السماجة مقالة بقلمي أ. عمر

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,304
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي السماجة مقالة بقلمي أ. عمر

    السماجة


    كل شيء قد يُحتَمَل في هذه الحياة إلا السماجة!
    بعض الناس سمجون فعلًا، سمجون إلى درجة أنك تتساءل من أين أَتَوا بكل هذا الثقل في دمائهم، وهل تحتملهم أمهاتهم أنفسهنَّ أم أنهنَّ كنَّ سينتحرن لولا بقية من التشبث بأنفاس الحياة والنظر في وجهها المضيء؟!
    إنهم سمجون، وسماجتهم لا تقف عند حدٍّ معيَّن، قد تصل إلى حدِّ إزعاجك في بيتك حتى، وربما لو استطاعوا الكبتَ على أنفاسك لما ترددوا لحظة في ذلك، لشدة سماجتهم.
    وهل هناك ما هو أشد سماجة من أن يرسل إليك أحدهم؛ عبر الواتس أب مثلًا؛ يسألك إن كنتَ في بيتكَ، كي يشرفك بزيارته الرائعة، وتتجاهله أنت لانشغالك في موعد معين، لتلتقي رفيقًا قديمًا، وهكذا تستعد لمغادرة بيتك، ها أنت تفتح الباب، وها هو السمج في وجهك يبتسم ابتسامة قبيحة، ويدخل من دون أن تدعوه حتى إلى الدخول، بل ربما يُصِرُّ على إسماعك قصص حياته ومغامراته، وأنت لا تملك ثانية واحدة لإضاعتها، ولا تنفع محاولاتك لإسكاته وإفهامه أنك مستعجل، إلا بعد ضياع وقت طويل، ثم يتكرم السمج بالمغادرة، وأنت لست له من الشاكرين!
    بعض الناس سمجون فعلًا، وأذكر من ذلك، يومًا كنتُ خارجًا فيه من عملية جراحية، وأشعر بالضيق، وزارني شخص، يريد الثواب المرجو من زيارة المريض، وجلس في الصالون يتثاءب، ثم رفع ساقيه بطريقة غريبة وتكوَّم على نفسه بطريقة أكاد أعتبرها إعجازية حتى للقطط، وغَطَّ في نومٍ عميق، وشخيره يرتفع، وأنا أنظر إليه بدهشة شديدة، قبل أن أتجه إليه وأبتدئ بمحاولات إيقاظه، وأنا أشعر بحاجتي إلى النوم أكثر منه، خاصة أني كنتُ قد تناولتُ مسكِّن الألم قبل قدومه بدقائق، وما إن استيقظ الأخ حتى انطلق يتساءل بدهشة أين هو الآن؟ وهل هو في دكانه أم لا؟ ومرت لحظات حتى استعاد وعيه وذاكرته، وعاد يؤكد لي كم أنه حريص على القيام بواجبه، قبل أن يغادر المنزل، غير مأسوف عليه!
    وسماجة السمجين لا تتوقف عند حدٍّ معين، فأيام كنا في كلية التربية، ساعدتُ زميلة لي في طباعة بحثها، ووضعته لها على الفلاش ميموري الخاصة بي، وأعطيتها إياها، على وعد مسبق منها بأن تستلمها مني وتنسخ البحث إلى جهازها، وتردَّها اليوم التالي، وظللتُ أسعى خلفها ما يقارب الأربعة أشهر، وهي لا تفكر بردِّ الأمانة، وقبل أن يسأل أحد لماذا أُتعِب نفسي معها ولا أشتري فلاش أخرى، ولتذهب السمجة وكذبها إلى جهنم، أقول له كان هذا قبل سبع سنوات كاملة، وأسعار الفلاش آنذاك كانت مرتفعة جدًا من جهة، ثم إننا كنا نعاني مشكلة توقف رواتبنا منذ شهور، وهذا نوع آخر من السماجة، أن يتم إيقاف الرواتب سبعة شهور كاملة، ولنرجع إلى الأخت وسماجتها، لقد ردت الفلاش بعد أربعة أشهر تقريبًا، حتى كدتُ أرجوها أن تتركها معها حتى تُتِمَّ عُدَّتَها: أربعة أشهر وعشرًا، لظني بأن هذه الفلاش قد تزوجت في بيت زميلتي السمجة، وسكَنَتْ هي وزوجها هناك، ثم مات المسكين، وبالتالي عُدَّة الفلاش أربعة أشهر وعشرة أيام في بيتها الزوجي!!
