(2)
"عفــــــــــــــــــاف"


أنهار من الدموع لا يمكنني حبسها، وأنىّ لي ذلك! قطعة من فؤادي، ممددة على السرير الأبيض أمامي، ما زال شاباً في عمر الزهور، ولستُ أعترض على أمرك يا إلهي، ولكنني أمتك الضعيفة، التي عوّدتَها رحمتك ولطفك.. لم أكن أعرف ما أدعوك به، غير أنني استودعتك قلبي؛ فحفظته!
كنتُ في عنفوان الشباب والصبا مثله، أتطلع بشغفٍ لليوم، الذي أحقق فيه أمنية والداي؛ بتقديم عملٍ يكون فيه عزة الأمة، فلطالما سمعتهما يتحدثان بألم عن التخلف والضعف الذي يجتاح مجتمعاتنا، في حين تتطور الأمم الأخرى وتزداد قوة، لنبقى نحن عالة عليها! وشعرتُ بأن السيادة في القوة؛ ستكون لمن يمتلك "التكنولوجيا" الأكثر تطوراً، فعزمتُ على دخول عالم البرمجة، وانكببتُ على دراستي، التهمها بنهمٍ كي أسبر غور رموزها، وأكشف ما يخفى بين سطورها، فلم أكن لأدرس من أجل درجاتٍ عاجلة، بل كان هدفي التفوق على مصممي البرامج، ومطوري لغات البرمجة بحد ذاتها، فتعمقتُ في تاريخها، وبذلتُ جهدي حتى أحقق إنجازاً لأمتنا، فأُسعِد والداي، تعبيراً عن تقديري وامتناني لكل ما فعلاه من أجلي، ولأريهما بأنهما حتى وإن لم يُنجبا غيري؛ فقد أنجبا فتاة بأمة، تخلد ذكراهما، وتكون سبباً في جريان الحسنات في سجلاتهما؛ إلى يوم القيامة!!
وقد كنتُ ازداد سعادة مع كل معلومة جديدة أتعلمها، بل إن أساتذتي بُهروا بالبرامج التي كنت أنجزها في وقت قياسي، وقد أصبحت أول تجربة لي في تصميم برنامج خاص، حديث القسم والجامعة بأكملها، وقتها كنتُ مهمومة بمسألة الغزو، الذي يخترق بيوتنا رغماً عنا، وهناك شباب قد يكونوا محافظين، غير أنهم مضطرين لتصفح بعض المواقع، التي لا تخلو من صور لا تليق، هذا سوى الإعلانات الفاضحة؛ التي قد تظهر فجأة في أي لحظة، مما جعلني اتخذ من اسمي، الذي سماني به والداي؛ عنواناً للبرنامج الذي عزمتُ على تنفيذه! كنت لا أزال في بداية السنة الثانية، وخبرتي في البرمجة لا زالت محدودة، ومع ذلك عكفتُ على البرنامج بعزيمة وجد، تباركني دعوات أمي، وتشجيع أبي، حتى خرج برنامج "العفاف" بأفضل حلة، كان برنامجاً سهل التحميل، صغير المساحة، لا يحجب من المواقع سوى الصور غير اللائقة، دون أن يؤثر على الكلام حولها، وهو مع ذلك لا يقوم بالحجب الكامل، الذي قد يعيق عمل الباحثين، وإنما يكتفي بالتظليل التلقائي للصور المستهدفة، وقد كان النجاح الباهر الذي حققه برنامجي؛ أثرٌ كبير في شحذ عزيمتي، غير أن المصادر التعليمية والبحثية في الترجمة؛ كانت محدودة حولي، ولم تكن الشبكة العنكبوتية وقتها؛ لتجود علي بالدروس التي أحتاجها، رغم بحثي الحثيث فيه، وقد كان قسمنا من الأقسام الجديدة في الجامعة، ولم يكن بها من الأساتذة من يتفهم تطلّعي الحقيقي لهذا العلم!! حتى ظهر الأستاذ "باهر سمير"، ذلك الأستاذ الشاب الذي أبهر الجميع بموهبته الفذة، وكفاءته العالية، حتى قيل أنه يعرف جميع لغات البرمجة الموجودة، ويمكنه البرمجة بأكثر من لغة في الوقت نفسه، دون أن يفتح ورقة، أو يرتكب خطأ واحداً!!
