العباقرة... مقالة بقلمي أ. عمر

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 4 من 4
  1. #1


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,304
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي العباقرة... مقالة بقلمي أ. عمر

    بسم الله الرحمن الرحيم

    للعبقرية أهلها المتميزون، وإن كنتُ؛ بعد سماعي قصص كثير منهم، وتعاملي الشخصي مع كثير منهم، أتمنى؛ أحيانًا؛ ألا أقابلهم في حياتي!
    نعم للعبقرية مكانها ومجالاتها، ولكنْ لكل شيء حدوده، فبعضهم يُصِرُّ على إبداء عبقريته هذه في ما يلزم، وما لا يلزم، من الأمور!
    ومن ذلك حادثة بسيطة حصلت منذ سنين طوال، ربما يقترب عددها من منتصف عمري الآن، كنتُ؛ آنذاك؛ في منطقة أخرى غير منطقتي، أشتري غرضًا ما، وإذ بصديق قديم لي يبرز فجأة، وما كاد الأخ يراني حتى أراد الترحيب بي بطريقة (المفاجأة)، فتسلل من خلفي ليحتضنني بغتة بقوة، كادت تمزق أوتار بطني، وجعلت الغرض الذي اشتريته؛ وهو كناية عن شريط كاسيت فيه أناشيد للأطفال، لأجل طفلة في عائلتنا، يسقط أرضًا وينكسر بيت الشريط الزجاجي، والحمد لله أن شيئًا من الزجاج لم يدخل في ساقي!
    وليت الأمر توقف هنا، فقد صرخ الأخ الرائع بحماسة شديدة: (حبيبي)! وبغض النظر عن هذه (المحبة الافتراضية) إلا أن صرخته كادت تمزق أذني، إذ إن فمه كان في أذني تمامًا، ولا أعلم لماذا لم يتحمس الأخ ليعض أذني في طريقه!!
    المصيبة أن الأخ العبقري أراد أن (يدعوني)، لأنه من المعيب في حقه أن أكون في (منطقته) ولا يدعوني لنتناول زجاجتين من البيبسي، الأمر الذي كاد يدفع بي إلى الظن أن البيبسي قد انقرض إلا من منطقة الأخ، وليت الأمر توقف هنا، فالعبقرية يجب أن تكون في أدق التفاصيل، والأخ لا يشرب البيبسي إلا محل (يثق به) كما قال! وكانت نتيجة هذه الثقة أن نسير ما يقارب ثلث ساعة حتى نصل إلى المحل (الموثوق)، وكأن البيبسي تحول إلى سندويش من اللحم، لا يجب أن نأكله إلا من محل موثوق!
    صحيح أنني شعرتُ وقتها أن صديقي هذا أحمق، في غاية الغفلة، لأنه يريد أن يشرب البيبسي من محل موثوق، لكنني أدركتُ؛ لاحقًا؛ أن هذا النوع من العبقريات ليس مقتصرًا عليه وحده، فبعد ذلك بحوالي ثماني سنوات، وفي أحد أعوامنا الدراسية، وبعد انتهاء العام الدراسي للتلاميذ، كنا في المدرسة كالعادة، إذ إن الأساتذة يداومون حوالي شهر في المدارس رغم انصراف التلاميذ، وفي إحدى تلك الأيام الميمونة، ما كدتُ أغادر المدرسة حتى التقيتُ بزميل لي، وهو أستاذ في التعاقد في المدرسة نفسها، أي أنه لا يستطيع المداومة بخلافنا نحن أساتذة الملاك، وما كاد يراني الأخ حتى هتف بي، داعيًا إياي إلى تناول زجاجة من البيبسي برفقته، وكان بمواجهة المدرسة دكان، فطلبتُ إليه أن نشربها هناك سريعًا، فما كان منه إلا أن هتف مستنكرًا: "أنا لا أشرب البيبسي من أي محل، فقط من محل أثق به"!
    شعرتُ هنا أنني أمام مقولة جديدة ستغير وجه العالم، مفادها أن (التاريخ يعيد نفسه)، خلافًا لكل ما درسناه قبل ذلك من أن (التاريخ لا يعيد نفسه)، ولعل رفيقي فوجئ بلهجتي المتهكمة، إذ أسأله: "وهل يجب أن نمشي ثلث ساعة حتى نصل إلى هذا المحل العالمي"؟
    ولكن، لا، لم يُعِد التاريخ نفسه حرفيًا هنا، فزميلي كان لديه سيارته والحمد لله، وهكذا انطلقنا بها إلى المحل الثقة هذا، ليطلب الأخ زجاجتي بيبسي، فناولنا إياهما صاحب المحل، أردتُ أن أدفع، لكن زميلي أسرع بالمبادرة فدفع قبلي، مناولًا صاحب المحل مبلغ خمسة آلاف ليرة لبنانية، ليفاجأ بصاحب المحل يرد إليه ألف ليرة فقط!
    وشعر زميلي بالصاعقة! فسعر زجاجة البيبسي آنذاك كان 250 ليرة لبنانية، إلا في المطاعم كان سعرها 500 ليرة، وهذا محل عادي لا مطعم، أي أنه يحتسب زجاجة البيبسي الواحدة بثمانية أضعاف سعرها، وجمد المسكين مكانه لا يدري ما يقول، وتجرأت أنا لأطالب بحقه، فهتفت بصاحب المحل: "كم سعر زجاجة البيبسي"؟!
    رد الرجل ببرودة أعصاب: "سعر الزجاجة ألف، وهاتان زجاجتان، أي ألفا ليرة، وتأمين كل زجاجة ألف، وهاتان زجاجتان، أي ألفا ليرة، وألفا ليرة زائد ألفي ليـ..."
    قاطعته محاولًا محاكاة أسلوبه: "شكرًا لدرس الحساب هذا، لكن أي تأمين هذا؟ نحن نشرب في المحل"!
    رد الرجل باللهجة ذاتها، وكأنه شخص آلي يتكلم: "ماذا لو وقعت زجاجة وانكسرت؟ وماذا؟"...
    قاطعته قبل أن يبكي على زجاجاته التي ستنكسر: "لا تحمل همًا، لن نشرب عندك شيئًا، سنعيدهما إليك".
    ولكن رفيقي العبقري لم يستطع السكوت هنا، فصاح معترضًا: "لا، من قال ذلك، سنشرب".
    وأسرع يتناول فتاحة الزجاجات من يد صاحب المحل ليفتح زجاجته ويفرغ نصفها في جوفه دفعة واحدة، فسألته عن سبب فعلته، مع أننا أمام حالة نصب واضحة، أن يتم بيع الزجاجة بأربعة أضعافها، فكان رَدُّه أنه من (العيب) أن يدعوني، ثم لا نشرب! ولم يعد يفهم أنه من الممكن أن نتمَّ الدعوة في أي محل آخر، أو أنه فهم، ولكن عبقريته منعته من التنفيذ!
    ولنترك البيبسي وعبقريات بعض الأصدقاء في شربه جانبًا، لننتقل إلى موضوع يسيطر على تفكير الكثير من الناس، موضوع المنامات، وماذا رأى كل واحد في منامه، وما تفسير ذلك، وهل يحمل إليه الخير أم الشر.