    والألعن من ذلك، أن الزميلة نفسها سألتني بعد أيام، إن كنتُ أستطيع طباعة بحث لها، من 82 صفحة، ووضعه لها على الفلاش، لكني رفضت، رغم محاولاتها إغرائي بالأموال التي ستدفعها، لأني علمتُ كذبها بموضوع صغير، وبالتالي ستكذب في موضوع أكبر، وحتى لو وافقَتْ على الدفع مسبقًا، فإنني سأخسر قسمًا كبيرًا من المال لشراء فلاش أخرى، وطلبتُ إليها الدفع المسبق فرفضتْ بحجة (كرامتها المجروحة) و(أمانتها التي يُشهَد لها بها)، كما عرضتُ عليها أن تشتري قرصًا مرنًا cd وكان سعره آنذاك ألف ليرة لبنانية فقط، لأنسخ لها البحث عليه، في حال تم الاتفاق على الطباعة أولًا، لكنها لم تكن مستعدة حتى لصرف ألف ليرة لشراء قرص مرن، وكيف لي أن أصدق أمانتها المزعومة هذه بدفع ما تعدني به لاحقًا، وهي التي لا تدفع حتى ثمن قرص مرن فارغ، ولمصلحتها هي؟! ثم بأي عين تطلب الفلاش بعد أن حبستها أربعة شهور، وربما لولا احتياجها إلى بحث آخر، لظلت الفلاش عندها وما رأيتُها بعد ذلك.
    والأمر لا يتعلق عندي بقيمة هذه الفلاش ماديًا أيامها، رغم ما كنا فيه من الضنك الشديد، ولكنها الأمانة التي لا أتحمل أن يتلاعب بها أحد، ولكن سماجة الأخت لم تكن لتقف عند حد معين!
    وقريبًا من ذلك، سماجة أخرى أفقدتني خط هاتف مميَّز، ولا يعني هذا أنني أسعى لشراء هذه الخطوط، ولكني اشتريتُ خطًا عاديًا، كأي شخص آخر، ورأيته متقارب الأرقام، بطريقة يسهل حفظها، ولكن سماجة بعض الناس قد تحولهم صمًا وعميانًا حينما يريدون ذلك.
    فأحد الإخوة كان يعلم بأن عندي معرفة بسيطة بتأويل المنامات، وهي فعلًا معرفة بسيطة، وأعطى رقمي لشخص من ضيعتنا كان يريد الاستفسار عن منام معين، وهذا الشخص صديق عزيز لي ولستُ أقصده هنا بما أقول نهائيًا، ولكني قصدتُ أمرًا آخر، فالأخ نفسه أعطى رقمي لشخص آخر، وهكذا، كنتُ متجهًا ذات يوم إلى ثانويتي في العاصمة، منطلقًا من الصباح الباكر مع انتهاء أذان الفجر تقريبًا، ولم يمضِ الكثير من الوقت حتى انطلق رنين الهاتف بمحادثات من رقم لا أعرفه، وأعتقد أنني؛ على سرعتي في القراءة؛ استغرقت الكثير من الوقت لأستوعب ما تم إرساله إليَّ آنذاك، والمرسِل؛ ما شاء الله حوله؛ أرسل بالسلام أولًا، وبمدح شخصي المتواضع ثانيًا، وكأنه يعرفني منذ سنوات عديدة، ثم ذكر لي اسمه، وبعدها كانت الكارثة، ما يقارب العشرة منامات، منها ما رآه الليلة، ومنها ما رآه قبل ليلتين أو ثلاث، ومنها ما رآه من سنوات قليلة، ومنها _ ولا مزاح فيما أقول_ ما رآه حينما كان في السابعة من عمره، وذكره بعد حوالي أربعين سنة!