ومنذ أول محاضرة؛ بُهِرتُ بطريقة تدريسه، فقد كان "باهراً" بحق، ووجدتُ فيه ضالتي المنشودة، التي سأنهل من معينها ما أحتاجه لتحقيق هدفي، وكم كانت سعادتي كبيرة؛ عندما نزل اسمي ضمن قوائم شعبته، في السنة الأخيرة، حيث كنتُ أخشى التخرج قبل أن أحقق إنجازاً عظيماً؛ يعز الأمة..
كنتُ أسأله بلهفة عن كل صغيرة وكبيرة دون حرج، إذ كان يجيبني باستفاضة دون أن يبخس أي سؤال حقه، وهو إلى جانب ذلك على خُلُق كبير، واحترام فائق، يشهد له الجميع بذلك، ورغم أنني لم أكن أذهب إلى مكتبه وحدي أبداً، ولم أكن لأتجاوز حدودي في الحديث معه؛ إلا أنني اكتشفتُ فيما بعد، أن زمام الأمور أفلتت من يدي، دون أن أدري! إذ انتبهتُ فجأة؛ أن قلبي لم يعد قلبي الذي أعرفه، بل غدا وعاءً؛ امتلأ عن آخره بحبه!! وقد هالني الاكتشاف الخطير؛ بأنني لم أعد أذهب لسؤاله من أجل الأسئلة فقط، بل من أجل رؤيته وسماع صوته، وكان هذا مؤشراً خطيراً، لم يعد بإمكاني تجاهله!! فأخذتُ عهداً صارماً على نفسي؛ لا مزيد من الأسئلة خارج وقت الدرس بعد اليوم!! وتناسيتُ هدفي عامدة، بعد أن ارتبط الأستاذ "باهر" به، حتى أسترد صفاء نفسي، وأراجع حساباتي، وكم كان ذلك شاقاً على قلبي!! وكأنه باء بحمله الثقيل، وشوقه الذي لم يجد متنفّساً لِبَثّه، فضخّ إعيائه مع الدم إلى سائر جسدي، فمرضتُ مرضاً شديداً، ولبثتُ في فراشي طريحة الحمى أسبوعاً، حتى إذا ما تحسنت صحتي، وعدتُ إلى دوامي، استقبلتني صديقتي "لبنى" بقولها:
- لقد بدا الأستاذ "باهر" قلقاً عليك، وقد سأل عنك شخصياً، أكثر من مرة!
ثم تابعت بغمزة باسمة:
- يبدو مهتم بك فعلاً!!
ورغم أنني كنتُ أنوي تسفيه هذا التصريح ونفيه،غير أن ظهور الأستاذ "باهر" في نهاية الممر؛ ألجم لساني، وكأن هذا ما ينقصني!!! ويبدو أن وجهي قد اصطبغ بالحُمرة تماماً، إذ أن صديقتي سرعان ما اتخذت من ذلك ذريعة لها؛ لتقول:
- كنتُ أعلم أنك تكنين له بعض المشاعر أيضاً، على كل حال، نحن على أبواب التخرج ومن الجيد أن تفكري بالموضوع جديّاًّ!
هممتُ أن أصرخ بها لأسكتها، أو أكمّم فمها، خشية أن يسمعها أحد، لا سيما وأن الأستاذ بدأ بالاقتراب منا، لكنني قلت لها بتوسل:
- ما هذا الذي تقولينه يا "لبنى"؟؟؟ لا يوجد أي شيء مما يدور في رأسك! ويا حبذا لو تخفضي صوتك على الأقل!!
