الحلقة التاسعة عشرة والأخيرة

شعرتُ بالمرئيات تتلاشى من أمام عيني مع وعيي، وبدفقة دم أخرى تندفع من فمي، وفقدتُ وعيي نهائيًا ربما لثماني عشرة ساعة تقريبًا!
ولكن الغريب أنني؛ حينما أفقتُ أخيرًا؛ لم أشعر بأني استعدتُ ولو جزءًا بسيطًا من تركيزي ونشاطي، بل ظللتُ متهالكًا، ولولا الساعة التي أمامي لما صدقتُ أنني كنتُ غائبًا عن الوعي، وذلك لاستعادتي إياه، وأنا على الحالة نفسها.
وأخيرًا أتى يوم الثلاثاء، ي
وم نزع الفتيل، وأحداث ذلك اليوم الدامي تتكرر في ذهني بتفاصيلها الدقيقة، رغم مرور ثلاثة عشرة سنة عليها، لكن هذا الطبيب كان واعيًا إلى ما يفعل، وليس أهوج كالطبيب الأول، نزع الفتيل بمنتهى الرفق، ومع هذا تألمتُ منه، ثم كان الألم الأقسى مع نزع الفتيل من الجهة اليسرى، وهي الجهة التي كنتُ أعاني منها أكثر قبل العملية، ووضع الطبيب بعض البنج قبل أن يُخرِج من الأنف أشياء مثل الإسفنج، قال إنه يضعها قبل الفتيل عادة، وحين سألتُه بِمَ سأشعر بعد زوال هذا البنج، وكان أنفي ما يزال يؤلمني من نزع الفتيل، قال لي إن الألم لن يستغرق سوى خمس دقائق، وبعدها لن أشعر بشيء، وسألتُه لِمَ لَمْ يضع البنج قبل نزع الفتيل، فأبدى استنكاره ذلك، وكيف يستطيع إدخال البنج بوجود الفتيل أساسًا؟
كان الطبيب بارعًا أكثر مما يتصور، إذ لم تمرَّ سوى دقيقتين أو حتى أقل، حتى زال الألم تمامًا، ولم أعد أشعر بأي ضيق، إلا من القطن الذي طلب مني وضعه داخل أنفي، لأنه حرمني لذة التنفس الرائعة التي أحسستُ بها بعد نزع الفتيل، ولكن الطبيب كان يعلم ماذا يفعل، لم يُرِد لي أن ألوِّث نفسي بالدم، وقد سال منه الكثير بالفعل، وأقصد الدم الأحمر القاني، بعد فترة بسيطة من وصولي منزلي ونزع القطن من أنفي، لأدخل في غيبوبة أخرى وأخيرة... ثم بعدها حان وقت الدم الأسود المحتقن مع الالتهابات منذ سنوات طوال، ربما ستة عشرة سنة والالتهاب يتضاعف، ومرَّ اثنا عشر يومًا متتالية، وهذا الدم يخرج يوميًا بكميات كبيرة، الطبيب قال إن الأمر سيستغرق أسبوعين أو ثلاثة، ثم إن شاء الله سأبتدئ أحسُّ بالفرق الكبير بإذن الله تعالى، ولا أنسَ أن أذكر هنا، أنه بعد نزع الفتيل بأيام، قام الطبيب بجلسة تنظيف للأنف، لم يَجِد داعيًا للعمل في الفتحة اليمنى حيث التصريف طبيعي، لكن الاحتقان الشديد في الفتحة اليسرى، وهكذا قام باستخراج قطع دم متجمدة سوداء، لا بأس بحجمها، ولم أشعر بأي ألم أو ضيق، وهو يقوم بعمله هذه المرة، والحمد لله تعالى.
في هذه الفترة، اختفى أسيد المعدة عدَّة أيام، ثم حين بدأتُ أشعر به قليلًا، كان الدواء الذي وصفه لي هذا الطبيب حاضرًا، بدأتُ باستعماله مباشرة، محددًا لنفسي المهلة التي منحني إياها هذا الطبيب، وهي مدة أسبوعين، فإما الشفاء، وإما تحليل من نوع خاص، يقتضي بالنفخ في بالون، ثم تناول حبة دواء، والانتظار نصف ساعة، ثم النفخ مرة أخرى، وإرسال التحليل إلى بيروت لدراسته، والبحث عن جرثومة معيَّنة تسبب أسيد المعدة، وذلك لعلاجها العلاج الصحيح.