    والأشد سوءًا من هذا الأمر وذاك، أنني أخطأتُ حينما لم أنقل رقمه إلى قائمة الحظر، وفكرتُ أن أردَّ عليه، فلقد وصلتُ إلى العاصمة حوالي الساعة السابعة وعشر دقائق، ولم ننتهِ بعد من نقاش المنام الأول، إذ انطلق في عشرات الأسئلة، وكلها تصب في حياته الشخصية والعائلية، وكأن أمامي كرة زجاجية مدورة أضغط عليها فتنساب المعلومات أمامي، وما أدراني أنا بما فعلته ابنته حينما كان عمرها ثلاث سنوات، أو ابنه؛ في المدرسة؛ منذ خمسة أعوام؟! والمصيبة أنه لم يعد يفهم ذلك، حتى أرسلت إليه أن وقت العمل قد حان، وأغلقت هاتفي، وبعد انتهاء الدوام فتحتُ الهاتف لأرى عشرات الرسائل التي يروي لي فيها قصة حياته، وحياة ابنه، وحياة ابنته، وحياة امرأته من قبل أن يخطبها حتى خطبها حتى تزوج بها، حتى أنجبت، حتى أنني قلتُ الحمد لله أنها لم تمت على ما يبدو، وإلا لأخبرني كيف ماتت، وكيف دفنوها، وربما أين المدفن، وكم دمعة ذرفها النساء في مأتمها وعزائها!
    وقد قمتُ أنا بعملية الدفن هذه، أي أنني دفنتُ هذا التهريج، خاصة وأن كل جزء يرويه لي يطرح فيه عددًا لا يُحصَى من الأسئلة ليربطه بالمنام الرائع الذي رآه، وبالمنام الثاني، والثالث، والعاشر، وحينما ختم رسائله بإخباري أنه قد أعطى رقمي لبعض من يعرف، نقلتُ رقمه هنا إلى قائمة الحظر، لأدفن سماجته بعيدًا عني، ثم؛ ومع وصول رسائل أخرى؛ يطلب أصحابها تفسير منامات، قمتُ بإحراق خطي الهاتفي، وشراء خط آخر، هذا؛ وقد سبق وأن أعلنتُ أني لن أفسر لأحد، ولكن أحدًا لم يستجب، وظل الكل يطلب، فأحرقتُ الخط بعد أن تحول إلى مصدر إزعاج شديد لي آنذاك.
    غير أن الأمر لم يتوقف هنا، فشخص آخر من معارفي عاد يفتح هذا الباب عليَّ بعد أن أغلقته، ولا أعلم إن كان سينفع إحراق الخط هذه المرة أم لا، فهذا الشخص عزيز عليَّ، ولو أني أحرقتُ خطي واشتريتُ آخر، فربما تنفصم صداقتنا إن لم أعطه الرقم، وبكل الأحوال، هذا الشخص ليس سمجًا، بل هو لطيف ودود، ولكنه فتح الباب أمام شخص لم أجد من هو أشد سماجة منه بعد، هذا الشخص السمج أرسل إلى رفيقي مرة يسأله تفسير منام، ولا أعلم لماذا لم يخبره أنه لا يجيد التفسير، واجتهد له في تفسير نال إعجابه، ومن وقتها يرسل هذا الشخص بمناماته، ويحولها رفيقي إليَّ أنا، وأردُّ أنا باقتضاب شديد أو لا أرد نهائيًا إلا بكلمة "تخبيص، لا معنى له"، ولكن كل هذا لم يكفِ لإيقاف السماجة، فالأخ قد يستسهل الأمور، ويرسل مناماته بتسجيلات صوتية، تصلني كلها، وكلها تدل على خراب البيوت والمصائب، وحينما يكون ردنا باقتضاب شديد، فإنه يأخذ بأي نقطة يفهمها ليفتح من خلالها تحقيقًا، عبر أسئلة عن نفسه هو، وعن دعوى له في المحكمة، وعن خلاف مع شقيقه، وعن أولاده، ما قد لا يعلمه القاضي أو حتى محاميه الشخصي، وأشك أن شقيقه نفسه يستطيع الإجابة، بل أشك أن أولاده يعرفون عن أنفسهم ما يفترضه هو برفيقي أن يعرفه، وحين لا نفسر له، يضع هو فرضيات عديدة، عبر أسئلة لا تنتهي ويرسلها إلينا، ولكنه لا يصل إلى نتيجة أكثر من الرد السابق: "تخبيص"، ومع هذا لا ييأس ولا يتردد في إرسال مناماته التي يراها، لفرط سماجته.