    هذا الاهتمام لا ننكره، ولكن حين يمزجه بعضهم بعبقريته الفذة، فتلك مصيبة ما بعدها من مصيبة، وأذكر أنني في أحد الأعوام، كنت عائدًا من مدرستي، بعد إصابتي بنوبة ميغران حادة آنذاك (الميغران = الصداع النصفي)، كادت تفقدني وعيي، واضطرت بي إلى التزام الراحة طيلة وقت الفسحة وجزء من الحصة الرابعة، ولم أعرف كيف تمكنت من متابعة التدريس ذلك اليوم، وها أنذا عائد إلى بيتي، ها أنذا أصل إليه، ها هو ذا! ليس بيتي طبعًا، بل صديق عزيز، وهو تلميذ في المرحلة الثانوية، شعرتُ كأنه قد نَبَتَ فجأة أمامي، ليخبرني متحمسًا أنه يريد أن يسألني عن منام (مهم جدًا جدًا جدًا) قد رآه، ويتعلق بمستقبله كما وصفه، حاولت أن أخبره بأنني مستعجل، وكل ما أريده بضع ساعات من الراحة، ولكنه لم يمنحني لحظة واحدة، وانطلق يروي منامه الخطير الذي يتعلق بمستقبله!
    ومع سماعي هذا المنام، أدركت أنه ليس (مهمًا جدًا جدًا جدًا) كما وصفه رفيقي، بل إن الأخير (عبقري جدًا حقًا فعلًا)، فكل المنام كان عن زميلته في المدرسة، والتي يحبها وهي لا تعلم، ولا يوجد أدنى ترابط بين مفردات المنام وأحداثه ووقائعه، وانطلق الصديق يروي منامه بسرعة خيالية ولا يكاد يأخذ نفسًا للراحة، حتى شعرت بأنني لا أستطيع الوقوف، عدا عن الملل الحاد الذي أصابني، وأتحدى صاحب المنام، بل ربما أتحدى جهاز التسجيل نفسه أن يستطيع إعادة المنام بما فيه من التفاصيل والأحداث!
    فتارة الصديقة ترتدي (الأخضر)، وهو يعلم أن اللون الأخضر في المنام دلالته جيدة جدًا، وبعد ذلك ترتدي (الأبيض)، وهو يعلم أن اللون الأبيض في المنام دلالته جيدة جدًا، ثم إنها ترتدي؛ فجأة؛ (الأزرق)، وهو يعلم أن اللون الأزرق في المنام دلالته جيدة جدًا، ثم إن هذه المحبوبة (قوس قزح فيما يبدو لكثرة ألوانها) قد تحولت إلى (السبع المدهش في رحلة حول العالم)، إذ إنه رآها في الصف، وفي الملعب، وخارج المدرسة، وفي الجبل، وقرب شاطئ البحر، وفي محل تجاري، وفي منطقتنا، وفي منطقة مجاورة، و... وإذ انتهى المنام، ألقيتُ نظرة على ساعتي، لأرى أن حكاية المنام قد استغرقت حوالي خمسين دقيقة (فقط)!!
    وبما أن هذا الفتى عبقري، فإنني أردتُ أن أثبتَ له أنني لا أقل عبقرية عنه بأي حال من الأحوال، فابتسمتُ له ابتسامة عريضة، جعلته يبتسم بدوره من شدة السعادة، وبعبقريتي المدهشة فسرتُ له منامه الذي استغرق كل هذه المدة بكلمتين لا ثالث لهما، قائلًا بمنتهى الهدوء: (أضغاث أحلام)!
    كاد المسكين يقع من فرط المفاجأة، وأخذ ينظر إليَّ كأنه قد نسي الكلام، واغتنمتُ الفرصة لأدير له ظهري وأصعد الدرج إلى بيتي، فصرخ هنا في عصبية شديدة: "انتظر، انتظر، أخبرني، بعد هذا المنام، إن تقدمتُ لطلب يد زميلتي هذه، هل ستوافق"؟!
    أجبته بكل جدية، من دون أن أتوقف لحظة: "احتمال كبير، خاصة أنك بمواصفات مميزة، أبرزها أنك لا تعمل، وأنك لا تمتلك بيتًا أو حتى القدرة على استئجار بيت"!
    فتحت باب بيتي ودخلته، وصوت المسكين يصلني من الأسفل متسائلًا عن (تفسير المنام)، فخرجت إليه من الشرفة، لأقول له مبتسمًا متحمسًا: "هل تريد أن تعرف التفسير حقًا"؟
    وما كاد المسكين يجيب بالإيجاب، حتى أخبرته مجددًا بالتفسير، وأنا مستغرب فعلًا، كيف حفظ منامًا كاملًا بأحداثه وحواراته وكل تفاصيله الخلفية، ما يستغرق خمسين دقيقة تقريبًا لروايته، ونسي كلمتين فحسب! أم أن هذا من صفات العباقرة، ونحن لا نعلم!
    وبالكلام عن المنامات، الشيء بالشيء يُذكَر، فقد أخطأتُ مرة في منتدى معين، وأعلنتُ أن لي خبرة محدودة بتفسير المنامات، ففوجئتُ برسالة مباركة من إدارة المنتدى، بأن قسم تفسير المنامات تحول إلى اسمي أنا، وأنا بين أخذ ورد معهم انهمرت المنامات كالمطر، وليس هنا موضع العبقرية، بل ربما كان تصرفًا متعجلًا من الإدارة، لكن العبقرية الحقيقية تجلت في عشرات المنامات التي تصلني على الخاص، وبعضها بالعامية المحلية لدولة ما، لا أستطيع قراءة كلماتها حتى، عدا عن فهمها، وبعضها يدل على عبقرية أصحابه الفذة، وسأكتفي بمثالين اثنين، تخفيفًا من التطويل، كانت تلك رسالة خاصة بعنوان عاجل (جدًا جدًا جدًا جدًا جدًا)، حتى كدتُ أظن أننا سنشهد زلزالًا مدمرًا مثلًا يُفني البشرية، أو أن أحدًا ما يدعوني لاستلام وزارة معينة!
    فتحتُ الرسالة، لأرى أنها منام من سيدة ترسله إليَّ، طالبة التفسير بسرعة قصوى لأهمية وخطورة المنام، وذلك لأنها لا تنام من شدة رعبها، كل ذلك والمنام لم تَرَه هي، بل رآه ابنها صاحب السبع سنوات، رأى أن زوج خالته يلقي به من الطائرة، علمًا بأن ابنها لم يركب طائرة في حياته، وأن علاقته بزوج خالته ليست على ما يرام!!!!!!!!! (علامات التعجب هذه ليست من عندي أنا، بل من عند صاحبة المنام، وقد وضعت عددًا كبيرًا منها)، لم أعلم؛ إزاء هذه العبقرية؛ إلا أن أقول (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون)!!
    ومع سخافة هذا المنام، وانفعال الأم تجاه أحداثه، إلا أنه كان هينًا لينًا إزاء رسالة بعنوان (منام والدتي عاجل جدًا جدًا)، ولا أعرف ما وجوب هذه الـ(جدًا جدًا)، ولماذا لا نكتفي بـ(جدًا) واحدة لو أن المنام خطير فعلًا، ولكن لا علينا، يبدو أننا لا نقدر عبقرية العباقرة حق قدرها، فهذا المنام كان مضمونه إن والدتها رأت في المنام أنها عند جارتها، وجارتها في المنام هي جارتها في الواقع، ولكنها لا تذكر باقي التفاصيل، فهل من تفسير جزاكم الله خيرًا؟!
    نعم يا حضرة الأخت الكريمة، تفسيره أنكِ؛ والسيدة والدتكِ؛ تتميزان بعبقرية ندر مثيلها وانقطع نظيرها في الكرة الأرضية، عبقرية نقف في مواجهتها عاجزين، بل إننا لا نستطيع حتى مواجهتها، لما فيها من الذكاء والدهاء!

