فريق الوابل الصيب

تيهاء!



تنويه: هذه قصة حبكتها الحياة، وما كان عمل القلم فيها إلا عمل السكر في الشاي والملح في الطعام!
ودارت أحداثها في السعودية، في أوائل التسعينات.



كانت تفتش في الأرض وتقلب الرمل البارد بيديها العاريتين علها تجد خاتمها الذهبي، وأنى لها رؤيته في هذه الليلة الليلاء؟!

أخذ الغمام الذي يحجب ضوء القمر بالتفرق، فتسلل شعاعه اللجيني من خلاله، فأضاء لها ما بين يديها وكسى صفرة الذهب بريقا وصفاء، فكان كنجم في سواد سماء، فدل بريقه عليه، وأقبلت تهرول إليه، فانتزعته من الرمل ونفضت عنه الهباء، فما كان فرح والد بمولود أشد من فرحها حين وجدت خاتمها المفقود!

وما كادت فرحتها تنقضي لولا أن دهمها هاجس من الخوف لمّا تنبهت إلى أن هدير المحركات آخذٌ في الابتعاد!

فوقع في نفسها أنهم نسوها، فقفلت راكضة إلى حيث كانت الخيام، فكأنها ما كانت، وأطلقت بصرها فإذا بها ترى الأضواء الحمراء والظلام يبتلعها شيئًا فشيئًا، فجعلت تعدو خلفها مستقصيةً قواها، وتصرخ بأعلى صوتها حتى كادت تتمزق حباله، فما أغنى ذلك عنها شيئًا!!

ولم تكفّ حتى بُحّ صوتها وخرت على الأرض متعبةً!

غير أن برودة الرمال لسعتها فسرت في جسدها الغض قُشعريرة شديدة فانتفضت قائمة، وأخذت تتلفت مذعورة فإذا كل شيء هاجع يلتحف الظلام، وإذا هي وحيدة في هذه البرية الفيحاء، حيرى لا تهتدي إلى سبيل..

تنازعتها الخواطر مليًّا، أتمكث في مكانها حتى يعودوا إليها؟ أم تسير وتبحث عن أحد ليساعدها؟

خياران أحلاهما مر، ولم تعلم أيهما أمر!

هل سيجدونها إذا قعدت؟ وهل ستعثر بأحد إذا بحثت؟

أهي دانية من المكان الذي خيموا فيه؟ أم نأت بها أقدامها وهي تجري ولا تدري؟

أسئلة لا حد لها ظلت تطرق رأسها حتى كاد يتصدع!

لم تستطع أن تصبر على هذا الخوف الذي كاد ينتزع قلبها من بين جنبيها، وململها حتى ما يقر لها قرار، فكأنها وجدت في المشي والبحث – وإن كان عابثًا – ما تربط به جأشها، وتتناسى به خوفها!

كلّ ساقاها وهما يشقان الظلام فلا يقعان إلا على ظلام، ووهن عزمها واحتضر أملها!

نظرت إلى السماء فإذا هي محتجبة لا يُرى فيها نجم!

فرفعت يديها وأخذت تدعو، كانت موقنة أن دعاءها يقرع باب السماء ولا يحجبه عنها حاجب النجوم، كانت موقنة أن الله لن يضيعها بقدر ما كانت خائفة من الضياع!

وأدركت عندها أنها أوت إلى واحة غناء في هذه الصحراء القاحلة، وحصن آمن لا تظهره المخاوف ولا تستطيع له نقبًا!

أدركت عندها أنها ليست وحيدة كما تظن، بل الله معها وكفى بالله حسيبًا.

وبينا هي تمشي آنست من جانب إحدى الآكام نارًا، فاستبشرت وشعرت بالدنيا تبسم لها بعد بسور، وتحسن لها بعد قصور، فما لبثت أن انطلقت نحوها لا تدري أتحملها قدمها أم تحملها الريح!

ولما بلغتها رأت عصبة من الشبان يتلفون حولها وتجثم خلفهم خيمتهم الصغيرة، فدنت منهم تستغيثهم وما علمت أنها كالفراشة تريد الضوء في النار فيحرقها لهيبها!!
كانت باهرة الجمال، بارعة الحسن، تزري طلتها بإطلالة الشمس على الدنيا، منيرة الوجه، ساهمة الطرف، موردة الخدين، تُخال حين تقبل ابنة فلاح فقير، وحين تدبر ابنة ملك أو أمير!

فلما رأوها أكبروها وما حسبوها إلا حوراء هابطة من السماء، فما انفكت أعينهم تحملق فيها وحز في قلبها أن رأت نظراتهم تنهشها في غير رحمة، فأسبلت خمارها على وجهها حياء وحشمة، فكان والخمار يستره كبدر يشف سناه على سحاب رقيق!

تراجعت بضع خطوات، وقالت بصوت خفيض مبحوح: رحمةً رحمةً بضالة مسكينة!

فتغامز القوم وتهامزوا، وتلقوا رجاءها بخبيث البسمات، فاستيقنت أنهم ذئاب عليهم من البشرية إهاب، وهمت بالفرار غير أن الخوف دق أطنابه على قدميها فما استطاعت مضيًّا!

نهضوا جميعا وبدأوا يقتربون منها، فقال قائل منهم: ألا نخبر حسامًا؟ فأنتم تعلمون جزاء من يسبقه إلى الصيد.