    ولطالما قلتُ لرفيقي ألا يحول إليَّ سماجة هذا الأخ ولا فائدة، لكني؛ في النهاية؛ أقدِّم راحتي عن أي أمر آخر، وإذا ما اقتضى الأمر أن أحرق خطي الهاتفي هذا، وآتي بآخر، لا أعطي رقمه إلى أحد، إلا في مجال عملي، فإنني سأفعل ذلك، فأنا أفهم الهاتف على أنه سؤال الرفاق عن الحال، وعلى أنه عمل، ولا أتقبل فكرة استخدامه في الهراء طيلة الوقت، ولا حتى ثانية واحدة من الوقت، بل إنني، أضع في قائمة الحظر، من يرسل إليَّ، حتى لو بالترحيب، فأسأله من يكون، ويردُّ: "ما عرفتني"؟ عندها أتعرفه على أنه شخص سمج مزعج حقه الحظر، كي لا يرسِل مرة أخرى، فكيف سيكون الحال إن رأيتُ الهاتف سيتحول مصدر إزعاج؟
    بعض الناس سمجون، وأنا عن نفسي تعاملتُ مع أحد هؤلاء السمجين مرة، حين زارني ذات أمسية؛ في رمضان؛ منذ سنوات، وظل جالسًا رغم أنه قد رآني تعبتُ، وأنني على وشك دخول عالم النوم، ومع هذا ظل يلعب باللابتوب الخاص به من دون أدنى مبالاة، حتى غفوتُ رغمًا عني، وإذ أفقتُ قرب السحور، كان الأخ ما يزال جالسًا يضغط أزرار اللابتوب! ومن بعد ذلك كان يرسِل إليَّ أنه قادم كي يزورني، فلا أردُّ له نهائيًا، ثم أسمع صوت دق الباب بعد دقائق، ويبتدئ هاتفي بالرنين حاملًا إليَّ رقمه، ثم هاتفي العادي، ثم يعود إلى الإرسال ليخبرني أنه على الباب (يا لفرحتي الغامرة)! ويعود إلى الدق والرنين، حتى يتعب وينصرف، من دون أن أفكر لحظة واحدة بفتح الباب له، فالبيوت لها حرمتها، وأشد الناس حمقًا من ينتهك ذلك، وإن كان سمجًا، فإنني أستطيع أن أرد له بمثل ذلك، وهكذا؛ بعد أن أنام وأستيقظ قرب الفجر؛ أرد له قائلًا، محاولًا تقليد سماجته: "عن جد؟ أنت برا الباب؟ أنا قمت فتحت الباب هلأ، بس ما لقيت حدا"! وينفجر الأخ كالبركان، مؤكدًا أنه أرسل إليَّ منذ ست ساعات، فكيف أفتح له الباب الآن؟! وفي اليوم التالي يكرر فعلته، ولا يحصل على نتيجة مغايرة لما حصل عليه من قبل، فيبقى واقفًا يدق ويرن الباب، ويتصل على هاتفي المحمول والعادي، ثم ينصرف بسماجته خائبًا، ومرة أخرى، ثم ثالثة:"عن جد؟ أنت برا الباب؟ أنا قمت فتحت الباب هلأ، بس ما لقيت حدا"! حتى لم أعد أرى وجهه السعيد، والحمد لله تعالى على هذا!
