع في ثلاثة: شجاعة، ولا عبادة، ولا بلاغة!

    وكيف يُنازع في عبادته وهو الذي كان يُقال فيه: ما رأيت مصليًا قط أحسن صلاة من عبد الله بن الزبير!

    وكيف يُنازع في بلاغته وهو من كان يعدُّ أحد خطباء قريش في الإسلام؟

    وكيف ينازع في شجاعته، وقد شهد مع أبيه معركة اليرموك وهو ابن 14 عامًا فقط!

    كما أنه شارك مع أبيه في فتح مصر، وشارك كذلك في فتوحات شمال أفريقيا فكان لمشاركته أثر بالغ في ترجيح كفة المسلمين في المعركة..

    فقد استطاع في جماعة من الفرسان أن يخترق صفوف الرومان ويقتل بنفسه قائدهم جرجير..! فارتبك الروّمان وكانت الغلبة للمسلمين بفضل الله ثم بشجاعة وإقدام المجاهد الشاب..





    الباب المكسور


    ما من حكايةٍ إلا وتمر بمحطاتٍ مؤلمة..

    وقد حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن باب الفتنة سيُكسر بعد استشهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه..

    وقد كُسر الباب.. وتوالت الفتن.. وقُدِّر لعبد الله رضي الله عنه أن يكون في قلب الأحداث الدامية التي واجهها بصبرٍ وثبات..

    فقد كان ابن الزبير رضي الله عنه ممن دافع عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ليلة مقتله، حاول حمايته ببسالة رغم رفض عثمانَ لذلك.. وأصيب في تلك الليلة إصاباتٍ بالغة، واستشهد عثمان رضي الله عنه..

    كما شارك مع أبيه في موقعة الجمل وأصيب فيها كذلك بشدة، وسجدت خالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لله شكرًا لمّا عرفت بسلامته لشدة تعلقها به ولمكانته العالية في قلبها..

    وفي عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، آثر عبد الله الجهاد والمشاركة في فتوحات أفريقيا كما أسلفنا، كما كان في الجيش الذي حاصر القسطنطينية..

    ولكن..

    لمّا رحل معاوية رضي الله عنه، وبويع ابنه يزيد بالخلافة، بدأت بوادر قصةٍ جديدة، ومرحلةٍ جديدة من حياة ابن الزبير..

    مرحلة مؤلمة.. نستعرضها معًا ونقلب صفحاتها دون تفصيلٍ كبير، فالألم فيها يبلغ ذروته، والباب المكسور لا يمكن إعادة إغلاقه..

    ففي الحجاز، حيث يعيش أبناء الصحابة، تم الامتناع عن مبايعة يزيد، رفضًا لمبدأ توريث الحكم الذي سيحصل بهذا..

    وعلى رأس أبناء الصحابة، كان الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما..

    غير أن يزيدًا أصرّ على أخذ البيعة منهم بالقوة، فالتجأ عبد الله بن الزبير إلى مكة، وسمِّي بالعائذ بالبيت..

    أما الحسين رضي الله عنه فقد قُتِل في موقعة كربلاء الشهيرة..

    وبعد استشهاد الحسين، ازداد سخط أهل الحجاز على يزيد، وازداد التفافهم حول ابن الزبير، فأرسل حينها يزيد بن معاوية جيشًا متجهًا إلى مكة لأخذ البيعة بالقوة..

    قائد الجيش كان يدعى مسلم بن عقبة المري، وقد مرّ بالمدينة المنورة أولاً، ووقعت هناك معركةٌ دمويةٌ عُرفت باسم وقعة الحرة، قُتل فيها الكثير من الصحابة وأبناء الصحابة من أهل المدينة رضوان الله عليهم واستُحلت حرمات المدينة ثلاثة أيام..

    ثم توجه الجيش نحو مكة، غير أن قائدهم مات في منتصف الطريق، فخلفه الحصين بن نمير السكوني..

    حاصر الجيش مكة لأكثر من شهرين، وضربوها بالمنجنيق حتى أنهم أصابوا الكعبة المشرفة فأحرقوها وهدموا أجزاءً منها..!

    بعد أن استشار عبد الله الصحابة، واستخار لثلاثة أيام، أعاد بناء الكعبة على أسس إبراهيم عليه السلام، وضم إليها حجر إسماعيل، الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان جزءًا من الكعبة وأنه ودّ لو يلحقه بها لولا أن قريشًا حديثو عهدٍ بالإسلام..

    غير أن بناء ابن الزبير لم يدم طويلاً، فقد أعادها الحجاج لاحقًا لما كانت عليه ولم يكن قد بلغه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    نعود إلى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وأصحابه المحاصرين في مكة بصبر وثبات..