وقبل أن تعبر "لبنى" عن اعتذارها، كان الأستاذ قد اقترب، فألقى التحية علينا، دون أن يُخفي ابتهاجه برؤيتي سالمة! وعزوتُ ذلك إلى أن أي أستاذ؛ يهتم بالسؤال عن طلبته، خاصة إن لمس منهم جداً واجتهاداً، وهذا كل ما في الأمر! لكن لبنى عادت لتؤكد كلامها:
- إنني بالفعل أعتذر لك إن كان في كلامي ما أزعجك، ولكنني صدقاً لا أرجو لك إلا الخير، فمن الواضح جداً أن الأستاذ يفكر فيك بشكلٍ جاد، لكن سيكون من الإحراج له- بصفته أستاذاً- أن يعرض على إحدى طالباته الخطبة؛ ثم تقابله بالرفض! لذا من الأفضل أن تلمحي له بالقبول المبدئي، أو تسنحي له بفرصة الحديث معك على انفراد؛ ليتشجع...
لم أستطع تمالك نفسي وقتها، وقد شعرتُ بغضبٍ حقيقي:
- لو لم يكن في هذا الأمر، سوى هتك حاجز الحياء والحشمة؛ لكفاه سوءا!! كيف تعرضين عليّ أن أقوم بأمرٍ كهذا، متجاوزة حدودي، ومتخطية لمقام والديّ!!!!
فما كان من "لبنى" إلا أن أسرعت بالاعتذار مرة أخرى، وهي تبرر كلامها بقولها:
- حقاً سامحيني يا "عفاف"، فلم أقصد الإساءة إليك، أو حملك على فِعلٍ لا يليق بكِ، وأنتِ أكثرنا التزاماً وحرصاً، ولكن هذا ما تقوله الفتيات!!
ورغم رفضي القاطع لتلك الفكرة، لكن صداها أحدث ضجيجاً في داخلي، فقد كنتُ أشعر بأن سعادتي ستكتمل بارتباطي بهذا الأستاذ، الذي بدأت براعم أهدافي تُزهر على يديه، وتخيلتُ نفسي معه، يجمعنا بيتٌ واحد، نكمل فيه مشوارنا معاً، في طريق التطوير وعزة الأمة! ولكن.. ما الذي أعرفه عنه؛ سوى أنه أستاذ عبقري خَلوق أبهرنا بعلمه!! كان يقلقني عدم رؤيته يرتاد المسجد، ولو لمرة واحدة، ولم أكن أعلم إن كان يصلي أم لا، وإن كنتُ أتمنى أن يكون كذلك من كل قلبي! ولطالما تساءلت.. ماذا لو تقدم لخطبتي رسمياً، ثم اكتشفتُ أنه لم يكن ملتزماً بالصلاة! أو كان هناك شرخٌ واضحٌ في دينه!! بالطبع لن أوافق؛ فهذا أمرٌ لا نقاش فيه، ولم أكن أدري بماذا أدعو في صلاتي، فتركتُ دموعي تنهمر لتعبر عن حيرتي وانكساري، حتى ألهمتَني يارب دعوة؛ لم تزل تتردد في ذلك الوقت، على لساني:
"إن كان فيه خيرٌ فقرّبه مني، وإن كان غير ذلك فأخرجه من قلبي"
وكنتُ أتمنى أن تكون الأولى.. حتى حان موعد تسليم مشروع التخرج النهائي، وكنتُ وقتها منهمكة في إعداده من جهة، ومن جهة أخرى؛ أتعذب ألماً مع مرور كل يوم يقربني من ساعة فراق أستاذي، دون أن أعرف ما سيكون مصيري معه، وكان أكبر همي، أن يتقدم خاطبٌ يوافق عليه أهلي، في حين أنني لا أدري؛ ما هو موقف الأستاذ مني، ولشد ما خشيتُ أن أجد نفسي في موقفٍ أجد فيه نفسي مضطرة للقبول بخاطب من أجل أهلي، ثم يأتي ذلك الأستاذ؛ فأخسر سلامة قلبي! فهل كانت "لبنى" على حق؟!! بدا لي ذلك صراعاً أبدياً سرمدياً، لا مناص منه!! فألححتُ بالدعاء لقلبي، قبل الدعاء لمشروعي، الذي كنتُ أظنه فيما سبق؛ أكبر همي! حتى فوجئتُ بجهازي، الذي أعمل عليه، وقد خزّنت عليه كامل ملفاتي؛ يتعطل قبل اتمامي للخطوة الأخيرة، وكنتُ على وشك تسليم مشروعي خلال يومين فقط!! لم يكن لدي الوقت الكافي للتحسر على تعبي الفائت، وكان عليّ إيجاد أسرع طريقة لتسليم المشروع، فطلبت من والداي الدعاء لي، وقد أشفقت أمي عليّ كثيراً، بعد أن رأت عملي المتواصل على هذا المشروع، خلال الأيام الفائتة..