    وكل عبقرية قد تهون، إلا عبقرية الشعر والشعراء، ولا أقصد كل الشعراء بالتأكيد، فأنا شخصيًا أنظم الشعر، ولكني أتحدث عن رديء الشعر، الذي يُصِرُّ صاحبه على أن يُسْمِعَه كل الناس، وأذكر هنا أننا كنا في احتفال معين، ونحن صغار، وبعد كلمة فلان، وكلمة فلان، وكلمة فلان، انبرى مقدم الحفل يصيح بحماسة، ووجهه يحتقن انفعالًا، أننا سنسمع شعرًا من الشاعر الفلاني، الشاعر المتألق المبدع الفنان الراقي الكبير الـ....
    ولكن مقدم الحفل نسي الصفة الأبرز هنا، صفة الشاعر العبقري، فمن دون أدنى مزاح، تقدم الشاعر الرائع حاملًا ديوانًا شعريًا من تأليفه، يبدو أنه لم يستطع بيع النسخ التي طبعها، وانطلق يقرأ لنا قصيدة تلو الأخرى!
    وبعد مرور وقت طويل، أتى مقدم الحفل ليهمس في أذن الشاعر العبقري ببضع كلمات، وما كاد الرجل يبتعد، حتى نظر إلينا الشاعر قائلًا بوجه محمَّر من الانفعال: "أنا آسف جدًا"!
    شعرنا بالسعادة لأن الذوق هبط على رأس الشاعر، ولكننا ظلمناه فعلًا، فما كان للعبقرية أن تنتهي هنا، إذ تابع الشاعر بلهجة آسفة: "لأن وقت الحفل لن يسمح لي بأن أجعلكم تسمعون، بل تستمتعون بكل القصائد الرائعة التي ألفتُها، لذا سأكتفي بنماذج محدودة منها".
    وقبل أن يتسع الوقت لنا لفهم ما قال، انطلق يتابع غناء أشعاره، ولم تسمح له عبقريته بأن يصدق أن صافرات الاستهجان التي تنطلق من أفواه الحضور، يُقصد بها أن يتوقف عن أشعاره!
    وما زلنا نتحدث عن الشعر والشعراء، وكانت هذه الحادثة منذ سنين قليلة، آنذاك كنتُ في زيارة صديق عزيز لي في طرابلس، وذهبنا نصلي في مصلى قريب من بيته، على أن نرجع بعد الصلاة لنتناول الغداء في منزله.
    هذا كان قرارنا آنذاك، ولكن (عبقريًا) كان في انتظارنا بعد الصلاة، هذا العبقري كنتُ قد التقيتُ به في كلية معينة قبل سنوات، وكان كل منا في اختصاص، ولم أره إلا لمامًا، ولم أعرف كيف تذكرني! ولكنه أخبرنا بأنه قد بات شاعرًا، ولكنه لا ينشر أشعاره لأنه لا يثق في الذائقة الأدبية للناس، وبالتالي (يا ضياع شعره الثمين في الجهلة)، ولكن الأخ يعرف أنني من أبرع الناس في اللغة العربية، وبالتالي سأقدر أشعاره الرائعة!
    وهذا الكلام كان نفاقًا واضحًا، إذ لم أكن قد بلغت في تلك المرحلة ما بلغته الآن من التمكن في اللغة العربية، بل إنني؛ الآن؛ أرى نفسي أنني لم أحظ سوى بجزء بسيط يسير من اللغة العربية، وما زلتُ أبحث عن المزيد من العلم والمعرفة، ولكن الشاعر العبقري ظن أنه سينال رضانا بنفاقه، ولكن ليس هذا مكمن العبقرية على الإطلاق.
    فالشاعر انطلق في أشعار لا حصر لها، وهو يلوح بيديه وينفعل، وأحيانًا ينزل ريقه من فمه، فيمسحه بيده ويتابع، حتى لفت الأنظار إلينا، وأعتقد أن الكثيرين ظنوا أنه يصرخ في وجوهنا شارحًا لنا مشكلته التي لا يجد لها حلًا!
    وأمام هذه العبقرية نسينا الذوق بما فيه، وانطلقنا في طريقنا، فلحق بنا العبقري متابعًا إلقاء الأشعار! خرجنا من المسجد ومشينا في الطريق ووصلنا بناية رفيقي ثم دخلناها وتوجهنا إلى المصعد وطلبناه، ثم فتحنا بابه ودخلنا، فتفتق ذهن العبقري عن فكرة تدل على مدى قلة الذو... أقصد على مدى العبقرية النادرة، إذ أمسك بباب المصعد ليتابع إنشاد الأشعار!!
    وأعتقد أنه لو لم يختنق هذا الشاعر أخيرًا، والحمد لله على هذا، ليخفت صوته لحظة لما تمكنا من الخلاص منه، إذ هتف به رفيقي هنا محاولًا إنهاء هذه المسخرة: "تفضل معنا للغداء"، ولكني رأيتُ أن هذا لن ينهي المسخرة، فالشاعر استرجع أنفاسه، ويبدو أنه سيتابع أشعاره، فهتفت به متحمسًا: "لقد نظمتُ قصيدة، فهل تحب أن تسمعـ..." واختفى الشاعر هنا، والحمد لله تعالى!