    حصارٌ طويل لا يواجهونه إلا بثباتهم وإصرارهم على مبادئهم..

    وخلال هذا الحصار المضني.. جاء رسولٌ من الشام يحمل أخبارًا مفاجِئة ستقلب الموازين تمامًا..

    لقد توفي يزيد بن معاوية!

    الحصين الذي كان يحاصر مكة طلب لقاء ابن الزبير، وعرض عليه أن يبايعه خليفةً للمسلمين وأن يسير بالجيش إلى الشام ليبايعه الناس هناك!

    غير أن ابن الزبير رفض ذلك، لأن في رقبة هذا الجيش دماءً طاهرةً سالت في وقعة الحرة.. ولكنه دعاه لمبايعته في الشام..

    وهكذا غادر حصين بجيشه إلى الشام، وبدأ المسلمون بمبايعة عبد الله بن الزبير خليفةً للمسلمين، وأميرًا للمؤمنين..!






    أمير المؤمنين


    يعدّ المؤرخون عبدَ الله بن الزبير خليفة المسلمين الشرعي بعد يزيد بن معاوية..

    وذلك لأن معظم الأمصار الإسلامية قامت بمبايعته على الخلافة باستثناءٍ أجزاء من الشام..!

    فقد كان محبوه وأنصاره كثر، ورأى الجميع أنه الأحق بالخلافة.. كيف لا وهو من هو في فضله ومكانته وشجاعته وإيمانه؟

    ولكن.. ما الذي كان يحدث في الشام..؟

    كان بقية أنصار الأمويين مختلفين فيمن يبايعون بالخلافة منهم، واستقر أمرهم أخيرًا على مروان بن الحكم، فبدأ مروان بعد أن استتب الأمر له، بقتال أنصار عبد الله بن الزبير في الشام حتى تمكن من هزيمتهم واستقرت له الشام..!

    بالطبع في هذه الأسطر القليلة تختفي سنواتٌ وأحداثٌ عديدة، اختلاف الأمويين، استقرارهم على خليفة، ثوراتهم الداخلية، وأخيرًا تمكنهم من إحكامم سيطرتهم على الشام..

    وخلال هذه الفترة توفي مروان، وتولى الخلافة من بعده ولده عبد الملك بن مروان..

    قاد عبد الملك جيشًا باتجاه العراق، ليضمها إليه.. وكان والي عبد الله بن الزبير في العراق هو شقيقه مصعب بن الزبير..

    والواقع أن العراق كانت تمر بالكثير من الفتن والاضطرابات والانقسامات منذ استشهاد الحسين رضي الله عنه في كربلاء..

    لذلك عندما التقى الجيشان تخاذل جانبٌ من أهل العراق عن جيش مصعب لتكون الغلبة لعبد الملك، وليتمكن من ضم العراق إلى خلافته، وقُتل مصعب بن الزبير في تلك الأحداث..

    ولم يبق سوى الحجاز محافظةً على بيعتها لأمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنه..

    ثم أرسل عبد الملك جيوشه إلى الحجاز، وبعد معارك طويلةٍ وعديدة تمكن من إخضاع المدينة المنورة..

    وأخيرًا وحين لم يبق أمامه سوى مكة، أرسل جيشًا ضخمًا ليواجه به عبد الله بن الزبير بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي..!





    الفارس المصلوب


    لم يكن الأمر سهلاً..

    كرٌّ وفرٌّ متواصل..

    حصارٌ طويلٌ ومؤلم..

    نصب الحجاج خمسة مجانيق وصار يقذف بها قلب مكة..

    منع الماء والطعام من الدخول إليها، فأصابت أهلها مجاعةٌ كبيرة..

    أهل مكة ليس لهم سوى زمزم..

    المنجنيق يقذف النيران، ويعلو صوتُ الصواعق صوتَه..

    جيش الشام يتخاذل..

    الحجاج يشجعهم..

    الصاعقة تصيب المنجنيق وتدمره..

    الحجاج يطمئن أتباعه بأن احتراق القرابين هي علامة القبول..

    الحصار يشتد..

    أصحاب عبد الله يسألونه أن يطلب الصلح، فيجيبهم: والله لو وجدوكم في جوف الكعبة لذبحوكم جميعاً والله لا أسألهم صلحاً أبداً‏..!

    الجوع يزداد..

    عبد الله يذبح فرسه ليطعم أصحابه..

    لا يقدر الجميع على الثبات..

    ينسحبون بصمت ويطلبون الأمان من الحجاج..

    الكثير من أصحاب عبد الله قُتلوا.. والكثير منهم تخاذلوا..

    عبد الله يقاتل وحده! يصدهم عن أبواب مكة وحده!

    لم يبق معه سوى نفرٍ قليلٍ من أصحابه..