غير أن الأمور لم تكن بهذه النهاية السعيدة المثالية، فربما كان الطبيب بارعًا وهادئًا في استخراج الفتيل، بل إنه في المعاينة الأخيرة نظر في أنفي وقال إن كل شيء تمام والأنف نظيف ومجرى التنفس رائع، ولا وجود للبلغم في الحلق، علمًا بأنني عانيتُ معاناة مريرة بسببه قبل قدومي إلى الطبيب! وإذ أخبرتُه بذلك، أدخل أداة رفيعة من أنفي ليغرزها داخل حلقي صائحًا بانتصار إنه قد سحب البلغم المحتقن بهذه الطريقة، وأنا أشعر بأن حلقي قد تمزق من موضعه!!
والأسوأ من هذا أنني أدركتُ لاحقًا أنه لم يستعمل تقنية اللايزر التي تقاضى ثمنها، وذلك أن هذه المستشفى (العالمية) لا تمتلك التقنية من أساسها!
ومع بقاء كثير من العوارض التي كنتُ أعانيها قبل العملية، ذهبتُ إلى طبيب آخر ولكني لم أخبره بأنني خضعتُ لعملية جراحية، وكانت النتيجة المذهلة (الغضروف تم تجليسه ولكن بكسر العظم حتى بات فيه ما يشبه الخندق! ولا وجود للحميات "والحمد لله"، ولكن هناك جيوب أنفية كبيرة متضخمة إلى درجة غير عادية، ولم تر التنظيف في حياتها)!
ولكني لم آخذ بهذا الكلام، وأخضعتُ الأمر للعقل والتفكير المنطقي، هل هذا الطبيب يتكلم الصدق أم أنه يريد إجراء عملية لا داعي لها؟ فطلبتُ من الطبيب أن يكتب لي صورة سكانر، وفي مركز التصوير وبعد طول انتظار، أدركتُ الحقيقة المريرة... هذا الطبيب يتكلم الصدق ولا يكذب، ومع ذلك ذهبتُ إلى مستشفى خاص في بيروت، للمعاينة عند طبيب آخر هناك، والكلام نفسه لا يتغير، هناك جيوب أنفية كبيرة متضخمة إلى درجة غير عادية، ولم تر التنظيف في حياتها، بل وأضاف الطبيب كلامًا آخر، مفاده أن سائر الجيوب الأنفية تم تمزيقها تمزيقًا لفتح مجرى التنفس، بدلًا من تنظيفها!
وبعد ذلك استدللتُ على طبيب ثالث، والإفادة نفسها، الجيوب الأنفية الممزقة هذه، وتلك التي تقترب من الدماغ متضخمة جدًا (لا يبدو أن الطبيب الذي أجرى العملية حاول الاقتراب منها، ولا أعرف السبب)!
ولم أكن مستعدًا لإجراء عمليات أخرى بعد الذي شاهدتُه في تلك المستشفى التعيسة، وعلى يدي ذلك الطبيب الغشاش، وحتى اختبار أسيد المعدة لم يتم بالطريقة الصحيحة، بسبب خطأ وتضارب في الآراء بين الشباب (الرائعين) في المختبر!

ولكني لم أترك نفسي مهملة من العلاج، وصلتُ بفضل الله تعالى إلى طبيب يخاف الله في فعله، ودخلتُ المستشفى لإجراء ناضور للمعدة، وأخبرتُ الطبيب؛ قبل ذلك؛ أنني سأرتدي ملابسي العادية تحت ملابس المستشفى وإلا فلينسَ الناضور هذا، واتفقنا على ذلك، ورغم هذا بدا لي أن المسؤول في غرفة العمليات لم يكن على علم بذلك، وهكذا كدتُ أغادر المسشفى وأرجع إلى بيتي، ولكن مديرة القسم عاتبت ذلك المسؤول، لأبقى أنا على راحتي...
