حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

[ منتدى قلم الأعضاء ]


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 40
  1. #1


  2. #2


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الإهداء


    إلى كل متألم، مذكرًا إياه بأن يعتمد على الله تعالى أولًا وأخيرًا...
    لا يعني هذا أني لا أدعوه إلى طلب العلاج، فطلب العلاج واجب...
    لكن ليحذر من المتاجرين بأجسام الناس، وربما بأرواحهم...
    طمعًا في التحصيل المادي، وزيادة وزن جيوبهم، مع تقليل وزن قيمتهم الأخلاقية والإنسانية...
    وفي هذه الحكاية البسيطة، سنرى الوجه المظلم والوجه المشرق للأطباء...
    كذلك لما يسمى بملائكة الرحمة، و(بعضهم) و(بعضهن) يستحق لقب ملائكة الموت...
    وإذ نقدم إليكم حكايتنا هذه، ندعو الله تعالى أن يحميكم جميعًا من الأمراض والآلام...
    وأن يبعد عنكم المستشفيات مسافة لا نهاية لها...
    حفظكم الله وأهلكم من أي سوء كان.
    عمر قزيحة

    لبنان/2016م


  3. #3


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الحلقة الأولى

    منذ صغري أعاني بعض الضيق في التنفس، ربما بسبب التواء في غضروف الأنف، سبَّبه لي لكمة من أستاذ غاضب، كان يوجهها إلى وجه رفيقي الجالس بجواري، وأصابت أنفي أنا خطأ.
    أيًا كان السبب في هذا الضيق، إلا أنه كان محتملًا بادئ الأمر، رغم أنه كان يعطي الصوت بعض النشاز، ولي في هذا التجارب، في حصص الدين، حين كان علينا أن نقرأ أو نسمِّع القرآن، وكذلك في إحدى المرات التي أحرجني إمام المسجد (رحمه الله) حتى أرفع أذان الفجر، وفي ثالثة وقفتُ فيها إمامًا ببعض الشباب المتأخرين في صلاة المغرب.
    لكن جمالية الصوت لم تكن من الأمور المهمة بالنسبة إليَّ، غير أن ضيق التنفس هذا بات قاسيًا، وأصبحتُ أشعر بالعجز عن التقاط الأنفاس إلا من فمي، ورافق ذلك التهاب مستمر وحاد في اللوزتين، ثم أصبحت عاجزًا حتى عن ابتلاع ريقي كذلك.
    وهكذا ذهبنا، العام 2003، إلى دكتور بارع للغاية، في بيروت، كما أخبرونا عنه، وجلسنا ننتظر دورنا في صالة الانتظار، أنا وأختي، وكان معنا صهري الذي أوصلنا إلى العيادة.
    وحاولَتِ السكرتيرة أن تخبرني بقصة حياتها، لكنها لمسَتْ مني جفاءً، فحولَتْ كل اهتمامها إلى أختي، تصبُّ في أذنيها عشرات المعلومات والحكايات والأخبار والتوقعات، وأختي تتأفف من الملل، والسكرتيرة تتابع غير مهتمَّة بردود الفعل غير المشجِّعة هذه، فهي ستفرغ كل ما في جعبتها من الكلام، ولا فارق إن أحبَّ المستمع أن يستمع أم لم يحبَّ ذلك، ويكفي أنها فشلت مع شخص واستسلمَتْ لجفائه، وبالتالي لن تضيِّع على نفسها متعة الروايات والحكايات، مهما كانت ردَّة فعل الشخص الثاني!
    وإذ حان دورنا، لتتنفس أختي الصعداء لنجاتها من السكرتيرة، أخبرنا الطبيب بأن الكشفية مقدارها 35000 ليرة لكل شخص، لكنه سيأخذ 30000 ليرة فقط و(تكرم عيوننا)!
    وأخذ الطبيب يفحص أختي، ليعلن وجود التواء في غضروف الأنف، وتضخُّم في اللحمية، وأنها بحاجة إلى عملية جراحية مستعجلة، ثم حان دوري، ولم تختلف النتيجة كثيرًا، فأنا؛ كذلك؛ أعاني التواءً (كبيرًا) في غضروف الأنف، وتضخمًا (غير طبيعي) في اللحميات، إضافة إلى التهاب كيس واحد في الجيوب الأنفية، أما التهاب اللوزتين، فسَبَبُه أني لا أتنفس من أنفي، وبالتالي التنفس من الفم يؤدي إلى الجفاف، والتهاب اللوزتين، أما عدم ابتلاع الريق فهو ناجم عن ذلك، وهذا أمر خطر، لأن الريق ميكروبات، وعدم ابتلاعه يؤدي إلى أمراض حادة، لكن التنفس الطبيعي من الأنف سيجعل ابتلاع الريق أمرًا ميسورًا لا صعوبة به على الإطلاق.
    والحل إذًا، كما أعلن الطبيب، يكمن في عملية جراحية مستعجلة (جدًا)، يقوِّم فيها الغضروف، ويستأصل اللحمية، وينظف الجيوب الأنفية؛ وبما أن الوضع عندي أسوأ مما هو عند أختي، فإن أختي نفسها قررتْ أن أُجْرِي العملية قبلها، وبناءً على نتيجتها ستقرر هي إن كانت ستُجْريها أم لا؛ ولكن الطبيب أخبرنا بأن الأمر لم ينتهِ بعد، ولا بدَّ من اختبار الحساسية لكلينا، لأنه لا يمكن إجراء العملية من دونه.
    وهكذا عُدْنا إلى صالة الانتظار، لأن اختبار الحساسية هذا كان شكَّ إبر سريعة في الذراع، ثم الانتظار ربع ساعة لرؤية هل سيحمرُّ موضعها أم لا، لتحديد أيِّ أنواع الحساسية نعانيها، وكانت فرصة ذهبية أمام السكرتيرة، التي أتت مسرعة نحونا، تشرح لنا، أو لأختي على وجه الدقة، كل نوع من أنواع الحساسية التي أجرى لنا الطبيب اختبارًا بها، وكيف أنها سبعة أنواع، وتكلمت عن كل أثر وخزة بالتفصيل ولا أدري هل هذا صحيح أم من خيالها، فكيف لها أن تدرك أن أثر الوخزة الأولى هو حساسية الحيوانات، وأثر الوخزة الثانية هو حساسية الغبار، مثلًا؟!
    بكل الأحوال مرت الربع ساعة هذه ثقيلة للغاية، وما كدنا نصدق استدعاء الطبيب السكرتيرة وخروجها تستدعينا إلى الدخول (هو استدعاها عدة مرات، لكن لإدخال مرضى، فكانت تُدْخِلهم ثم ترجع إلينا مواصلة حكاياتها)، أما هذه المرة، فكان الخلاص من السكرتيرة والحمد لله تعالى!
    وفي العيادة نظر الطبيب بدقة إلى ذراعينا، ثم طلب إلينا أن نفرح لأننا لا نعاني أي نوع من الحساسية (ولا أعلم كيف! فأنا لا أتحمل الغبار على الإطلاق، وأشعر بضيق شديد في تنفسي بسببه، ويسبِّب لي الرغبة بالعطاس)، أخبرتُ الطبيب بذلك، فقال إن هذه الأعراض لا تدل على الحساسية إطلاقًا، وإنها طبيعية تمامًا!!
    ربما أراحنا أننا لا نعاني أية حساسية كانت، لكن لم يرحنا على الإطلاق، أن أخبرنا الطبيب بأن هذا الاختبار تكلفته للشخص الواحد 50 دولارًا، لكنه سيأخذ من كل واحد منا 50 ألف ليرة فقط، ومرة أخرى (تكرم عيوننا)! فرغم هذه الإكرامية، خرجنا من عنده في حالة إفلاس تامة، بل واستدنَّا من صهرنا بعض المال! ولم ينس الطبيب أن يكتب لنا طلب صور السكانر، فتعاونية الموظفين لن توافق على أية عملية جراحية من دون التقرير المرفق بها، وطلب، أن نرجع به إليها، ليكتب تقريره في ورقة دخول المستشفى بوضوح (ولم أعلم وقتها أنه لا لزوم لهذا الأمر، ويكفيه؛ وفق نتيجة الفحص، أن يكتب أنَّ المريض بحاجة إلى عملية استئصال اللحمية وتنظيف الجيوب الأنفية، ويكفينا أن نأخذ هذه الورقة وتقرير صورة السكانر إلى تعاونية الموظفين من دون الرجوع إليه هو، فلِمَ عذبني بمشوار آخر من الشمال إلى بيروت؟ لم أفهم الحكمة من ذلك حتى الآن)!
    توكلتُ على الله تعالى، وأجْرَيْتُ سكانر للأنف، وعُدْتُ بالصورة والتقرير إلى الطبيب، وقد رفض رؤية التقرير، قائلًا إنهم يكتبون به كل ما هو سلبي، ظنًا منهم أنهم يساعدون المريض ليحصل على موافقة تعاونية الموظفين لدخول المستشفى، وهو لا يهمُّه سوى الصورة، وباطلاعه عليها، أعلن في فخر شديد بنفسه، أن نتيجة السكانر موافقة 100% لتشخيصه المباشر، الغضروف ملتوٍ، اللحمية متضخمة وتسدُّ مجرى التنفس، وكذلك الأوتار الصوتية، وهناك كيس جيوب أنفية واحد ملتهب (ستعلمون لاحقًا لِمَ نقلتُ كلام الطبيب هذا، بما فيه من التكرار، بدلًا من الاكتفاء بالقول، إن النتيجة موافقة لتشخيصه فحسب).
    وملأ الطبيب ورقة الاستشفاء، مؤكدًا عليَّ أن أحْضِر صورة السكانر معي إلى المستشفى يوم العملية، والذي تحدد نهار الخميس في بداية عطلة رأس السنة، وقبل أن أنصرف سألتُ الطبيب عن إمكانية استئصال اللحمية وتنظيف الجيوب الأنفية عبر اللايزر في العيادة، وكنتُ قد سمعتُ عن ذلك مصادفة من أحد أصدقائي، فكان ردُّه أن تأثيرها لن يمتدَّ لأكثر من سنة، وبعدها يعود كلُّ شيء كما كان وأسوأ، وأن تكلفتها 200 دولار، بينما تكلفة دخول المستشفى يومين بالنسبة إليَّ كمدرِّس 200 ألف، أي أنها أوفر بالنسبة إلى جيبي ومضمونة أكثر، وتأثيرها الإيجابي دائم مدى الحياة.
    لم أكن أهتمُّ حقيقة لو دفعت 100 ألف زيادة، مع أن هذا المبلغ كان يشكِّل أقل من ربع معاشي أيَّامها بقليل، لكني أردت الراحة من دخول المستشفيات والمبيت فيها، إذ إني لا أطيقها، لكني لم أتقبل حقيقة أن لا أستفيد أكثر من سنة، ليرجع كل شيء بعدها كما كان وأسوأ، فتوجهت إلى تعاونية الموظفين، والتي وافقت على منحي يومين للاستشفاء في المستشفى في بيروت.
    يوم العملية نزلنا إلى المستشفى، وانتظرت دوري في تحاليل الدم، والحمد لله كان مسؤول المختبر ماهرًا للغاية، فلم أشعر حتى بوخزة بسيطة، كذلك خضعت إلى إيكو للقلب، ثم طلبوني إلى غرفة العمليات، كنت قد أحضرت السكانر معي كما طلب الطبيب، وهكذا فرد الطبيب الصورة أمامه، وأخذ ينظر إليها كما لو أنه يراها أول مرة، ثم ألقى بقول غبي للغاية، جعلني أعلن رغبتي في المغادرة وبأقصى سرعة...

    تابعوا معنا.
    التعديل الأخير تم بواسطة أ. عمر ; 29-9-2017 الساعة 12:25 AM

  4. #4


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الحلقة الثانية

    ألقى الطبيب بقول غبي للغاية، جعلني أعلن رغبتي في المغادرة وبأقصى سرعة، لولا أن غرس حكيم البنج في تلك اللحظات محقنًا ضخمًا في عروقي، جعلني أشعر بأن روحي تنسحب من مكانها، ورغم ذلك أطلقت هتافًا معترضًا في وجه الطبيب الذي سيجري لي العملية: "ماذا تقول"؟!
    ردَّد الطبيب كلامه الأحمق نفسه: "هذه ليست صورة السكانر التي رأيتها في العيادة! صورة السكانر التي رأيتها في العيادة فيها كيس جيوب أنفية واحد، وهذه ملأى بالجيوب الأنفية، صورة السكانر التي رأيتها في العيادة فيها"...
    قاطعته بحزم: "(لا فيها ولا ما فيها)، هي نفسها التي في يدك، أنا أصلًا لم أُجْرِ سوى صورة سكانر واحدة فقط في حياتي، فكيف ستغيِّر نفسها"؟!
    لم أعرف إن كان سيردُّ أم لا، بل لم أعرف إن كان قد ردَّ فعلًا أم لا، فقد أخذ البنج مفعوله، وذهبت في عالم آخر، شعرت بنفسي أستعيده وأنا على محفة يجري بها بعضهم، ثم ندخل المصعد الذي يتحرك بنا، قبل أن أفقد الوعي مرة أخرى، وبصراحة لا أعلم هل حدثت هذه الاستيقاظة المفاجئة قبل العملية أم بعدها، لكن، وفي كل الأحوال استيقظت فيما بعد، وأنا لا أشعر بأي ألم (كما أخبرني صديق أجرى العملية نفسها، أني حين أفيق من البنج سيملأ صراخي الطابق)، والحمد لله على فضله هذا، وبقيت وحدي متمددًا لا أجد ما أفعله، ثم أحسست ببعض الدم ينزل من أنفي إلى فمي، فضغطت زر الجرس الذي بجوار يدي، وكانت المفاجأة أن أحدًا لم يستجب، ضغطته مرات عديدة حتى ظننت معطلًا، ثم يئست من الضغط وتركته، محاولًا جهدي ألا أبتلع الدماء التي تسيل، ثم فوجئت بعدها بصوت أنثوي ينبعث في الغرفة، قائلًا بسماجة شديدة: "نعم"؟
    رددت ببعض الإعياء: "صباح الخير والله! الدم ينزل من أنفي غزيرًا"...
    قاطعتني صاحبة الصوت بالسماجة ذاتها: "هذا أمر طبيعي يا أستاذ".
    ولم أتمالك نفسي فصرخت فيها عبر جهاز التواصل هذا: "وهل تظنين حضرتكِ أنه من الطبيعي أن أشرب الدم"؟؟
    وصمتت الحمقاء بضع لحظات، ثم أخبرتني خبرًا، جعلني أتأكد أنها مجنونة دون أدنى شك.
    لقد أخبرتني هذه البلهاء بأنني سأخرج غدًا من المستشفى، فكان ردي أن هذا الأمر (ليس على كيفكِ، ولا على كيف سواكِ)، معي بصفتي موظفًا في الدولة، الموافقة على استشفاء يومين في المستشفى، وبالتالي الدولة دفعت أصلًا للمستشفى 90% من قيمة العلاج على يومين، وإذا ما خرجتُ غدًا فستتحول إدارة المستشفى إلى التحقيق، فقاطعتني الأخت متهكمة: "أنا هنا أمثل الإدارة، وأتخذ القرارات".
    وهكذا، بدأت المعاناة الأولى، الدم يسيل وأنا أحاول منعه ومسحه بيدي قدر الإمكان، وإن كنت لا أنكر أني قد ابتلعت بعضه، لا سامح الله هذه الممرضة قليلة الأمانة، ثم أحسست بقطعة دم يابسة تنزل في أنفي مثل السكين تاركة بعض الجروح، ومرَّة أخرى أضغط الزر، ومرَّة أخرى ترد الأخت بعد فترة زمنية طويلة: (نعم؟ ألم أخبرك أنك ستخرج في الغد)؟ صرخت بها: (اليوم الخميس، وقبل السبت لن أخرج، وتفضلي بإرسال أحد إلى الغرفة ليرى ما يحصل معي)...
    وبالفعل، لم يمضِ نصف ساعة على هذا الحديث، حتى دخل ممرضان، فكَّ أحدهما الضماد عن أنفي، وأمسك بقطعة دم متجمدة، ليسأل رفيقه هل هذه من الفتيل أو ليست منه؟ ردَّ رفيقه أنه لا يعلم، وما الذي سيجعله يعلم؟
    وهكذا، وبمنتهى البساطة، وأمام عينيَّ الدهشتين، قذف الممرض الأحمق بتلك القطعة داخل أنفي بقوة شديدة، جعلتني أسأله متهكمًا، إن كان يظن نفسه لاعب كرة سلة أم ماذا؟ لكني لم أتلقَ ردًا من أيهما، كلاهما خرج ببساطة كما دخل، ومرَّت ساعات أخرى، وشعرت بأنني أتهالك من الجوع، ومرَّة أخرى أضغط الجرس لأكلم تلك الممرضة الملعونة، سائلًا عن الطعام، ليكون ردُّها أن لا طعام في المستشفى، وأن الغذاء يتمُّ إرساله إلى جسمي عبر المصل، وهنا فقدت كل قدرتي على تحمل هذا الشواذ منها، أنا موظف دولة، وأدفع 10% من قيمة تكلفة المستشفى، وكانت وقتها 200 ألف ليرة على يومين، أي قريبًا من نصف راتبي، والباقي تدفعه الدولة، حق المستشفى يصلها بالكامل، وبالتالي لا فضل لهذه الممرضة عليَّ في شيء، حتى تتحكم بي، لست هنا على حسابها الخاص، وهكذا أسندت نفسي قدر الإمكان، لأنهض من سريري، ممسكًا بحامل المصل، ناويًا أن أغادر الغرفة لأسأل عن الإدارة وأقدِّم شكوى رسمية بحق هذه الجزارة الملعونة التي تترك المريض ينزف ولا تبالي، حاولت أن أمشي، وكان هذا خطأ كبيرًا، كوني خارجًا من العملية والبنج، تقدمت بضع خطوات ثم أحسست ببعض الدوار، وحاولت أن أستند إلى أي شيء كان، لكن لم يكن قربي شيء، وبدأت ساقاي ترتجفان، وأدركت أنني سأسقط أرضًا... ودعوتُ الله تعالى ألا يكون الوقوع مؤذيًا أو يتسبب في كسر ما...