ذهبتُ إلى أفضل مهندس أعرفه، فأخبرني بأن إصلاح الجهاز، سيتطلب منه عدة أيام حتى يكتشف الخلل! ولم يكن لدي الوقت لأضيعه، فخطر ببالي أن أعيد العمل على المشروع من جديد، وبما أن البرامج التي أعمل عليها لم تكن متوفرة إلا على الأجهزة المتخصصة، فقد طلبتُ إذناً من رئيس قسمنا، ليسمح لي بالدخول إلى قاعة الأجهزة، حيث كانت تُغلق بعد وقت الدرس، ولم يكن طلبي صعباً، فسمعتي طيبةٌ في القسم، وعذري مقبول، بل إنه تم منحي يومين إضافيين لتسليم المشروع، وسرعان ما باشرتُ عملي على أحد الأجهزة، أعيد طباعة ما كتبته سابقاً؛ من نقطة البداية! فلم يعد هناك ما يشغلني؛ أكثر من إنجاز عملي، في أسرع وقتٍ ممكن! بقيتُ على ذلك الحال ثلاثة أيام متواصلة، آتي مبكرة للقاعة، وانصرف قبل أن يُغلق القسم أبوابه..
وفي اليوم الرابع، كنتُ وحدي في القاعة، ويبدو أن الممرات بدأت تخلو من الطلبة، أما باب القاعة؛ فقد أبقيته موارِباً، خشية أن يظن الحارس أن لا أحد في الداخل- عند تفقده لقاعات المبنى- فيغلق عليّ باب القسم، دون أن أنتبه! وبينما كنتُ في أوج تركيزي، وأنا على وشك الوصول إلى الخطوات النهائية؛ فوجئتُ بمن يُلقي عليّ التحية، ولم يكن صوته ليخفى عليّ:
- "عفاف"!! لم أتوقع أن أراك هنا! هل تحتاجين أية مساعدة؟
وكأن قلبي توقف فجأة، ثم قفز من بين أضلعي قفزة؛ زلزلت كل خلية في جسدي! فأوقفتُ أصابعي عنوة؛ حتى لا تُفسد العمل في نهايته، ورددتُ تحيته، وأنا أحاول السيطرة على أنفاسي، خشية أن يفضح اضطرابها؛ ما يجول في أعماقي!! وأجَبتُه بحذر الماشي على خيطٍ رفيعٍ، فوق هوة عميقة؛ بأنني أحاول إكمال مشروعي من أجل التخرج!
نطقتُ كلماتي وأنا أبذل جهداً عظيماً لاستعادة اتزاني، وتجاهل وجيب قلبي، من أجل التركيز على الشاشة أمامي، وإجبار أصابعي على اسئناف العمل بهدوء، وكأن شيئاً لم يكن! غير أنني شعرتُ بخطواته تقترب مني، بعد أن وضع حقيبته على المنضدة الأمامية، مما كاد أن يفقدني أي ذرة تركيزٍ تبقت لديّ، فيما كنتُ أحاول جاهدةً؛ استيعاب ما يدور حولي!! أنا وحدي في القاعة، والأستاذ الذي بُليت بحبه؛ تناول كرسياً وجلسَ إلى جانبي، وألقى نظرة سريعة على الشاشة، فهم منها على ما يبدو، فكرة مشروعي، وهو على أتم الاستعداد لمساعدتي!!!