    وأختم بقصة شخص سمج آخر، كان هذا الشخص من فئة الطفيليين لكن مع بعض التطوير، فالطفيلي أينما رأى طعامًا انضم إلى الناس ليأكل، من دون أن يدعوه أحد، أما هذا الفتى، فكلما رأى شخصًا ماشيًا وحده، أو مع غيره، و(شكَّ أنه ذاهب ليأكل)، انضم هو إلى (القافلة)، ولا يبالي لو سمع كلمات التأفف، أو العتاب، على غرار: "من دعاك"؟ فإنه يجيب بضحكة سمجة، ولا يستحي على دمه، وقد حاول إحراجنا ذات مرة كي يأكل على حسابنا، فكان أن رددتُ له الصاع صاعين، ولقنته درسًا لا ينساه طيلة حياته بإذن الله.
    وقبل قصة الطعام هذه، أذكر مرة أني كنت عائدًا إلى البيت بعد شراء بعض الأغراض لوالدتي (رحمها الله)، وإذ به ينضم إليَّ، وقد رأى الأكياس، ثم أخذ يحدثني عن فتاة يحبها، ويؤكد لي أنها تحبه و(تموت فيه)، وتبكي ليل نهار لأن أهلها أجبروها على قبول خطبة شاب لا تحبه رغم أمواله الطائلة، لأنها تحب رفيقي متوسط الحالة المادية لأخلاقه الرفيعة التي يشهد له بها الجميع! (ولا أعلم أي "جميع هؤلاء" الذين شهدوا له بها)!! وهنا؛ كالحلم؛ مرت تلك الفتاة بسيارتها بجوارنا، ثم توقفت لتوقف سيارة أمامها، وركض السمج ليدخل رأسه بنافذة سيارتها حتى كاد وجهه يلاصق أنفها، مبتسمًا ابتسامة بغيضة، فَمَدَّت هي يدها ترفع زجاج النافذة، حتى كادت تقطع به عنق هذا الأحمق، وأسرعت أنا بسحبه وجذبه إلى الخلف، ولم تصدق الفتاة أن السيارة التي أمامها قد انطلقت، حتى ضغطت دواسة البنزين عن آخرها، ومع ذلك، هتف رفيقي منبهرًا: "أرأيتَ كم تحبني"؟! فقلتُ له: "نعم، إلى حد قطع عنقك من مكانه لو أتيح لها، يا للحب العظيم النادر الرائع بينكما"! فتركني وقتها؛ والحمد لله؛ وهو يتمتم بكلمات لم أفهمها، لكني توقعتها نوعًا من السباب، ربما لي، وربما لنفسه، وربما للفتاة، لكن؛ المهم أنه تركني ومضى!
    وإلى أمسية العشاء، فإنها لم تكن مصادفة هكذا، بل سبقها قبل يومين حادثة بسيطة، تتمثل في أنني كنتُ ماشيًا مع أحد أصدقائي، وإذ بالأخ السمج ينضم إلينا من دون دعوة كعادته، وأخذ يلقي نكاتًا سخيفة وينفجر بالضحك ويلوح بيديه بطريقة مقززة فعلًا، وإذ وصلنا قرب مكان مليئ بالحشائش والأعشاب والأشواك، ادعى صديقي أنه يريد قضاء حاجته، فهتف السمج متحمسًا: (وأنا كذلك)، وهكذا انطلق صديقي بسرعة كبيرة، يلحق به السمج، لأنطلق أنا بدوري مبتعدًا عن المنطقة كلها بأقصى سرعة لي، ولحق بي صديقي بعد أن نجح في تضليل السمج وتركه وحيدًا وسط الأشواك!
    وفي الأمسية التالية مباشرة، كنت مع هذا الصديق نفسه، وإذ بالسمج نفسه يبرز لنا، وما كاد يرانا حتى اتجه نحونا بوجه محتقن، فما كان مني إلا أن صرخت في وجهه معاتبًا إياه على (المقلب) الذي تسبب لنا به، وكيف أننا انتظرناه حتى تكسرت سيقاننا المسكينة، والسمج لا يعرف كيف يرد... وربما أراد الرد فعلًا، لولا أنني تابعت قائلًا بشماتة: (لقد ذهبت أنا وصديقي هذا وتعشينا معًا... لولا ثقلة دمك لتعشيتَ معنا)! وأعتقد أن حبل المشنقة كان أهون على رفيقنا السمج من ذِكر العشاء الذي لم يشارك به!!