فقال الآخر: هذا شأنه مع ظباء الحيوان لا ظباء الإنسان!

كانوا يتقدمون، وكانت تغمغم فلا يعلمون ما تقول؛ لأن الأحرف تزل عن متن شفتيها المرتجفتين!!

أمسك أحدهم يدها بقوة، فانتفضت انتفاضة شديدة، ونزعتها وتراجعت، فزادهم إباؤها رغبة فيها، فتقدموا إليها وأحاطوا بها من كل جانب، تدور أعينهم ويضحكون كأنهم صرعى سلاف!

فجثت على ركبتيها مستسلمة، وصرخت بصوتها المبحوح: واشرفاه!!

فما انتهت إلا وخرج من الخيمة حسام، وكان مهيبًا مطاعًا فيهم، فقال بصوته الجهوري: قد علمت من الأمر ما علمت، فخلوا عنها!

فتجاهلوه ولم يحولوا أبصارهم إليه، فقال: ما لكم ويحكم؟ رجال وتجتمعون على فتاة مسكينة!! إذا لم يكن عندكم دين فأين منكم المروءة؟! أليس منكم رجل رشيد؟!

فما زالوا يراودونها عن نفسها وما زال يذكرهم، ولكن وطأة الشهوة تعمي وتصم!

فلما أحس منهم التمرد والعصيان، توجه لسيارته وتناول منها مسدسه، وعاد يتوعدهم به

فحال بينهم وبينها وقال: والذي خلقني لئن لم تنتهوا لأفرغن رصاصه في رؤوسكم!

وما علموا عنه إلا أنه فعال لما يقول، إن خرجت الكلمة من فيه فلا يرتد عنها أو يموت!

فرجعوا القهقرى وخلوا سبيلها، فاستنهضها حسام فإذا هي ميتة دون موت، وحية دون حياة، لا تقوى على الحراك، فحملها ومشى بها إلى سيارته..!

كان أقوى من أن تجهده فتاة ضعيفة، إلا أن قلبه جعل يخفق بشدة حتى كاد يحطم أضالعه!

لم تعد تشعر بشيء سوى دفء غامر، ولم تعد تسمع شيئًا سوى نبض قلبه المضطرب الذي كان يضج في أذنها المطبقة على صده المفتول!

فتح باب السيارة الخلفي، وأسندها إلى المقعد، حتى إذا اطمأن إلى جلوسها، أغلق الباب وقصد مقعد السائق، وركب وانطلق..

سألها حين أشرفا على الشارع تاركين الصحراء خلفهم: أين تسكنين؟

فأجابته: في عنيزة، في حي الأشرفية، على شارع المجدوعي.

كانت الطريق طويلة، فلم تنبس شفته بحرف غير السؤال عن سكنها، ولم تنبس شفتها بحرف غير الجواب..!

كان يدفع وساوس ملحة ورغبة جامحة في اختلاس نظرة على هذا الجمال الجالس في الخلف، فكان كلما كادت تقع عينه على المرآة نفض رأسه وحدق في الشارع المنبسط أمامه!

حتى إذا اقتربا من حيّها لاح لهما الفجر باسمًا في الأفق، فأشرقت روحهما، وغسل نوره شقاء ليلهما!!

ولما وصلا بيتها رأيا امرأة متلفعة بجلبابها، تجلس على عتبة باب البيت، فهتفت الفتاة بفرح: أمي!

أوقف سيارته أمام البيت، فنزلت الفتاة مسرعة، وارتمت في أحضان أمها، وانفجرت باكية، فواستها أمها بدموع سخينة تحادرت على وجنة ابنتها الوردية!

لقد لخصا فرح اللقاء في عناق طويل، ثم أخذ كل منهما يحكي القصة، فعرفت الفتاة أن أهلها وأقرباءها توزعوا على ثلاث سيارات وكل سيارة ظنتها مع السيارة الأخرى، وكانت الفاجعة لما وصلوا إلى البيت فلم يجدوها، ففزع إخوتها إلى أقرب مخفر للشرطة وبلغوهم، ونفر أبوها وعمها عائدين إلى حيث كانوا ليبحثوا عنها، وكان خالها سيلحق بهم بعد أن تأخروا لولا أن رآها ماثلة أمامه!

وعرفت الأم من ابنتها موقف الشاب النبيل، فأدخلوه وأكرموه، وأبوا عليه أن يرحل قبل أن يلتقي بأبيها، فكان ما أرادوا!

وعندما عاد الوالد وجالسه واستفاض معه بالحديث قال له:

يا حسام، إني أحب أن أكافئك، فما وجدت أفضل من أنكحك ابنتي التي أنقذتها.

لم يستطع حسام أن يخفي بهجة طفت على أهدابه، وقال: ليس أحب إلي من هذا غير أني لا أجد ما أمهرها به.

فقال أبوها: حسبك ما فعلت!

- أخشى ألا أسعدها.

- إن لم تسعد تحتك فمع من ستسعد.

- دخلي محدود.

- لك منا المحل ورأس المال، فاقصد السوق، وإذا استوفيت ما اقترضت فادفعه لنا، ولسنا بمستعجلين.

- لا يرد الكريم إلا لئيم!

- إذن على بركة الله

فانفض المجلس وليس في الأرض من هو أسعد منه!

وتعاقبت عليه الأيام، فلم يزدد إلا سعادة ورغد حياة، وتعاقبت على رفاقه فناءت عليهم بكلاكلها!!!