    تابعوا معنا

    التعديل الأخير تم بواسطة أ. عمر ; 29-9-2017 الساعة 12:26 AM

  5. #5


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر


    الحلقة الثالثة

    بدأت ساقاي ترتجفان، وأدركت أنني سأسقط أرضًا، وفي تلك اللحظة دخل آخر من كنت أرتقب دخوله الغرفة، دخل الطبيب الذي أجرى لي العملية، وقد فوجئ بي، وأنا في هذا الوضع، كما فوجئت أنا بدخوله، وإن كان دخوله في مصلحتي فقد أمسك بي قبل أن أقع أرضًا، وفي اللحظات الأخيرة، وعاونني على العودة إلى السرير، وهو يسأل في قلق شديد عن سبب مغادرتي الفراش، وأنا على تلك الحال؟! وأخبرته بكل شيء، وجُنَّ جنونه رسميًا، ولعل هذه المرة كانت آخر مرة أشعر فيها بالسعادة لرؤية هذا الطبيب، آخر مرة على الإطلاق.
    فكَّ الطبيب الضماد عن أنفي، لأرى أن أنفه كاد يشتعل غيظًا، وهو يستخرج قطعة الدم المتجمدة التي نقفها في أنفي ذلك الممرض الأخرق، وبسرعة ومهارة قام الطبيب بتنظيف ما يلزم وأعاد الضماد، ثم سألني سؤالًا لم أفهمه، بل وجعلني أظنه غبيًا بادئ الأمر: "هل تقيأت"؟ كدت أعترض على هذا السؤال، لكني فوجئت بنفسي أتقيأ في اللحظة ذاتها، خطر لي أن هذا الطبيب ساحر متنكر! لكنه أخبرني بأن هذه علامة خروج آثار البنج من الجسم، ولهذا كان من الخطر الشديد أن يتمَّ تركي من دون متابعة من مسؤولة القسم، لأنني، وبكل بساطة، كنت سأسقط على الأرض، وأنام وسط الدم الأسود! اقشعرَّ جسمي من مجرد تصوُّر الفكرة، كما أخبرني أنه لولا هذا البنج لشعرتُ بأنه يتمُّ ذبحي من أنفي مع نقف قطعة الدم المتجمدة فيه بتلك الطريقة، اقشعر جسمي مرة أخرى من مجرد تصوُّر الفكرة، أما الطبيب فخرج من الغرفة قائلًا: "سترى كيف ستكون الممرضة تحت أمر رجليك".
    لم يعجبني هذا التعبير قطعًا، لكني لم أجادل، ومضى بعض الوقت ثم سمعت صوت الصراخ المتبادل، وأدركت بأن المعركة قد احتدمت، وما إن صمتت الأصوات حتى دخل غرفتي عدد كبير من الممرضات، الأمر الذي أدهشني، بل وجعلني أتساءل هل يمكن لمستشفى توظيف كل هذا العدد دفعة واحدة لخدمة غرفة واحدة؟ بل وأية سرعة هذه التي جعلتهن يدخلن خلال ثوان قليلة؟ ثم لم أعد أفهم ما يحصل، كيف أتت هؤلاء الممرضات لرعايتي، والصراخ عاد يرتفع خارجًا؟! وفوجئت بإحدى الممرضات تشير إليَّ قائلة: "هذا مثلًا، انظرن! ماذا سأفعل به"!
    سرى الحذر في جسمي، وأنا أسألها: "ماذا ستفعلين بي"؟!
    تجاهلَتْ ما أقول، لتتابع كلامها مع رفيقاتها: "هذا الضماد مثلًا موضوع بطريقة خاطئة، سترين كيف سأضعه بشكل صحيح".
    هتفتُ بها: "إياكِ أن تلمسيه".
    وهنا دخل الطبيب مرة أخرى، وانفجر في الصراخ مرة أخرى، ليتفرق هذا الجمع الطريف من حولي، وليخبرني الطبيب بأن هذه مدرِّسة في كلية الطب وتلك تلميذاتها، وكل مرة تقوم بإفساد عمله وإزعاج المرضى، (وهذا ما أخبرني به صديقي الذي أجرى هذه العملية قبلي فيما بعد، لكنه حسدني على حظي، فالمسكين لم يجد من ينقذه وقتها، وتحول، وفق تعبيره، إلى ديك حقيقي، له منقار ضخم، بسبب طريقة وضع الضماد الغبية من قبل هؤلاء).
    لنرجع إلى موضوعنا، أخبرني الطبيب بأنه في أحد الأيام أجرى عملية لأحد مرضاه، وأهملت الممرضة المسؤولة عن القسم متابعة وضعه، وحين حان وقت الزيارة (وكان بعد العملية بقليل) دخلت أم المريض لتطمئن عن ابنها، فوجدت الدم يملأ فمه، وابنها ساكن بلا حراك، فظنت المسكينة أنه قد مات، وأخذت تصرخ وتولول، وانهارت تمامًا، وبصعوبة تمكنوا من إفهامها أنه نزيف عادي بعد مثل هذه العملية، وحصل صدام عنيف بين الطبيب والممرضة في إدارة المستشفى، كان أن تلقَتْ على أثره الممرضة توبيخًا لإهمالها الشديد، وبهدلة معتبرة، ومن وقتها وهي تحاول الكيد للطبيب واستفزازه بإهمالها مرضاه، وتحاول أن تتحداه كما فعلت حين أخبرتني أنها هي من تتخذ القرارات، علمًا بأنه لا يمكن للمريض أن يخرج من دون توقيع الطبيب على ورقة الخروج، وختم الطبيب حديثه بأن كل شيء قد تمَّ إصلاحه، وسأرى؛ وبالفعل رأيت، الممرضان الأحمقان يدخلان ليغيِّرا ملاءة السرير بسرعة، والممرضة المتغطرسة باتت تدخل بنفسها لتقيس الضغط والحرارة، ثم رَوَتْ لي تلك الممرضة قصتها، أخبرتني بأنها (ظنَّت) بأني شخص آخر سيخرج غدًا، أخبرتني بأن هذا الطبيب جزار، لا يهمُّه سوى إجراء العمليات وجمع الأموال فقط، أخبرتني بأنها (ملاك) حقيقي تعمل أكثر من ساعات دوامها تطوعًا فقط لأجل المرضى.
    لكني لم أبالِ بهذا الكلام وتلك المبررات الواهية، وأخبرتها علنًا بذلك، فخلافها مع الطبيب لا يجب أن ندفع نحن ثمنه، ولنتصور أن المريض كان يريد قضاء حاجته مثلًا، فهل يجب عليه أن يصبر نصف ساعة حتى تردَّ عليه هي بتلك السماجة (نعم)؟؟ بأي حق تركتني أتذوق طعم الدم العفن في حلقي؟! هل نحن في مستشفى أم في معتقل للتعذيب؟! ولنفترض أني سأخرج غدًا، فهل يعقل أن أهلك من الجوع قبل ذلك؟! أمر واحد كانت هذه الممرضة منه بريئة، رغم أن براءتها منه وصمة عار لها، فهي لم تبعث أحدًا ليرى ما مشكلة قطعة الدم المتجمدة!! بمعنى أن الممرضين الأحمقين دخلا من تلقاء نفسيهما، وهما حديثا عهد بالعمل، وتحت التمرين، لكنهما يريدان إثبات كفاءتهما بالأمور البسيطة على الأقل، وهكذا دخلا غرفتي، وغرف المرضى الآخرين قطعًا، وحين رأيا الدم الذي ينزل قاما بتنظيفه وإعادة وضع الضماد، لكن لم يعرفا إن كانت قطعة الدم تلك جزءًا من الفتيل أم لا، فكان هذا التصرف الغبي من أحدهما.
    ولم يشفع لإهمال هذه الممرضة عندي أنها عرضَتْ أن تطعمني بيديها إذا أحببتُ ذلك، فقطعًا لم أحبَّ ولن أحبَّ ذلك، ولست عاجزًا عن الأكل، حتى أنتظر من يطعمني بيديه، لا هي ولا سواها؛ أمر واحد فقط شفع لتلك الممرضة عندي فيما بعد، وهي أنها نصحتني، بكل إخلاص، أن لا أرضى على الإطلاق، بنزع الفتيل من أنفي خارج المستشفى، مع هذا الطبيب بالذات، ولم توضح لي السبب، بل اكتفت بالقول بغموض: "إنه يسعى جهده لإعادة مرضاه إلى المستشفى قدر الإمكان، حتى يقبض مالًا أكثر".
    وحين أتى الطبيب اليوم التالي طلبتُ إليه نزع الفتيل في المستشفى، فكان ردُّه أن نزع الفتيل لا تحتسبه المستشفى ضمن أجر العمليات، قلتُ له: "لا مشكلة في هذا، سأدفع لك".
    فكان أن بدأ الصياح المستنكر: (ولو!! ولو!! هذا واجبي ولا أتقاضى عنه مالًا، لكن لا يمكن نزعه فقط هنا داخل المستشفى، أنت تعرف العيادة، على بعد دقائق قليلة من المستشفى، غدًا تخرج الساعة العاشرة، وتأتي العيادة فأنزعه لك وترجع إلى بيتك في طرابلس).
    حاولتُ معه مجددًا، فصديقي الذي أجرى العملية قبلي، مع هذا الطبيب بالذات، أخبرني بأن نزع الفتيل مؤلم إلى درجة كبيرة، لكن الطبيب ردَّ مطمئِنًا: "لن أجعلك تحسُّ بأنَّ هناك شيئًا يتمُّ نزعه، ثق بي فقط".
    لم يعد أمامي ما أفعله هنا سوى الوثوق به، وأخذت أقول لنفسي إن صديقي ذاك ليس قويًا كما يلزم، ألم يخبرني بأن الاستيقاظ من العملية سيجعل صراخي يملأ الطابق، وأنا لم أشعر بأدنى ألم؟! الأمر ذاته بالنسبة إلى نزع الفتيل بالتأكيد.
    ثم وصل والدي ومعه أخي (التقيا في بيروت، كان أخي يدرس هناك أيامها)، والغضب يملأهما تمامًا، فلقد صليا الجمعة في أحد المساجد، وكانت خطبة أشبه بمن يريد قراءة كتاب بأكمله، من طولها وسخافتها، والحكم الغبية فيها، على غرار: (يقولون ماغي فرح... ألا إن ماغي فرح طلطميس لا تعرف الجمعة من الخميس... اللهم لا تعلق شيخ بميكرفون، ولا امرأة بتلفون)، إلخ...
    والحمد لله أني كنت في حالة لا تسمح لي بصلاة الجمعة، لأني أكره المحاضرات الطويلة، خاصة التي لا هدف لها إلا الحشو والكلام الفارغ، كما تفضل هذا الخطيب بحِكَمِه وأدعيته هنا.
    ويوم السبت خرجت من المستشفى، ولأن والدي لم يَجِدْ مكانًا يضع فيه سيارته قرب العيادة، فإنني توجهت مع أمي (رحمها الله) إلى العيادة، على أن يلحق بنا والدي بالسيارة من موقف المستشفى بعد قليل، وفي العيادة طلب الطبيب أن أدخل غرفة الكشف، وفكَّ الضماد عن أنفي بعنف شديد (يتنافى تمامًا مع طريقته اللينة الرقيقة في المستشفى)، واقتربت سكرتيرته مني ممسكة بما يشبه الصينية، ثم مدَّ الطبيب ما يشبه الكلابة نحو أنفي، وشعرت برعب شديد هنا ) أعترف بذلك، ولَمْ أعرف لِمَ وجدت نفسي أرتجف)، وهتفت به متوترًا: (على مهلك دكتور، الله)...
    ولم يكن هناك أي داع لإتمام الكلام، فقد أولج الطبيب هذه الأداة في الفتحة الأولى، ليمسك بها الفتيل وينزعه بعنف شديد، ودفعة واحدة، ووجدت نفسي أطلق شهقة متألمة، وبدأت عيناي تمتلآن بالدموع رغمًا عني من فرط الألم الساحق الماحق، عدا عن الدم الذي تدفق مثل الحمم مع هذه الحركة الغبية من الطبيب...

    تابعوا معنا


  6. #6


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الحلقة الرابعة

    تدفق الدم مثل الحمم مع هذه الحركة الغبية من الطبيب، (وللأسف معظمه نزل داخل فمي)، حاولت أن أنهض، أن أفرَّ بروحي، لكني عجزت عن الحركة نهائيًا، ومدَّ الطبيب أداته تلك مرة أخرى، في الفتحة الثانية، وكانت الحركة ذاتها، وهنا انقلبت من طاولة الفحص التي كنت ممددًا عليها، لأقع أرضًا، عاجزًا نهائيًا عن الحراك، والدموع تختلط بالدم في وجهي وفمي، وبصعوبة سمعت الطبيب ينطق بكلمة ما، لكني لم أفهمها، وإن شعرت بِيَدٍ تنهضني من الأرض، ثم شعرت بأحد ما يلقيني على الكنبة من دون ترفق، بحيث يتدلى رأسي إلى الأسفل، وأخذت أسمع صوت قطرات الدم وهي تنزل من أنفي إلى الأرض، مثل دقات الساعة (لا أدري إن كان صوت مثل هذا قد صدر حقيقة، أم أنه من الارتجاج الذي كنت أحسُّ به في رأسي)!
    وبعد بعض الوقت سمعت الطبيب يصرخ: "ليس هكذا"! ثم يقوم بتعديل وضعيتي على الكنبة ليصبح رأسي في وضع مائل، ويرتد الدم في حلقي بدل خروجه إلى الأرض، الأمر الذي جعلني أتساءل بدهشة، هل تلك السكرتيرة (الناعمة) هي التي أنهضتني عن الأرض، وربما حملتني كذلك، قبل أن تلقي بي هكذا!!
    وبصرامة قال لي الطبيب: "أنا آخذ مالًا على نزع الفتيل، وهذا حقي، وكل الأطباء يأخذون، لكني لن آخذ منك، بسبب حالتك هذه".
    كان هذا الكلام مناقضًا تمامًا لما قاله في المستشفى، ثم فوجئت به يسألني سؤالًا، جعلني أثق بأنه مجنون حتمًا، إذ سألني: "لماذا نزل منك الدم، حين نزعت لك الفتيل"؟!
    ومع هذا السؤال، تمنيت لو أن بجواري شيئًا ما، لأحمله وأهوي به على رأس هذا الأحمق، بل وفكرت في النهوض، لألكمه في أنفه، وأجعله يتذوق بعض ما تذوقته، ولو جزءًا بسيطًا مما تسبب لي به، لكني كنت، للأسف، عاجزًا عن النهوض، بل حتى عن مجرد الحراك، غير أن لساني المتهكم كان حاضرًا، وفوجئت بالطبيب ينظر إليَّ مصدومًا، حين أجبته بسخرية شديدة: "معك حق، لماذا نزل الدم (فقط) من أنفي؟ لمساتك (الناعمة) هذه كفيلة بأن يتفتَّت أنفي بأكمله ويتهاوى مثل الهياكل العظمية في أفلام الكرتون"!
    طلب مني الطبيب هنا أن أخرج وأرتاح في الصالة، قبل رجوعي إلى بيتي، لأني أعيق عمله، ولديه مرضى آخرون (انظروا كيف جعلته دعابتي يتحمس إلى العمل)! لكني رفضت ذلك، قلت له إني عاجز عن الحراك أولًا، ثم إني لن أخرج هكذا، وأظل أنزف حتى أصل بيتي، لأني سأصل جثة هامدة ليس فيها قطرة دم واحدة، وكان ردّ الطبيب عمليًا، طلب من السكرتيرة إدخال المريض التالي! (يبدو بأن أثر دعابتي الإيجابي أقوى مما كنت أظن، ويبدو بأنه يجب أن أداعبه دائمًا كي يبقى نشيطًا هكذا)!
    خرجت السكرتيرة ثم دخلت هي والمريض، وأخذت تشير إليَّ قائلة: "أمه، قلقة، لأن"... وهنا تذكرنا أن والدتي تنتظر خارجًا، وقد شعرَتْ بقلق شديد لتأخري هكذا، والطبيب كان قد قال إن المسألة لن تستغرق بضع ثوان. وهكذا ترك الطبيب المريض الذي دخل، وأتى نحوي ليعاونني على الاعتدال على الكنبة، وبمجرد حصول ذلك شعرت بكل شيء يدور من حولي، ثم وضع الطبيب قطنًا في أنفي، تخرج منه رائحة كفيلة بإفقاد الوعي لكراهيتها، وقال إنها ستمتص الدم، وإن عليَّ نزعها فور وصولي إلى بيتي، وهذه روشتة طبية يجب أن أتبعها بحذافيرها، وبعد أسبوع يجب أن أكون عنده ليطمئن على الوضع، وليفكَّ القطب (الغرز الجراحية)!! شعرت بجسمي يرتجف من الرعب هنا: (فكُّ القطب)!!
    وخطر لي أن أكتب وصيتي الأخيرة في هذه الأيام، ويبدو أنني كنت أحدق في وجه الطبيب من دون أن أنتبه، فقد سألني بدهشة وضيق: "ماذا هناك"؟
    وجدت نفسي أتمتم: "فكُّ القطب؟ فكُّ القطب؟ مثل الفتيل الناعم هذا؟!"
    ردَّ الطبيب: "لا تحمل الهم". نعم، لن أحمل الهم، لكني أتمنى حملك أنت وإلقاءك من النافذة فقط لا أكثر!
    مرَّت الأيام، والدم الأحمر القاني ينزل من أنفي بكميات هائلة، رغم أني أستعمل البخاخات التي طلبها الطبيب، وباتصالنا به قال إن هذا أمر طبيعي، لكنه سيزول فلا داعي للخوف، وحان اليوم الموعود، يوم فكِّ القطب، وفي العيادة حمل الطبيب أدواته، واتجه نحوي، فاستوقفته بحزم: "اسمعني، عليك أن تترفق في عملك، وإلا فلن أضع قدمي في عيادتك مرَّة أخرى، وسأتابع مع طبيب آخر". وبمجرَّد سماعه هذه الكلمات تحول الطبيب إلى (ملاك رائع)، بل وقام بوضع بنج موضعي باستخدام بعض البخاخات، وإن كان هذا لم يمنع الإحساس بألم شديد حين قام بانتزاع القطب (أو ما أسماه هو كذلك، فلا أعلم هل يتمُّ تقطيب داخل الأنف أم ماذا)، كما قام الطبيب بعملية تنظيف شاملة (كما أسماها كذلك) لكنها لم تكن كذلك فعليًا، وطلب مني استخدام بخاخة معينة، وقال (بعد أسبوع واحد سترى النتيجة 100%، والعملية نجحت 200%، ولولا صورة السكانر المختلفة التي أحضرتها لي في المستشفى)...
    ومع هذا (التخريف) الذي يكرِّره الطبيب، وجدت نفسي أقول متهكمًا: "يبدو أن طبيب البنج وقتها قد (بنَّجك) أنت أيضًا، هي صورة سكانر واحدة أخذتها في حياتي، وأنت تؤكد أنهما صورتان مختلفتان"؟
    لم يردَّ الطبيب، وخرجت أنا، لأرجع إلى بيتي، وفي أنفي بعض القطن كالعادة، قال الطبيب إنه لتصفية الدم الذي سينزل (خفيفًا أسود اللون) من الأنف بعد فكِّ القطب، غير أني لم أصل مخرج العيادة، إلا ودفقة دموية حمراء قانية تتفجر بعنف في أنفي مما قذف بالقطن منه قذفًا، وليس في هذا أي مجاز، حصل هذا حقيقة، فأصر والدي على الرجوع إلى عيادة الطبيب، ولم أجد في هذا أية فائدة تُذكر، فلم يفعل الطبيب سوى أن أخذ (يبخُّ) في أنفي من بخاخات متعددة للغاية، ثم أخبرنا بأن إحدى هذه البخاخات كلُّ نقطة منها ثمنها دولار كامل، وتصله بصفة شخصية من فرنسا، لكنه (بَخَّ) لي منها مجانًا، و(تكرم عيني)!! وكأني مجبر على دفع إضافي لحضرته، وقد أخذ ثمن فكِّ القطب والتنظيف، فإن لم يكن يتقن عمله فما ذنبنا نحن؟ ثم إنني حاولت حفظ اسم تلك البخاخة العجيبة لكني، وأنا بتلك الحالة، لم أستطع ذلك. وكان الوصول إلى منزلي قبيل المغرب، وقد خفتت الآلام في طريق الرجوع، وصلت بيتي مرهقًا جدًا، ارتحت قليلًا، وحاولت أن أنام، ولكن، بعد العشاء بقليل تفجرت الآلام في أنفي، ووجدت نفسي أنهض وأجلس وأتمدد على الأرض وأمشي يمينًا ويسارًا، ولا أعرف ماذا أفعل ليسكن البركان المشتعل في أنفي، وتناولت حبتين من الدواء المسكِّن، لكن الألم لم يخف، فتناولت حبتين أخريتين، وكدت أتناول العلبة كلها، لولا بقية من العقل في رأسي، وهكذا مرَّت ليلة سوداء، لم تهدأ فيها الآلام إلا في وقت متأخِّر، والغريب أن جرس الباب رن والساعة تقترب من العاشرة ليلًا (كنا في وقت يؤذن فيه العشاء الساعة السادسة والنصف تقريبًا)! ومع تكرار الرنين، قمتُ لأرى من الذي أتى، قبل أن يستيقظ أهلي، وأخذت أفكر بوجود سبب مهم يدفع أحدهم بطرق بابنا في هذا الوقت، ويا رب اجعله خيرًا؛ وكانت المفاجأة أن الحاضر، أو الحاضرات، مجموعة من النسوة، يقربْنَ لي قرابة بعيدة، وقد سمعن بأنني خضعت إلى عملية، وهنَّ قادمات للاطمئنان نيابة عن أزواجهن!! (الله يعيننا على النساء، يبدو أنني لا أستطيع فهمهن بسهولة)!!