    ونكتفي بهذا القَدْر، فلن يسعفنا الوقت للمتابعة،
    فإلى اللقاء في الجزء الثاني، بإذن الله عزَّ وجلَّ


    عمر رياض قزيحة:
    29/10/2017: الساعة: 8:25 ليلًا.





    التعديل الأخير تم بواسطة أ. عمر ; 13-6-2018 الساعة 09:48 PM

  2. 3 أعضاء شكروا أ. عمر على هذا الموضوع المفيد:


  3. #2


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,304
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: العباقرة... مقالة بقلمي أ. عمر


    العباقرة _ الجزء الثاني

    وما زال العباقرة يتسللون إلى حياتنا ليزيدوها روعة وجمالًا، وكل العبقريات قد نستطيع أن نغفرها ونتناساها إلا عبقرية الأطباء التي يتحفنا بها بعض هؤلاء، ومن ذلك طبيب قرر؛ بغتة؛ أن يعطي كل مرضاه أدوية أعصاب، بغض النظر عن مضمون مرضهم، وذلك لأصحاب المرض الحقيقي منهم، أما من يَشُكُّ هو أنه ليس مريضًا فإنه يعطيه بعض الفيتامينات ويخبر أهله بأن ابنهم يتوهم نفسه مريضًا، وهذه براعة طبية لا شكَّ فيها، لولا أن إحدى تلك الحالات، وهي لصديق عزيز، تم نقلها إلى المستشفى ليتبين أنه يعاني التهابات حادة في الأمعاء، ما يدلنا على عبقرية هذا الطبيب النادرة، إلا إن كان التهاب الأمعاء من أعراض (توهم المرض)!
    ولا أدري أيها الأخف وطأة وأيها الأشد في عبقرياته، إذ أتاه شخص يعاني حساسية حادة، فوصف له دواء للأعصاب، وكان ذلك في رمضان، واضطر الأخ إلى تناول حبة من الدواء قبيل العشاء، وإذ شعر بأنه يكاد يغفو قرر أن يأخذ حمامًا لعل جسمه ينشط، فكانت النتيجة أنه انهار أرضًا لا يعي على شيء في الدنيا كلها، وكان ذلك ليلة الخميس، وإذ أفاق بعد ذلك فوجئ بصوت الخطيب ينبعث من المسجد، بخطبة الجمعة! ولا أعرف لماذا لم يقدر هذا الشاب عبقرية الطبيب، بل انطلق إلى عيادته يسب ويلعن ويولول فوق رأس الأخير!
    ولكن، لعل هذا الموقف كان خيرًا، لأنه حمل إلينا من عبقريات الطبيب بريقًا جديدًا، فالطبيب أخبر المريض ببرودة أعصاب نادرة، إن الدواء يجعله ينام قليلًا، أو كثيرًا، بحسب إرهاق جسمه وما بذله من جهد سابقًا، وهل انكسر عليه نوم أم لا! والحمد لله أن المريض لم يأخذ بخناق الطبيب، ولكنه _ أصلحه الله _ أخذ يلقي بأسئلة سخيفة، على غرار: "ماذا لو أخذت حبة الدواء وأنا أهمُّ بالاستحمام؟ هل كنت سأفقد وعيي حتى أغرق في بانيو الحمام؟ بل ماذا لو أخذتها مع الماء قبل أن نصلي المغرب في المسجد؟ هل كنت سأنهار أرضًا حتى يظن المصلون أنني قد قضيت نحبي؟ بل ماذا لو كنت أفطر خارج بيتي وأخذتها مع الإفطار، هل كنت سأنهار في المطعم أرضًا حتى يظن الناس أن طعام المطعم مسموم"؟
    بالفعل هذه اعتراضات لا محل لها من الإعراب، وقد كان عليه أن يقدر العبقريات الفذة النادرة عند هذا الطبيب، تلك العبقريات الطبية التي لا تتوقف عند حد، ومنها؛ مثالًا لا حصرًا؛ عبقرية حدثوني عنها مرة، عن رجل ابتُلِي بانفلات الريح، فزار طبيب صحة عامة يشرح له وضعه، فأخبره الأخير بأن عليه أن يتوضأ في وقت كل صلاة ويصلي ما شاء، حتى يؤذن المؤذن لوقت الصلاة الثاني، فيتوضأ ويصلي ما يشاء، حتى يؤذن... وقاطع المريض طبيبه العبقري، لأن إمام المسجد أخبره بهذه المعلومات، فسأله الطبيب مستنكرًا عن سبب قدومه إليه إذًا! يا للعبقرية! وبكل الأحوال تجلت العبقرية أروع وأجمل بأن الطبيب لم يصف أي علاج للمريض، وطلب إليه أن يدفع ثمن المعاينة الطبية عند سكرتيرته!
    ولا تتوقف العبقرية؛ كما نرى؛ عند مجال واحد، فذات يوم دخلت دكان رفيق لي، وإذ بأحد الشباب المتزوجين حديثًا يحكي لصغار السن من الشباب، كيف أنه سعيد بزواجه، وإذ يطلب من امرأته كباية شاي فإنها تحضرها له، وقبل أن ينهيها يطلب إليها فنجان قهوة، فتسرع لإعداده، وقبل أن يستمتع بكل الرشفات، يطلب إليها أن تأتيه بكوب كبير من النسكافيه، فتسرع لإحضاره، ما دفعنا إلى سؤاله هل يظن نفسه مصرف المياه في المجلى مثلًا؟! ليتحمس الأخ أكثر وأكثر ويخبرنا بأنه يطلب من امرأته أن يراها بلباس أحمر فتفعل، ويطلب إليها أن يراها، بعد ذلك بثلاث دقائق؛ بلباس أزرق فتفعل، ويطلب إليها أن يراها؛ بعد ذلك بدقيقة ونصف؛ بلباس بنفسجي فتفعل!
    (يبدو أننا أمام قوس قزح جديد، مثل ما كان لدينا في الجزء الأول من مسلسل العباقرة، بل إن امرأة هذا الأخ تتحرك بسرعة ضوئية، تتجاوز فيها البعد الزماني المعهود)!
    وليت عبقرية هذا الأخ الرائع توقفت هنا، بل إنه تابع إلى أمور أخرى، ولم يفهم أنه لا يجب أن يتكلم عن خصوصيات بيته وما يقوله لامرأته وما تقول له، إذ إن عبقريته الفذة جعلته لا يستمع إلى مثل اعتراضاتنا التافهة هذه... ولكنه نال جزاءه فيما بعد، فقد دارت الأيام والأشهر، وبدأت المدارس وأتت أيام الشتاء، ثم رأيناه مصادفة يمشي وكأنه يكاد يقع أرضًا، يفتح فمه بالتثاؤب عن آخره، وإذ سأله أحدنا ساخرًا عن سعادته بالزواج، لأن امرأته تحضر له الشاي والقهوة والنسكافـيه، انفجر صارخًا بتوكيد عجيب: (يلعن أبو النسوان)!!
    وذلك لأن امرأته حبلت، وفاجأته بأنها تعاني الوحام، وليت الوحام كان على شيء واحد، أو في النهار على الأقل، بل إنه وحام لا يأتي إلا الثانية ليلًا، وكل ليلة على طلب مختلف! فلم يعد رفيقنا هذا يشعر بطعم النوم، ولا أعلم صراحة هل وحام امرأته عبقري إلى هذا الحد ليقتص من الأخ، أم أنها هي نفسها عبقرية حقيقية تمكنت من الثأر لنفسها بهذا الأسلوب؟
    والعباقرة أصناف وأنواع، لا يختص بهم فرع معين من فروع البشر وتوجهاتهم، بل إن العبقرية قد تدفع بصاحبها إلى الشعور بالامتنان لشخص لم يره في حياته قط!
