عودة ما بعد الختام 3

انطلقت صرختي الأليمة مع انفجار في ظهري لم أفهم ماهيته بادئ الأمر، ثم امتلأت نفسي بالغضب إذ أرى تلك الممرضة المسؤولة عن ملء ملفات المرضى باتت بجواري في غرفة طبيب القلب!
وبمنتهى الغيظ، سألتُها: (كيف تفعلين ذلك)؟
فكان ردُّها الدَّهِش: (وماذا فعلت)؟!
أجابها طبيب القلب معاتبًا: (كيف تدخلين الغرفة بهذا الأسلوب)؟
أجابت بلا مبالاة: (هذه عادتي، ترى هل أزعجت الأستاذ عمر)؟!
لم يسعدني أنها حفظت اسمي، ولا أنها احترمت لقب مهنتي، فهناك مبادئ لا أتنازل عنها، وما زلتُ أرى من يقتحم الغرف بهذا الشكل إنسانًا همجيًا، وعاتبتُها بدوري: (لقد ضربتِ الباب بظهري)!
نظرت إليَّ، قائلة بجدية: (أمر طبيعي)!
رددتُ خلفها ساخرًا: (طبيعي)؟!
أجابت، كأنها تشرح الدرس لتلميذ: (بالتأكيد، لقد فتحتُ الباب، وأنت تقف قرب الباب، وبالتالي من الطبيعي أن يصطدم ظهرك بالباب)!
قلتُ، مقلدًا أسلوبها: (من الطبيعي أن تدقي الباب، قبل أن تفتحي الباب، لأن ظهري كاد ينكسر مع ضربة الباب، حينما فتحتِ حضرتُكِ الباب، من دون أن تعطينا إنذارًا بأنكِ ستفتحين الباب)!
ضحكت الممرضة بشكل مستفز فعلًا: هيهاهااااااا
(هيهاهاااااا؟! صحيح، كنتُ أنتظر سماع الـ(هيهاهااااا) ليزول الألم من ظهري)!
وكانت فترة انتظار أخرى، حتى حان وقت طبيب البنج، وكانت الأسئلة التقليدية مجددًا:
(هل لديك مرض في الضغط؟ هل معك سكري؟ هل معك غُدَّة)؟
وإجابتي التقليدية، كذلك: (لا، لا أظن، لا وفق علمي)!
تقبَّل الطبيب الإجابات من دون إلقاء أسئلة لا معنى لها، مثلما فعل طبيب القلب، بل أخبرني بأنه لا خطر طبيًا بإجراء العملية، وأخبرتُه بأنني أخاف الإبرة خوفًا لا مثيل له، وأنني أريد وضع مخدر موضعي على يدي، كما فعلوا بالمختبر، ووعدني بذلك.

انصرفتُ إلى بيتي أخيرًا، وطلبتُ وجبة دسمة فعلًا للغداء، وشربتُ ثلاثة أكواب من الشاي (فقط) ولكن على دفعات متباعدة نسبيًا، وذلك لأنني كنتُ أتحسب أن يتخشب حلقي مثل الحجار القاسية، كما حصل في العملية السابقة، وأُحرَم أيامًا عديدة من الأكل ومن الشاي، ثم جهزتُ أغراضي، وأسعدني أن أرسل إليَّ الطبيب برسالة صوتية عبر الواتس أب، يخبرني بأن عمليتي ستكون في العاشرة، ويجب أن أكون في المستشفى الثامنة والنصف، ويمكن لي أن أكون في التاسعة إن أحببت، كي لا أنتظر طويلًا، لكنه يفضل أن آتي صباحًا، تحسبًا لغياب أحد عن عمليته، فأدخل أنا باكرًا، وهكذا انطلقتُ صباحًا بمفردي إلى المستشفى، لأترك سيارتي في كراج مخصص لوقوف السيارات قرب المستشفى، طالبًا إليهم أن يغسلوا السيارة كذلك (كونهم يقدِّمون هذه الخدمة، لقاء أجر مادي مقبول)، وتوجهتُ إلى المستشفى، لأكلِّم رجل الأمن الذي يقف قرب البوابة الداخلية، ليمنع الزائرين من الصعود، إلا للضرورة القصوى فحسب، وما إن علم بأنني أريد إجراء عملية، حتى سألني إن كان يفتح لي البوابة لأصعد إلى الطابق الثاني، أم يتَّجه معي نحو مصعد الطوارئ، لكني اخترتُ الصعود على الدرج، طابقان لا يشكلان مشكلة كبيرة، وفي الطابق الأول التقيتُ بالطبيب مصادفة، فسَلَّمْتُه صورة السكانر الجديدة، وتابعتُ إلى الطابق الثاني لتخبرني الممرضة المسؤولة هناك عن الغرفة المخصصة لي، وهناك... كان فلم الرعب الحقيقي!