    تابعوا معنا

  7. #7


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الحلقة الخامسة

    كان النسوة قادمات للاطمئنان نيابة عن أزواجهن!! (لم أعرف ما نوع هذه القرابة ولم أفكر حتى بالسؤال عنها، لم أشعر أنها تعنيني على الإطلاق، خاصة في هذا الوقت)!
    طلبتُ إليهن دخول الصالون، وأيقظتُ أمي، ثم عدتُ إلى الصالون، ولم تمضِ دقائق قليلة حتى دخلت أمي، وهنا خرجت من دون استئذان أحد أو حتى شكر هؤلاء النسوة على هذا الواجب العجيب الذي يتمُّ بعد العشاء بحوالي أربع ساعات تقريبًا، ثم إن الآلام لم تترك لي مجالًا للياقة الاجتماعية أو المجاملة. وأغرب ما في الأمر، أنني في هذا الوضع، إذ أعاني ما أعانيه، تمكنت من صياغة وكتابة قصة قصيرة بعنوان "إعلان"، حول شاب فاشل يستلم إدارة إعلامية، وشاب موهوب يحتقرون موهبته لانعدام واسطته، ويكلفونه بتقديم إعلانات، الأمر الذي لا يتناسب مع قدراته الفذة، فيحاول إحراجهم على الهواء مباشرة، إلخ... كتبتُها والآلام ما تزال تشتد في أنفي! وبعد فترة طويلة استسلم جسمي المتهالك إلى نوم عميق، غير أن تلك لم تكن خاتمة المأساة، فالدم الأحمر القاني عاد يتفجر من أنفي وبعنف، ولم تنفع إرشادات هذا الطبيب الحمقاء، وكان أن ذهبنا إلى أكثر من طبيب بعدها، والكلام كان واحدًا: (الغضروف ملتوٍ، اللحمية متضخمة، الجيوب الأنفية ملتهبة)، واحد فقط أفادنا بسبب ما يحصل فعلًا (الغضروف تم تجليسه قليلًا جدًا لكن فوق بعض الشرايين، مما فعصها فعصًا، ويبدو بأن الشرايين في الأنف كانت تعاني التهابًا شديدًا قبل العملية الجراحية، مما ساعد في تفاقم مشكلة النزيف هذه)، وهذا الكلام صحيح، لا أعني بهذا اقتناعي بكلامه أم لا، لكن اللوزتين التهبتا قبل العملية بأيام، والطبيب قال إن هذا لا يؤثر في شيء، وتناولتُ بعض الأدوية المضادة للالتهاب، وذهبتُ إلى العملية، وأنا لم أُشْفَ تمامًا بعد. كان الحل الوحيد هو إعادة العملية، ولكن كيف؟ ما فقدته من الدم هبط بنسبة الحديد في جسمي إلى درجة مخيفة، إلى الرقم 13، كما نقصت نسبة البوتاسيوم كثيرًا، مما سبب لي تشنجات قاسية في الساقين، وأخذت أتناول أدوية للحديد في محاولة للتعويض، كما أن التهاب اللوزتين لم يخفت ولو قليلًا (قال الطبيب قبل العملية سأتنفس من أنفي وبالتالي لن تلتهب اللوزتان)، ومن مرض إلى آخر، الجسم بات ضعيفًا جدًا، وطبقة الصوت عندي باتت مختنقة وضعيفة (أعلم وأكرر بأن صوتي ليس جميلًا، بل فيه بعض النشاز، خاصة مع الالتواء في عظمة الأنف وتضخم اللحمية، لكن طبقة صوتي كانت قوية، وباتت ضعيفة جدًا)، كل ذلك جعل التعليم عملية متعبة للغاية، حتى بعد توقف الدم النازف من الأنف فجأة من دون مقدمات، ظل الجسم ضعيفًا من كثرة المرض مع التهاب اللوزتين المتكرر، ثم كان أن اتصلت بالطبيب نفسه، وأخذت موعدًا منه، وذلك عام 2006، قلت سأمنحه وأمنح نفسي فرصة أخرى، لأرى هل سنستفيد شيئًا هذه المرَّة، وليس في هذا حماقة مني، فبعض نتائج هذه العملية لم يفلح أحد في حلها على الإطلاق، وأكثرها سوءًا مشكلة البلغم الذي يحتقن في الحلق، ولا يخرج إلا بخروج الرأس من مكانه معه! وبدا لي أن هذا الطبيب، بل هذا المخرب، هو الوحيد الذي يعرف تمامًا ما قام بتخريبه، ويمكنه علاجه.
    اتصلت لأخذ موعد، فأخبرتني السكرتيرة التي ردت على الاتصال إن هناك موعدًا قريبًا بعد غد، فتوجهت في اليوم التالي إلى طرابلس لفعل شيء ما، أنا من القلمون، والطبيب يصرُّ أنني من طرابلس نفسها، لا بأس، فنحن نتبع قضائيًا إلى طرابلس، لكننا تعودنا القول مثلًا (رحت ع طرابلس اليوم، في محل بطرابلس بيبيع كذا، إلخ)... فعلت ما أريد، ثم لم أكذب خبرًا، ذهبت أنا وأحد أصدقائي، ووجدت سكرتيرة أخرى غير الثرثارة التي كانت، فشعرت بأن رفيقي قد نجا من استجواب رهيب كان ينتظره، حتى يحتاج طبيب رأس ليؤكد له مدى قوة وأضرار انفجاره الدماغي! وفي العيادة حمل الطبيب ملفي الطبي المحفوظ لديه، وعاد يتحث عن صورة السكانر المختلفة التي أثرتْ على أدائه في العملية، حيث وجد أن عليه تنظيف العديد من أكياس الجيوب الأنفية بدل كيس واحد، قلت له بنفاد صبر: "في العيادة أحضرت لك صورة سكانر فيها كيس جيوب أنفية ملتهب واحد، وكان ذلك موافقًا لتشخصيك، أليس كذلك"؟
    أقرَّ الطبيب بذلك، فقلت له، والسخرية تقطر من كلماتي: "وفي المستشفى أحضرت لك صورة سكانر كلها جيوب أنفية، وما شاء الله وجدتَ أنفي ممتلئًا بها، فيا لأنفي الساحر هذا الذي يتفاعل مع صورة السكانر، ربما لو أتيتك وقتها بصورة سكانر لرفيقي هذا، لما وجدنا أي التهاب في الجيوب الأنفية، أليس كذلك"؟
    تجاهل الطبيب الرد، فقال له رفيقي: "أريدك أن ترى صورة السكانر هذه".
    هنا تحمَّس الطبيب ليخبرنا بأن هذا يعني إنه قد كشف على مريضين لا على واحد! قلت له: "لا بأس، فلترها أولًا".
    وهكذا أخذ الطبيب يقرأ الصورة الضوئية أمامه، معلنًا وجود التواء عنيف في غضروف الأنف، والتهابات لا حد لها في الجيوب الأنفية، إضافة إلى لحمية متضخمة تكفي خمسة أنوف لا أنفًا واحدًا، وهنا أخبرته بلهجتي الساخرة أن هذه صورة السكانر لأنفي أنا، فردد ببلاهة شديدة: "لك أنت؟ لأنفك أنت؟ أنت؟ لكنك أخبرتني أنك لم تقم بذلك إلا مرة واحدة"...
    رددتُ بحزم: "نعم، صحيح، قبل العملية التي أجريتَها حضرتك لي، لم أصور أنفي سكانر سوى مرة واحدة، ولا أفهم كيف ادعيتَ أنتَ أنك رأيت أكثر من صورة! أما هذه الصورة فجديدة، تاريخها يومان فقط، فهل لي أن أعرف ماذا فعلت لي بالضبط؟! أنا لم أكن أعاني أي احتقان في البلغم قبل عمليتك الميمونة، وأنا الآن أعاني ذلك وبِشِدَّة، من وقت عمليتك وإلى الآن، ولا أجد حلًا لهذا رغم كل أدويتك، العملية نتيجتها سلبية، جعلتني أعاني أمورًا لم تكن من قبل، وريقي لا أستطيع ابتلاعه"...
    قاطعني الطبيب: "الريق ماء، كأنك تشرب بعض الماء، لا يؤثر إن ابتلعته أم لا".
    نظرت إليه كأنه مجنون رسمي، فقد سبق وأخبرني في زيارتي الأولى إليه قبل العملية أن الريق ميكروبات، وعدم ابتلاعه يسبب أمراضًا حادة، والآن يتحول الريق، بسحر ساحر، ماءً لا ضرر منه على الإطلاق! ثم تحدث الطبيب بحكمته العالمية، قائلًا إن الأصل كان استئصال اللوزتين لأنهما سبب المشاكل، والبلغم يعلق بهما فلا يخرج (وهذه معلومة دولية جديدة لم يسمع بها أحد، رغم انعدام خبرتي الطبية إلا أني لم أستطع تصديقها)، وتابع الطبيب (التخريف) بأنه نزل عند رغبتي أنا في تقويم عظمة الأنف واستئصال اللحمية وتنظيف الجيوب الأنفية (ويا لهذا الهراء! متى كانت هذه رغبتي أنا)؟؟ وبما أنه وجد نفسه فجأة أمام الكثير من أكياس الجيوب الأنفية بسبب تغيُّر صورة السكانر عليه في المستشفى، وجد أن الوقت يكاد ينتهي، والبنج سينتهي مفعوله، فأهمل اللحمية تمامًا (بِغَضِّ النظر عن إصراره على صورة السكانر المتغيِّرة هذه بغباء شديد، إلا أنه كان قد أكد عشرات المرات قبل ذلك أنه استأصل اللحمية من جذورها، عدا عن خدعة انتهاء مفعول البنج، فهذه مهمة طبيب البنج ويمكنه وضع كمية إضافية لو اقتضى الأمر)، وتابع الطبيب القول إنه يستطيع علاجي 80% من تلك المشكلة، بل 100%، عملية لايزر محدودة في العيادة الآن، ويتمُّ استئصال اللحمية، وأخبرني الطبيب بأن العملية الجراحية أشبه بتحجيم اللحمية والتي ستتضخم بعدها في غالبية الأحوال، بينما بتقنية اللايزر، اللحمية يتمُّ استئصالها وكيُّ مكانها فلا تكبر بعدها، و(كلها 200 دولار وبيمشي الحال تمام التمام)، أي حوالي نصف راتبي الشهري تلك الأيام، وتذكرت قول الممرضة التي كانت على خلاف معه إنه لا يهتمُّ سوى بالعمليات وإعادة مرضاه إلى المستشفيات، لكنْ يبدو بأن هذا الطبيب قد فقد أي أمل في أن أرجع إلى المستشفى، حيث تتكلف العملية مليوني ليرة ندفع نحن منها 200 ألف، لكن لا أظن أجرة الطبيب تقل عن المليون، لذا العملية في المستشفى مربحة أكثر، وبما أن الطبيب يئس من ذلك، فلا بأس بعملية في العيادة تعادل أجره في ثماني كشفيات تقريبًا،وكان الطبيب نفسه قبل ذلك، قد أخبرني بأن استئصال اللحمية عبر اللايزر لا يعطي مفعولًا أكثر من سنة وبعدها ترجع كما كانت، بينما عبر الجراحة لا يمكن لها أن تتضخم مرة أخرى، وذلك حين حاولت الفرار من دخول المستشفى، ولو بدفع المزيد من المال، لكن بحسب المال الذي يمكن لهذا الطبيب تحصيله يتلون الكلام وتتغير الحقائق. ورغم إدراكي ذلك قررت أن أفتدي نفسي وراحتي ولو سنة إلى الأمام، واستسلمتُ للطبيب وسلمته نفسي مرة أخرى، وأنا لا أعلم هل كان قراري هذا صحيحًا أم لا...

    تابعوا معنا

  8. #8


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الحلقة السادسة

    بحسب المال الذي يمكن لهذا الطبيب تحصيله يتلون الكلام وتتغير الحقائق، ورغم إدراكي ذلك قررت أن أفتدي نفسي وراحتي ولو سنة إلى الأمام، يرتاح فيها تنفسي، وربما اللوزتان، وإلا فسأضطر إلى عملية لاستئصالهما، لكنها لن تكون على يدي هذا الأخ بالتأكيد، لأني لا أنوي الانتحار، وتوكلت على الله، ودفعت له المبلغ، وهكذا بدأت بخاخات المخدر الموضعي ثم بدأ بالعمل في أنفي، وبعد الانتهاء وحين قمنا لنمشي، طلب الطبيب مني مرة أخرى أن أجلس، ففعلت، نظر في أنفي، ثم فوجئت به يحمل مقصًا ضخمًا، ويولجه في أنفي ليقصَّ شيئًا ما، جعلني أصرخ من الألم رغم المخدر الموضعي هذا!! غادرت ورفيقي لنرجع إلى ضيعتنا، لكن المخدر زال كالعادة من الأنف، وأخذت أشعر بالنيران تشتعل فيه، حقيقة لا مجازًا، والحمد لله أني كنت قد حسبت حساب هذا (لم أكن قد حسبت حساب عملية لايزر، لكني حسبت حساب الآلام المفاجئة المعتادة كلما خرجنا من عيادة الأخ)، فتناولت حبتين من الدواء المسكِّن، ومضى بعض الوقت قبل أن تخفت الآلام، وتصبح محتملة، لكن آلام اللوزتين والتهاباتهما لم تخفتْ لحظة، والاحتقان ظل على حاله، وهكذا حزمت الأمر في العام التالي 2007 عند طبيب في طرابلس، وأخبرني الطبيب بعد فحص طبي بالأسطوانة التي حفظتها: "الغضروف ملتوٍ، الجيوب الأنفية ملتهبة، اللحمية متضخمة".
    سألتُه عن مدى تضخمها، فقال "التضخم شديد جدًا".
    أخبرته بأني استأصلتها عبر اللايزر، لكنه هزَّ برأسه غير مصدق أن هذه اللحمية قد رأت اللايزر في حياتها (ماذا فعل الطبيب الأول؟ وعلام تقاضى ال 200 دولار؟ الله أعلم)!
    غير أن الطبيب قال إن الأَوْلى هنا استئصال اللوزتين بسبب كثرة التهاباتهما، فقد بلغتا حدًا لا يمكن السكوت عنه، بل وتحولتا إلى مصدر الخطر عندي، لأنهما تفرزان مواد سامة داخل الجسم، وتحدد موعد العملية الجراحية.
    وبعد الحصول على الموافقة المسبقة من تعاونية الموظفين لدخول المستشفى يومين لإجراء عملية استئصال اللوزتين، أصابني قلق عجيب، ليس خوفًا من العملية بل من نتائجها وتوابعها، هل سيكون الطبيب هذه المرَّة قليل الأمانة مثل من سبقه؟ هل سيكون بارعًا في عمله؟ هل؟
    مجرد التفكير في الاحتمال الأول سلبني النوم تقريبًا في تلك المرحلة. وأكثر من شخص حينما يعلم أني سأجري العملية في مستشفى في طرابلس، كان يستنكر وينصحني بإجرائها في بيروت، حيث المستشفيات الضخمة والتجهيزات الدولية، غير أني كنت أستمع إلى حماسة المتحمسين ولا أبالي، فتجربتي قبل أربع سنوات في مستشفى بيروت لم تكن تجربة جيدة، هذا لا يعني أن نعمم الأمر في كل مستشفيات بيروت، فهذا ظلم بيِّن، لكنه لا يعني بالتالي أن مستشفياتنا هنا تعيسة بالكامل. وقبل العملية بيوم، اتجهت إلى المستشفى لإجراء التحاليل المطلوبة، وأنا أدعو الله تعالى أن يكون اختياري الطبيب صائبًا هذه المرَّة، وأن لا أدخل تلك الدوامة المرعبة من الآلام والآثار السلبية مرَّة أخرى، وهناك مررتُ بموقف طريف بعض الشيء، طريف بالنسبة إليَّ، لكنه حمل رعبًا شديدًا إلى فتاة مسكينة ظنتْ نفسها ستتدلى من حبل المشنقة بسببي!!
    كنتُ أفكر بدهشة في سبب ذلك، أعني سبب إجراء ما يلزم من التحاليل قبل يوم من إجراء العملية، بينما المرة السابقة في بيروت، كانت التحاليل والعملية في يوم واحد، وفي سيارة التاكسي ركبت فتاة في المقعد الخلفي كانت تنبعث منها رائحة خانقة للغاية (لا أعلم هل هذا مما يعتبر من مصادر الجمال أم ماذا)!!
    لكني أعلم أن حساسية التنفس تحركت عندي بقوة آنذاك (وهذه الحساسية من توابع عملية ال 2003، لم تكن موجودة من قبل، إلا حساسية الغبار فحسب، غير أنها لم تكن ثابتة، بمعنى أحيانًا أشعر وأتضايق لو أن أحدًا دخن سيجارة على بعد عشرة أمتار، وأحيانًا لا أشعر ولا يهمني شيء لو دخن أحد سيجارة على بعد متر واحد مني).
    لا علينا من هذا، نزلت من التاكسي قرب المستشفى، واتجهت إليها لأسأل كل من أصادفه عن المختبر، لكني لم أجده بادئ الأمر رغم الإرشادات، كان الطريق ينتهي بي في صالون متسع مريح، توجَّهت إلى الاستعلامات فأرشدوني إلى الطريق، لأجد نفسي في الصالون ذاته، لكني لم أجد مختبرًا! هكذا اتجهت إلى الفتاتين الجالستين خلف مكتب الصالون هذا لأسأل عن المختبر في خطوة يائسة، وكانت المفاجأة أن المختبر خلفهما!
    باب ضيق، بالكاد يتسع لمرور شخص، وحجرة ضيقة بالطبع تنبعث منها روائح الاختناق والسبيرتو وسواها، الأمر الذي جعلني أشعر ببعض الدوار، واستقبلتني الأخت المسؤولة عن سحب الدم بترحاب، وطلبَتْ إليَّ أن أجلس على الكرسي واقتربَتْ مني حاملة الإبرة التي بدت لي أشبه بالسيف (لأني أعاني رهاب الحقنة إلى حد ما، اكتسبت هذا الرهاب في سن الثانية عشرة تقريبًا)، ومع ضربة الإبرة في ذراعي شعرْتُ كأن تيارًا كهربائيًا قد مر بها، واجتمعتْ هذه العوامل كلها، لتدور بي الغرفة بأكملها، ثم سمعتُ صوت أنثى تهتف برعب هائل: (وليييي، مات، يا دليييي، رحت ع المشنقة، ما عملت شي أنا، مين قال له ينضرب يموت بين إيديي)!! شعرت بأني على وشك مشاهدة أمر مثير للغاية، قمتُ من مكاني بسرعة رغم الدوار الذي أشعر به، متسائلًا بمنتهى التوتر: (من الذي مات)؟!
    كيف يمكن لشخص أن يموت من ضربة إبرة؟؟ أمر لا يكاد يصدق!!

    تابعوا معنا


  9. #9


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الحلقة السابعة

    شعرت بأني على وشك مشاهدة أمر مثير للغاية، وكيف يمكن لشخص أن يموت من ضربة إبرة؟؟ نهضت من الكرسي متسائلًا بمنتهى التوتر: (من الذي مات)؟ ردَّت الأخت في يأس أشد من توتري: (أنت)!
    (ماذا؟ أنا مت؟ مت وما معي خبر!! الله يبارك فيها لأنها خبرتني، أفضل ما أظن أني ما مت وأتصرف على هالأساس، كيف سيكون شعور التلاميذ لو دخل أستاذ ميت ليعلمهم)؟؟ ثم فطنت إلى الأمر، حين لمحت عينيها تتسعان عن آخرهما، وهي تحدق بي بغضب كأها تود أن تأكلني، وفوجئت بها تشير إلى الباب الضيق خلفي، صارخة بتوحش: "اخرج، اخرج، قطعتَ لي قلبي، سأعتزل العمل هنا، سوف (أنضبُّ ببيتي) أحسن لي"... خرجت مترنحًا (من أثر الروائح لا من أثر كلماتها طبعًا)، لكن الأخت هنا نسيت غضبها، وأسرعت تسندني، شعرت بالحرج وحاولت التملص منها، لكنها فهمت الموضوع خطأ، فأخذت تتمتم (سامحني، والله ما قصدي، والله العظيم ما عرفت ليش حكيت هيك)... وعبثًا حاولت إفهامها أني لست غاضبًا منها، وأن الموقف كان بالنسبة إليَّ، (ككاتب قصصي) طريفًا للغاية!
    اليوم التالي أتينا المستشفى، وصعدت غرفتي التي أخبروني عنها، تمددت على الفراش، وأخذت أتململ من الانتظار، ثم دخل الغرفة شاب يحمل محقنًا ويجرُّ حامل المصل معه، واقترب مني، طالبًا أن أعطيه ذراعي، طلبت إليه أن يتمهل قدر المستطاع، فأجاب مبتسمًا أن أمامنا حوالي ساعة ونصف قبل العملية، ويمكن لي، إن أحببت ذلك، أن يخصصها كلها لوضع الإبرة في ذراعي، كي لا يجعلني أتألم، وقد كان بارعًا فعلًا، لم أشعر بشيء، وبعد أن انتهى همَّ بالانصراف، فاستوقفته، ليدور بيننا حوار ظريف نسبيًا:
    _ أريد منك طلبًا.
    _ تكرم عينك، ما هو؟
    _ إبرة البنج، أنت من سيعطيني إياها.
    _ أية إبرة بنج؟
    _ البنج قبل العملية!
    _ ماذا به؟
    _ ألن آخذ بنجًا قبل العملية؟
    _ بلى.
    _ أعطني الإبرة أنت.
    _ أية إبرة؟
    (لا حول ولا قوَّة إلا بالله، هل هذا الفتى مضروب عقله، أم ماذا)؟
    وبصبر هتفت به:
    _ هل سأدخل العملية وأنا واعٍ؟ ألن تعطوني إبرة بنج قبل ذلك؟
    صاح مستنكرًا، بعد أن فهم ما أقصد أخيرًا:
    _ ولماذا؟ ما الداعي إلى هذه الإبرة؟ البنج يتم ضخُّه في المصل مباشرة، ألم تخضع إلى عملية واحدة في حياتك؟
    بلى، بل إني خضعت إلى عمليتين لا واحدة، الأولى لا أذكر من تفاصيلها الكثير، فقد كانت وعمري 10 سنوات، أما الثانية فقد تعرضت خلالها إلى إبرة بنج كادت تمزق يدي! وحين أخبرته بذلك، بدا عليه الارتياب وشعرت بأنه لا يصدق ما أقول!
    وبالفعل، أخذت أفكر، لو أن البنج يتم ضخه في المصل، فلماذا كانت تلك الإبرة الملعونة في مستشفى بيروت؟ وهل تمَّ وضع المصل لي بعدها مباشرة؟ أم بعد العملية أم ماذا؟ لا علينا (تنذكر ما تنعاد) كما يقول المثل.
    وحان وقت العملية، وتمَّ نقلي إلى غرفة العمليات، حيث كان الطبيب ينتظرني، وخطرت لي فكرة ما فجأة، فهتفت به: "دكتور، أنت ستستأصل اللوزتين، لماذا لا تستأصل اللحمية معهما"؟ كنت أظنها فكرة جيدة، لكن الطبيب ردَّ بهدوء: "حينما أستأصل اللحمية سأضع فتيلًا في الأنف"، وهنا انتفض جسمي في رعب لا إراديًا، مع تلك الذكرى اللعينة، بينما تابع الطبيب موضحًا: "أما اللوزتان فمع استئصالهما سيكون هناك قطب في الحلق، فكيف ستتنفس"؟!
    لم يكن هذا السؤال هو المهمُّ الآن، بل ما قاله الطبيب مما غفلت عنه قبل ذلك، وفي توتر شديد، وأنا أشعر برغبة في الفرار من الغرفة هذه، سألته: "قطب في الحلق؟ وستنتزعها أنت بعد ذلك"؟ أجابني مستنكرًا: "لا"، شعرت بالدهشة وأردت أن أستفهم منه ماذا يقصد، لكني غبت عن الوعي تمامًا.
    استعدت وعيي وأنا أشعر بألم في الحلق، وشعرت كأنِّي أسمع صراخًا بعيدًا، وانتبهت إلى أنهم يغيِّرون ملاءة الفراش، فسألت نفسي عن هؤلاء العباقرة الذين لا يحلو لهم هذا التغيير إلا بعد رجوعنا من غرفة العمليات، وكان اليوم قاسيًا، كان معي في الغرفة شخص يصرخ ويولول كأنه يتعرض إلى تعذيب شديد، لم أستطع النوم بسببه، ثم ذهبوا به إلى غرفة العمليات، ليرتاح كلانا من هذا الصراخ، ودخلت ممرضة لتقيس الضغط، وفوجئت بها تنظر إلي بغضب شديد، مما دفع بي إلى أن أسأل نفسي هل هي كذلك على خلاف مع هذا الطبيب أم ماذا؟ وهل ستتكرر تلك السخافات التي رأيتها في بيروت؟
    لكني كنت مخطئًا للغاية، فمع خروج المسكينة هذه، أخبرتني أختي بأنها كانت ترافق السرير النقال الذي كنت أنا عليه، وأنها أصرت على وضعي في سريري بالمستشفى بنفسها، لأنها تفعل ذلك مع كل المرضى و(تخدمهم بعينيها)، لكني كافأتها مكافأة كبيرة بأن تقيأت البنج فوق رأسها، لأملأ شعرها ووجهها بالكامل بالدم الأسود! وقد خرجت هذه الممرضة من الغرفة، وهي تطلق صرخات كفيلة بإيقاظ الواقعين تحت أقوى درجات التخدير (إذًا هذا هو سبب الصراخ الذي سمعتُه، وسبب تغيير ملاءة الفراش)، لكني لم أشعر بأني قد أخطأت في شيء، فهذا الأمر ليس بيدي قطعًا، لكني شعرت بالشفقة عليها، ثم تجاوزت الممرضة الأمر فيما يبدو، وأخذت تتودَّد إليَّ، مؤكدة أنني، مثل سائر مرضاها، هي من ستمسك بيدي في خطواتي الأولى.
    خطواتي الأولى؟ ترى هل ستغني لي (ددة شطة بطة) مثلًا؟؟ أم أنها تظنني خارجًا من الشلل لا سمح الله؟؟ وهكذا تحولت الممرضة إلى (لزقة)، وباتت تدخل الغرفة مرارًا وتكرارًا، لتعرض عليَّ أن (نتمشَّى معًا)! وأنا أشير إليها بالرفض.
    كنت أشعر بثقل ما في الرأس، كأن آثار المخدر ما زالت مسيطرة في جسمي، لكني كنت أقول ربما هذا بسبب النعاس، لأني قد تخلصت من المخدر، وهكذا، لأتخلص من إلحاح هذه الممرضة اللزجة، نهضت بمفردي، وتمشيت إلى آخر الغرفة، ثم شعرت بالدوار قليلًا، لم أقع أرضًا لكني شعرت بأن الاستدارة كي أرجع إلى الفراش صعبة، وهنا أحسست بمن يمسك بذراعي ليعاونني، توقعت أنها الممرضة إياها، وأنها ستلومني لأني لم أنتظرها، وتوقعتُ سماع محاضرة عن ملائكيتها وتفانيها لأجل المرضى، لكنها لم تكن هي، بل كانت ممرضة أخرى، وقبل أن أتنفس الصعداء لهذا، فوجئتُ بالأخت تدخل الغرفة، وتشير إلينا صارخة بلهجة لائمة: "هكذا؟ هكذا؟ تتنزَّه مع صاحبتي ولا تتنزَّه معي"؟ نظرتُ إليها بدهشة واستنكار، أتنزَّه مع صاحبتكِ؟ لعلكِ تريننا نزلنا الكافيتريا مثلًا لنشرب العصير؟!
    حاولتْ صاحبتها هذه إفهامها، غير أنها رفضت أن تستمع شيئًا منها، بل صرخت في وجهها طالبة إليها أن تهتمَّ بأمر الغرفة الثانية، وهكذا وجدت نفسي مع الأخت اللزجة هذه، وأنا أحاول جاهدًا التركيز كي أعدو بسرعة إلى الفراش قبل أن تمسك هي بيدي، لكنها كانت خواطر لا مجال لتنفيذها! أمسكت بي واتجهت إلى السرير، وهي تقول لائمة، وإن انخفضت نبرة صوتها: "أخبرني لماذا تكرهني؟ ماذا فعلت لك"؟
    يا حبيبي! هل نحن في دراما بائخة أم ماذا؟! لم أستطع متابعة التفكير، فقد شعرت بأنني سوف... سوف... أشرت إليها كي تبتعد، فهتفت بعناد: "لا، ليس قبل أن تنام مرتاحًا على سريرك"، كنت قد صعدت سريري بالفعل، ولم تبتعد هي بعد، أشرت إليها مرَّة أخرى، فعادت تقول بعناد: "لا، ليس قبل أن أطمئن عليك"، حاولت أن أدفعها بيدي، رحمة بها مما سيحدث لها، لكني لم أجد الفرصة حتى لأتحرك، وخرجت الممرضة من الغرفة تصرخ وتولول، والدم الأسود يملأ رأسها ووجهها!

