بسم الله الرحمن الرحيم


نتابع وإياكم في ظلال سورة الحجرات
يقول الله تعالى: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّم ولكن الله حبَّب إليكم الإيمان وزَيَّنه في قلوبكم وكَرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون. فضلًا من الله ونعمة والله عليم حكيم}.
الخطاب يتوجَّه به الله تعالى إلى المؤمنين، في صيغة الأمر: (اعلموا) وذلك للتذكير الدائم بهذا الأمر، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم موجود فيما بينهم، وإذًا الأمر أمره، فهو لا ينطق عن الهوى، وما يقوله وحي من رب العالمين...
وهذا الأمر لا ينفي مبدأ إبداء الرأي ومبدأ المشاورة على الإطلاق، فالله تعالى يقول: {وأمرهم شورى بينهم}، ثم هناك مواقف مرَّت في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم شاور فيها أصحابه وأخذ برأيهم، ولكن التنبيه هنا إلى أن الأمر إذا تمَّ عزمه، فلا جدال ولا إلحاح ولا إصرار في الرأي، كما حصل في معركة أحد، حيث ارتأى النبي صلى الله عليه وسلم على القتال داخل المدينة وجادل بعضهم برأي مخالف.
ولننتبه، لغويًا، إلى حرف الجر (في)، والذي خرج عن دلالته الحقيقية، ليؤدي دور ظرف المكان (فيكم=بينكم)، ولكن الله تعالى قال (واعلموا أن فيكم رسول الله) تحببًا إلى المؤمنين، وزيادة في الألفة فيما بينهم، لأن (في) تعني هنا الحميميَّة، تعني الود والمحبَّة، فرسول الله (فيكم) وليس (بينكم) فحسب، لو أنَّ اللفظ القرآني (واعلموا أن بينكم رسول الله) لما دلَّ على أكثر من وجوده صلى الله عليه وسلم بين الصحابة، ربما يكون هناك محبة وألفة وربما لا، أما (فيكم) فهي دلالة المحبة والألفة فيما بينهم.
وإذًا، لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم الرد عليهم في كثير من الأمر، لوقعوا في (العَنَت)، والذي يعني الخطأ، يعني الإثم، يعني المكابرة مع العناد، يعني التفرق والبغضاء، كالعظم الذي يُجبَر بعد كَسرٍ ثم يُكْسَر... وليس في هذا انتقاص من قدر الصحابة، إنما هنا التنبيه إلى تنوُّع الآراء وتعددها، وكل يتكلم بما يراه الحق خدمةً لهذا الدين، ولكن التنبيه لا تجادلوا حين يعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر، لأن أمره يتجاوز التفكير البشري إلى وحي رب الأرض والسماء.
وبعد الخطاب بما فيه من الترهيب بالعَنَت، تأتي المودة والرحمة، فيذكر الله الصحابة بأنه حبَّب إليهم الإيمان، ليس هذا فحسب، بل جعلهم يرونه حسنًا محببًا في أنفسهم، لو حبَّبه إليهم فقط، لأحبُّوه لكن ربما أحبُّوا معه أمورًا أخرى قد تخرج عن الإيمان وتناقضه، لكن الله تعالى ينفي عنهم هذا نهائيًا، لقد زيَّن الله الإيمان في قلوبهم، فلا ينتقص منهم أحد، لأنهم المؤمنون حق الإيمان، ويتابع الله التفصيل في الآية، ليرتقي بمنزلة الصحابة مكانًا ساميًا لا يُدانى، هم يشيرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتمرون بأمره ولو خالف أهواء بعضهم، هم يحبَّون الإيمان، هم يرونه حسنًا رائعًا، وهم، كي لا يحاول أحدا لشكَّ بهم، يكرهون الكفر، بل إنهم بدرجة أرفع وأعلى في تقواهم، يكرهون الفسوق كذلك، بل حتى المعصية لا تحلو في أعينهم، لأنهم المؤمنون حقًا، فيكرهون المعصية كما يكرهون الفسق الذي هو أكبر من المعصية، كما يكرهون الكفر الذي هو أكبر من الفسق، كل هذه المنكرات في درجة واحدة، يكرهها الصحابة ويبتعدون عنها، ولذا وصفهم الله تعالى: {أولئك هم الراشدون}... ولو كان الكلام (أولئك الراشدون) لكان تامَّ المعنى، اسم إشارة في محل رفع مبتدأ، وخبره. ولكن الفصل أتى بضمير الفصل أو ما يسمى بضميرالعماد (هو): (أولئك هم الراشدون) زيادة في التوكيد، وإفادة معنى الحصر، أي أنه لا راشد سوى من اتصف بهذه الصفات جميعها، وإلا فإن صفة الرشد تنتفي عنه، ومن اتصف بهذه الصفات فذلك فضل من الله ونعمة يؤتيهما من يشاء بعلمه وحكمته، فليحمد من أوتي هذه الصفات الله تعالى عليها دائمًا وأبدًا...
ولئن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحابته، فهو فينا الآن كذلك، وإلى يوم القيامة، بما ترك لنا من الأخلاق الكبرى، والرحمة التي تشمل العالمين، بما تركه لنا من أوامره ونواهيه بأحاديثه الشريفة، وخاب وخسر من يعترض على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط لأنها لا تناسبه، مثلنا مثلهم إن أطعناه في تحقق الرشد، إذا ما اتصفنا بباقي الصفات، ولا نبلغهم في مكانتهم، ومثلنا مثل من يصيبه العَنَت إذا خالفناه، ونعوذ بالله من ذلك...

ونتابع وإياكم في ظلال سورة الحجرات بإذن الله تعالى.