    ولا تستغربوا ما أقول، فلقد عشتُ هذا فعليًا، عام 2006، آنذاك كنتُ في مراقبة الشهادات الرسمية في إحدى المناطق البعيدة، وإذ بشخص يجري نحوي متحمسًا، يشكر الله تعالى لأنه رآني مرة أخرى، لِيَرُدَّ لي فضلي السابق عليه!
    أما كيف يكون لي فضل عليك يا هذا، وأنا لم ألتقِ بحضرتك إطلاقًا، فهذا الأمر لا يمكن أن يحصل إلا في ظل العبقريات التي لا أستطيع فهمها واستيعابها، وهكذا وجدت الأخ يعانقني ويبتدئ بالتقبيل، ويكاد يبكي! وعبثًا حاولت أن أقنع نفسي؛ إزاء هذه المشاعر؛ أنني أعرفه، ولكن الأخ ذكر لي اسمه ومنطقته، وكلاهما لم أسمع به في حياتي كذلك، ما زاد من شعوري؛ بل من تأكيدي؛ بأنني لا أعرفه، ولكنه كان مصرًا على أنه يعرفني!
    لم يكن هذا من برامج الكاميرا الخفية قطعًا، فلقد جمعنا صف واحد في المراقبة، وأصرَّ هو على أن أجلس أنا وأمدَّ ساقيَّ ليقوم بكل العمل وحده، وذلك لِيَرُدَّ فضلي السابق عليه! ولم يسمح لي ضميري بأن أوافقه في هذا، وحتى انتهاء المراقبة كنتُ ما أزال أظن أنني أمام مزحة لا أدري سببها، ولكن المصيبة الحقيقية أن الأخ لم يتركني أغادر قبل أن أنطلق معه إلى أقرب مطعم، وما كدنا ندخل حتى هتف بالعامل في المطعم متسائلًا: هل عندكم شيش طاووق؟
    أجاب العامل بالإيجاب، فتابع الرجل الذي يعرفني ولا أعرفه، طالبًا سندويشتين كبيرتين من الفلافل، فقلتُ له ساخرًا: وهل تحبها فلافل بقر أم فلافل غنم؟ لأفاجأ بسؤال حائر غبي... أقصد عبقري من حضرته، إن كان هناك حقًا فلافل من البقر وأخرى من الغنم! تجاهلتُ هذا السؤال لأن (ذكائي) لم يتطور بعد إلى مستوى (عبقريته)، وسألته عن سبب سؤاله عن الشيش طاووق، ثم طلبه الفلافل، فأجاب بأن الفلافل فاتح الشهية (فقط)، وهكذا فوجئت بسندويش فلافل، يكاد ينفجر لما فيه من المحتويات، في يدي، وزجاجة بيبسي بجواره، أنهيتهما بصعوبة، لأفاجأ بسندويش هائل الحجم من الشيش طاووق، وزجاجة بيبسي بجواره، أنهيتهما وأنا أشعر بأن وزني قد ازداد فعليًا، وإذ بالأخ يطلب سندويشتين أخريتين من الفلافل، وذلك كي (نغير طعمة فمنا)! ولكني رفضتُ ذلك الهراء بادئ الأمر، فما كان منه إلا أن انطلق يؤكد لي أنه يريد أن يحاول أن يرد فضلي السابق عليه، وهكذا تناولت السندويش الثالث وزجاجة البيبسي الثالثة على حساب الأخ، وأنا لا أعرف، ولم أعرف بعدها، ما هو فضلي عليه!
    ونرجع إلى المنامات، لا لتفسيرها ومن يسأل عن ذلك، ولكنني كنت ذات مرة في مشوار مع أحد أقربائنا الأبعدين نسبيًا، ونزل قليلًا عند أقربائه هو، وهذا الأمر رأيته يدخل في باب العبقريات الحقيقية، أن يأتي بي إلى دار لا أعرف أحدًا بها، ولا أحد بها يعرفني، ما لم يبرز لي منها عبقري آخر يريد أن يرد فضلي عليه هو الآخر، وأظن أن هذا أمر مستحيل... جلستُ بمفردي لا أشارك في أي حديث مما يدور حولي، وكل الناس غرباء عني، ولا أعلم حتى ما محتوى أحاديثهم هذه، ومن هو (عبد الستار، الله يستره شو رح نعمل فيه) أو (الدب فلان الفلاني الذي سنجعله يشرب من زيت السيارة الذي وضعه لنا)، لكني شعرتُ بالتأثر، لأن هذا الرجل الذي كنتُ معه عبقري ندر مثيله، حتى ينزل بي عند هؤلاء القوم.
    ثم أدركتُ أنني ظلمتُه فعلًا، فعبقريته كانت ضئيلة إزاء امرأة لم تستطع رؤية أحد يجلس وحيدًا، فأخذت تسألني كأنني جالس في مخفر الدرك، تريد معرفة كل بياناتي وتاريخ حياتي، وحياة أقربائي جميعًا، مع أنها لا تعرفهم، ولا أنا نفسي أعرف كثيرًا مما تسألني عنه، وأجبت باقتضاب جاف، لعلها تسكت، لكنها لم تيأس بل حولت الموضوع لتسألني عن تفسير المنامات إن كنت (أؤمن) به، ولا أعلم فعلًا هل هذا أمر (نؤمن به) أو لا (نؤمن به)؟ أخبرتها بأن المنامات حق، وتفسير المنامات له أهله، ولم أخبرها عن معرفتي البسيطة بهذا العلم، إذ ظننتها تريد من يفسر لها كل المنامات التي رأتها من طفولتها حتى الآن! ولكنني كنت مخطئًا في هذا التقدير، وألتمس لنفسي العذر في ذلك، فعقلي البسيط اللين الهين لا يصل إلى مستوى العبقريات المدهشة، فمع جوابي انتفضت الأخت لتصرخ معلنة أن تفسير المنامات كذب ودجل، لأنه يخبر عن أمور ستحصل في المستقبل، ولا أحد يعلم الغيب إلا الله تعالى!
    طبعًا كان كلامها خلطًا بين ادعاء علم الغيب وبين معرفة التأويل، والنبي يوسف فسَّر لصاحبيه في السجن، وقبل ذلك والده النبي يعقوب فسَّر له منامه حين كان صغيرًا، وأحد الصحابة رأى منامًا ففسَّره له آخر، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم أصبتَ في بعض وأخطأتَ في بعض... ولكن كل ذلك لم يقنع المرأة، بل ظلت تردد أن هذا دجل وكذب، وكادت تدخل المفسرين إلى جهنم لشدة انفعالها، ولكن عبقريتها لم تنتهِ هنا، أعوذ بالله! فالأخت سألتني عن رأيي بـ(المكاشفون)، هكذا تنطقها بالواو دائمًا، أخبرتها بأنني لم أسمع بهم في حياتي كلها، فانبرت تشرح لي بحماسة شديدة أنهم هم الذين كشف الله لهم وجه الغيب! وأنت اسألهم فقط عما سيحصل لك في المستقبل وسيخبرونك، ما دفعني إلى أن أسألها متهكمًا عن المكاشفين هؤلاء، أو (المكاشفون) كما تنطقها هي، أليسوا بأدعياء علم الغيب، أم أن مفسري المنامات وحدهم كذلك؟!
    وكان أن نظرت إليَّ هذه المرأة نظرات الإشفاق، وأخذت تتمتم بكلمات لم أفهمها قبل أن تنصرف مسرعة، وكأن صاعقة من السماء ستنزل عليَّ لتحرقني!

    وما زلنا في حديثنا عن العباقرة
    فتابعوا معنا الجزء الثالث بإذن الله تعالى.