    تابعوا معنا

  10. #10


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الحلقة الثامنة

    خرجت الممرضة من الغرفة تصرخ وتولول، والدم الأسود يملأ رأسها ووجهها! غير أن هذا كان درسًا قاسيًا لها، علمها ألا تقترب مني بذلك الشكل المستفز بعد تلك اللحظة، لكنها، كلما أتت لتقيس الضغط، تسألني: (نفسي أعرف أنا شو عاملة لك)، وأنا لا أرد، أصلًا لا أستطيع الرد مع القطب في حلقي، ومع تذكر القطب شعرت بقشعريرة باردة، هل سيكون فكها مؤلِمًا؟! لكن الطبيب قال إنه لن يفكها، فماذا سيحصل إذًا؟ أعياني التفكير في ذلك، لكني نمت لأستعيد قواي، فأفقت على صوت يدوي في الغرفة، كان قد نزل فيها شخص آخر، وقد سلمه الممرض الريموت كنترول، واستغل قدوم عائلته الميمون صباحًا، ليشغل التلفزيون على الفيديو كليبات الراقصة بأعلى صوت، من دون أدنى مراعاة للذوق، ضغطت الزر بجوار يدي، ليأتي ممرض بسرعة (أشهد لهم بسرعة الخدمات، لكني أشهد لهذا الممرض بالتيسنة، وعذرًا لهذا اللفظ)، ولم يفهم الممرض شيئًا رغم إشاراتي إلى التلفزيون وإلى أذني، بل أخذ يمتدح المطربة الفلانية والراقصة العلانية، وأنا أشعر برغبة في خنقه، ثم تمادى الممرض، فأحضر سيجارة إلى الأخ المريض هذا، وامتلأت الغرفة برائحة السجائر الخانقة، وخطر لي هنا أمر لم أتردد في تنفيذه، عدت أضغط زر الجرس مرَّة أخرى، الأمر الذي أثار حيرة مسؤولة الطابق، الممرضة اللزجة إياها، فهي تعلم أني ضغطتُه وأرسلَتْ ذلك الممرض، ومع تكرار الضغط أتت بنفسها، ولم أكن بحاجة إلى قول شيء، بمجرد دخولها انفجرت كالبركان، وقامت بإطفاء التلفزيون، لا بخفض الصوت، وأجبرت المريض الآخر على إطفاء سيجارته، وصرخت في وجه الممرض كي ينتظرها خارجًا، لتحاسبه على تجاوزاته، وبصرامة رهيبة أفهمت المريض الآخر وأهله أن لا أحد يحق له منعهم من مشاهدة التلفاز، لكن بصوت خفيض جدًا، لأن هذه مستشفى وليست أوبرا، وحاول الأخ وأهله التبرير، لكنها لم تعطهم الفرصة ليقولوا شيئًا، قاطعتهم بحزم وأخذت الريموت وخرجت، وأنا لا أكاد أصدق نفسي، هل هذه المنهارة المتهالكة التي تُوجه اللوم إليَّ لمِ لا أتنزه معها بصوت خفيض، هي هذه الصارمة الحازمة الرهيبة هكذا؟؟

    عمومًا لم أر ذلك الأخ المريض بعد ذلك، ولا أفهم هل تمَّ تغيير غرفته أم أنها عملية صغيرة وخرج مباشرة بعدها، لكن عملية استئصال اللوزتين نجحت بفضل الله تعالى، والقطب كانت لحمية، أي أنها تذوب وحدها، وهذا كابوس آخر يتلاشى، لكن مشكلة احتقان البلغم ظلت قائمة وبِشِدَّة، الأمر الذي دفع بي إلى الطبيب التعيس الأول بعد ذلك بسنة، في رحلة كوميدية للغاية، فقد أتاني مانع خاص أيامها من إجراء أية عملية جراحية أخرى، لا أستطيع الكلام عنه حاليًا.

    إذًا، نجحت عملية استئصال اللوزتين، بفضل الله تعالى، بات يلتهب موضعهما ولكن قليلًا، وليس كما كان الأمر من قبل من مرض إلى آخر، وأحسست ببعض الصحة والنشاط يأتيان تدريجيًا، غير أن مشكلة احتقان البلغم ظلت قاسية، ولم يفلح أحد في حلها، الأمر الذي جعلني أعود إلى الطبيب الأول، لثقتي أنه فعل شيئًا ما خلال العملية لم يستطع أحد معرفته، وفي يده هو الحل، إلا أن هذه المرة كانت مختلفة، أو هكذا ظننتها، فقد أخذت معي إلى هذا الطبيب (زبونًا) وهو أحد أصدقائي، كان يعاني من ضيق في التنفس، وفوجئت حينما دخلنا العيادة بالسكرتيرة القديمة نفسها (كنتُ قد ظننُتها غادرت العيادة حينما لم أجدها في مشواري الأخير منذ سنتين)، وابتسمت ابتسامة مشفقة على صديقي المسكين، لأنه لا يعلم ما ينتظره! وبالفعل هبَّت السكرتيرة لاستقبال رفيقي بحماسة شديدة (ليس بالأحضان طبعًا)، بل بفيض من الأسئلة والمعلومات (دعونا نفترض أن رفيقي أحمق لا يعرفها، حتى ما يخصه هو منها):
    _ هذه عيادة الدكتور... أخصائي أنف أذن حنجرة، وأنا سكرتيرته التي تنظم له المواعيد، وتفتح الملفات الجديدة، من المؤكد أنك عرفتني الآن، لأنك سمعت صوتي حين اتصلت بي لتأخذ لنفسك الموعد، أو لا، رفيقك هو الذي اتصل بي، أعرف هذا، هذه ليست زيارته الأولى، أما أنت، فإنها زيارتك الأولى! (ما شاء الله، تذكر صوتي الذي سمعتْه من خمس سنين)!!
    كان كلُّ كلامها يحمل صبغة التوكيد، لما فيه من الحماسة الشديدة، لكن المعلومة الأخيرة جعلت رفيقي يجمد مكانه من الدهشة، كونه لا يعرف أنها أول مرة يأتي بها إلى هنا، وتابعت السكرتيرة:
    _ أنا أعمل عند هذا الطبيب من عشر سنوات، كنت وقتها صبيَّة، أعني أنني كنت وقتها ببداية خروجي من مرحلة الطفولة تقريبًا، وبالكاد أتممت عشرين سنة و(كم سنة) فوقها.
    اتسعت عينا رفيقي استنكارًا هنا، لكني لم أجده محقًا في هذا، فالمهمُّ العشرون سنة هذه، أما ال(كم سنة) فوقها، فأمر (ما بينحكى فيه يا عمي)، سواء كان العدد سنة أو تسعًا، ورقم التسعة أو العشرة أو أكثر، أقرب إلى الصواب.

    وتابعت السكرتيرة دون كلل:
    _ هذا الدكتور (أشطر) دكتور في الشرق الأوسط، يتصلون به من الأردن ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وفرنسا وإيطاليا وإنكلترا وتركيا وأستونيا وقبرص والبرازيل والكاميرون والجزائر، طالبين رأيه وخبرته ونصيحته ومشورته، ودائمًا نصيحته لهم في مكانها، إذ لم يتصل أحد قد اتصل من قبل مرَّة أخرى!

    وتابعتْ السكرتيرة وتابعتْ وتابعْت وتابعتْ... حتى رأيت الأبخرة تتصاعد من رأس المسكين رفيقي، ثم تكرمتْ علينا السكرتيرة أخيرًا، أعني تكرمتْ على رفيقي، بأن سألتْه عن بياناته لتسجلها لديها، وتشير إليه بالجلوس بعد أن تورمتْ قدماه المسكينتان، (أنا كنت جالسًا من زمن، أبتسم لهذا الموقف الطريف، ولانفعالات رفيقي، التي طالما رأيتُها في جلسات استجواب هذه السكرتيرة لزبائن سابقين، وأشكر الله لأني كنت جافيًا معها في زيارتي الأولى قبل خمس سنوات، مما جعلها تدرك أن لا فائدة مني كمستمع لها)، وهكذا جلس رفيقي بجواري، وهو يتمتم ويغمغم ويهمهم كيفما اتفق، تارة يخفص صوته، وأخرى يرفعه:
    _ أنا لم أتصل بها؟ والله العظيم!! كنت أظنُّ أنني (شقفة خرفان) اتصلت ولا أعلم! ولكنها، بارك الله بها، أخبرتني بأني لم أخرف بعد وأتصل وأنا لا أعلم! ثم إنهم يتصلون بالطبيب من الأردن ومصر وليبيا وفرنسا وإيطاليا وإنكلترا، وإسبانيا، والمغرب والجزائر، وغينيا وكينيا و(بطيخينيا)، والمجر وأستونيا و(هبلونيا)، يتصلون به من هناك؟ أم أنَّ هذه المنتخبات التي لعبت تصفيات المونديال الماضي؟! ولم يتصل أحد قد اتصل من قبل مرَّة أخرى! أكيد! لأنه قد (فطس) من وراء هذه النصائح القيمة! أو لعل صوت السكرتيرة قد جعله يهذي ويهلوس ولا يفهم ما هو الدواء! يقول له الطبيب خذ حبة صباحًا ولا تقرب الحيوانات لأنك تعاني الحساسية، فيخرج ليحضن كل الحيوانات التي يراها ويوزع عليها حبات الدواء!!

    كنت أضحك بسبب هذه التعليقات التي يطلقها رفيقي، صاحب الوجه المحتقن غيظًا من السكرتيرة، ثم فوجئ رفيقي (وانتبهوا، فوجئ رفيقي وحده، لم أفاجأ أنا،) بالسكرتيرة تنهض من مكانها، وتقترب منا، لتقف أمامنا، واضعة يديها على فستانها، لتحركه يمينًا وشمالًا، قائلة بلهجة مائعة جدًا: (في أحلى من فستاني هيدا)؟! صاح رفيقي متهكمًا: (آه، في، ابن خالتي)!
    ونظرت إليه السكرتيرة ورفيقتها بغضب شديد، ووجهاهما محمران تمامًا من الإحراج لهذه الإهانة؛ نعم، رفيقتها التي كانت قد دخلت توًا العيادة ولم ينتبه إليها رفيقي المتسرع هذا، بل حتى لم ينتبه أن تلك الرفيقة تنظر إليه من خلفه، إلى أن نكزته مرارًا، وحينما انتبه أخيرًا، أسرع يضيف بسذاجة لم أصدقها أنا:
    _ ابن خالتي، آه، يريد أن يفحصه الطبيب، وسيأتي، قد يأتي، لن يأتي، المرَّة القادمة!
    أنا أعرف رفيقي هذا، لذا لم أصدق محاولة الكذب هذه، لكن الغريب العجيب أن السكرتيرة ورفيقتها لا تعرفانه من قبل، فلِمَ حكمتا عليه أنه يكذب؟! وبالتالي ظلت نظراتهما إليه تحمل الغضب والضيق؟ يبدو بأنهما من النوع الذي يسيئ الظن بالناس، أليس كذلك؟! كان يجب أن تصدقا رفيقي بأنه كان يتحدث فعلًا عن ابن خالته، ولا يتهكم بالسكرتيرة!

    لقد توقعت صفعة مدوية تنزل على وجه رفيقي من تلك السكرتيرة، لكني، وإلى الآن، أستغرب لماذا لم تفعل ذلك!!
    كنا نجلس على الكنبة المتسعة بجوار الباب، وأنا كنت أقرب إلى الباب، لذا انتبهت إلى الفتاة التي دخلت، وكيف أشرق وجه السكرتيرة لدخولها، فقامت ترحب بها، بهذه الطريقة النسائية الخالصة، فلا سلام أو سؤال عن الحال، بل السؤال عن هذا اللباس وهل هناك أجمل منه، بينما رفيقي الذي لم ينتبه إلى ذلك، ظن أن السكرتيرة (تتمايع) عليه، فقرَّر أن (يربيها) بهذا الرد!
    كانت هذه بداية الكوميديا، لكن المسخرة الحقيقية تجلت لنا خلال العيادة نفسها، بعد أن حان دورنا...

    تابعوا معنا


  11. #11


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الحلقة التاسعة

    كانت هذه بداية الكوميديا، لكن المسخرة الحقيقية تجلت لنا خلال العيادة نفسها، بعد أن حان دورنا، قررنا أن يبتدئ الطبيب بفحص رفيقي، ودار بينهما حوار رائع، أفاد خبراتي الطبية كثيرًا:
    الطبيب: ممَّ تعاني؟
    رفيقي: من ضيق شديد في التنفس.
    ينظر الطبيب في أنف صديقي، ويطلب منه كذلك فتح فمه لينظر فيه، ثم:
    الطبيب (بتوكيد): عليك أن تمتنع عن التدخين، وسيزول عنك ضيق التنفس هذا بأسرع وقت.
    رفيقي (بدهشة): لكني لا أدخن يا دكتور!
    الطبيب (بحماسة): عظيم، عظيم، لن تعاني ضيق التنفس بعد اليوم.
    رفيقي (بدهشة واستنكار): يا دكتور، أنا لم أقل إني سأمتنع عن التدخين، بل قلت...
    الطبيب (مقاطعًا): إذًا، فلتتحمل ضيق التنفس في هذه الحالة، إما دخان وضيق تنفس، وإما لا دخان ولا ضيق تنفس.
    رفيقي (محتدًا): يا دكتور، أنا أعاني ضيق التنفس، ولم أدخن سيجارة واحدة في حياتي، كيف أمتنع عن التدخين، إن كنت لا أدخن أصلًا؟؟
    الطبيب (في ارتياب): لا تدخن؟؟
    رفيقي (يتنفس الصعداء لأن الطبيب بدأ يفهم أخيرًا): لا، لا أدخن.
    الطبيب (متسائلًا بحماسة): لماذا تعاني ضيق التنفس إذًا؟؟
    رفيقي (يصيح بجنون): يا ربي!! ولماذا أتيتُ إلى هنا إذًا؟؟
    الطبيب (مرددًا وراءه): لماذا؟!
    رفيقي (في غيظ شديد): لتفحصني حضرتك!
    الطبيب (متحمسًا مرَّة أخرى): آه، آه، لا تهتمَّ، سأكتب لك الآن أدوية سيزول معها ضيق التنفس بالتأكيد.
    أثار إعجابي هذا الطبيب كما لم يفعل من قبل، نظرًا لما يمتلكه من حس إدراك لا يُعلى عليه، وكيف يربط الأمور ببعضها بدقة مذهلة، ثم حان دوري، لكن قبل أن ينهض رفيقي من كرسي الفحص، وضع الطبيب شيئًا في أذنه، قبل أن يصيح بلهجة انتصار: "إنك تسمع"! أوه! يا لحماقة رفيقي هذا! هو لا يعلم أن من لا يدخن يكون تنفسه جيدًا، ومع هذا تنفسه ضيق! يا للغفلة فعلًا! ثم من المؤكد أن أحدًا لم يخبره بأنه يسمع قبل الآن، إلى أن اكتشف الطبيب العبقري ذلك، ثم حان دوري فعلًا هذه المرَّة، وأخذ الطبيب يعدد مناقبه ومآثره: "لقد جلَّستُ لك الغضروف الملتوي (كذاب)، ونظفت الجيوب الأنفية (كذاب) واستأصلت اللحمية (كذاب إكسترا) وكذلك لحمية اللوز قد استأصلتها (هذه جديدة لم أسمع بها من قبل، لكن مع ذلك كذاب إكسترا إكسترا)،
    ثم فحص الطبيب، ثم قال إنه لم يجد شيئًا، وهنا ظننت أن بعض العقل قد نزل في رأسه فجأة ليرحمنا من التخريف، لكن الطبيب قال إن الأمر يحتاج الناضور الطبي، وقال إن تكلفته 100 ألف ليرة، لكنه سيأخذ مني 70 ألفًا فقط، عدا عن الكشفية التي هي 35000، وسيأخذ 30 ألفًا فقط، سألته: "وماذا سيفعل الناضور هذا"؟ كان ردُّه أنه يكشف كل شيء، وبالتالي سنعلم سبب هذا الاحتقان المستمر، ووضع الطبيب الناضور في أنفي، ثم هتف متحمسًا: "كما أخبرتك في العام 2003، لوزتاك ملتهبتان، هما سبب احتقان البلغم، لأنه يعلق بهما، ستدخل المستشفى الجمعة، وأستأصلهما لك وترتاح"!!
    اتسعت عينا رفيقي عن آخرهما هنا، فيما كتمتُ ابتسامة هازئة، لكن صوتي كان ممتلئًا بالتهكم بعد أن أخرج الطبيب هذا الناضور، وأنا أقول له: "لكني استأصلت اللوزتين فعلًا في العام 2007"، وكانت صدمة للطبيب، جعلته يردد دون وعي: "ما الذي رأيته أنا داخل فمك إذًا"؟ رددت بالتهكم ذاته: "هل تسألني أنا"؟ وعاد الطبيب يُدخل الناضور في أنفي، ليقول محاولًا الظهور بمظهر الحكماء: "آه، آه، هذا هو، الكيس الأخضر الذي خدعني وجعلني أظن أنه التهاب في اللوز"!
    الكيس الأخضر؟! أجل أجل، والدتي (رحمها الله) طلبت مني، قبل يوم من ذلك، بعض الأغراض، ومن بينهم (شوية خيار) ويبدو أن ضمن الخيار خيارة متنكرة، قادمة من المريخ لتتجسس علينا، وقد تقلصت وقذفت بنفسها داخل أنفي، لا أرى المسألة على ضوء آخر!! ومع ابتسامة التهكم عاد الطبيب يحاول التبرير لنفسه، بأن اللوزتين لم يتمَّ استئصالهما بالكامل، وبقيتْ منهما قطعة صغيرة، تحول لونهما إلى اللون الأخضر، وستنموان لتكبرا فيما بعد كما كانتا!! ومن الأفضل أن أدخل المستشفى ليستأصلهما لي (واحفظوا هذه المعلومات جيدًا، واحتفظوا بها لأنفسكم، لأنَّها معلومات قيمة لا يعلمها أشهر أطباء العالم، البلغم يعلق باللوزتين، وإن تمَّ استئصال اللوزتين، يمكن ترك قطع منهما داخل الفم، وسيتحول لونهما إلى الأخضر، بل وستكبران بعد ذلك وترجعان كما كانتا، ما شاء الله، طبيب رائع بارع لا يشق له غبار، وربما يستحق جائزة ما من جوائز نوبل)!
    أشرتُ بيدي رافضًا فكرة العملية، وهنا أدخل رفيقي نفسه في الكوميديا، فهتف بالطبيب: "لوزتاي دائمًا تلتهبان، فهل تستأصلهما لي"؟ وردَّ الطبيب مستبشرًا أنه قد رأى اللوزتين في فم رفيقي، وأن حالتهما ليست جيدة، وبالكاد ستخدمانه ستة شهور! ومن الأفضل استئصالهما من الآن، كانت ابتسامة رفيقي الهازئة تتسع، فهو قد استأصل لوزتيه فعليًا بعد أن فعلت أنا ذلك بشهور، قبلها أتاني إلى المستشفى يمزح بسماجة: "لوزتاك لم تحتملاك فهربتا"، وحين استأصل لوزتيه رددتُ له الصاع صاعين، وأخبرته بأن لوزتيه لم تصدقا كيف تحررتا منه، ولا بد أنهما كانتا تدعوان، حينما كانتا في فمه: {ربَّنا أخرجنا منها فإنا ظالمون}، وحين هممتُ بالنهوض من الكرسي عاد الطبيب إليَّ قائلًا إنه أدرك سبب ما أعانيه أخيرًا، واستبشرتُ خيرًا، وقلتُ (أخيرًا استحى على دمه)، لكنِّي فوجئت به ينحني حتى كاد رأسه يضرب بأسفل ساقي، ليرفع طرف البنطلون صارخًا: "هذا هو"!!