لقد لحقت بي تلك الممرضة، ومعها ممرضة أخرى، وحملت الممرضة الأولى إبرة مخيفة، قائلة بلهجة آمرة: (مُدَّ يدك)!
ذكرتني لجهتها بأسلوب المعلمات لدينا حينما كنا طلابًا في المرحلة الابتدائية، إذا أردنَ ضرب أي تلميذ، وكدتُ أعلق ساخرًا بهذا، ولكن الممرضة حركت يدها، لتتحرك الإبرة أمام عيني، مذكرة إياي بما ينتظرني من العذاب، فهتفتُ بالممرضة خائفًا: (أريد المخدر الموضعي، لقد كلمتُ طبيب البنج، وقال لي إنه سيخبركم).
ردَّت الممرضة مبتسمة: (نعم، أخبرنا، ولكن، لا داعي له)!
(نعم؟ نعم)؟ لا داعي لماذا؟!
قلتُ للممرضة في جفاء تام: (أريد المخدر الموضعي فورًا)
ولكنها أولجت إبرتها في ذراعي المسكينة، لأشعر بضربة كهرباء تسري في جسمي المسكين، وبأن يدي قد تعطَّلت عن الحركة، وندمتُ فعلًا لأنني أعطيتُها يدي، قبل أن أطمئن إلى وجود المخدر الموضعي أولًا!
انتبهتُ إلى أن الممرضة تنظر إليَّ بقلق شديد، فسألتُها متألِمًا عن السبب، وإذ بها (يا للحنان الدافق)! تخشى عليَّ من العملية، وتظنُّ أنني سأموت رعبًا حينما يحين دوري لإجراء العملية، فأخبرتُها بسخريتي المعهودة، محاولًا أن أكون جادًا قليلًا، ولكن الآلام تمنعني: (لا تهتمي لذلك، المشنقة أهون عليَّ من ضرب الإبرة، أما العملية فلا يعنيني أمرها لا من قريب ولا من بعيد)!

وما كادت الممرضتان تخرجان حتى دخل الطبيب، ليكلمني بكل وضوح وصراحة، مذكرًا إياي بأن العملية هذه عملية (ترقيع أخطاء العملية السابقة)، وأن اللحمية التي تم انتزاعها بتلك الهمجية لا يمكن أن نضع لحمية أخرى بدلًا منها، فهذا من باب المستحيل، بينما اللحمية المتضخمة والذي لم يتمَّ لمسها، فسيقوم بتخفيفها، وسينظف الجيوب الأنفية، وبالتالي لا يمكن لنا أن نتوقع نجاحًا كبيرًا، وهناك أمر آخر، التكلس الذي يحصل داخل الأنف بسبب تلك اللحمية التي قصفها الطبيب السابق، ربما لا نتخلص منه، وفي هذه الحالة سنضطر إلى عملية ثالثة، لوضع جهاز من السليكون داخل الأنف!

رغم أن الأمر لا يبدو مستساغًا، إلا أنني أردتُ أن أحزم مسألة معاناتي هذه نهائيًا، فسألتُ الطبيب أن يضعه الآن، لكنَّه رفض ذلك مستنكرًا اللجوء إلى هذا الحل إلا إن سُدَّت كل الحلول الأخرى، وذلك لأن بعض الأجسام لا تتقبل هذا الجهاز، ويعاني صاحبها بسببه، وقد يضطر إلى عملية أخرى لإزالته، وبالتالي يُعتبَر هذا الدواء آخر خطوات العلاج، وخرج الطبيب، وأنا أفوض أمري إلى الله تعالى، داعيًا إياه بأن يرحمني مما أعانيه، وأن تنجح هذه العملية.

بعد ذلك انتظرتُ ساعتين ونصف، حتى الحادية عشرة والربع، ليحين دوري، وانطلقت بي الممرضتان تجرَّان السرير النقال، وأنا في غاية الحرج لذلك الأمر، ووصلتا بي إلى غرفة العمليات، لتستلمني ممرضة أخرى هناك، طالبة إلي أن أنتقل إلى سرير آخر، تم إلصاقه بالسرير الأول، وفي غرفة العمليات طلبت إليَّ طبيبة هناك الانتقال إلى سرير ثالث، فأخبرتُهم بسخرية لاذعة أنني لا أجيد، ولا أحب، أسلوب الزحف هذا!
ويبدو أن الطبيبة تهوى المزاح هي الأخرى، فقالت بلا مبالاة تامة إن هذا الأمر يرجع إليَّ، ولكن يجب أن أجيد وأحب أسلوب الزحف هذا، وإلا قد يقع شيء ما يضعونه على السرير، كي لا يبرد المريض كثيرًا، وبالتالي إن لم أُجِد وأحب أسلوب الزحف، فلا بأس لي من أن يقع ما يضعونه على السرير، وأعاني البرد بعد ذلك!

لكني لم أتقبل مزاحها، بل سألتُها لائمًا: (هل هكذا يكلمون من سيجري العملية)؟ احتقن وجه الطبيبة، فلطَّفْتُ الجو قائلًا: (أعلم أنه لا يهون عليكِ أن أبرد، أليس كذلك)؟ فَرَدَّت متحمسة: (بالتأكيد، لن أسمح بذلك أبدًا).
أتى هنا طبيب البنج، ليتلقى دوره في اللوم: (لماذا لم يستخدموا المخدر الموضعي لي حينما ضربوني بالإبرة في يدي)؟ هتف الأخير مستنكرًا: (ضربوك)؟ وقبل أن أُفْهِمَه المقصود، وصل الطبيب الذي سيجري العملية، فقلتُ له إنني اتكلتُ على الله تعالى، ثم عليه، وأسلِّمه نفسي الآن بكل ثقة واطمئنان، ثم زالت الثقة والاطمئنان، وشعرتُ بالرعب، مع أني لم أفهم ما حصل وقتها بالضبط، ولكنه كان كفيلًا بإصابتي بالرعب فعلًا!

تابعوا معنا.