    وفي الأمسية الثالثة، كنت مع صديق لي أعرف حالته المادية الصعبة أيامها، وسألني بكل أدب إن كنتُ أستطيع دعوته إلى سندويشة يأكلها (أتكلم عن أيام كان سعر السندويشة فيها ألف ليرة لبنانية)، ولم يكن معي سوى ثلاثة آلاف ليرة (الحيلة والفتيلة)، ولكن؛ قبل أن أرد عليه؛ انشقت الأرض بغتة عن هذا السمج، ليمسك بذراع صديقي قائلًا إنه يدعوه إلى العشاء، وسار صديقي معه متحمسًا، فلحقتُ بهما، وأنا أدرك أنه يقوده إلى مقلب سمج للغاية، وكيف يدعو أحدًا إلى العشاء، وهو المتطفل على الآخرين؟!
    وهكذا جلستُ معهما، لكني لم أطلب لنفسي طعامًا، بل أردتُ أن أحفظ ماء وجه رفيقي، ولذا؛ مع طلبهما السندويش، سألهما صاحب المحل إن كانا يريدان العصير، فطلبتُ لهما عصير الأناناس من دون أن أسألهما رأيهما! وذلك كي لا أقع في أي عجز مادي يحرجني، في حال طلبا تنك بيبسي (التنكة=العلبة المعدنية، لغير اللبنانيين)، ومع انتهائهما من الطعام، إذ بالسمج يطلب من رفيقي أن يدفع الحساب، لأنه كان يمزح معه حينما قال له إنه يدعوه إلى الطعام! وجن جنون رفيقي وكاد يتسبب بفضيحة لولا أن طلبتُ إليه أن يسكت، ودفعتُ المبلغ الذي معي، لأنصرف خالي الجيب تمامًا، وصديقي يلحق بي معترضًا أن هذا ضعف مني، لكني أفهمته أني حفظت ماء وجهه لا أكثر، وأن الأيام قادمة، وهذا السمج فقد الحياء نهائيًا، ولا بد له من اللحاق بنا كي يأكل مرة أخرى.
    وقد كان ذلك، كنتُ وصديقي هذا نتمشى معًا مساء، وإذ بنا نسمع الهتاف من خلفنا كي ننتظر، وإذ بهذا السمج الأحمق نفسه، فطلبتُ إلى صديقي تجاهله، واتجهت به نحو فرن تعودنا الأكل عند صاحبه، وطلبنا؛ وفق إمكانياتي؛ منقوشة بجبنة لكل منا، وزجاجة عصير، أي ما مجموعه ثلاثة آلاف ليرة، ودخل السمج خلفنا، وتناول تنكة بيبسي، وأفرغها في جوفه كالهمج، وطلب بيتزا كبيرة، ثم أفرغ تنكة بيبسي أخرى في جوفه، وفتح الثالثة ووضعها أمامه على الطاولة، أي أنه؛ في هذه الحالة؛ سيأكل وحده بأكثر من ثلاثة أضعاف ما سآكله أنا ورفيقي مع بعضنا، ولكم أسعدني هذا!
    ووضع صاحب الفرن طلباتنا أمامنا، أنا ورفيقي على طاولة، والسمج وحده على طاولة، وكاد صاحب الفرن ينصرف ليحضر بعض الأغراض، لكني أصررتُ على الدفع المسبق، مما أغضبه مني وقتها، لأننا كنا أصدقاء أكثر من زبائن نتعامل مع صاحب فرن، وظللتُ مصرًا على ما أريد، والسمج ينظر إليَّ ويبتسم ويضحك، وهنا سألني صاحب الفرن سؤاله المعتاد: "ماذا أخذتم"؟ فأجبته ببساطة: "كما ترى أمامك على الطاولة، أنا ورفيقي هذا نجلس أمامك، فكم حسابنا"؟ وعلى الفور، وما إن نطق الرقم 3000 حتى أخرجت المال له من جيبي وأعطيته إياه، والسمج ينظر إلينا كمن أصيب بالصاعقة، وصديقي يهتف بصاحب الفرن: "يجب أن يحاسِب الكل قبل مغادرتك"، وأخرج السمج مبلغ 10000 من جيبه، وعيناه تدمعان، ثم استدار إلى البيتزا ليلقيها في النفايات مع تنكة البيبسي، مدعيًا أنه يشعر بقرف شديد، وبأنه على وشك الاستفراغ، ثم تناول علبة الكاتشاب، وأخذ يفرغها في جوفه، حتى كاد رفيقي الذي يأكل معي يتقيأ من هذا المنظر! ولكم شعرتُ بالسعادة إذ وجهتُ إلى هذا السمج هذا الدرس القاسي، لعله يتعلم ويتربى، وإن لم يتعلم أو يكن مستعدًا ليتربى فهذا شأنه، ولكن يهمني بحق أن رددت له ما فعله برفيقي، ولقنته درسًا يناسب حقارة فعلته ودناءة نفسه.
    بعض الناس سمجون فعلًا، لكني؛ رغم كل ما قلتُه عنهم؛ أعتقد أنهم يستحقون جائزة كبيرة، لأن الإنسان إذ يصل بنفسه إلى هذا المستوى من دون أن يبالي بذلك، فإنه قد فقد الإحساس والأخلاق العامة كلها، وبالتالي فإنني أطالب المجتمع الدولي بإضافة جائزة نوبل لأصحاب الدماء الثقيلة، وبإنشاء رابطة موحدة تجمعهم عبر العالَم، ليتعلموا من سماجة بعضهم، تمامًا كما كان يجتمع البخلاء في زمن الجاحظ ليتعلموا من بعضهم!