    هذا هو؟! من؟ هل هناك شخص يختبئ أسفل ساقي ولا أعلم؟؟!!
    أمر غريب فعلًا، ولا يُصدَّق!!
    التعديل الأخير تم بواسطة أ. عمر ; 30-12-2017 الساعة 08:20 PM

  12. #12


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الحلقة العاشرة

    انحنى الطبيب حتى كاد رأسه يضرب بأسفل ساقي، ليرفع طرف البنطلون صارخًا: "هذا هو"!!
    هذا هو؟! من؟ هل هناك شخص يختبئ أسفل ساقي ولا أعلم! يبدو أن جواسيس المريخ المتقلصين قد ازداد عددهم هذه الأيام، يا للهول! يجب أن نحذر من الغزو المريخي القادم حتمًا!
    ثم فوجئت بالطبيب يقول غاضبًا: "لا، ليس هو"، يبدو أننا ظلمنا جواسيس المريخ إذًا! سألتُه بنفاد صبر" من (هو) ومن ليس (هو)"؟ فكان ردُّه أنني مدرِّس كما أخبرته من قبل، وبالتالي أقف كثيرًا، وبالتالي هناك فاريس (دوالي) أسفل الساقين حتمًا، ولا بد أن هذا الفاريس هو سبب البلغم الذي أعانيه!! لكنه لم يجد أي فاريس، وبالتالي لا يعلم سبب ما أعانيه، (صدقوني ليس في ما أقول أيَّ مجاز، هذا الموقف حصل فعليًا)، ولكم شعرت بالرغبة في أن أحرك قدمي لأضرب وجه هذا الطبيب لولا أن تربيتي لم تسمح لي بذلك، لكن الرغبة كانت شديدة، وقد كتمتُها بصعوبة، ولكن تخريف الطبيب لم ينته هنا، فقد أخبرني بأنه من العام 2003، وهو يصف لي حبوبًا للمعدة! وإن أسيد المعدة سبب ما أعانيه (هذا صحيح لكن فيما بعد، بوقتها لم أكن أعاني ذلك الأسيد، لكن إدمان الشاي الرهيب سنوات طوال ربما كان سبب ذلك لاحقًا)، وطلب الطبيب أن أدخل المستشفى ليضيق لي باب المعدة فأرتاح نهائيًا من معاناتي، سألته بسخرية شديدة: "طبيب أنف أذن حنجرة وستضيق لي باب المعدة"؟
    واحتد الطبيب هنا مؤكدًا براعته وروعته، ولكني قاطعته بحزم مذكرًا إياه بأنني موظف دولة، ولن توافق تعاونية الموظفين على أن يضيق لي باب المعدة طبيب أنف أذن حنجرة، فكان ردُّه العبقري أنه سيكتب إنها عملية جيوب أنفية، وأنا آخذ الموافقة منهم لدخول المستشفى، فيقوم هو هناك بتضييق باب المعدة!
    عمومًا رفضت أنا ذلك الهراء، ورفضت حتى استلام الوصفة الطبية التي كتبها، بينما صديقي أخذها وألقاها في أول سلة نفايات وجدها (يبدو بأنه لا يُقدِّر العبقريات الطبية حتى يلقي بوصفة طبية مثل هذه، قد يكون فيها أدوية تحدُّ من أثر التدخين، حتى لو لم يكن يدخن)!

    كان هذا فصل الختام مع هذا الطبيب، أنا فهمت كل شيء، لقد تعمد الخراب، لأنه يريد أن نصل إلى العملية الجراحية الثانية بأي ثمن، فَأَجْرُه في العمليَّات ليس هينًا، ولكن ربما كان الخراب أكثر بكثير مما توقع، مثل تلميذ مشاغب أراد أن يقفز من فوق حائط المدرسة، لكنه فوجئ بالحائط ينهار بأكمله ويكسر بلاط الملعب، هو تعمد الأذى، لكنه رأى نتيجة فاقت توقعاته، فبات محتارًا من أي باب يأتينا حتى نوافق على العملية الثانية، وقبل المغادرة أخبرني الطبيب أنه يمكن لي أن أدفع (شوية زيادة) فوق أجرة الناضور وأجرة فحصي وأجرة فحص رفيقي، وذلك حتى أرتاح راحة كبرى، سألته، وأنا لا أصدِّقه: "كيف"؟
    فكان الرد أنه سيستعمل معي تلك البخاخة العجيبة التي تصله نقاطها من فرنسا خصيصًا لأجله، وكل نقطة ثمنها دولار كامل (هل تذكرتموها؟ استعملها معي بعد فك القطب)، وإذ حمل الطبيب البخاخة أدركت ماهيتها، إنها بخاخة الأوتريفين التي كان يبلغ ثمنها أيامها دولارين، بكل ما فيها من النقاط وبالعبوة، وبالعلبة الخارجية، وبالنشرة الطبية داخلها أيضًا!

    وحتى لو قال قائل إنه فعلًا يستورد تلك النقاط، ويملأ بهما بخاخة أوتريفين فارغة، فإني أسأل كيف تصله تلك النقاط؟ في كيس أم في مغلف؟ أليس لها بخاخة خاصة بها؟ ولنتجاوز هذه النقطة، ولنقل إنه يستورد هذه النقاط فعلًا، ألم أجربها من قبل، ولم أستفد شيئًا على الإطلاق؟ ومن هنا، أشرتُ إليه بالرفض مرة أخرى، وغادرتُ مع رفيقي، وقد حزمتُ أمري ألا أرجع إليه مرة أخرى، لأنه لن يستحي على دمه مهما كان.

    وبعد ثلاث سنوات (لا، لم أرجع إليه)، التقيتُ بأستاذة في بيروت، أوصلتني ذات مرة بسيارتها، وكانت تسكن قريبًا من منطقة ذلك الطبيب، فأوصلتني لعلي آخذ من هناك باصًا إلى منطقتي، وكان يصدر من أنفها أصوات مزعجة، احتقن لها وجهها من الإحراج، وأخذت تعتذر، طلبت إليها إلا تعتذر فليس على المريض حرج، وقلت لها إني أسمع بوجود طبيب قريب منهم اسمه... وما إن ذكرتُ اسمه حتى انطلقتْ تسبُّ وتلعن، وأخبرتني بأنه سبب معاناتها هذه، ومن عملية إلى ثانية إلى ثالثة، ثم أخبرها بأن علاجها بعملية يتمُّ فيها كسر فكها وإعادة تقويمه كي تتمكن من التنفس جيدًا!!
    قبل لقائي بهذه الأستاذة في بيروت، بسنة واحدة، رجعتُ إلى الطبيب الذي استأصل لي اللوزتين، لأسأله عن إمكانية استئصال اللحمية عبر اللايزر في العيادة، وكان الطبيب صادقًا في كلامه، واضحًا كما ينبغي الوضوح، أخبرني بإمكانية ذلك، على أن أحسب حساب أمري جيدًا، فقد أرتاح سنة، وربما نصف سنة لا أكثر، وبعدها سيرجع الوضع كما كان بالتدريج، لأن اللايزر بالعيادة لا يحل المشكلة حلًا نهائيًا، فاتخذتُ قراري بأن أحاول أن أرتاح ولو بضعة شهور، فحَدَّد لي الطبيب موعدًا للعملية المحدودة هذه، وقد كانت هينة لينة، لم يستعمل الطبيب فيها المقص كما فعل الطبيب الأول، ولم أشعر بأنفي يشتعل نارًا بعد زوال أثر التخدير منه، والأكثر أهمية أن تنفسي تحسن كثيرًا، حوالي سنة أو أكثر، قبل أن يرجع إلى ما كان عليه من قبل.

    مرَّت السنوات، حتى العام 2015، حيث اضطررت إلى عملية في الدوالي (ليس كما تنبأ ذلك الأحمق منذ سنوات، كانت أعلى الساق لا أسفلها)، وفي المستشفى، بعد أن مضى بعض الوقت، وأنا في غرفتي، أتى الممرض يخبرني بأن دوري في العملية قد حان، وأجلسني على كرسي ليذهب بي إلى غرفة العمليات، وكانت النتيجة أن خبط الكرسي بي بالسرير ثم بالجدار داخل الغرفة ثم بالجدار خارج الغرفة ثم بالجدار جوار المصعد، ثم بكرسيين جوار بعضهما خارج المصعد في غرفة العمليات، وأنا أتأوه من الألم، وأطلب إليه أن يتمهل، لكنه بَرَّر لي بأن رأسه يؤلمه و(ليس مركزًا)! طلبت إليه أن يركز أولًا، قبل أن يخبط الناس يمينًا ويسارًا، وهنا تقدم ممرض آخر ساخرًا من زميله، واصفًا إياه بوصف غاية في السوء، لأنه لا يعرف كيف يَجُرُّ الكراسي! وليثبت الممرض الآخر مهارته انطلق بالكرسي الذي أجلس عليه بسرعة خيالية لنضرب عددًا من الأسرَّة المخصصة لنقل المرضى بضربة عنيفة، جعلتها تهتز وكأنها ستسقط... فوق رأسي!

    تابعونا


  13. #13


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر


    الحلقة الحادية عشرة

    انطلق الممرض بالكرسي الذي أجلس عليه بسرعة خيالية لنضرب عددًا من الأسرَّة المخصصة لنقل المرضى بضربة عنيفة، جعلتها تهتز وكأنها ستسقط... فوق رأسي!
    وأشكر الله أن ذلك لم يحصل، وأخيرًا وصلتُ السرير المخصص لإجراء العملية، جلستُ عليه كما طلب طبيب البنج، والذي كشف أسفل ظهري ليضرب به إبرة اخترقته مثل سيف النار، وصرخت من الألم، وصاح طبيب التخدير إن إبرة البنج لم تنجح وسيعيدها، صرخت به: "إياك أن تفعل، أريد البنج الكامل عبر المصل".
    وهنا أتى الطبيب الذي سيجري العملية، وظن أن التخدير الموضعي قد بدأ عمله، وكانت تلك الضربة الجنونية في ساقي، وانطلقت الصرخة مني مرة أخرى، ومددت يدي أمسك بيد الطبيب الذي جفل من ذلك، وهتف بي" "أنت مخدر، فكيف"؟
    صرخت به بتوحش من فرط الألم: "إياك أن تمسني، هل تريد أن تجري لي العملية، وأنا مستيقظ"؟ وهكذا بدأت المعركة! أنا على ضعف بُنْيَتي الملحوظ، أمسك بِيَد الطبيب بشراسة غير عادية، فشل معها في تخليص يده مني، رغم أن عددًا من الممرضين كانوا يحاولون دفعي إلى الخلف، ولا ينجحون في ذلك، لا أدري أي تشنج عصبي أصابني من الألم الرهيب الذي تعرضتُ إليه، والطبيب يصرخ بي تارة أن أترك يده، ويصرخ تارة أخرى بطبيب البنج العام أن يأتي، ثم شعرت بقوتي تتلاشى، وبمن يردني إلى الخلف بقوة شديدة أنَّ لها ظهري ألَمًا، وصرخت مرة ثالثة، ثم غبت عن الوعي.

    لم يكن تصرفي آنذاك منطقيًا، فالطبيب لن يتابع عمله بعد إدراكه أنني لست مخدرًا، لكن الآلام كانت شنيعة فعلًا، أذابت عقلي وإدراكي سويًا، ومع عودتي من البنج، استغرقت بعض الوقت حتى أسترجع الإحساس بساقيَّ، ثم تفجرت آلام عنيفة في بطني، لأدرك هنا أن عملية الدوالي هذه تمَّت عبر اللايزر، لكن كان هناك شق جراحي عبر البطن، وهذه القطب (الغرز الجراحية) في بطني تجعل حركتي صعبة، مع هذا تحاملت على نفسي ونهضت ومشيت، لكني لم أستطع أن أستلقي على سريري بعد عودتي إليه، ناديت الممرض فدخل غاضبًا يصيح: "من سمح لك أن تمشي وحدك"؟ هتفت به مستنكرًا: "من سمح لي؟! هل تظن أني مستخدم عندك"؟!
    احتقن وجهه، لكنه لم ينطق بحرف، بل أخذ يعبث في السرير الذي أخذ يرتفع ويرتفع ثم مدَّ يديه وألقاني على السرير ببعض الخشونة، متجاهلًا صرخة الألم التي انطلقت مني، وخرج!

    ولا أدري كيف أصف مدى الآلام العنيفة التي تفجرت في بطني، ولكني وجدتها رحمة إزاء عرض الممرض الكريم، إذ أخبرني أنه سيخلصني من كل الآلام بإبرة مهدئة في بطني!! وأظن أني مستعد لأتدلى من حبل المشنقة نفسها على أن أتعرض لإبرة في بطني، ودخلنا في جدال عميق وعقيم ولم يكن يفهم أو يستوعب...

    ساعات طوال مرت، وأنا أقاسي الآلام، ثم حان دور ممرض آخر، ولم يتردد الأخير - جزاه الله خيرًا _ بإحضار حبتين (قرصين) من دواء مسكِّن، لأنعم ببعض الراحة أخيرًا، والحمد لله، وحتى حينما انتهى مفعول المسكن، كان الألم أخف وطأة ولم يمنعني من النوم بعمق، ودائمًا وأبدًا أقول الحمد لله.

    وحين حانت لحظة مغادرة المستشفى، خرجتُ وأنا أمشي مترنحًا وبصعوبة، فقد أخبرني الممرض أن وقت المغادرة قد حان، وانصرف، هكذا ببساطة! ويا لها من معاناة قاسية مررت بها لأتمكن من مغادرة الفراش، وأخذت أمشي، وكل خطوة تفجر في أعماقي آلامًا كبرى، فَرَقَّ قلب إحدى الممرضات نحوي، وطلبتْ أن أنتظر، ثم عادتْ بكرسي فخم للغاية، وطلبتْ أن أجلس عليه، وأخذت تجرُّ الكرسي بي، رغم أني لا أتقبل ذلك، بل إني ظننت بادئ الأمر أن ممرضًا ما سيجرُّ الكرسي، ولكن... وكما بدأنا انتهينا، الخبطة الأولى بالجدار، والثانية مع انفتاح باب المصعد انقضت الممرضة بالكرسي كالوحوش لنرتطم بباب المصعد الثاني (المصعد له بابان هذه المرة)، وقد انخلع قلبي خوفًا أن ينفتح الباب الثاني بنا لنجد أنفسنا نحلق في الهواء حتى نقع ونتكسر! (لا أدري هل هذا أمر علمي صحيح أم لا، بمعنى هل الارتطام بباب المصعد يؤدي فعلًا إلى فتحه، لكنِّي خفت وقتها من أن يحصل ذلك)، وبعد الخروج من المصعد ارتطمنا بجدارين أو ثلاثة، وأنا أرجو الممرضة أن تتركني وترحمني، وهي لا تستجيب! حتى وصل بي الأمر إلى أن أقول لها في توسل: (فيني بوس إيدك)؟ لا يظنَّ أحد بي سوءًا، فلم أعنِ هذا حرفيًا، لكني هدفت إلى إحراجها قبل أن تتمزق القطب في بطني!
    واحمر وجه المسكينة خجلًا، وهي تتمتم: "لِـ... لماذا"؟! رددتُ بسخرية عصبية: "حتى ترحميني وتتركيني قبل أن أتمزق"! احمرَّ وجهها هذه المرَّة غضبًا، وهمَّت بالانصراف، واستندتُ أنا إلى الكرسي لأنهض عنه بصعوبة فَجَّرت آلامًا كبرى في نفسي، دمعتْ لها عيناي رغمًا عني، لكني هتفت بها: "انتظري".
    توففت المسكينة، وهي تنظر إلي متمتمة: "لم أرد لك أن تجلس على كرسي غير مريح، لكن لم أحسب حساب ثقل الكرسي، وثقلك أنت".
    بترَتْ عبارتها خوفًا أن أغضب، لكني لم أغضب، فأيامها كان وزني يتجاوز منتصف المسافة بين ال80 وال90 كيلوغرامًا، وليس هذا ذنب المسكينة التي أرادت لي الراحة، فوجدت نفسها أمام مهمة أقوى منها عضليًا، شكرتها بامتنان صادق، أعاد إليها ابتسامتها، لترجع إلى مستشفاها، وأرجع أنا إلى بيتي.
    ثم حان الوقت الموعود، حان العام 2016، وشهر آب، حيث كانت إعادة عملية الجيوب واللحمية والغضروف، حيث رأيت ظلال الموت تقترب مني بسرعة شديدة، وحيث كان لقاء غريب عجيب، لم أتوقع حصوله على الإطلاق، وأستطيع أن أؤكد أنني مررتُ بتجربة الدنو من الموت، إذ دنوتُ منه فعليًا حتى مرحلة الإحساس بخروج الروح تقريبًا، بتجربة ما زال كياني يتفاعل معها حتى الآن، وما زلتُ لا أصدق كيف عدتُ بعدها إلى هذا العالم...

    تابعونا

  14. #14


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الحلقة الثانية عشرة

    الأمر كان قد تجاوز كل الحدود فعليًا، ضيق التنفس كاد يخنقني، وطبقة الصوت انهارتْ تقريبًا مع احتقان البلغم فيها، ثم بلغ الأمر مداه في رمضان، أسيد المعدة لم يعد يُحتمل، واجتماع الأسيد والبلغم أوصلاني إلى نتيجة تقيُّؤ الطعام بعد أكله بقليل، بات الأمر كابوسًا مزعجًا، ورغم الصيام والحر الشديد، توجَّهت إلى بيروت، وفي المستشفى الفخم أرشدوني إلى طبيبة ماهرة للغاية، لكنها لم تفعل شيئًا، سوى أنها قالتْ إنه لا بد من إجراء الناضور الطبي من الفم، ويلزمه تخدير موضعي صغير، وإن كنت أريد قيادة السيارة في طريق الرجوع، يمكن لها إجراؤه من دون البنج، لكنه سيكون مؤلِمًا ألَمًا شديدًا، وطلبتْ لي تحليل دم شامل، وصورة لعضلات البطن، وبما أن المعاناة شديدة ولا تحتمل التأجيل، قمتُ بإجراء ما طلبتْ الطبيبة في اليوم التالي مباشرة، وفي اليوم الذي بعده، توجَّهت إلى إحدى مستشفيات طرابلس، بعد أن أخبروني باسم طبيب (رائع) هناك، فقد استثقلتُ إجراء هذا الناضور الطبي في بيروت، خاصة لوجود التخدير الموضعي، ولستُ مستعدًا لتحمل آثار التخدير هذا، خاصةً حينما سيكون علي قطع الطريق الدولي السريع بعد وصولي إلى بيتي، إذ إنني لا أستطيع قيادة السيارة مسافات طويلة، ولو استطعت لما ذهبتُ بها لأخضع لناضور جراحي من دون أي مخدر!

    بعد انتظار لا بأس به في المستشفى، زيادة عن الموعد الذي حدَّدوه لنا، أخبروني بضرورة التوجه إلى الطابق الأول، حيث انتظرنا مرَّة أخرى (كانت معي أختي)، حتى أتى طبيب البنج، ليسأل عدة أسئلة، ثم دخلت ممر غرف العمليات وحدي، ليطلبوا مني أن أتمدد على أحد الأسرَّة هناك، وفوجئت بطبيب منهم يحمل إبرة ويَتَّجه بها نحوي، لم أحسب حسابًا لهذا، ظننتُ المخدر موضعيًا كما قالت الطبيبة في بيروت، وغرس الطبيب الأحمق إبرته في يدي، ثم أخذ يحاول دفعها فيها، فلم ينجح، وأنا لم أتمالك نفسي، فصرختُ: (آي)! فهتفتْ بي طبيبة هناك: "إنهم لا يقولون (آي)! إنهم يقولون يا الله"!
    سألتها مغتاظًا، وأنا أقطع كلامي بالتأوه: "هل كلمة (آي) حرام أم ماذا"؟ لم ترد الطبيبة، وهذا أفضل، فلستُ في حالة تسمح بالحوارات، وأعلن الطبيب عجزه عن انتزاع الإبرة من يدي! ثم وصل طبيب البنج إياه، بعد فترة من المعاناة، وبمنتهى البراعة سحب الإبرة من يدي، ووضع إبرة أخرى في يدي الثانية، ليصلها بحامل المصل، ولم أشعر حتى بوخزة بسيطة لا حين انتزع الإبرة، ولا حين وضع الأخرى.

    ووصل الطبيب (البارع) وعرَّفني بنفسه ذاكرًا اسمه، طلبت إليه أن ينظر في تحليل الدم وصورة البطن قبل أن يبدأ، فسألني عن سبب إجرائي إياهما، أخبرته بأني قد بدأت علاجي في بيروت، إلى أن أخبروني عنه وتذكرته (كنت قد زرته قبل سنوات، لاستشارة بسيطة)، وأخبرته بأني أثق به كل الثقة، فكان ردُّه "إن شاء الله"، وطلب مني فتح فمي، أحسستُ بأنني أغيب عن الوعي، فهتفتُ به بأعلى صوتي، طالبًا إليه فحص الأوتار الصوتية، لرؤية هل أثَّر الأسيد فيها أم لا.

    استعدتُ وعيي بعدها، ولم يكن الطبيب موجودًا، والمشكلة أنه لم يقل ماذا رأى، ولا ما هو العلاج! سألتُ عنه في المستشفى فقالوا إنه انصرف، ذكَّروني بمكان عيادته، ذهبت إليها فلم أجده فيها، وهكذا مرَّت بضعة أيام حتى تمكَّنت من الحصول على تسجيل للعملية وموعد في عيادة الدكتور هذا، وحينما سألته ماذا رأى في الناضور، وهل من تأثير على الأوتار الصوتيَّة، قال إنه لا يعلم، وهو قد صوَّر الأوتار الصوتية في آخر نصف دقيقة، لكنه لا يعرف كيف يقرأ الناضور! سألتُه عن وضع معدتي، فأعلن أن هذا الأمر يعني أنني لستُ قادمًا لأسأله عن شيء، بل هي معاينة طبية! وإنني لو أتيته من البداية، لطلب لي صورة سكانر ملونة للبطن، لا ناضور معدة! وهكذا طلب مني الطبيب مبلغ خمسين دولارًا، أجرة المعاينة!