وكما كان الأمر قبل أيام، تلك الممرضة في المختبر سحبت الدم لإجراء تحليل معين، من دون أن أشعر بأي ألم من الإبرة، كان الممرض في غرفة العمليات بارعًا جدًا في غرز الإبرة لوضع كيس المصل، ولم أشعر بأي شيء، ولكن السماجة تمثلت لديهم بعد استيقاظي من البنج أنهم لا يريدون أن يتركوني أخرج، إلا إن أتى أحد لاستلامي، وكأنني طفل صغير، بل وكادت أعينهم تخرج من موضعها حينما علموا أن عندي شغلًا معينًا يستلزم قيادتي سيارتي بعد حوالي نصف ساعة!
ولا أعرف هل أتيح لشخص قبلي أن يمسك بهاتفه الخلوي، وهو في غرفة العمليات، ليجري اتصالًا هاتفيًا، أم لا؟ ولكن صديقي الذي اتصلتُ به لبى الطلب وأتاني مسرعًا، وحين سأل عني لم تكن مسؤولة الاستعلامات في طابق العمليات تعلم أنني قد وصلت، فاتصل بي رفيقي لأرد عليه من غرفة العمليات، وأنا أسمع صوت صراخ وأنين المرضى الذين يدخلونهم الغرفة يكاد يُصِمُّ أذنيَّ!
وإذ خرجتُ؛ أخيرًا؛ سلمتُ على رفيقي وشكرتُه بحرارة، وإحدى الطبيبات تهتف بي أن أذهب إلى بيتي لأنام، لأنني لا أدري متى سأغفو من دون أن أشعر، وضربتُ بنصيحتها عرض الحائط، وذهب رفيقي بسيارته، ورجعتُ أنا بسيارتي أقودها بشكل طبيعي لأنجز شغلي الذي استمر عدة ساعات، ومن بعدها رجعتُ إلى بيتي لأنام بعد العناء.
ومع الدواء الذي وصفه الطبيب لي لاحقًا بدأتُ أشعر بالتحسن، ولكن مشكلة التنفس ما تزال قائمة مستمرة، وأنا لا أفكر بالخضوع لعملية أخرى، إذ كان الطبيب الأخير واضحًا معي كل الوضوح، وأخبرني بأن العملية لن تشعرني بالراحة أكثر من 30% في الحد الأقصى...
أما قلبي فكان على خصام معي! من العام 2014 وهو ينبض بعنف، هكذا فجأة، من دون سابق إنذار، وطبيب القلب قال إنها مجرد خفقة في عضلات القلب ودواؤها بسيط، وبالفعل بعد سنة ونصف تقريبًا من العلاج اختفى هذا النبض العنيف، ومرت شهور طوال، وأنا لا أشعر بتلك الخفقة، ثم عادت مؤخرًا بعنف كما كانت، وحاولتُ تجاهلها عدة أشهر حتى لم أعد أحتمل، ولكن الطبيب الذي عالجني من قبل كان قد انتقل إلى رحمة الله تعالى من فترة، فكان أن ذهبتُ إلى ابنه، ذلك الابن الذي درس طب القلب مثل والده، وبرع فيه كثيرًا، وكان أن طلب إليَّ دخول المستشفى لوضع جهاز مراقبة نبضات القلب، وقد رافقني هذا الجهاز حوالي أربعين ساعة قبل أن يتم نزعه لقراءة النتائج، ومع أن هذه الخفقة المؤلمة لم تأتِني خلال هذا الوقت، إلا أن الجهاز رصد تسارعًا بسيطًا في النبض، وطلب إليَّ الطبيب أن أستعمل الدواء القديم نفسه، وهو دواء خفيف، إذ لا حاجة لأدوية ثقيلة (حاليًا)، ولكن الأشهر القليلة المقبلة ستحدد مسار العلاج... وأنا شخصيًا أكاد أتوقع الأسوأ، إذ إنني أفقد الوعي أحيانًا من فرط الألم من النبض المتسارع، بل إنني سبق لي أن تصببت عرقًا في أيام باردة، بسب هذا الخفقان العنيف...

آمل ألا أكون قد أطلتُ عليكم...
حفظكم الله تعالى وأهلكم من كل سوء...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.