توقفتْ يداي عن الطباعة، ولم أعد قادرةً على فعل شيء، بعد أن شعرتُ بأنفاسه القريبة، فسمعته يقول:
- عمل رائع.. ما بالك توقفتِ فجأة؟ الخطوة التي كتبتِها صحيحة، لم يبقَ أمامك الكثير..
وقبل أن أدرك ما عليّ فعله؛ انتفضتُ من مكاني، وقفزتُ واقفةً، كمن مسته صعقة كهربائية، إذ لم تكد أصابعه تلامس أطراف أصابعي- المثبتة على الأزارير- حتى سحبتها بسرعة، وقد وصل بي الاضطراب ذروته، فيما بدا الأستاذ منشغلاً بطباعة بعض الرموز، وكأنني لم أكن أعرف ما عليّ طباعته، أو كيف أنتقل إلى الخطوة التالية!! ولم يعد هناك مجالٌ للتردد، لا بد لي من الخروج فوراً، فقلتُ دون سابق إنذار، وأنا أجمع أوراقي:
- شكراً لك أستاذ، فقد تأخرتُ كثيراً، وعليّ الذهاب الآن..
وخرجتُ بسرعة، كمن يلوذ بالفرار، لأطلق العنان لدموعي، فانهمرت غزيرة على وجنتي!! لقد بكى قلبي شوقه إليه، ورغبته في البقاء بقربه، بكى تلك الفرصة التي تحدثَت عنها "لبنى"، والتي قد يترتب عليها لقاءٌ أبديٌ لا فراق بعده!! لقد بكيتُ وبكيتُ، ولكنني لم أكن نادمة! وعدتُ في اليوم التالي، في الوقت الذي تقوم فيه عاملات النظافة عادة بالتنظيف، وكنتُ مستعدة للتنازل عن درجة مشروعي النهائي، إذا لزم الأمر!! كنتُ أتمنى أن أجد العمل محفوظاً على الجهاز، فوجدته مكتملاً، وما عليّ سوى تسليمه!! لا أذكر كيف كانت مشاعري وقتها، هل كانت مشاعر سعادة وامتنان لذلك الاستاذ، الذي حاول التعويض عن ارباكي بوجوده؛ أم ضيقٍ وامتعاض!! إذ لم أكن أرضى بأي شكلٍ من أشكال الغش طوال حياتي، وكنتُ أخشى أن أقدم عملاً يخالط أمانته إدنى شائبة، حتى أن صديقاتي كنّ يعتبرنَ ذلك حرصاً زائداً، لا مبرر له! ربما كانت مشاعري مختلطة وقتها، ولم يكن لدي من الوقت الكافي ما يجعلني أتخذ قراراً متزناً، فقد فوجئتُ برئيس القسم- وهو أحد الأساتذة المشرفين على مشاريع التخرج- يمر عليّ في القاعة، وهو برفقة أستاذٍ آخر، وكأنهما في جولة تفقدية:
- ألم تنتهي من المشروع بعد؟؟ لا يمكننا ترك القاعة مفتوحة أكثر، فنحن في آخر العام، وعلينا أن نبدأ بعمليات الصيانة لجميع الأجهزة..
فوجدتُ نفسي أجيبه دون تفكير:
- آسفة لتأخري، المشروع جاهز الآن، وسأقوم بحفظه فوراً على القرص، إن شاء الله..
كان عزائي الوحيد، أنني كنت أعرف تماماً، جميع الخطوات المتبقية في إكمال المشروع، ومع ذلك؛ بقيت هناك غصة في قلبي!