    رغم أن هذا نصب واضح، فكيف يطلب هذا المبلغ ليخبرني ماذا رأى في الناضور وما العلاج، لكني أعلنت استعدادي للدفع، بشرط أن يعالجني، وهكذا كتب لي اسم دواء، طلب مني أخذه قبل الأكل بساعة، وقت الإفطار ووقت السحور، فإن أفاد كان به، وكان دواء مزمنًا، وإن لم يُفِد كان اختيار العملية لتضييق باب المعدة الواسع هو الحل، ولكم أن تتصوروا من يصوم كل النهار، وحين يؤذن المغرب لا يستطيع الأكل، إلا بعد ساعة! لكني تحملتُ كل شيء حتى أتخلص مما أنا فيه، لكني لم أشعر بأي تغيير، اتَّصلت بالطبيب بعد فترة وأخبرته، فقال إن العملية لا تكون إلا إن أفاد الدواء، بينما إن لم يعطِ نتيجة، فلا تنفع العملية!

    وبعد رمضان عدتُ إلى عيادته من دون موعد، وطلبت الدخول، لأسأله عن سبب التناقض في كلامه، ولمَ لا يضيق باب المعدة؟ قال إنه سيفعل ذلك، لكن لا بد أولًا من صورة سكانر ملونة للبطن، وينصحني بإجرائها في مركز تمتلكه زوجه (الصواب لغويًا زوجه لا زوجته)، فإن أجريتُ هذا السكانر أجرى لي هو العملية، قلتُ له هنا إنني أسكن وحدي، وإن كان هناك من قطب في البطن فلن أستطيع النهوض بمفردي، وبالتالي لا يناسبني هذا، فكان الرد الرائع (اعمل صورة السكانر وأنا أعمل لك العملية بدون قطب)، مع أنه كان قد أكد لي من قبل أنه لا يمكن إجراء هذه العملية من دون قطب!

    أخذت أسأل عن طبيب آخر، حتى وصلت إلى طبيب أخبروني بأنه جيد، لكن حينما رأى على غلاف القرص المرن اسم الطبيب الذي أجرى الناضور، أخذ يكيل له المديح والثناء، ثم بدأ بمشاهدة محتويات القرص، ليخبرني بأن الأوتار الصوتية كادت تهترئ بسبب الأسيد (وكان الطبيب الأول قد ابتدأ بتصويرها، وليست في آخر القرص كما ادعى)، وأخبرني أيضًا بأن هناك قرحة بسيطة في المعدة، و"ألم يخبرك الدكتور فلان بذلك"؟ "لا، لم يخبرني"! "ماذا؟ آه، يبدو بأنه لا يوجد قرحة!" وبغضِّ النظر عن هذه المعلومة (المهمة)، إلا أن المعلومة التي أدهشتني فعلًا،كانت أن باب المعدة لا يحتاج التضييق، باب المعدة طبيعي وليس واسعًا على الإطلاق!
    هنا قررتُ إرجاء موضوع المعدة وأسيدها هذا حتى وقت آخر، لأعالج مشكلة التنفس أولًا، ومن يدري، ربما يخفف هذا المعاناة، ويمنحني الفرصة كي أرجع إلى بيروت للعلاج، وهكذا، وبعد فحص طبي أخبرني الطبيب بأن تجليس الغضروف وتنظيف الجيوب الأنفية سيكون جراحيًا طبعًا، لا يمكن القيام بذلك من دون عمل جراحي، أما استئصال اللحمية، فَلَدَينا اختياران، إما الجراحة ولا ينصحنا بها، لاحتمال حصول جفاف في الحلق بعد سنوات، وإما اللايزر وهو أفضل، لا مضاعفات له في المستقبل.

    أدهشني ذلك، وسألتُه هل سيجري لي عملية في المستشفى، وأخرى في العيادة؟ ثم إنني استأصلتها عبر اللايزر، ورجع الأمر كما كان، فأخبرني بأن هذا طبيعي، لأن اللايزر في العيادة لا يمكن له الوصول إلى كل اللحمية، نظرًا لوجود مخدر موضعي، هناك مناطق في الأنف لا يمكن الوصول إليها، لأن ألمها لن يُحتَمل، وبالتالي عملية اللايزر في العيادة أشبه بتخفيف بسيط لِلَّحْمية، أما اللايزر الذي يقترحه هو، فإنه يتمُّ في المستشفى، وأنا تحت التخدير الكامل، وفي ظل عمل جراحي، حتى يصل باللايزر إلى اللحمية بأكملها فيستأصل منها ما يلزم، حتى لو أردتُ استئصال اللحمية فحسب، فإنه لا يجريها في العيادة، بل في المستشفى تحت تخدير تام، وبعمل جراحي، كي يضمن نتيجة دائمة بإذن الله، ولا يرجع المريض إلى العذاب بسببها مرَّة أخرى.
    وافقتُ على استخدام تقنية اللايزر هذه باستئصال اللحمية، ودفع ثمنها الخاص، الذي لا تعترف به تعاونية الموظفين هذه، وكتب لي الطبيب ورقة الاستشفاء ذاكرًا، بكل صدق، حاجتي إلى تنظيف الجيوب الأنفية الملتهبة (تجليس الغضروف لا يعترفون به) طالبًا يومين للاستشفاء، ووافقوا في تعاونية الموظفين على دخولي المستشفى يومًا واحدًا (نسيت إخباركم بأن القانون القديم قد تغيَّر، فلم نَعُد ندفع 200 ألف ثابتة، بل 10% أيًا كانت التكلفة، بشرط ألا يتجاوز ما ندفعه في النهاية مبلغ ال 900 ألف)، المهمُّ أنني دخلت المستشفى لإجراء هذه العملية البسيطة في ظاهرها، والتي حملَتْ لي خطرًا شديدًا، لم أعرف حتى الآن سبب حصوله، ولا كيف انتهى وحده، خطرًا وصل إلى مرحلة إعداد سيارة نقل الموتى لي!

    تابعوا معنا


  15. #15


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الحلقة الثالثة عشرة

    بعد موافقة التعاونية وتسجيل رقم المعاملة، انتبهت الطبيبة المسؤولة إلى أنه لا يوجد تقرير سكانر يؤكد حاجتي إلى العملية، وهكذا نزلت اليوم التالي إلى طرابلس على الريق، وانتظرت حتى وصل الطبيب العيادة، وكتب لي صورة السكانر، وعدتُ إلى تعاونية الموظفين للحصول على الموافقة المسبقة، ثم توجهتُ إلى المركز لإجراء السكانر، وانتظرتُ مدَّة لا بأس بها حتى أعطوني الصورة والتقرير، فعدتُ بهما إلى الطبيب، ليراهما مؤكدًا صحة تشخيصه (وكان مسؤول مركز التصوير قد أكدهما لي فعلًا)، تابعت إلى المستشفى وكانت الساعة تقترب من الثالثة بعد الظهر، لإجراء التحاليل المطلوبة ورؤية طبيبة الطوارئ وطبيب البنج (ذلك الطبيب البارع الذي لم يجعلني أشعر بوخزة الإبرة سابقًا)، وطلبوا مني أن أكون عندهم الساعة السادسة والنصف، وأخبرتُهم في حزم أني سأبقى مرتديًا ملابسي تحت ملابس المستشفى، وهي من القطن الخالص (الطبيب نفسه لم يعترض على هذا، ووافقني فيه)، وكذلك وافقوا هناك في المستشفى.

    وبعد اكتمال الملف، طلبتْ إليَّ المسؤولة في الاستقبال أن أكون عندهم الساعة السادسة، فرددتُ ساخرًا أني سعيد لأنِّي لن أرى أحدًا آخر كي لا يطلب مني أن أكون في المستشفى الساعة الخامسة! ثم أخبرتُها في حزم، أني لست مستعدًا أن أكون الساعة السادسة أو حتى الثامنة، وأبقى منتظرًا حتى الساعة الثانية عشرة مثلًا لإجراء العملية، وقد كانت متجاوبة متفهمة، ووعدتني أنها ستسعى جهدها لتحقيق ذلك لي، وكلمتِ الطبيب بخصوص ذلك، ووعدتْ خيرًا.

    وهكذا في اليوم التالي، لم أكد أدخل غرفتي حتى طلبوني إلى غرفة العمليات، فعلقوا لي المصل، توكلت على الله تعالى، وانتقل بي السرير النقال إلى غرفة العمليات، وهناك اعترض طبيب البنج على وجود القميص الخارجي، لأنه لن يسمح له بتثبيت الأقطاب التي يريدها في صدري، وانتزع إبرة المصل في ثوانٍ معدودات، من دون أن أشعر بوخزة بسيطة حتى (فعلًا إنه طبيب بارع في هذا)، وخلعت القميص الخارجي، الذي تناوله مني الطبيب الذي سيُجري العملية ووضعه جانبًا، ثم طلب مني طبيب البنج أن أتحمل البنج قليلًا، وهذا ما لم أفهمه بادئ الأمر، كيف سأتحمل البنج؟! أعرف أن البنج مهدئ يجعلنا ننام، فما المقصود بأن أتحمله؟!

    ثم فهمت الأمر مع تيار من نار يسري في يدي اليسرى، جعلني أكتم صرخة الألم بصعوبة، والطبيب يقول لي ببساطة "ستشعر بيدك تحترق قليلًا فقط"! والحمد لله أني غبت عن الوعي سريعًا لأرتاح من هذا البنج العجيب! استعدتُ وعيي مع ألم كبير في أنفي (ربما بسبب تجليس الغضروف) فطلبت المسكِّن، فأتاني صوت الممرضة ترفض إعطائي أي مسكِّن، احتددت عليها قليلًا، فالألم كان فظيعًا بحق، فأخبرتني أنها ستضع المسكِّن لي في المصل، وهكذا عادت النيران تشتعل في يدي! لم أفهم حتى الآن ما هو هذا المسكِّن اللعين الذي يحرق الأيادي، وكيف يكون مسكِّنًا وهو بهذه الصفة التعيسة؟

    كنت أتصبب عرقًا، والغرفة كانت خانقة، لكن المكيف كان معطلًا، اتصلوا بالشركة لأنه ليس عندهم أي فني اختصاصي لإصلاحه، ثم صعد أحدهم على الكنبة وأخذ يتلاعب بالمكيف حتى اشتغل (ولا أعلم كيف اشتغل حقيقة بمجرد اللعب به) لكن الفرحة لم تكتمل، فنحن لا نستطيع التحكم بدرجة الحرارة ولا باتجاه الهواء، فلم يكن هناك ريموت كنترول للمكيف! وحتى الريموت كنترول الذي أتحفونا به فيما بعد لم يُفِدنا بشيء، لأنه لم يكن للمكيف أصلًا!

    بدأ النزيف أولًا من أنفي (قبل إصلاح المكيف)، دم أحمر قانٍ، وأعتقد بأن هذا أمر طبيعي، لكن والدي خاف من ذلك، خرج يبحث عن أحد من طاقم التمريض فلم يجد أحدًا، وهكذا يدخل والدي الغرفة ويخرج، حتى (ظهرت) ممرضة أخيرًا، وأخبرها والدي بأنه سيشكو إلى الإدارة هذا الإهمال، خاصَّة أني أنا درجة أولى في الاستشفاء، فكان ردها (نحن ما لنا علاقة)، بمعنى أنها لا تعرف ماذا ستفعل، ومن حسن حظها أن الطبيب كان ما يزال في المستشفى وقد أتى مسرعًا، ورفع الضماد عن الأنف، وأدخل آلاته فيه ليرفع الفتيل إلى الأعلى قدر الإمكان، وكان الألم قاسيًا، لكن الطبيب قال إنه لم يضع الفتيل في البداية عاليًا كثيرًا كي لا يؤلمنا حين يحين وقت نزعه، وهذا سبب الدم، والآن ها هو يرفعه ولن يكون هناك دم من الأنف بعد الآن...
    وطلب الطبيب إليَّ فتح فمي، طاوعتُه وأنا لا أعلم ماذا يريد، فما كان منه إلا أن أدخل أداة حادة في فمي، كاد يصل بها إلى حلقي، لأتقيأ أنا بهذه الطريقة دمًا أسود، قال الطبيب إنه الدم الذي تمَّ ابتلاعه خلال العملية، وهو فاسد بالطبع، ولا بد من الخلاص منه، ومع ذلك، لم أستسغ طريقة التقيؤ هذه على الإطلاق.

    وصلت أختي هنا وغادر والدي، تمددت أنا قليلًا، في محاولة للنوم، ولكن، عاد الدم ليتدفق، بغتة،
    لا من أنفي، بل من فمي، دفق دموي حاد ملأ الفراش بجوار كتفي، ومساحة كبيرة من أرضية الغرفة...
    وخرجت أختي تبحث عن الممرضة، وهذه المرة كانت موجودة، وقد أتت مسرعة ثم توقفت مبهوتة تهتف (أووووه! كل هذا دم)؟ سألتها أختي مغتاظة عن التصرف الذي يجب أن يتمَّ لتفادي هذا النزيف الغريب، لكن الرد كان أنها لا تعلم! ستنظف الدم، وأكثر من ذلك لا تعلم ماذا تفعل (ما شاء الله على هذه الخبرة التمريضية)، وحاولت الممرضة الاتصال بالطبيب لكن هاتفه كان خارج الخدمة، ثم نجح الاتصال بعد ذلك، وأمر الطبيب بتجهيز غرفة العمليات لإعادتي إليها، وهنا كان الدفق الدموي الثاني، الذي يتضاءل إلى جواره الدفق الأول، لقد سبح صدري في نصفه الأيمن والسرير ومساحة كبيرة جدًا من الأرض بالدم، وأحسست بجسمي بدأ يرتجف، وخرجت أختي تبحث عن أحد من طاقم التمريض لكنها لم تجد أحدًا منهم بادئ الأمر، وأخذت أختي تصرخ مستغيثة من هول ما تراه، ويبدو بأنني قد مِلْتُ بجسمي كثيرًا في محاولة لتجنيب صدري المزيد من الدم، وأنا أواصل استفراغه من فمي، وسمعت أختي تصرخ: "سيقع أخي، أين أنتم"؟ السرير كان ضيقًا مساحته محدودة، وأنا لم أعد أستطيع الرجوع إلى الوضع السابق، لم يكن ينقصني سوى حركة بسيطة وأقع فعلًا، وعادت أختي تخرج من الغرفة وتبحث، حتى التقَتْ بممرضة أخيرًا، ونفس ردة الفعل (أووووه! كل هذا دم)؟ ثم كانت الإبرة القاسية في يدي لتحليل الدم! كنتُ في حالة من الضعف لم أحسَّ بها من قبل، وشعرتُ بضربة الإبرة كأنها مطرقة كبيرة اخترقتْ عظامي، لأتأوه ألَمًا، ودخل هنا أحد الشباب (وهو مسؤول في مختبر الدم وليس ممرضًا) طالبًا مني أن أنهض لأتمدد على السرير النقال لنذهب إلى غرفة العمليات مرة أخرى (عن اليسار حامل المصل ثم الجدار، ولا يمكن أن يدخل السرير النقال في هذه المسافة، وعن اليمين الأرض والفراش يسبحان في الدماء، وقد قررت الممرضة العبقرية أن تبقى الدماء من دون تنظيف، حتى يراها الطبيب، وما فائدة ذلك طالما أنني سأرجع إلى غرفة العمليات في كل الأحوال)؟!

    طلبتُ إلى الشاب أن يتمهل حتى أدخل الحمام (فقد شعرت بدفق دموي فادح على وشك الخروج، ولم أكن مستعدًا للسباحة في الدم مرَّة أخرى)، فطلب إليَّ أن أسرع لأنهم ينتظرونني في العمليات، وهكذا كان، قمْتُ بمفردي إلى الحمام (وهذه حماقة منهم، يُضاف إليها طلب الإسراع هذا)، وشعرت بشيء ينفجر في رأسي، وبأنني أتهاوى، مددتُ يدي لأتمسَّك بحافة المرآة فوق المغسلة، وكان هذا فصل الختام، أما مَنْ خارج الغرفة فقد سمعوا صوت الخبطة المدوية، وأسرع ذلك الشاب ليفتح باب الحمام، وهناك كنتُ واقعًا على أم رأسي، غارقًا في بحيرة من الدم الأحمر القاني.


    تابعوا معنا

  16. #16


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الحلقة الرابعة عشرة


    أسرع ذلك الشاب ليفتح باب الحمام، وهناك كنتُ واقعًا على أم رأسي، غارقًا في بحيرة من الدم الأحمر القاني.

    لم يكن ذلك الدم من رأسي، والحمد لله، بل كان من فمي، أما أنا فاستعدت وعيي من دون أن أدرك بداية أني وقعت فاقدًا وعيي، إذ تزامنت استعادتي الوعي مع مشهد عقلي يتداعى في ذهني، بمشهد واضح كل الوضوح لي، وأنا أحاول التمسك بالمرآة وأفشل، ويتتابع بي المشهد حتى بداية سقوطي على الأرض (مع أني لا أذكرها عمليًا حين حصلت، وأنا في الحمام)، وبما أنه من المفترض أنني كنتُ في الحمام، لم أستطع؛ لهذا السبب مع ما يتداعى في ذهني من المشاهد؛ أن أميِّز وضعي الحالي وأين أكون، ولا أني ممدد على كنبة، وقد تم رفع ساقيَّ ووضع وسائد تحتهما، لم أفهم؛ بداية الأمر؛ أني قد وقعتُ في الإغماء بسبب ما فقدتُه من الدم، ما أدى إلى انخفاض حاد في الضغط.

    ومثلما يحصل في المسلسلات الدرامية، وجدتُ نفسي أتساءل محتارًا: "أين أنا"؟ فقد أدركتُ، بطريقة ما، أنني لستُ في الحمام، رغم أنني كنت لا أرى سوى السواد أمامي، إذ إني استعدتُ وعيي، ولكن مقدرتي على الرؤية غابت في اللحظات الأولى.

    جاءني صوت شاب مرتجف يقول: "هــ... هنا، هنا، هنا، نعم هنا"!
    هنا؟! هل هذه إجابة؟! بل هل أنا في وضع يسمح لي بمعرفة (هنا) من (هناك)؟!
    لم يكن الرد وافيًا، فسألتُه مجددًا "أين"؟
    رد بحذر: "على فراشك في المستشفى".
    ولا أدري كيف انقسمت المشاهد في ذهني هنا: عن اليمين، وعلى مسافة بعيدة نسبيًا، سرير أبيض، وعن اليسار كنبة سوداء، أتمدد عليها! (شعرت هنا بمجهود يمزق عقلي تمامًا)، لا أعلم كيف رأيتُ هذا المشهد، كما أنني لا أعرف كيف رأيت الألوان بوضوح، مع أنني كنتُ أرى؛ بالكاد؛ الشاب أمامي باللون الرصاصي! وبعده بقليل يقف شخص يبدو أمامي لونه أسود وغير واضح الملامح، لكني هتفت بحزم: "غير صحيح، الفراش في المستشفى لونه أبيض، وهذا لونه أسود، هل هذه كنبة أنا متمدد عليها"؟
    هتف الشاب بسعادة: "نعم، نعم"، خطر لي هنا أنه يظنني فاقد الذاكرة، وخطر لي؛ كذلك؛ أن ألعب هذا الدور فعليًا، وإن سألتُ نفسي هل سينجح ذلك مع كل هذا (الذكاء) الذي أبديْتُه؟ لكن لأجرب ذلك، وفقًا لتقاليد الروايات في هذا الصدد، لا بد من السؤال: (أين أنا)؟ ثم (من... من أنا)؟ مع تكرار صيغة التساؤل (من)، يبدو بأنه لا ينبغي فقدان الذاكرة من دون التقيُّد بهذه الخطوات!
    لقد أردتُ فعل ذلك، رغم أنني لستُ طفلًا في مرحلة اللهو، لكني رأيتُها تجربة طريفة، ثم لا بأس من اللهو، وأنا في وضع شبه العمى هذا، لعلي أتجاهل هذا الواقع الأليم المرير، ولكن... الحمد لله أني لم أتمادَ وأتظاهر بفقدان الذاكرة، فلقد تقدم هنا الشبح الأسود، ليتحول لونه إلى الرصاصي وأميِّز به أختي!
    لم أستطع أن ألعب هذا الدور بوجودها، كي لا أخلع قلبها، يكفيها ما أصابها حين وقعتُ في الإغماءة في الحمام (ولم أكن أعلم بتفاصيل الخبطة أو أنني كنت وسط الدماء)، لكني رحمتها من مزح قاس سيمزقها، وهكذا لأرفع من ذهنها أيَّ شك وأطمئن قلبها، سألتُ الشاب بهدوء: "إنهم ينتظرونني في غرفة العمليات، أليس كذلك؟ هل أنهض لأتمدد على السرير النقال"؟ (كيف تذكرتُ ذلك؟ لا أدري)!
    مع أني لم أكن أعلم أين هذا السرير، مع حالة عمى الألوان هذه، كانت الرؤية محدودة للغاية، وَرَدَّ الشاب متحمسًا طالبًا أن أنهض بسرعة لأنهم ينتظروننا، مشيرًا بيده ناحية يمينه قائلًا: "هذا هو السرير"، وكأنه أدرك بأنني لا أرى أكثر من مسافة ضئيلة، أو أنه فعل ذلك مصادفة، لكني استغربت أن يأتوا بالسرير إلى آخر الغرفة، ويبدو بأنهم قد وضعوني عليه بعد إخراجي من الحمام، بدل حملي أمتارًا معدودة!
    وهكذا، وبسبب حماقة هذا الطلب، نهضتُ بسرعة متجهًا إلى السرير النقال، وتفجر شيء ما في رأسي بعنف شديد، وأظلمت الدنيا أمامي تمامًا، حقيقة لا مجازًا، لم أعد أرى سوى السواد المطبق، هذا مِن حولي، ولكني كنتُ أرى وبمنتهى الوضوح شخصًا ما... هو أنا! كنتُ أرى نفسي بصورة صافية، كأني لا أعاني هذا العمى وذلك الظلام، بل إنني في الأحوال العادية لا أستطيع الرؤية بهذا الوضوح من دون النظارات الطبية، أما في تلك اللحظات، فقد كنتُ أرى نفسي بما في ذلك وجهي وأنفي (من دون الضمادات عليه)، وعينيَّ بوضوح وشعرتُ بأنني أقع وأرتطم بالسرير بقوة، ما أشعرني بألم شديد، وحتى في هذه اللحظات ظل عقلي نشطًا!! لقد وجدتُ أنني أفكر في نفسي أنني ارتطمتُ بالسرير نفسه لا بالأرض، لأن المدة بين السقوط والارتطام لم تكن بعيدة!