    الأستاذ عمر قزيحة
    30/10/2017
    الساعة: 7:22 ليلًا

  4. #3


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,304
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: العباقرة... مقالة بقلمي أ. عمر

    العباقرة _ الجزء الثالث

    وللعباقرة تميزهم الرائع، إذ يدخلون كل المجالات والاتجاهات، وتجدهم في كافة زوايا حياتك من دون استثناء!
    وبما أننا تكلمنا؛ قبل الآن؛ عن الشيش طاووق والعزائم، فإن الشيء بالشيء يُذكَر، وكان ذلك هذه المرة في طرابلس، مع صديق لي، أراد أن يدعوني إلى محل فتح حديثًا، ولكننا دخلنا ثم خرجنا من دون أن نطلب شيئًا، وذلك لأننا رأينا زبونًا يقف مصعوقًا يحدق في السندويشة التي ناولها إياه صاحب المحل، مفتتة كأنها مرت بزلزال، وقطع الشيش طاووق وبقايا السلطة تتساقط منها في أصابع الزبون، ثم زالت الصعقة وانطلق الزبون في الصراخ، وكان رد صاحب المحل يدل على عبقرية نادرة، لا نظير لها ولا مثيل، ومفاد عبقريته أن (لا أحد) يأكل الشيش طاووق (في العالم كله) ما لم تكن السندويشة محمصة عن آخرها، حتى يفتت الخبز، فهنا جمال الشيش طاووق!
    ويبدو أن الزبون لا يقدر ولا يفهم بمعنى العبقريات، فلقد عاد يعترض هل من الجمال أن تمتلئ يداه باللحم والسلطة، وهل يجب عليه أن يمد فمه ليلتقط هذه المحتويات اللذيذة مثل الحيوانات؟ وبما أن هذا الرد لا يناسب (العبقرية) لدى صاحب المحل، فإنه عاد ليبث إلينا دروسه الرائعة، بأنه (لا أحد) يأكل الشيش طاووق (في العالم كله) ما لم يكن قد ملأ السندويشة بنصف زجاجة من الكاتشاب، ليلقي الزبون _ يا لحماقته وقلة تقديره العباقرة_ بالسندويش في وعاء النفايات في المحل.
    خرجت وزميلي من هذا المحل، إلى محل آخر لا يتمتع صاحبه بالعبقرية، وذلك لكي تتمكن عقولنا المسكينة من مجاراته!
    ونبقى في المحلات وما فيها، يومًا ما جلستُ وصديق لي في كافيتريا، أدعوه إلى كوب من الشاي، وأفهمت صاحب الكافيتريا أن لا يضع السكر في الشاي، ولا حتى ملعقة صغيرة، بل ولا حتى نقطة واحدة، وفهم الرجل، أو هكذا خطر لنا، لكني فوجئت بعدها بطعم السكر المزعج في فمي، وأعتبر هذا من أسوأ أنواع التعذيب بالنسبة لي، أن يضع لي أحد ما السكر في الشاي، كدنا نظن؛ ظالمين ذلك البائع؛ أنه أخطأ في الأكواب، وهكذا شرب رفيقي من كوبه، ليخبرني أن فيه من السكر أكثر مما فيه من الشاي، وهنا قررت أنه ما دام صاحب الكافيتريا رائعًا عبقريًا إلى هذا الحد، فسأمنح عقلي إجازة وأسكب كوب الشاي فوق رأسه، وتمكن رفيقي من إيقافي بصعوبة، خاصة أن غضبي قد تضاعف أضعافًا، حينما أدركت أن صاحب المحل لم يضع السكر سهوًا، بل إنه فعل ذلك عمدًا، وذلك لأن (الشاي من دون سكر= إمساك وإكتام)، وللحقيقة لم أكن لأحزن لو أنني جعلت رأسه يغتسل بالشاي المليء بالسكر، لعل حالة الإمساك والإكتام التي في دماغه تزول آنذاك!
    وما زلنا في الشاي وقصصه، وهذه المرة بحادثة عبقرية بسيطة لم أكن طرفًا فيها، بل سمعتها، عن شخص مستأجر في مكان ما، مع عدد من طلاب الجامعة، وتعرف هذا الشخص شخصًا، ويبدو بأن علاقتهما قد توطدت، فما كان من المستأجر إلا أن دعا رفيقه الجديد لتناول الشاي، وفي البيت اكتشف الشخص أن علبة الشاي فارغة، ولم يخطر له أن ينزل ليشتري غيرها، فما كانت هذه الأفكار البسيطة إلا للبسطاء أمثالنا، أما هو العبقري الألمعي، فأفكاره غير تقليدية على الإطلاق، لذا فتح كيس الزبالة ليبحث فيه، ولكم كانت فرحته حينما رأى بعض أكياس الشاي! فتناول اثنين منها ووضعهما في الإبريق، ثم قدم لصاحبه الشاي!
    ولم يكن هذا ختام عبقريته قطعًا، بل إنه وقف ينظر إلى صاحبه، كأنه يدرس حالة نادرة في علم النفس، ثم سأله بحذر إن كان الشاي قد أعجبه، وإذ أجابه رفيقه بالإيجاب، صرخ في وجهه متحمسًا إنه قد أتى بأكياس الشاي من الزبالة! وأظنه يستحق الضرب الدسم الذي ناله بعدها، كيف لا وهو يجود بعبقريته على من لا يقدر العبقريات؟؟
    ومرة أخرى، كل العبقريات هينة لينة إلا ما يتدخل منها بخصوصيات حياتك، ويتخذ شكل النصح العلني أمام الحاضرين والغائبين، إذ إن الحاضرين سيبلغون الغائبين!
    ففي ذلك اليوم من عام 1998 كنت أتكلم مع بعض معارفي خارج الجامعة، وإذ بجمع كبير من الشباب والفتيات ينضمون إلينا، لتقول إحدى الفتيات بعد أن أدركت الحديث الذي نتكلم به، معلنة أن لديها ملخصًا لتلك المادة القانونية أعطاه إياها دكتور المادة نفسه، فسألتها هل نستطيع أن نصوره بحضورها ومعرفتها، فاعترضت لأنها _ بارك الله بها وبحنانها _ تخاف علينا أن نتضايق من خط الملخص الصغير!
    وليس هنا مكمن العبقرية التي أتكلم عنها، بل حصل ما أقول بعد ذلك بحوالي شهر أو أكثر، كنت عند حلاق أتعامل معه آنذاك، وإذ بي أراه؛ خلال الحلاقة؛ يعبس فجأة، ثم يصرخ: "المرة الماضية، رأيتك مع (واحدة) بالجامعة"!
    لم يخطر لي أنه يكلمني بادئ الأمر، خاصة أني لم أذهب إلى الجامعة منذ ذلك الوقت، وقلت لعل زبونًا ما قد دخل من دون أن أنتبه إليه، ولكن الحلاق لم ييأس، بل استدار يواجهني، وينظر في عيني مباشرة صائحًا بتوحش: "ما رأيك"؟
    خطر لي أتلاعب بأعصابه هنا، فسألته متظاهرًا بالحيرة: "بماذا"؟ وانفجر الديناميت العبقري صارخًا: "بها! بالواحدة التي رأيتك معها في الجامعة"!
    أخبرته أن هذا مستحيل، لأنه هو شخصيًا لا يستطيع دخول الجامعة كونه ليس طالبًا فيها، فكاد العبقري ينفجر من الغيظ، وهو يؤكد لي أنه يقصد "في الجامعة" "خارج الجامعة"، ورددتُ هنا ساخرًا إن كان يعاني بعض العمى ليراني ويراها فحسب، وقد كان عدد الواقفين يتجاوز الخمسة عشر شخصًا! وأوضحتُ له كل الحوار الذي دار بيني وبين تلك الفتاة، ولكن عبقرية الأخ انطلقت وبات من الصعب أن ترجع إلى مكانها، فانبرى في محاضرة مطولة عن الالتزام والقدوة الحسنة، وخطأ التحدث مع الفتيات حتى لو كان الأمر يتعلق بالنجاح وبمستقبلنا، فبدا لي من العبث أن أخبره بأنني تسجلت في اختصاص غير اختصاصي، وأن ملخصًا يُعِدُّه دكتور المادة يُعتَبر كنزًا في هذه الحالة.
    ومرة أخرى، بعد حوالي شهر آخر، كنتُ عند الحلاق نفسه، وكأنما يعيد التاريخ نفسه، ما كاد يبتدئ بعمله، حتى فوجئت به ينفجر صارخًا: "المرة الماضية رأيتك مع واحدة بالجامعة"، ونظر في عيني مباشرة صائحًا مثل الوحوش: "ما رأيك"؟
    ولئن كان هذا الرجل عبقريًا، فلماذا لا أقوم بمجاراته؟ وهكذا ابتسمت ابتسامة متهكمة ملأت وجهي كله، لأستفزه قدر الإمكان، وأنا أجيبه ببساطة: "هذه زميلتي في الجامعة"! صاح العبقري مستنكرًا: "نعم نعم؟؟ زميلتك؟ ألا تعلـ..." قاطعته بسرعة: "انتظر، لم أُجِد التعبير حتمًا، هذه ليست زميلتي، ولكنها من صديقاتي"!
    جمد الأخ مكانه تمامًا، وتابعتُ أنا متظاهرًا بالجدية: "قد كنا؛ قبل ذلك؛ في الكافيتريا، لقد دعوتها إلى تناول طعام الفطور، إضافة إلى العصير"!
    أدركتُ هنا أن هذا الشاب عبقري ندر مثيله، وهل تريدون دليلًا أكبر وأوضح وأبلغ من غمغمة حائرة تخرج من فمه: "ولكنك قلتَ لي من قبل إنك كنتَ تريد أخذ مقرر ملخص في مادة ما"!
    وبما أنك؛ يا فلتة العصر والزمان، تذكر ذلك جيدًا، فما معنى أن تسألني عن رأيي بأنك رأيتني مع (واحدة) في الجامعة، فوفقًا لتعبيرك وطريقتك في الكلام فإن الجالسين لن يظنوا أنك رأيتني أقف مع خمسة عشر بني آدم، وأن الأمر كان سؤالًا وإجابة من بضع كلمات، ولا أعلم هل كان الأخ ينوي التعقيب، ولكني قلتُ له ساخرًا: "هذا أفضل من أن أتسلل تحت البيوت وأنظر إلى النوافذ، و...".
    قاطعني العبقري هنا، مؤكدًا أننا أبناء آدم من لحم ودم، وبالتالي إن الحب أمر طبيعي وبديهي، بل إن مجرد التسلل لإلقاء النظرة عبر النوافذ ربما لا يُعتَبر خطأ، لأنه من الصدف والنوادر أن تطل الفتاة التي يحبها الشخص من النافذة، حتى لو مرت بجوار النافذة، فإنها ستبدو أشبه بطيف غير واضح! وقد جعلتني هذه المحاضرة اللطيفة عن الحب أسأل نفسي هل هذا العبقري الذي يستنكر سؤالي عن المقرر الملخص يحترف التسلل تحت نوافذ البيوت؟ يا لي من داهية، وأنا لا أعلم!!
    العبقريات النادرة تكاد تجعلنا نتساءل أحيانًا عن أصحابها، هل يستحقون كوكبًا آخر خاصًا بهم ليعيشوا فيه؟ ربما بعضهم يشعر بأنه مظلوم لأنه مضطر إلى التعامل مع أمثالنا ممن يفتقر إلى العبقرية، ولا تظنوا في كلامي أي مبالغة، ففي بدايتي بالتدريس فوجئتُ بوجود ما يسمى المرشد الصحي في المدرسة، أذكر أن أحد النظار حين كنا نحن تلاميذًا، يقوم بإسعاف أي تلميذ يتعرض للوقوع أو الجرح، وقلتُ لنفسي هذه فرصة نادرة لي لأزيد معلوماتي، وقررتُ في كل أوقات فراغي أن أذهب إلى غرفة المرشد الصحي لعلي أعرف المزيد من المعلومات الطبية الأولية، ولكن قراري هذا جعلني أعلم أنني أفتقر إلى العبقرية فعلًا، فالمرشد الصحي هذا لم يكن له غرفة أصلًا! بل كان يجلس بغرفة أي ناظر كان، في أي وقت كان، ثم إنه يمتلك وصفة طبية واحدة لا ثاني لها، وهي "كباية الشاي مع نقطتين أو ثلاث من الحامض"، وهذا العلاج؛ وفق خبرته بل وفق عبقريته الفذة؛ لكل الأمراض من أولها لآخرها، سواء أكان انفلونزا أم وجع رأس أم آلام في الظهر أم تشنجات في الساقين، أم وقوع مؤلم كاد يمزق أوتار ساق صاحبه أو ذراعه، ما جعلني أدرك أنه عبقري، ولكنه لا يظهر عبقريته كي لا يسرق أفكاره العالمية أحد!
    وأذكر مرة كنا في أحد محلات الأشرطة، وأخبرتني البائعة عن وجود فلم فيديو لمنشد صوته رائع، ولم تعد لديها سوى نسخة واحدة، لكثرة الطلب عليها، وأنا أعرف بمفردات البيع هذه، ولكني اشتريت تلك النسخة لأن عندي صديقًا لا يطيق أن يستمع لأحد سوى هذا المنشد بالتحديد... ولقد انفجر الأخير غيظًا وغضبًا! لا تستغربوا، فالأخ لا يقدر العبقريات الفذة في التصوير، وقد جعلني أرى رأي العين، تبدأ الكاميرا بنقطة صفراء غامضة وترتجف الصورة وترتجف وتثبت ثم ترتجف والنقطة تأتي وتذهب وتكبر وتصغر، حتى يتضح شكلها النهائي، قرعة رجل من الحضور!!