    أدرك عبد الله أنها النهاية.. فذهب إلى حبيبة قلبه وناصرته.. والدته أسماء بنت أبي بكر، ذات النطاقين رضي الله عنها..!

    شكا لها تخاذل الناس، وأن النهاية تقترب، وأن القوم يعرضون عليه ما شاء من الدنيا.. وسألها رأيها..

    وبدأ المشهد المؤثر بين الأم وابنها.. مشهد الوداع.. مشهد الألم.. ومشهد الصبر والصمود..

    قالت:

    يا بني أنت أعلم بنفسك..

    إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق فاصبر عليه، فقد قُتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يلعب بها غلمان بني أمية..

    وإن كنت تعلم أنك إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قُتل معك..

    وإن كنتَ على حق فما وهن الدين وإلى كم خلودكم في الدنيا‏؟‏ القتل أحسن‏.‏.!




    فدنا منها فقبّل رأسها وقال‏:‏

    هذا والله رأيي، والله ما ركنتُ إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمته، ولكنني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتيني بصيرة مع بصيرتي‏.‏.


    فانظري يا إماه فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتد حزنك، وسلمي لأمر الله..

    فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عمل بفاحشة قط، ولم يَجُرْ في حكم الله، ولم يَغْدُرْ في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عامل فرضيته بل أنكرته، ولم يكن عندي آثر من رضى ربي عز وجل‏.‏.


    اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي، اللهم أنت أعلم بي مني ومن غيري، ولكني أقول ذلك تعزية لأمي لتسلو عني‏.‏.



    ثم إنه أوصاها بالدعاء له، فدعت الله قائلة:

    اللهم ارحم طول ذلك القيام وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللهم إني قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فقابلني في عبد الله بن الزبير بثواب الصابرين الشاكرين‏.‏.



    ثم اقتربت منه بحب وألم، وضمته إلى صدرها لتودعه.. كانت أسماء قد كبرت في السن وفقدت بصرها، فلما احتضنته وجدته لابسًا درعًا من حديد..

    فقالت‏:‏
    يا بني ما هذا لباس من يريد ما نريد من الشهادة..!‏


    فقال‏:‏ يا أماه إنما لبسته لأطيب خاطرك وأسكن قلبك به‏..


    فطلبت منه أن ينزعه فنزعه، وجعلت تذكره بأبيه الزبير، وجده أبو بكر الصديق، وجدته صفية بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجوه القدوم عليهم إذا هو قتل شهيداً‏..


    ثم خرج من عندها فكان ذلك اللقاء آخر عهده بها رضي الله عنهما..

    وانطلق يقاتل ببسالةٍ وشجاعة كليثٍ هصور لا يقدر على إيقافه أو ردعه أحد..

    فكان يخرج من أبواب المسجد الحرام حيث يجتمع المحاصِرون، وعلى كل بابٍ ما يقارب الخمسمائة مقاتل.. فيحاربهم بمفرده ويشتت شملهم عن الأبواب بابًا بابًا..

    يصيب حجر المنجنيق طرف ثوبه فلا يبالي..

    يواصل القتال ببسالةٍ يتعجب منها أعداؤه قبل أنصاره..

    تسع سنوات دامت خلافته..

    ثمانية أشهرٍ دام حصاره..

    لا يقدر عليه أحدٌ وهو ابن 72 سنة!

    لم يتمكنوا منه، حتى أصاب حجرٌ رأسه فأسال دمه، وأسقطه أرضًا، فتجمعوا عليه فقتلوه..!

    كبّر جيش الشام لمقتله.. وأمر الحجاج بجثته -رضي الله عنه- فصُلبت..

    وسمع عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه التكبيرات..

    وعبرت ذاكرته تكبيراتٌ أخرى عاشها..

    تكبيراتٌ انتشرت تطوف في أرجاء المدينة.. حاملةً طفلاً صغيرًا محتفيةً بولادته..

    فقال رضي الله عنه: والله إن الذين كبروا يوم ولادته، خيرٌ من الذين كبروا يوم مقتله..

    وبقي مصلوبًا حتى مر به ابن عمر رضي الله عنه وقال: رحمة الله عليك يا أبا خبيب، أما والله لقد كنت صوّامًا قوّامًا..

    ثم بعث للحجاج قائلاً: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟

    فأُنزل رضي الله عنه ودُفن هناك..

    وتوفيت أمه بعده بأشهرٍ قليلة..

    فرحم الله الفارس الصامد.. الصوّام القوّام.. الذي ارتجت المدينة بالتكبيرات فَرَحًا بقدومه إلى الدنيا..!