لم أرَ الأستاذ بعدها، وكنتُ أتساءل، هل كان يُفترض بي أن أذهب لأشكره؟ لكنني لم أفعل، فهل تراه فهم من تصرفي، أنه لا يعني لي شيئاً!! كان هذا ما يقلقني، ولكن لم يكن أمامي خيار آخر.. حتى جاء ذلك اليوم، الذي قدّمتُ فيه آخر امتحان لي بالجامعة، وكنتُ أسير مع صديقاتي، فإذا بي ألمح الأستاذ "باهر"، وهو يسير إلى جانب شابة مُسدلةً لشعرها على كتفيها، ويشبكان بين أصابعهما، وكأن "لبنى" لاحظت تغيراً في وجهي؛ لكنها لم تعلق بشيء، في حين قالت صديقة أخرى:
- انظرن.. انه الأستاذ "باهر" مع خطيبته، سمعتُ أنها معيدة في كلية الهندسة..
فسألتها "لبنى" باهتمام:
- منذ متى وهما مخطوبان؟
فأجابتها:
- منذ أقل من أسبوع على ما أعتقد.. هذا ما سمعته!
تمالكتُ نفسي رغم الألم، فقد عرفتُ طبيعة توجه ذلك الأستاذ أخيراً، ومع ذلك، لم أفتأ أدعو له ولزوجته، وأنا أرجو لهما كل الخير، فقد كان له فضل عليّ، ولم أكن لأنسى ما تعلمتُه منه، وقد أدركتُ وقتها؛ أنك اخترتَ لي أمراً، غير الذي تمنيتُه، فاستودعتك قلبي يارب، وسألتك أن لا تعلقه بغيرك، وأن تعوضني برجلٍ صالح تقيّ عفيف، تحبه ويحبك، فأحبه لحبك..
فأكرمتني بزوجٍ لم أظن يوماً؛ أن هناك أحدٌ مثله، ولا زلتَ متكرماً عليّ بفضلك، وجزيل عطاياك، رغم تقصيري.. وها أنا يارب؛ منطرحة بِبَاب رحمتك.. أتوسل إليك وأرجوك، أن تلطف بابني، وترفع عنه هذا البلاء.. يارب.. قد استودعتك قلبي، فربطتَ عليه في ذلك الموقف الأليم، وها هو ابني قطعة من قلبي، فاحفظه من كل سوء، وأنت خير الحافظين ..

*********************
(3)
"عفيـــــــــــــف"


دوامة كبيرة، ضباب كثيف، لا أكاد أشعر بشيء.. سمعتُ صوتاً يهتف باسمي.. انهض..
ولكن أنى لي النهوض!! فيداي مكبلتان، ولا يمكنني الحراك..!!
تردد الصوت..
انهض..
شعرتُ بيدٍ حانية تمسك يمناي، ويدٌ أخرى تُمسك يسراي... تحاولان انتشالي.. أتراهما والداي!!!
تكرر الصوت بإصرار ووضوح هذه المرة:
انهض، وافتح عينيك، فبصلاح والديك؛ رفع الله عنك.. فهل جزاء الاحسان إلا الاحسان!!
لم أفهم تماماً ما الذي يعنيه ذاك، غير أنني شعرت بجفناي يرمشان..
رأيت وجه أمي مبتلاً بالدموع، وأبي قد أغمض عيناه في خشوع .. سمعتُ أصواتاً مختلطة، أزيز غريب.. طنين.. هتافٌ صدح في أذني فجأة:.
- الحمد لله.. لقد فعلها الطبيب "معروف".. لقد فعلها.. المؤشرات الحيوية كلها عادت للعمل.. لقد زال الخطر.. الحمد لله.. الحمد لله..
ما الذي يحدث هنا.. أين أنا.. أغمضتُ عيناي وفتحتهما من جديد، أمي منكبة على وجهي تقبلني، وأبي يحتضن يدي:
- الحمد لله على السلامة يا "عفيف"..
أغمضتُ عيناي من جديد، وسمعت أصواتاً تقول:
- لا تقلقا.. "عفيف" بخير، لكنه متعب فقط... سيستعيد وعيه تدريجيا، بإذن الله..
وبدأتُ أتذكر.. كان حادثاً مريعاً بلا شك..
******************************