    تابعونا في الجزء القادم إن شاء الله تعالى
    عمر رياض قزيحة
    31/10/2017: الساعة 7:16 دقيقة صباحًا
    التعديل الأخير تم بواسطة أ. عمر ; 31-10-2017 الساعة 07:55 PM

  5. #4


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,304
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: العباقرة... مقالة بقلمي أ. عمر

    العباقرة _ الجزء الرابع والأخير


    نعم، إنها العبقرية!
    منتهى الإبداع والتميز مما لا نستطيع نحن أن نقدره حق قدره، وهل هناك إثبات أكبر من أن المصور ركز الكاميرا على قرعة رجل من الحضور ليأخذ بها (زووم) تصوير الفيديو، يمينًا ويسارًا، علوًا وانخفاضًا، قربًا وبعدًا؟! ولو أن الأمر كان فقط بدايةَ الفيديو لهان الأمر، ولكنه تكرر أكثر من مرة بعدها، ما دفع بنا إلى إغلاق جهاز الفيديو، والعودة بهذا الشريط النادر إلى صاحبته، مقدمين؛ بذلك؛ خدمة كبيرة إلى الجماهير التي تندفع للشراء.
    وبما أننا تحدثنا عن الشاي مرارًا من قبل، فلنرجع إليه الآن في قصة أخرى من قصص العباقرة وسِيَرِهم، إذ دعانا أحد أصدقائنا لزيارته مرة، ويبدو أنه خاف أن يقصر في واجباتنا، فقام بإعداد الشاي قبل عدة ساعات من وصولنا، وجمع في الإبريق بين أعواد الشاي الرفيعة وأكياس الشاي معًا، وليس هنا موضع العبقرية وتميز العقول وفرادة الأذهان، فصديقنا ترك أكياس الشاي وأعواده في الإبريق كل تلك الساعات، ليقدم إلينا سائلًا شديد السواد كالليل البهيم، متجمدًا كالقطب الجنوبي أو الشمالي، سائلًا لو رآه شعراء العرب لتوقفوا عن تشبيه شعر المحبوبة بالليل، وشبهوه بالشاي الذي تنتجه أيادي العباقرة!
    إلا أن عبقرية الدعوات الأروع والأكثر تميزًا، كانت مع صديق عزيز، هكذا يسمي نفسه، ولا أعرف هل يُعِزُّ نفسه إلى هذه الدرجة أم لا! وقد زرتُه وقتها، ثاني أيام عيد الأضحى، وجلسنا في الصالون نتحدث، وإذ بوالدته تناديه، فاستأذن ثم عاد محرجًا ليطلب إليَّ الانصراف الآن، ثم الرجوع بعد دقائق، لأنه سينزل معي ليشتري قطعة خاصة للجلاية الكهربائية، طلبها فَنِّي تصليح الأدوات الكهربائية.
    وبغض النظر عن البعد الانعكاسي في ذهنه الشارد، إذ كان ينبغي أن يدعوني لمرافقته، والنزول معه، ويتقدمني إلى الباب، فلستُ في بيتي الخاص حتى أنتقل من غرفة إلى أخرى كما يحلو لي، إلا أنني لم أعترض على ذلك، بل أشرتُ إليه بيدي ليمشي، لتبدو نظرة حائرة في عينيه، طلبتُ إليه باللغة العربية العامية الواضحة الصريحة أن يمشي أمامي، ليسألني بغباء شديد: "لماذا"؟!
    وبعد أن أفهمتُه (لماذا) نزلنا معًا، واشترى هو تلك القطعة، ورجعنا إلى بيته تحت إلحاح شديد منه، جلستُ في الصالون، وذهب هو إلى العامل ليسلمه القطعة الكهربائية، ولم يمضِ بضع ثوان إلا وصرخة هائلة رهيبة تدوي في البيت، ثم صراخ متفرق، وكأن هناك من يركض ويجري في كل الاتجاهات، ثم ارتفعت صوت صرخة أعتقد أنها زلزلت أركان البيت، حتى خطر ببالي أن جنيًا قد خرج لعائلة رفيقي من الجلاية الكهربائية!
    لم أكن مخطئًا في تقديري، فقد خرج شيء من الجلاية الكهربائية، وربما لو كان جنيًا فعلًا لكان أخف وطأة واشمئزازًا من ذلك الجرذ الذي، وفق ما أخبرني به رفيقي بعد ذلك، انطلق في البيت كالقذيفة، وكانت أخته _ أخت رفيقي لا أخت الجني _ مستلقية على الأرض في ذلك الطقس الحار، وإذ بالجرذ يمشي عليها لتفيق المسكينة على تلك الحركة وترى الجرذ واقفًا على بطنها، فأطلقت صرخة مدوية، شعرت معها كأنها ستموت من فرط الرعب والقرف.
    كل هذا طبيعي، ولكن العبقرية أسفرت عن وجهها هنا، بقدوم رفيقي إلى الصالون متجهم الوجه، مشيرًا إلى طاولة بعيدة منخفضة، فوقها صينية من المعمول المكشوف، ليخبرني بأن العامل وضع القطعة في الجلاية ليجد أن جرذًا يمد فمه ليتلقاها _ وكأننا نشاهد فلم كرتون هزلي_ وفجأة صرخ رفيقي، قائلًا لي بلهجة آمرة وحماسة نادرة: (كول معمول)! فرددتُ له بلهجة آمرة وحماسة نادرة: (آكلة تاكلك)!
    هل هذا وقت المعمول المكشوف الموضوع فوق طاولة بعيدة منخفضة، وجرذكم يتنزه في بيتكم؟ ماذا لو أنه قد زار هذه الصينية قبل متابعته إلى الجلاية!! قلت لعل رفيقي نسي أنني لا آكل المعمول هذا بسبب ما يوضع فيه من السكر، لا بأس، لن أصفه بالعبقرية لسبب مثل هذا، ولكن أن يطلب إليَّ أن أتناول المعمول، في ظل احتمال زيارة الجرذ له؟ فهذه عبقرية نادرة، والعبقرية الأخرى أن أتناول المعمول، أو أي شيء آخر، مستمتعًا بأصوات الصراخ الذي ما تزال تدوي في البيت!
    غاب رفيقي مرة ثانية، من دون أن يسمع أنني أريد المغادرة، وظلت الصرخات تدوي كل لحظة وأخرى، ثم انتهى ذلك، وساد الصمت، وعاد رفيقي إليَّ مرة أخرى، معلنًا بانتصار أنهم قد تغلبوا على الجرذ، وحاصروه، و(أجبروه على الانسحاب) إلى الشرفة، وهذه هي العبقرية الحقيقية، وأعتقد أنهم ألزموه بتوقيع معاهدة شبيهة بمعاهدة فرساي كذلك، ولكنهم يخبئون الحقيقة عنا!
    نزلت مع رفيقي ليشتري قطعة أخرى للجلاية، بدلًا من تلك التي قضمها الجرذ، وما كدنا نصل مدخل البناية حتى قلت له: (السلام عليكم)، فَرَدَّ متحمسًا: (نعم، هذا هو)!
    سألته، وقد ظننت بعقله الظنون: (ماذا تقصد)؟ فأجابني بسعادة عجيبة: (هكذا كانوا مِن قبلنا، أي شخصين يسيران معًا، فإن افترقا ولو ثانية واحدة، كأن يفرق بينهما عمود أو شجرة، عادا لإلقاء السلام على بعضهما)!
    هتفت به ممتدحًا عبقريته النادرة، وذاكرته الفوتوغرافية، إذ لم يفرق بيننا منذ عاد حضرته إلى الصالون وحتى نزلنا أي شيء، إلا إن كان يظنني قد غصت تحت الدرج في بدايته، لأظهر آخره مثلًا! أفهمته أنني مغادر إلى بيتي، فحاول (إغرائي) بأنه سيشتري القطعة اللازمة، وسيتم تركيبها، وستنتهي المشكلة كلها (وكأنها مشكلتي وأريد أن أجلي بهذه الجلاية مثلًا)، وبعد ذلك نجلس في هدوء، وسلام، واطمئنان، وسنأكل... قاطعت عبقريته هنا، بهتاف متحمس أذكره؛ من خلاله؛ بالمعلومة الآتية: (آكلة تاكلك)! ومضيتُ في طريقي، عالمًا بأنني لا أستطيع تقدير العبقريات، وهل هناك أجمل من أن تأكل في بيت يتنزه فيه الجرذ كما يشاء؟!
    ولهذه القصة جزء ثان لم أشهد فصوله، وإن كنت السبب في حصول أحداثه، فأخت رفيقي علمت؛ فيما بعد؛ أن شابًا _أنا ولا فخر_ كان موجودًا في البيت وقت أطلقت صرختها التعيسة مع إفاقتها لترى جرذًا واقفًا على بطنها، وملأها هذا بالغضب، كيف يسمع الرجل الغريب صراخها؟ فخرجت إلى الشرفة مساء، وذلك (للثأر) من الجرذ، وأخذت تبحث عنه، وما كادت تراه ويتحرك من مكانه، حتى وثبت إلى الوراء وثبة تؤكد مدى استعدادها للثأر، لتصدم حاجز الشرفة صدمة عنيفة، ولن أدخل في التفاصيل، فأنا لا أعلم كيف حصلت، وهي خارج موضوعنا، كل ما علمته أن هذه الفتاة وجدت نفسها _ بطريقة ما_ تتدلى من الشرفة، متمسكة بالحديد، تصرخ بأعلى صوتها طالبة النجدة، وقد تمكن أهلها من نجدتها قبل أن تفلت يداها وتسقط من الطابق الثامن أو التاسع، أما كيف تجاوزت حاجز الشرفة وتمسكت بها من الخارج، فهذا ما لا أعرفه بعد!
    نعم إنها العبقريات الفذة النادرة، العبقريات التي نقف إزاءها؛ أحيانًا؛ عاجزين حائرين عن قول شيء، سوى أن نشكر رب العالمين لأنه لم يجعلنا من العباقرة، كما حين توفي جدي _ رحمه الله _ من حوالي عشرين سنة، خرجنا إلى الدفن، وكنا في الشتاء، ولا تكاد الأمطار تهدأ، رجعت بعد الدفن إلى البيت، وغيرت الحذاء لامتلائه بالوحل، ورجعت بعدها إلى الجامع لصلاة المغرب، وقبل أن أدخل الجامع يبرز فجأة شاب مندفعًا نحوي بحماسة، ظننت أنه يريد أن يعزيني في جدي، وإذ به يهتف مبتسمًا: (مبارك لك هذا الحذاء الجديد)، بغض النظر عن كون (هذا الحذاء) قديمًا وشبه بالٍ، إلا أن الغريب أن يبارك لي وقد دفنَّا جدي منذ وقت قليل، أوضحتُ له ذلك، فكان رَدُّه العبقري الرائع (الحي أبقى من الميت)!