    التعديل الأخير تم بواسطة تشيزوكو ; 17-8-2016 الساعة 04:21 PM


  2. #2

    الصورة الرمزية بوح القلم

    تاريخ التسجيل
    Apr 2014
    المـشـــاركــات
    3,354
    الــــدولــــــــة
    كندا
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: ╠الفارس المصلوب..! || مسابقة سِيـَ في رحاب الأصحاب ـرْ ╣

    السلام عليكم ،،

    وكأنني أعيش تلك الأحداث كم هي مؤلمة ومحزنة أبدعت بما كتبت

    أشعر بغصة عند قراءتها خصوصًا تلك العبارة عندما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك فقال عبد الملك :

    "لقد كان بيني وبين مصعب صحبة قديمة ، وكان من أحب الناس إلي ، ولكن هذا الملك عقيم "

    يحزنني أنهم بيوم مضى كانوا صحبة وبعده أعداء فرقتهم الدنيا وذاك الملك العقيم..

    تأسرني قصة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما بقدر ما تحزنني لا أدري لمَ لكنني أتفاعل معها جدًا

    سلمت يمناك عزيزتي تشيكو لم أتوقع منك شيئًا أقل من هذا الجمال ، جعله الله في موازين حسناتك وغفر لك به وأدخلك في عباده الصالحين

    ألا بارك الله أناملك الندية .. حماك الله

  3. #3

    الصورة الرمزية Samer

    تاريخ التسجيل
    Mar 2007
    المـشـــاركــات
    1,869
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: ╠الفارس المصلوب..! || مسابقة سِيـَ في رحاب الأصحاب ـرْ ╣

    ما شاء الله تبارك الله، قصة مؤثرة وأسلوب رواية بديع.

    أشعر حقًا بضعف إدراكي لظروف تلك الفترة المهمة في تاريخ الإسلام.

    بورك قلمك، ودام سيلانه على الخير وفي الخير وبالخير.

  4. #4

    الصورة الرمزية kaw Matsuda

    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المـشـــاركــات
    203
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: ╠الفارس المصلوب..! || مسابقة سِيـَ في رحاب الأصحاب ـرْ ╣

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    أخبارك عزيزتي تشيزوكو ؟
    يا رب بخير حال

    إن لجزئية ما قبل المقدمة تأثيرا عجيبا
    يدفعك دون وعي لمواصلة القراءة
    القصة جد رائعة ومؤثرة
    وأسلوبك في كتابتها جميل محبب ما شاء الله ..
    أعدتني لمقاعد الدراسة، يوم أن كانت معلمتنا تحكي
    لنا قصة مقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه
    ومع ذلك كنت أتابع هنا بشغف
    هذه القصص لا يمل المرء إعادتها مرارا وتكرارا

    اللهم بارك في هذه اﻷقلام وأصحابها، وحرم أجسادهم عن النار ..
    جزاكم الله خيرا على طرح مسابقات كهذه
    منعشة بحق .

    دمت في حفظ الله .

  5. #5

    الصورة الرمزية يوساكو-كودو

    تاريخ التسجيل
    Aug 2013
    المـشـــاركــات
    301
    الــــدولــــــــة
    لا يوجد
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: ╠الفارس المصلوب..! || مسابقة سِيـَ في رحاب الأصحاب ـرْ ╣

    سلمت يمناك على حُسن رواية حدث من أحد أهم أحداث التاريخ بطريقة مختصرة

  6. #6

    الصورة الرمزية سميد

    تاريخ التسجيل
    Apr 2008
    المـشـــاركــات
    33,763
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: ╠الفارس المصلوب..! || مسابقة سِيـَ في رحاب الأصحاب ـرْ ╣

    وعليكم سلام
    جزاكم الله خير على طرح مميز
    كم هي محزنه تلك الاحداث التي فرقت بين جماعة مسلمين
    رحمهم الله وغفر لهم
    تحياتي

  7. #7

    الصورة الرمزية wreef

    تاريخ التسجيل
    Jun 2013
    المـشـــاركــات
    898
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: ╠الفارس المصلوب..! || مسابقة سِيـَ في رحاب الأصحاب ـرْ ╣

    السلام عليكم شكرا على القصة -

  8. #8

    الصورة الرمزية تشيزوكو

    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المـشـــاركــات
    4,317
    الــــدولــــــــة
    مغترب
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: ╠الفارس المصلوب..! || مسابقة سِيـَ في رحاب الأصحاب ـرْ ╣

    بوح، سامر، ماتسودا، يوساكو، سميد، وريف.. وكل من مرّ وقرأ وشكر..

    شكرًا جزيلاً لكم جميعًا على تعقيباتكم اللطيفة.. وشكرًا لأصحاب المسابقة الذين أتاحوا لي فرصة الكتابة عن هذه السيرة العظيمة..

    وأرجو أن أتمكن من خوض تجارب مشابهة مستقبلاً..

    شكرًا جزيلاً لكم مجددًا

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...