    عمر قزيحة _ 23/1/2017
    التعديل الأخير تم بواسطة أ. عمر ; 16-10-2017 الساعة 03:52 PM

  2. 2 أعضاء شكروا أ. عمر على هذا الموضوع المفيد:


  3. #2

    الصورة الرمزية Jomoon

    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المـشـــاركــات
    5,622
    الــــدولــــــــة
    لا يوجد
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    Thumbs up رد: السماجة مقالة بقلمي أ. عمر

    السلامـ عليكمـ ورحمة الله وبركاته~

    ما شاء الله تبارك الرحمن
    أسلوب جميل فعلاً في السرد
    على طوله إلا أني لم أتمالك نفسي إلا أن قرأته كله دفعة واحدة
    حقيقة هذا الأمر عجيب
    وضعت نفسي مكانك لأرى قوة تحملي
    أظن أني لا احتمل هذا النوع بتاتاً
    بل أني لمحت صبرك فعلاً
    ما شاء الله
    أني انظر نظرة شفقة استغفر ربي من ذلك
    لكن تمنيت لو تغير هذا الشخص
    لو أدرك أو أتته يقظة من حيث لا يحتسب
    أن تكون لئيماً ليس بالهين
    استغفرالله
    أما من فعلت ذلك ولم ترد لك الفلاش
    عجبت للأمر
    أمازال هناك مثل ذلك الصنف؟!،
    مابالي يبدو أني بعيدة جداً عن العالم
    أو أصبحت بعيدة بمزاجي
    هذه الحركات لا تعجب أبداً
    وذكرتني بموقف ليس جيداً والمفروض لا يذكر
    في مخالطة الناس ترى العجب
    أعانكمـ ربي،
    سعدت بهذا الموضوع فلقد بدى طريفاً بالنسبة لي
    ولو لم يكن طريفاً بالنسبة لك
    فمن عايش هذا المواقف لابد أن تكون صعبة عليه
    ربي اهدنا لما فيه خير واغفر لنا تجاوزنا
    أحسنت باركك ربي،
    وفي حفظ المولى،،
    ~

  4. #3


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,304
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: السماجة مقالة بقلمي أ. عمر

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    رأيكم يشرفنا أختي الكريمة بارك الله بكم
    نعم أختي ليس من الأمور الهينة أن يكون المرء لئيمًا، ولكن بعضهم يفقد الحياء أحيانًا، والله المستعان
    أما التي لم ترد الفلاش في وقتها فهي لم تكتفِ بذلك، بل لم تدفع ثمن طباعة البحث كذلك، ثم أتت من دون استحياء تطلب إلي طباعة بحث آخر من 82 صفحة، وأخذ الفلاش مرة أخرى!
    أسعدكم الله في الدارين، وربما بدا لي الأمر مزعجًا في البداية إلا أنني استمتعتُ به فعلًا بعد ذلك خاصة حينما أردُّ
    للسمج واللئيم بما يستحق ويكون له درسًا
    ولدعائكم الطيب نقول آمين، وجزاكم الله تعالى كل الخير بكل حرف في الدعاء.


المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...