    وبعد ذلك بحوالي ثماني سنوات، وإذ توفيت جدتي، رحمها الله، وخلال الدفن، يبرز لي رفيق رائع، سمع أو اخترع بعض النكات الجديدة، وبما أنه لم يرني منذ زمن، فقد خاف؛ فيما يبدو؛ أن ينسى النكات قبل أن يراني مرة أخرى، وهكذا كانت الكوميديا التراجيدية، يروي لي الأخ نكتة ويأخذ بالضحك، ما أجبرني على الضحك أحيانًا معه، إذ لم يستجب نهائيًا لأي محاولة مني لإسكاته، وظن من يمر بنا أنني أبكي! وسمعتُ أكثر من تعليق من حولي أن الأفضل أن أتمالك نفسي، وكلنا على هذا الطريق، وليرحم الله جدتي ويرحمنا!
    وبعد ذلك بحوالي سنتين، كنت عائدًا من دفن جدي الثاني، رحمه الله، وكأن التاريخ يعيد نفسه، يبرز لي رجل في الموضع ذاته، ليبارك لي الهاتف الجديد! وأي هاتف جديد هذا؟ هاتف اشتريته من السعودية، شاشته صغيرة وليس فيه أي ميزات كانت، بل ليس فيه بلوتوث حتى، والأطرف من ذلك أن هذا الهاتف كان معي منذ شهور طوال، وليس جديدًا!
    لم أجادل الرجل هذه المرة في شيء، لكني عاتبته على عدم التعزية بوفاة جدي، فكان رده أنه نسي ذلك، ويا للعبقرية التي تجعله ينسى أمرًا حصل منذ دقائق معدودة!
    العباقرة رائعون فعلًا، وهل هناك أروع من أن تكون تدرِّس التلاميذ، ليركض نحوك أحد الصغار، مخرجًا من جيبه ورقة تفوح منها روائح العفونة، قد أكل الدهر عليها ليعطيك إياها على أنها (رسالة) من والده، فلا تمد يدك حتى للمس هذه الورقة، لجمالها طبعًا، وتطلب إليه أن يفتحها متوقعًا أن ينزل منها هيكل عظمي، وجمجمتان أو ثلاثًا، ويفتحها التلميذ لترى فيها أرقامًا ورموزًا كأنها من الأبجدية اليابانية مثلًا، فتظنها خريطة كنز حقيقية، قبل أن تدرك أنها وصفة طبية، أخذها شقيق هذا الولد منذ عشر سنوات حينما كان في مثل عمره، ويبدو أن الأب العبقري يريد أن يوفر أجرة معاينة طبية، فأرسل بهذه الوصفة إلى (الأستاذ) ليسأله إن كان يستطيع أن يعطي ابنه نفس الدواء!
    (مر والدي من قبلي بموقف مشابه، أتاه والد أحد التلاميذ يسأله عن دواء معين، وهل ينفع إن أعطاه ابنه أم لا، ولكنني تميزت أنا بهذا الموقف العبقري، بخريطة، أقصد بوصفة طبية ربما استطاع الأب بعد سلسلة من المحاولات استرجاعها من مكبات النفايات، لأن روائحها ألعن من روائح النفايات نفسها).
    العبقريات لا تتوقف عند حد، وأيام كنا في دار المعلمين، وجد الزملاء صعوبة في استيعاب مادة علم النفس التربوي الخاصة بالأطفال، مع أن فيها نظريات معقدة وليست فقط للأطفال، ولكنها كانت هوايتي تلك السنوات، وقد قرأت فيها خلال أربع سنوات قد خَلَتْ العديد من الكتب، ولحظت المعلمة تميزي، وأن التلاميذ يفهمون عليَّ أكثر منها، وتحول الأمر إلى أن تجلس المعلمة وأقوم أنا لأشرح الدرس لرفاقي، وأصرت العبقريات على الظهور هنا، فلقد هتفت بي زميلة لي تمتدحني أمام المعلمة (شرحك أفضل من شرح المعلمة بكثير، نحن نفهم عليك، ولا نفهم عليها)، وانتفضت المعلمة على كرسيها غاضبة من هذا الكلام... يا صديقتي العبقرية، ألم يخطر لكِ أن تبدي رأيكِ الرائع إلا أمام المعلمة؟! والمعلمة نفسها كانت عبقرية، امتدحتني مديحًا رائعًا بعد إجراء المسابقة وتصحيحها، وأعلنت أنني أستحق العشرين، وأنني كتبت بأفضل من الكتاب بمراحل، وربطت الأمور ببراعة، وأعطيت أمثلة واقعية، ورغم ذلك منحتني أدنى علامة في الصف، وذلك كي لا أصاب بالغرور! ومن بعدها، تحولت أنا نفسي إلى العبقرية في حصصها، فكنت أخرج مفتاح البيت من جيبي، وألقي به عاليًا، ثم ألتقطه قبل أن يسقط أرضًا، والمعلمة تراقبني باهتمام، قبل أن تعلن أن هناك شيئًا ناقصًا في حياتي، وأنني أجد هذا النقص بهذه الحركة ال... (لا أذكر ما هو المصطلح الذي قالته حضرتها)، ولكن من دون مصطلحات فلسفية، من لا يجد أن هناك شيئًا ناقصًا في حياته؟! ثم إن ما ينقصني أن أرى من يخنقكِ ويكسر يديكِ على هذه العلامة الظالمة، فقط!
    وبما أننا ضمن مجال العبقريات المتعلقة بالبيئة المدرسية، فسأترك الختام لأبيِّن عبقرية أستاذ درَّسنا فترة ما، كان حضرته يسمع الدرس لأحد أصدقائنا في الصف، ونشهد للأخير بأنه كان يسمع بشكل نموذجي رائع، وإذ بالأستاذ يصرخ بغتة بصوت رهيب، بكلمة لم يفهمها أحد، ثم ينقض من مكانه على صديقنا، ثم يجمد مكانه، قبل أن يشير إلى المقعد الأول، حيث تجلس عادة فتاتان، إحداهما غائبة، ويقول الأستاذ لرفيقي، وإصبعه يشير تحديدًا إلى مكان جلوس التلميذة المتغيبة: (أين هي؟ أين خبأتها؟ اخرج بها من حيث خبأتها)!
    احمر وجه رفيقنا لهذه الكلمات، وانطلقت الضحكات في الصف، قبل أن يصرخ الأستاذ مجددًا (طبقة، طبقة)... لنفهم أنه ظن أن صديقنا وضع الكتاب مفتوحًا في طبقة الزميلتين ليقرأ منه عن الحاضر، ومع أن هذا الأمر مستحيل علميًا وعمليًا، لبعد المسافة، ولضيق المقعد، ما يجعل محاولة القراءة من كتاب موضوع فيه أمرًا مستحيلًا، هذا لو كان هناك طبقة، فالمعقد الأول كان من دون طبقة خشبية أصلًا، ورغم أن رفيقنا اعترض سائلًا الأستاذ إن كان يظنه جنيًا، أو أخطبوطًا، مد يده أربعة أمتار لينتزع الطبقة أمام أعيننا وأعين الأستاذ ويخفيها بطريقة سحرية، كي لا يكتشف الأستاذ أنه يغش، إلا أن (عبقرية) الأستاذ لم تسمح له بأن يأخذ بهذه الاعتراضات (السخيفة) فمنح رفيقنا صفرًا! وهذا الأستاذ نفسه كان؛ قبل ذلك؛ قد أعطانا درسًا عن الكواكب، وأخذ يسمع للتلاميذ، ويمنحهم علامات من 6/20 نزولًا إلى 0/20، علمًا أن بعض الزملاء والزميلات سمعوا حرفيًا، وإذ وصل الدور في التسميع إليَّ، أعلن الأستاذ أن التسميع قد انتهى، ولن يعود إلى هذا الدرس مرة أخرى، وفي بداية الحصة التالية طلب إليَّ الأستاذ أن أقوم لتسميع الدرس، وما كدت أبدأ، بل قبل حتى أن أبدأ، شرد الأستاذ وبدا كأنه نائم في عالم آخر، فأخذت أتكلم عن المريخ الذي يمكن الوصول إليه بالصواريخ، وكوكب أورانوس الذي يظهر كلما أكلنا من الذُرَة كم عرنوس، وإذ نظرت إلى كوكب الزهرة في الشفق، قلبي نبض وبقوة خفق! وكانت النتيجة أنني نلت 18/20! وأكثر من ذلك أن الأستاذ العبقري، أخبر رفاقنا أنه ليس من المهم أن يسمِّعوا الدرس، بل أن يعرفوا (كيف) يسمِّعون الدرس، مثلي أنا!!
    وختام عبقرية هذا الأستاذ تجلَّت مع رفيقنا الذي ذكرناه لكم منذ قليل، والذي كان ينقل من طبقة المقعد مع أن المقعد ليس له طبقة، طلب إليه الأستاذ في حصة لاحقة أن يسمِّع الدرس، فقام رفيقنا يصيح بالأستاذ بلهجة كوميدية تمتلئ سخرية وتهكمًا: (قييييف)! وطبعًا المقصود (قِفْ) ولكن رفيقنا مدَّها هكذا أسوة بالأستاذ الذي كان يصرخ بهذه الكلمة بالمد، كأنه يدرب ضباطًا في الكلية العسكرية، وتفجرت الضحكات حينما وقف الأستاذ فعلًا، ورفيقنا يتابع بسخرية لاذعة (وتأكد أنه لا يوجد طبقة أنقل من خلالها من الكتاب، الله يرضى عنك)... وإذ بعبقرية نادرة تستحق أن تُسَجَّل في كتب التاريخ الدولية، عبقرية لا مثيل لها بالفعل، فلقد احتقن وجه الأستاذ عن آخره، وهو يصرخ برفيقنا ناعتًا إياه بالحمق والغباء، وذلك لأنه لا توجد (طبقة) واحدة في العالم، بل هناك (سبع طبقات) للغلاف الجوي! أما كيف يطلب رفيقنا من الأستاذ أن يتأكد من طبقة من طبقات الغلاف الجوي، وكيف يمكن له أن ينقل منها، أو يضع فيها كتابًا، فهذا يدخل في باب العبقريات النادرة، والحمد لله تعالى.

    نعم، إنهم العباقرة، وقصصهم لا تنتهي، فقديمًا كان العباقرة عملة نادرة، أما الآن، فإنهم يحيطون بنا في كل مكان، وكل مجال، ونسأل الله أن يرحمنا من وجودهم في حياتنا!

    تمت والحمد لله تعالى
    عمر قزيحة
    11/1/2017
    الساعة: 5:36 مساء
    التعديل الأخير تم بواسطة أ. عمر ; 31-12-2017 الساعة 11:40 PM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...