    وتتوقف الذاكرة بي هنا، هل تابعتُ سقوطي إلى الأرض بعد ذلك؟ بل هل سقطتُ على السرير نفسه في البداية كما خطر لي؟ لم أعلم ولم أسأل فيما بعد، معرفة معلومة كهذه بدت لي أمرًا تافهًا إزاء ما حصل معي في غرفة العمليات بعدها.
    وإذ استعدتُ وعيي أدركتُ وضعي جيدًا، مع أني كنتُ عاجزًا تمامًا عن الرؤية، إلا أنني علمتُ بأنني على السرير النقال في غرفة العمليات، وأنهم قد خرجوا بي من المصعد، ووجدتُ أنني أفكر بمرارة شديدة أنني في وضع حرج جدًا، لأنني لم أشعر بهم يدخلون بي في المصعد، وكنتُ؛ رغم أنني لا أرى؛ أعرف اتجاههم وأنهم قد توقفوا في نفس الموضع الذي كنتُ فيه المرَّة الأولى بالتحديد (كيف علمتُ ذلك؟ لا أعلم، بل هل هذه المعلومة التي أحسستُ بها صحيحة؟! لا أعلم كذلك)! لكني كنتُ أعلم أمرًا آخر علم اليقين، وهو أنني كنتُ أتنفس بصعوبة شديدة وأشعر بضغط شديد في صدري، أحسستُ أنني في مرحلة خروج الروح، وناديتُ ربي قائلًا: "اللهم إني فوضت أمري إليك وأسلمت ظهري إليك، يا رب يا غفور يا رحيم، اكتب أمي في الجنة واجمعني بها".

    وهنا، في هذه اللحظات، حصل أمر غريب، ارتجف له كياني بأكمله، حقيقة لا مجازًا،
    وبمنتهى منتهى العنف... فما كان يحصل لم أتخيل أني سأمُرُّ به في حياتي، وانتفض جسمي في رهبة شديدة، وقلبي ينبض بتأثر ليس من بعده تأثر...

    تابعوا معنا


  17. #17


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الحلقة الخامسة عشرة

    أحسستُ أنني في مرحلة خروج الروح، وناديتُ ربي قائلًا: "اللهم إني فوضت أمري إليك وأسلمت ظهري إليك، يا رب يا غفور يا رحيم، اكتب أمي في الجنة واجمعني بها".
    وهنا دوى صوت غريب عميق ينادي باسم أمي الثلاثي، ورهبة كبرى تنطلق في أعماقي، وقبل أن ينتهي الصوت وجدت نفسي في عالم آخر، كنتُ واقفًا أمام بوابة، ومع انتهاء الصوت فُتِحَتْ هذه البوابة لأدخلها، وأرى أناسًا جالسين، وجوههم غير واضحة، فقط أمي كان وجهها واضحًا كل الوضوح، وتبدو كأنها في الثلاثين، والتقَتْ عينانا، وابتسمَتْ أمي وقامَتْ تركض نحوي، وفتحْتُ ذراعيَّ عن آخرهما لأحتضنها، وأنا أشعر بتأثر شديد في أعماقي، ومرَّة أخرى تنقسم المشاهد في ذهني، فأرى نفسي ممددًا في غرفة العمليات أتنفس بصعوبة شديدة والضغط هائل في صدري، ورأسي يكاد ينفجر من المجهود العقلي الذي يحصل لي، وأرى نفسي أحتضن أمي في ذلك العالم الآخر، وأنا لا أشعر بأي ألم، ثم أستعيد إحساسي وأنا ممدد في غرفة العمليات بأن الموت يدنو مني، وأنني سأخرج من هنا إلى القبر مباشرة، وما زلتُ أرى نفسي أحتضن أمي بكل الحنان والحنين إليها، والتأثر بلقائها، مع خاطر غريب يقول لي إنني ألتقي بها في الجنة في هذه اللحظات.

    فجأة، دوى صوت كريه يقول لي: "سيكون عليك أن تتحمل مرَّة أخرى"، تلاشى مشهد أمي مع صوته التعيس هذا، وأدركتُ بأن هذا هو طبيب البنج، ووجدتُ نفسي أهتف بغضب شديد لفراقي أمِّي: "هل ستُحرق يدي"؟
    وشعرتُ بالدهشة لأني أدركتُ هذا الأمر وذاك، مع أن شرايين رأسي تكاد تنفجر، وشعرتُ فعليًا أني أدخل غيبوبة نهائية، لكني سمعتُ الرد: "ليس أمامنا بديل"، ثم سمعْتُ صوتًا يهتف بدهشة" "إنه لا يتنفس"! وشعرتُ بشيء ما يوضع على أنفي وفمي، مع صوت يقول بلهفة: "تنفس، تنفس"، ولم أعد أفهم كيف أنني لا أتنفس، وقد سمعتُ الطبيب وأجبته وأجابني؟! أم أنه كان يتابع كلامه، ولم يسمع سؤالي أصلًا؟!
    وبِغَضِّ النظر عن هذا الأمر، كنتُ أشعر فعليًا بأني لا أتنفس وبأن الضغط على صدري بات هائلًا، ثم شعرتُ بأنه لم يبق في صدري إلا ثلاثة أنفاس فقط، ومرَّة أخرى أجد نفسي أردد، وذكرى أمي ولقائها في بالي: "اللهم إني فوضتُ أمري إليك، وأسلمتُ ظهري إليك"، وإذ بهذه الكلمات ترتسم أمامي، وفي ختامها: "لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك"، وصوت يتردد في ذهني: "قل لا ملجأ ولا منجى إلا إليك"، كنتُ قد شعرتُ هنا بخروج النفَس الأول، فقلتُ من دون تردد: "لا ملجأ ولا منجى إلا إليك"، وقبل أن أتمها شعرتُ بخروج النفَس الثاني، وسرى في جسمي شعور بالطمأنينة، لم أخشَ الموت هنا، شعرتُ بأن الله قد استجاب لي، وسيجعلني في الجنة مع أمي، شعرتُ بالراحة والاطمئنان والأمان، وشعرتُ؛ كذلك؛ ببدء خروج النفَس الأخير، وفي تلك اللحظات سرى تيار النار في يدي مرَّة أخرى، وكان العذاب هذه المرَّة شديدًا لم أحتمله بحالة الضعف هذه، كما فعلتُ أول مرَّة، فصرختُ من الألم رغمًا عني، ثم لم أشعر بشيء بعدها.
    حين استعدتُ الوعي كان هناك خاطر يتردد في ذهني: "لولا صرخة طبيب البنج لذهب عقلي في غيبوبته الأخيرة"، دهشتُ لهذا الخاطر الغريب، ثم سمعتُ صوتًا أنثويًا يهتف بي:"هيا هيا"، تحركتُ تلقائيًا، من دون أن أدري إلى أين، وعاد الصوت يتردد: "اذهب إلى اليسار، إلى فراشك، هكذا ستقع"، حركتُ جسمي يسارًا قدر الإمكان، حتى سمعتُها تقول: "كفى"، فتوقفتُ عن الحركة، وقد فهمتُ بأنهم قد أعادوني إلى غرفتي، والممرضة تطلب مني أن أتحرك من السرير النقال إلى سريري في المستشفى.
    (يا للعبقرية! حضرتها تطلب مني وأنا بالكاد أستعيد وعيي أن أتحرك! يبدو أنها توقعت أني واعٍ تمامًا وسأفهم ماذا تقصد، وإن كنت أتساءل ماذا لو كانت حركتي التلقائية إلى يميني أقوى من ذلك؟ هل كنت سأرجع إلى غرفة العمليات مرة ثالثة مع كسرٍ في أنفي هذه المرة)؟!
    تمددتُ على السرير، وأنا لا أزال في مرحلة انعدام الرؤية التام، مع أني كنتُ فاتحًا عيني، لكن ذلك لم يقلقني وقتها، فقد كنتُ أشعر بألم هائل في نفسي، وكنتُ أشعر برغبة عارمة في البكاء، لأني فقدت أمي بعد أن وصلتُ إليها، وقلتُ في نفسي: "لولا هذا الطبيب السمج لم يتكلم لدخلتُ الغيبوبة الأخيرة وخرجتُ من هنا إلى الموت، لكني كنتُ سأبقى مع أمي"!
    كانت العملية الثانية هذه (كيُّ شرايين)، لكن لم أعرف شرايين ماذا؟ الأنف؟ القلب؟ لكني أعرف أن الدفق الدموي استمر أكثر من مرَّة، كما تكررت الإغماءة أكثر من مرَّة، وأخذتُ أفكر بسعادة كبرى: "سأرجع إلى غرفة العمليات مرَّة ثالثة، وسأرى أمي، لكني سأنبههم قبل ذلك كي يمنعوا الطبيب الأحمق من الكلام، كي لا ينتهي اللقاء مع أمي"!!
    وفي إحدى المرات شعرتُ بدفقٍ دموي يندفع من فمي، وذهبتُ في إغماءة استيقظتُ على صوت الممرضة من خلفي يقول: "من الأفضل أن أمزقه"، سألتها بدهشة: "ما هو هذا"؟ أجابتني: "أنت"! انتبهتُ إليها هنا كأنها تحمل في يدها شيئًا حادًا، لكني كنتُ عاجزًا عن الاستدارة لأعلم ما هو، وحتى الممرضة نفسها كنتُ أراها بألوان تميل إلى السواد، وشعرتُ بالرثاء لنفسي، لأني دخلتُ مرحلة الهذيان، فلا يُعقَل أن الممرضة تريد تمزيقي فعليًا، لكني سألتُها مرَّة أخرى: "أنا"؟ ردَّتْ بنفاد صبر: "أعني ظهرك"، وحين لم تَجِدْ أي رد مني، تابعَتْ قائلة، محاولة إقناعي: "انظر أمامك لتراه"!
    وهنا أدركتُ أنني في مرحلة الهذيان فعليًا، أنظر أمامي لأرى ظهري!! وشعرتُ بمرارة شديدة، هل هذه نهايتي؟ أن أفقد عقلي؟ هل سأعيش حياتي كلها هكذا؟ تحركتِ الممرضة هنا ليبدو طرف من هذا الشيء الذي تحمله، فأخذتُ أسأل نفسي: هل معها سوط؟ ساطور؟ على أفضل الأحوال سكين؟ وهل هذه طريقة لجعل الدم يخرج من ظهري بدل فمي؟ هل إن حصل ذلك يكون أفضل طبيًا؟! ويبدو أن الممرضة هنا فهمَتْ أنني لا أستوعب شيئًا على الإطلاق، فأوضحتْ لي برفق: "أقصد قميصك، لأنه ممتلئ بالدماء، ولم يعد يصلح لشيء"، وبما أنني أدركتُ أن عقلي ما يزال شغالًا ولم يصبه الهذيان، فإنني شعرت بالراحة الشديدة، فقلتُ لها: "افعلي ما تريدين"، طبعًا كنتُ قد نظرتُ إلى قميصي هذا، لأرى أن لونه بات أسود قاتمًا (ولا أدري هل هكذا كان لونه فعلًا من الدماء أم أنها تلك الضبابية في رؤية الألوان عندي مع فقدان الدماء من جسمي)، لكني كررت القول لها "مزقيه"، وقد كان ذلك، وهمَّتِ الممرضة بالانصراف، فاستوقفتُها أسألها أن تُحضِر لي القميص الذي نزعتُه قبل العملية الأولى، فأخبرَتْني بأنهم قد ألقَوا به في النفايات، الأمر الذي أثار استنكاري، إذ كيف يتصرفون هكذا، وما الداعي أصلًا إلى إلقائه في النفايات؟؟

    كانوا، بعد كل دفقة دم، يقيسون لي الضغط، حتى قبل العملية الثانية، وفي البداية كانت النتيجة تُعلن بأعلى صوت، الضغط: 11/7، الضغط 10/6، ثم بعد ذلك، نظرة إشفاق، وتردد قبل الكلام بحماسة مفتعلَة لا تخدع طفلًا: (الضغط جيد، جيد، جيد)، وكيف يكون الضغط (جيد، جيد، جيد)، وأنا أشعر برأسي في مرحلة الانفجار، وبأني لا أكاد أرى شيئًا أمامي؟ هذا ما لم أفهمه، ويا ابنتي، تكلمي، قولي، لن يخيفني الرقم، إن كان واحدًا أم مئة، فالأعراض أشعر بها، وأدرك جيدًا بأنكِ لن تستطيعي خداعي بهذا الوصف: (جيد، جيد، جيد)! وعلمتُ فيما بعد، بأن ضغطي وصل مرة إلى الرقم 6، لكن لم أعلم الرقم الثاني كم سجل لديهم، لم يخبروني بهذا، أو لم يجرؤوا على إخباري، مع أني علمتُ ذلك (فيما بعد) كما قلتُ، وليس في وقت قياس هذا الضغط وتسجيل هذا الرقم!
    مضى بعض الوقت قبل أن أغفو (لم أشعر بدفق الدم ولا بشيء ينفجر في رأسي بعدها)، أدركتُ بعد استيقاظي أنها إغفاءة لا غيبوبة، وأسعدني أنني استعدتُ رؤية الألوان إلى حد ما، لكني كنتُ عاجزًا عن النظر إلى لمبة الغرفة مباشرة، ولم يكن استيقاظي لأن جسمي المنهك قد أخذ حاجته من النوم، بل لأن صوتًا تردد في ذهني، يهتف بدهشة: "لقد توقف، توقف"، سألتُ نفسي بدهشة مماثلة: "ما هذا الذي توقف، لا يمكن أن يكون قلبي! فأنا أسمع جيدًا، بل وأقدر على الرد"! أم أن الأمر كما كان في غرفة العمليات حين سمعتُ الطبيب ورددتُ عليه، أو ظننتُ أنني رددتُ عليه، وأنا لا أتنفس؟!
    ويا للسعادة التي شعرتُ بها حينما خطر لي أن قلبي قد توقف، فهذا كان يعني لي احتمال حصول لقاء ثانٍ مع والدتي... في العالم الآخر! شعرتُ؛ آنذاك؛ بأنني قد امتلكتُ العالم كله!

    تابعوا معنا


  18. #18


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الحلقة السادسة عشرة

    ما هذا الذي توقف؟ لا يمكن أن يكون قلبي! فأنا أسمع جيدًا، بل وأقدر على الرد"! أم أن الأمر كما كان في غرفة العمليات حين سمعتُ الطبيب ورددتُ عليه، أو ظننتُ أنني رددتُ عليه، وأنا لا أتنفس؟
    هل سأنتقل إلى مكان وجود أمي مرة أخرى؟ يا للسعادة؟!
    ولأثبتَ لنفسي أنني ما زلتُ حاضرًا في هذه الحياة، تساءلتُ بِحَيرة: "ما هذا الذي توقف"؟ وارتقبتُ هل سأستمع ردًا يؤكد لي بأن من يتكلم قد سمعني؟ وأتاني الرد فعلًا: "كيس المصل توقف"، ولم أرَ في ذلك ما يُقلق بادئ الأمر، لكني مررتُ بالمعاناة الشديدة بعدها، لإخراج إبرة المصل من يدي، وشكها بمكان آخر، ثم مكان ثالث، ثم في اليد الثانية، ثم إلى اليد الأولى، وكل إبرة تنتزع مني صرخة ألم حادة بسبب حالة الضعف الشديدة التي كنتُ فيها، وأحيانًا كان يُغمى عليَّ بسبب انخفاض الضغط هذا، وأستيقظ لأرى موضع المصل قد تغير، فلم أعلم كم مرة قاموا بتغيير موضعه، قبل أن نكتشف، فيما بعد، أن الممرضة الحمقاء هي التي كانت توقف المصل بالخطأ، وقد رآها صدفة شاب آخر من المختبر (نذر نفسه لخدمتي ورفض الرجوع إلى بيته بعد انتهاء دوامه، جزاه الله كل الخير)، هذا الشاب أعاد تشغيل المصل بلمسة يد واحدة، بعد أن استعانوا به، ويبدو أنهم نشروا الخبر أن المصل لا يعمل في جسمي أنا تحديدًا!!
    ولا أعلم أية حماقة هذه لدى هكذا ممرضة، جعلتني أمرُّ بهكذا عذاب! لكنها كررت خطأها هذا، والحمد لله أن هذا الشاب كان موجودًا، فأسرع يشغل المصل وينهر الممرضة ويوبخها لأنها تحرك فيه شيئًا ما يجعله يتوقف، لكن حماقتها هذه كلفتني آلامًا كثيرة، عدا عن آلام إبر تحليل الدم المتواصلة، وقد علمتُ بعض النتائج لاحقًا... بعد النزيف الثاني الهيموغلوبين 16، بعد النزيف الثالث الهيموغلوبين 13 (كم كان كان قبل النزيف الأول؟ إلى أي رقم تدنى بعد النزيف الخامس أو السادس)؟! لقد مرَّ جسمي بحالة إرهاق عنيفة لم أشعر بمثلها من قبل، وحتى حينما أتى صديقي محمد لزيارتي، لم أستطع معرفته بادئ الأمر، إذ كنتُ في أسوأ حالات إرهاقي، وما تزال الألوان غير صحيحة في عيني، رغم تخلصي من مشكلة اللون الرصاصي واللون الأسود.
    هناك أحداث فقدَتْها ذاكرتي هناك، ومنها أن الطبيب دخل غرفتي هو وإحدى الممرضات، أو للدقَّة إحدى الممرضتين، لتقول لي هذه الممرضة: (عمر، لا بقى تعذبنا هيك)! رغم أن الممرضتين في تقديري في أوائل العشرينات، وأنا في أواخر الثلاثينات، إلا أنه لا بأس بمناداتي من دون ألقاب، كلقب "أستاذ" مثلًا، لأني كدتُ أستبدل به لقب "المرحوم" على لحظة! ولا أذكر كذلك أن الطبيب عاد يُدخِل تلك الأداة في فمي، ويعلن بأن كل شيء على ما يرام، مع أن هذه النقطة أذكرها فعلًا! أذكر بأن الطبيب كان يقف أمامي حاملًا أداته هذه، وأنا أقول له متوترًا: "لا أريد أن أتقيأ الدم مرَّة أخرى".
    لا أعلم متى حصل هذا، وإن كان قد حصل في حضور محمد، أم حصل مرة أخرى، فمحمد ذكر لي، حين زارني في بيتي، دخول الممرضة وما قالته، ودخول الطبيب وفحصه داخل فمي، ولم يذكر لي أني طلبتُ من الطبيب أنني لا أريد تقيؤ الدم!
    لا علينا من هذا، فسواء أتى الطبيب مرتين أو ثلاثًا، ليست هذه بمشكلة، المشكلة في الإهمال الذي مررتُ به، المشكلة حين تدخل ممرضة حاملة صينية طعام، معلنة أن هذا الطعام لي، وقد كانتِ اثنتانِ من أخواتي موجودتينِ، وكلتاهما لها خبرة طبية محدودة بفضل دراستها المخبرية، فاستوثقَتْ إحداهما من الممرضة بارتياب: "هل الأكل لأخي فعلًا"؟
    وردَّتِ الممرضة: "نعم"، وخرجَتْ من الغرفة فلحِقَتْ بها أختي، وإذ بطبيبة الطوارئ أمامها (كذلك هذه الطبيبة ظلتْ تتنقل بين غرفتها وغرفتي للاطمئنان إلى وضعي، فجزاها الله كل الخير)، وسألتْ أختي الطبيبة إن كان الطعام لي، فَرَدَّتِ الطبيبة باستنكار شديد إن الأكل قد يقتلني، وكيف آكل وأنا أتقيأ دمًا؟ بل إن الشرب ممنوع في هذه الحالة لأنه خَطِر، ثم نظرَتْ طبيبة الطوارئ إلى الممرضة متسائلة: "ألم تخبريهم بأن هذا الطعام للأهل، والمريض لا يستطيع أن يأكل لقمة واحدة، فقد يتسمم جسمه"؟ ومن دون تردُّد أجابت الممرضة: "بلى، أخبرتُهم بذلك"!
    لا أعلم سبب هذا الإهمال، وهل بَدَت معلومة مثل هذه المعلومة تافهة بالنسبة إلى هذه الممرضة كي تكتمها؟ لم أكن أنوي الأكل أصلًا، فأنا أدرك خطأ حصول ذلك لمن يتقيأ التقيو المعتاد، فكيف الحال بمن يتقيأ دمًا أحمر قانيًا؟ لكني، في الوقت ذاته، كنتُ مستعدًا لشرب عدة ليترات من الماء أو العصير _ وكان هناك عصير جزر مع الأكل _ لما أعانيه من جفاف وتخشب في الحلق كان قاسيًا بعد العملية الأولى، وبات أقسى بكثير بعد العملية الثانية، ولكن مسألة تسمم أو التسبب للمريض بضرر كبير، مسألة بسيطة لا يجب أن نتوقف عندها فيما يبدو، مع هذه ممرضة!
    والكذب لم يتوقف هنا، فقد أثار أختي موضوع آخر، وهو أنني لم أستخدم الحمام على الإطلاق، فطلبَ إليها الشاب الذي كان موجودًا حين أغمي عليَّ، بعد العملية الثانية، ألا تقلق، لأنني _ أي أنا_ قد قضيتُ حاجتي قليلًا حين دخلتُ الحمام قبل أن يُغمَى عليَّ، ولم تصدق أختي ذلك، وذلك لسبب بسيط، هو أنني لا أتحرك بالسرعة الضوئية، ما كدتُ أدخل الحمام، حتى سمعوا صوت سقوط جسمي على الأرض، وحين سألَتْني أخبرتُها بأن هذا الشاب كذاب، ولم أخبره بشيء كهذا، ثم من يكون هو أصلًا حتى أتجاذب معه الحديث حول موضوع كهذا؟؟
    ويستمرُّ الكذب! هذا الشاب يخبر أختي بأنهم لم يستطيعوا معرفة نسبة الهيموغلوبين بعد النزيف الأخير، لأني رفضتُ رفضًا قاطعًا السماح لهم بتحليل الدم، وذلك لأن يدي أصبحت زرقاء! ويا لهذا الهراء! متى يهمني إن كانت يدي زرقاء أم خضراء اللون؟!
    هذه النقطة أذكرها جيدًا، كان متجهًا نحوي بالإبرة، ليغرسها في يدي اليمنى في الموضع الذي اعتاد سحب الدم منه، والذي مزقوه فعليًا حين وضعوا إبرة المصل فيه، وتركوا ما يشبه النفق في يدي، بسبب همجيتهم وقِلَّة خبرتهم، فطلبتُ إليه أن يؤجل ذلك، لأني لم أعد أحتمل المزيد من الآلام. وهذه النقطة نفسها أكدتها الممرضة التي كانت حاضرة، فقد أخذَتْ تتهكم بي أمام أختي، فيما بعد، كيف أنني أخاف من الإبرة، إلى درجة أنني رفضتُها من شدَّة خوفي منها، ولو سمعتُها لأسمعتُها ردًا يعلمها الأدب، فحتى لو كنتُ أخاف الإبرة، وأنا فعليًا أخافها، إلا أن غباءهم الشديد جعلهم يسبِّبون لي الكثير من الآلام، إضافة إلى حالةٍ من الضعف الشديد جعل من الآلام البسيطة أشبه بغرفة تعذيب لا يمزح أصحابها!
    لقد شعرتُ بالإرهاق يتزايد لكثرة ما فقدته من الدماء، وبأن المرئيات أمامي ما تزال دون ألوان صحيحة، رغم أن مسلسل الوقوع في الغيبوبة والخروج منها قد توقف...
    وفيما أنا على هذه الحال من الآلام وشبه عمى الألوان، إذ بالممرضة تدخل وهي تهتف بحماسة شديدة وابتسامة عريضة: "أبشر... أبشر"...
    شعرتُ بدهشة لم أشعر بمثيل لها في حياتي... ما هي البشارة التي تحملها هذه الممرضة؟! الهيموغلوبين في دمي كان بنسبة 13، وحصل نزف الدم من بعد ذلك عدة مرات، فهل ارتفع الهيموغلوبين وحده فجأة أم ماذا؟! مستحيل!!
    ورغم أن عقلي يهوى الاستنتاجات والتحليلات، إلا أنني وجدتُ نفسي في هذه المرة عاجزًا عن وضع أي فرضية كانت، فلم أجد أمامي سببًا واحدًا يمكن أن يشكل بشارة لي...
    وشعرتُ بالحيرة الشديدة، وأنا أترقب تلك البشارة العجيبة...

    تابعونا

  19. #19


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الحلقة السابعة عشرة

    شعرتُ بالحيرة الشديدة، وأنا أترقب تلك البشارة العجيبة التي تحملها الممرضة، ووجدتُ ذهني عاجزًا عن التفكير بأي احتمال ممكن أو حتى غير ممكن...
    ثم نطقت الممرضة أخيرًا بتلك (الجوهرة) قائلة: "لا تخف
    ، ما يحصل معك طبيعي، صحيح أنه لا يحصل، لكن هذا لا يعني أنه لا يحصل، مع أنه لا يحصل عادة، لكنه ليس غير طبيعي، بل هو طبيعي"!

    هل هذه بشارة تستحق الحماسة والابتسامة؟! أم أن هذه البشارة كانت درس فلسفة رائعًا حقيقة منها؟ لكني لم أكن قادرًا؛ للأسف؛ على الاستمتاع به، بل سألتُها أن تعطيني منوِّمًا حتى أستطيع النوم للخلاص من الإرهاق العنيف هذا، ولكم بدَتْ مذعورة أمام هذا الطلب!
    لقد ردَّت برعب: "لا أستطيع إعطاءك منوِّمًا، لأنك إن أخذتَه قد لا تفيق بعدها"، ثم تداركتْ الممرضة الأمر وانتبهت إلى نفسها، فأسرعت تقول: "أنت لا تعلم لماذا لا أستطيع إعطاءك المنوِّم"! وأسرعت تغادر الغرفة، ولو أننا في رواية تقليدية لرأينا الممرضة تجلس على مقعدها وتبكي، فتسألها رفيقتها عن السبب، فتقول لها: "إنه يريد منوِّمًا، لكنه لا يعلم لم لا أستطيع إعطاءه إياه، إنه لا يعلم أنه إن أخذ المنوِّم فسينام إلى الأبد"...
    وبما أننا لسنا في رواية تقليدية، بل رواية هزلية اكتسب صبغة الواقع بغرابة شديدة، فإنني حاولت أن أحلَّ غموض اللغز (العويص) الذي تركتْه لي هذه الممرضة العبقرية، كيف إن أخذتُ المنوِّم قد لا أفيق، وكيف لا أعلم لماذا لا تستطيع إعطائي المنوِّم؟! يبدو أنه يجب أن ننشر هذا اللغز في مجلة طالبين آراء القراء، لعل فيها ما يشفي نار فضولنا إلى معرفة الحقائق!
    فيما بعد علمت أنهم كانوا يجهزون سيارة الإسعاف لنقلي إلى مستشفى آخر، لأنهم لا يملكون أية تجهيزات للتعامل مع حالات الغيبوبة، وكانوا ينتظرون الدفق الدموي القادم لأقع أنا في غيبوبة دائمة، أو أذهب إلى ثلاجة المستشفى، هكذا ببساطة!
    لكن الدفق الدموي توقف، والإغماءة لم أعد أمرُّ بها، بل وطلبتُ الدخول إلى الحمام (كونهم هددوني بوضع قسطرة بولية وقالوا إنها كفيلة بإخراج الروح معها)، وإذ هممتُ بالنهوض، طلب إليَّ الشاب الذي نذر نفسه لخدمتي ألا أقوم مرَّة واحدة لأني خارج من عملية وتخدير، بل يجب أن أجلس أولًا بعض الوقت، للتأكُّد أنني لن أشعر بأي دوار، ثم حينما أقف أفعل ذلك تدريجيًا متمسكًا بحامل المصل مثلًا، قبل أن أمشي، للتأكد كذلك من أنني لن أشعر بأي دوار، وإلا فأنا معرض إلى السقوط أرضًا (وأين كنتَ يا عزيزي قبل أن أقع مرتين بسبب أن أحدًا لم يخبرني بذلك؟ وأين كنتَ قبل أن تتمزق يدي من الإبر فيها قبل أن تكتشف غباءهم في إغلاق المصل)؟ وإذ حان الليل، أشرتُ إلى أختيَّ بالانصراف (أدركتُ الوقت من كلام هذا الشاب)، فسألَتْه إحداهما: "هل تطمئننا إلى وضع أخي قبل أن ننصرف"؟ فكان ردُّه: "الأفضل بقاؤكما، أو بقاء إحداكما، لنتعاون إن حصل شيء"!! الأمر الذي أغاظني فعلًا، لأني أرى من حق أختي أن تنام في بيتها وتهتم بزوجها وأولادها، ثم إنني تعودت أن أكون وحيدًا، أعتني بنفسي، في عمليتين سابقتين لي، والأدهى من ذلك، كيف ستعاون أختي طاقم التمريض المتهالك هذا؟ إن كانوا هم أنفسهم لا يعرفون ماذا يفعلون فهل ستعرف هي؟
    (فيما بعد علمتُ أن طلبه هذا بسبب تدني نسبة الهيموغلوبين في دمي حتى أدنى من معدلاتها الطبيعية، وخوفهم من الدفق الدموي القادم الذي سيوقعني في الغيبوبة، وهم حتى ليسوا مجهزين في مستشفاهم للتعامل مع حالات الاحتياج إلى نقل الدم، توقعوا أنني سأدخل الغيبوبة التامة وأحتاج دمًا، وربما بلاكات دم، ولا بد من وجود أحد من عائلتي ليحاول تولي هذا الأمر، فعلًا مستشفى رائعة بتجهيزاتها المدهشة وخبرات ممرضيها الرائعة، واهتمامهم بما ينفع المريض، حتى أنهم يساعدون في ضرره بأية وسيلة كانت).
    بعد مرور فترة طويلة على الدفق الدموي الأخير، استعدتُ إحساسي بما حولي، وعدتُ أرى الألوان بوضوح، وأذكر بأن الطبيب مرَّ هنا ليقول لي إنه كان مقررًا نزع الفتيل يوم السبت (كنا يوم الخميس)، لكنه سيؤجل ذلك إلى الثلاثاء، وخرج من دون أن يفحص فمي كعادته، وكانت معاناة شديدة مع الأرق والعرق، وإحساسي بأن عظَمَة أنفي تغلي مع احتقان الغرفة كلها من الحرِّ لتعطل المكيف مرَّة أخرى، وعدم استجابته حتى لمحاولة التلاعب به، لم أستطع النوم بسهولة، وحتى وقت متأخر من الليل، حين غادرت إحدى الأختين بعد وصول زوجها لترجع معه، وظللتُ أتقلب فترة طويلة، حتى استسلم جسمي المتهالك أخيرًا، ونمتُ نومًا عميقًا، ربَّما لم يطل سوى ساعات قليلة، لكني استيقظتُ منه شاعرًا ببعض الحيوية والنشاط أخيرًا، وأتتْ إحدى الممرضات لتقول لي، بابتسامة عريضة: "يمكنك أن تبقى معنا اليوم بأكمله، وتخرج غدًا، ابقَ معنا لنعتني بك"!
    (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! بقائي معكم قد يعني هلاكي يا عزيزتي، بعد ما رأيته من إبداعاتكم الطبية المدهشة، أفضل أن أرجع بيتي ولا تعتنوا بي، على الأقل سأموت هناك ميتة طبيعية، أما بقائي هنا فأخشى إن متُّ أن أدخل في سجل المنتحرين)!
    ومع رفضي هذا البقاء، والذي فيه المصلحة المادية للمستشفى قبل أن يكون إنسانيًا بهدف الاعتناء بي، خرجت الممرضة من الغرفة، لتكلم الإدارة كي تفتح لي ملف الخروج، ونرى كم تكلفة الحساب علينا، ودخلت زميلتها قائلة إن الطبيب قد وقَّع فعلًا، من يوم أمس، على خروجي اليوم، وأستطيع الخروج متى أشاء، قبل الثانية عشرة ظهرًا (وبالتالي بقائي يومًا إضافيًا قد يكلفني مليون ليرة إضافية فوق أجرة العملية، فيا للاعتناء النادر الذي يعرضونه عليَّ)، أخبرتُها بأني لا أستطيع الخروج قبل إنهاء الملف، وذلك كي أدفع ما يتوجب عليَّ، فقالت إن الملف كله لن يستغرق ربع ساعة، وهنا دخلَتِ الممرضة الأولى حاملة صينية الأكل، بل صينية الشرب، كوبًا من الحليب البارد (وهذا لن أقربه، سواء أكان باردًا أم ساخنًا)، وفنجانًا صغيرًا من عصير الجزر، تمكنتُ من شرب قليل منه، رغم حاجتي إلى الشرب، لكني أحسستُ بالعصير يتجمد في حلقي مع الدم المتجمد هناك.
    وعاد مسلسل الإهمال مجددًا، إذ خرجَتْ أختي لإحضار الوصفة الطبية التي تركها لي الطبيب، كما أخبرَتها الممرضة، وقرأتْ فيها أن عليَّ استخدام دهن ما ثلاث مرات يوميًا، وقالت الممرضة التي كانت في الغرفة إن هذا الدهن يتمُّ داخل الأنف، وبالتالي علينا نزع الضماد والدهن ثم إعادة الضماد، وإن الطبيب قال ذلك، الأمر الذي لم تقتنع به أختي، فسألتِ الممرضة الثانية لاحقًا عن ذلك، لتقول لها إن هذا الدهن لعَظَمة الأنف، ويتمُّ ثلاث مرَّات يوميًا، وقد أخبرها الطبيب بذلك، واحترْنا من نصدق، أنا وأختي وأبي الذي كان قد وصل منذ ساعة تقريبًا (وصل بعد إخبارهم لنا بأن إنهاء ملفي لن يستغرق ربع ساعة، بحوالي نصف ساعة)، وما زالت هذه الربع ساعة لم تنتهِ بعد، ثم كانت البشارة الرائعة من إحدى الممرضات بأن الملف قد انتهى، ونزل والدي ليدفع، وليفاجأ بأن الملف لم يصل بعد، وأنه ما زال قيد الغرف المختلفة، و"من قال إنه قد انتهى أصلًا"؟ والله المستعان على هذا الكذب الذي يسري في نفوس هذا الطاقم المتهالك، أو لعلها محاولة الظهور بمظهر من يعلم كل شيء، وبالتالي يؤلفون المعلومات ويخبرونك بها!
    وإذ دخلتْ إحدى الممرضتين بعد ذلك، لانتزاع إبرة المصل، أدركتُ بأن الملف قد انتهى فعلًا، عاد والدي ينزل ليدفع، وليقترب بالسيارة التي أوقفها بعيدًا، إذ لم يجد مكانًا بقرب المستشفى (هذه المستشفى ليس لها موقف خاص بالزوار)، أسعدني أنني استطعتُ الوقوف بمفردي من دون أن يختلَّ توازني أو أفقد وعيي، وتحرَّكتُ لأغادر، لولا أن الطبيب اقتحم الغرفة بغتة، اقتحمها راكضًا وهو يلهث بعنف شديد، ويقول لي بصوت متقطع: "إياك أن تخرج، قبل أن... قبل أن... العملية"!
    واقشعرَّ بدني بأكمله مع هذه الكلمات... أأنا محتاج إلى عملية أخرى؟!
    يبدو بأن عليَّ تسجيل وصيتي الأخيرة، لأن القبر قد بات على قيد خطوة واحدة!

    تابعوا معنا


  20. #20


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,282
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكايتي مع الطبيب... بقلمي أ. عمر

    الحلقة الثامنة عشرة

    أأنا محتاج إلى عملية أخرى؟!

    يبدو بأن عليَّ تسجيل وصيتي الأخيرة، لأن القبر قد بات على قيد خطوة واحدة!

    وصل الطبيب لاهثًا، كان يسابق الوقت ليراني قبل أن أخرج، وذلك كي يطمئن على نتائج العملية! لا أعلم ألا يشير كل ما حصل من النزف والغيبوبة وانعدام الرؤية إلى نتائج العملية، حتى يفيق الطبيب للاطمئنان الآن!!
    ومرَّة أخرى يفحص الطبيب داخل فمي، ولا أعرف حتى الآن ما الذي كان يريد رؤيته في فمي!
    سألتُه هنا عن الدهن هذا، وقلتُ له إنني، وفق إرشاداته، سأدهن به داخل الأنف، لكنه قاطعني باستنكار شديد أن تكون هذه إرشاداته، فسألتْه أختي إن كان الدهان لعَظْمة الأنف، ومرَّة أخرى يستنكر الطبيب ذلك، وطلب ألا نحرك الضماد من موضعه، وقال هذا الدهن داخل الأنف، لكنه طلب إليهم إخبارنا والتأكيد لنا، بأن لا أستعمله الآن، بل يوم نزع الفتيل، أحضره معي إلى العيادة، لأنه سيلزمنا، وبعد ذلك أتابع استعماله ثلاث مرات يوميًا (يا للذكاء المدهش من هاتين الممرضتين، تستحقان جائزة نوبل للـ....).

    حان وقت الخروج من المستشفى، وكانت المفاجأة الأخيرة أن قميصي الذي نزعتُه في غرفة العمليات كان داخل الخزانة، مع أن الممرضة أكدتْ بأنهم ألْقَوه في النفايات! لا أعلم، هل الكذب والدجل سمة مميزة لممرضات هذه المستشفى، ومن آليات عملهن هنا؟!

    خرجتُ، وفي ذهني أسئلة عن سبب النزيف، عن سبب توقفه، غير أني كنت قد كوَّنتُ نظرية ما، لا أعلم مدى صحتها، هل كان في المصل شيء ما لم يتناسب مع جسمي وأدى إلى هذا النزيف؟ وإن لم يكن، لماذا توقف النزيف هذا مع توقف المصل عن العمل؟! رغم أنه عاد يعمل بعدها، لكن ربما فترة التوقف هذه جعلَتْ جسمي يتأقلم مع ما حصل، أم أنها كانت مصادفة أن يتوقف كلاهما في وقت واحد؟

    لا أعلم هل كلامي هنا علمي أم محض أوهام لا رأس لها، لكني كنتُ أسأل وأحاول أن أحلل الموقف، هل كان في جسمي سم ما من زمن وتفاعل سلبًا مع الأدوية عبر المصل أم ماذا؟ هل تمَّ إيذاء الشرايين الحيوية في جسمي وتكتموا على ذلك كي لا أتهمهم بالإهمال؟ وإلا ما معنى عملية (كي الشرايين) هذه؟ هل سيعود النزيف الدموي من فمي لاحقًا أم لا؟ ثم تلاشت كلُّ الأفكار، تلاشت وأنا أغادر غرفتي، وفي قلبي غصة كبيرة لأني قد فارقت أمي، كنت أشعر بالتأثر لهذا، وأحاول السيطرة على مشاعري لكن القلب كان يتمزق لفراقها، أما لقائي بها فليس وهمًا ولا هذيانًا، ما زلتُ مُصِرًا أنه حقيقة حصلت بشكل ما، لا تصل إليه مداركنا، لكنها رحمة الله بي أن ألتقي بأمي، ولا أجد أي تفسير آخر لما حصل...

    خرجتُ من المستشفى حزينًا، فرغم تنافي ذلك مع المنطق، إلا أني كنتُ أشعر بأن أمي موجودة فعليًا في غرفة العمليات، وأني لو دخلتُ تلك الغرفة وناديتُها فإنها ستأتيني! وإذ وصلتُ البناية التي فيها بيت والدي، صعدتُ بسرعة، لأن والدي أصرَّ أن تصعد أختي معي للاطمئنان عليَّ أنني قد وصلتُ البيت فعلًا (وهو لا يعلم ما حصل معي، فكيف لو كان يعلم)؟ ولم أرِدْ أنا أن أؤخره عن صلاة الجمعة وقد حان وقتها، لذا أسرعتُ بالصعود، لأدخل غرفتي هناك، وأشغل المكيِّف وأستلقي على البلاط، ومع الشعور ببرودة الغرفة وزوال الاحتقان الناري من أنفي، نمتُ نومًا عميقًا، عوضتُ به كل ما مررتُ به من الآلام والإرهاق، لكن الأمر لم ينتهِ هنا، فالنزيف من الأنف كان حتميًا، والفتيل المثبت بقوَّة كان يمنعه تقريبًا، فيخرج بعضه من الأنف، ويرتد كثير منه في الحلق، في البداية كان الأمر وفق حد مُحْتَمل، لكن ليلة قاسية كانت تنتظرني، بدأ النزيف قبيل العاشرة، واستمر عدة ساعات، شعرتُ بأنني سأقع في الغيبوبة، وحاولتُ فترة طويلة، وأنا أدفع بيديَّ وقدميَّ في الأرض حتى استطعتُ النهوض، لأذهب إلى المطبخ وآخذ حبتين من الدواء المسكِّن (ولا أعلم هل هذا مفيد أم لا، لكن رأسي كان يدور من موضعه)، لكني لم أشعر بأي فارق تقريبًا، إلى أن انتهى هذا النزيف، وأخذتُ أحاول النوم ولا أستطيع، وحينما استطعتُ ذلك، وقعتُ في مشكلة سخيفة، بدأ ضوء الشمس يخترق الغرفة، حاولتُ أن أشغل المكيف، فلم يحتمل الاشتراك الكهربائي ذلك، رغم أنه كان يحتمل في العادة، أصررتُ هنا أن أرجع إلى بيتي، رغم ما أنا فيه من الألم، ففي المعتاد المكيف في بيتي شغال على الاشتراك، خاصَّة أنه من نوع يلزمه حوالي 3،5 أمبير فقط ليشتغل، وهكذا رجعتُ لأتمدد على الأرض محاولًا أن أغفو، لكن الثقل في رأسي كان عنيفًا، وشعرتُ بأنني سيُغمى عليَّ في أيّة لحظة، فنهضتُ بصعوبة واتَّجهتُ بسرعة إلى مائدة الطعام حيث أضع علبة الملح، كنتُ أسمع أن الملح مفيد لتوازن الضغط، وقررتُ أن آخذ قليلًا منه لأضعها تحت لساني وأمتصها ببطء، لكني أخطأتُ ولا أعرف كيف، ولا أتذكر ما حصل بالضبط، لكني أتذكر أن كمية هائلة من الملح نزلت داخل حلقي، مسببة لي شعورًا كبيرًا بالقرف والاشمئزاز!

    رغم محاولتي التعيسة هذه، أحسستُ بذات الإحساس الذي كان يأتيني في المستشفى قبل أن أقع في الغيبوبة، ثم انتهى الأمر بالنسبة لي تمامًا... وحين أفقتُ؛ بعد حوالي تسع ساعات؛ كنتُ مرهقًا جدًا، وزاد الأمر سوءًا أنني لا أستطيع فعل شيء مفيد لاستعادة التركيز، كتناول كوب من الشاي مثلًا، لأنني ممنوع من الأكل إلا السوائل الباردة، لكني شعرتُ بأن الأزمة قد انزاحت نهائيًا إذ لم أفقد وعيي النهار الثاني...

    ولكن؛ ومع بدء الليل، شعرتُ بضغط مزعج على صدري، كأني قد ابتلعتُ شيئًا ولا أستطيع إخراجه، ثم كانت دفقة دم كبيرة الحجم من فمي، دفقة دم أحمر قانٍ لوَّثت طرف الفراش وملأت الأرض، وجعلتني ألهث من الإرهاق الشديد، ووعيي يتلاشى في غيبوبة عميقة، ربما هي أطول غيبوبة أمرُّ بها في حياتي كلها.

    تابعوا معنا


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...