اشعروا بالدهشة!

تلك كانت أبرز حكايا وذكريات المرحلتين الابتدائية والمتوسطة
وحكايا المرحلة الثانوية قد لا تكون حكايا مطولة، ولكن كان فيها الطرافة كذلك
إنها المرحلة الثانوية!
إنه اليوم الأول لنا في الثانوية!

وهذا يعني أن الشهادة المتوسطة، بكل وهجها وبريقها آنذاك، باتت في حوزتنا..
لقد أصبحنا "رجالًا" بحق!!
وعلوم الدنيا ومعارفها كلها صارت أمورًا نعرفها بالبديهة، كما نظن..
مزيج من بداية مرحلة المراهقة بما فيها من لعب الأولاد وتناقض الشباب العجيب بين الطيش والحكمة، والاغترار بأنفسنا لحصولنا على الشهادة المتوسطة..
إنها_ كما قلنا_ المرحلة الثانوية..
وهكذا، وبكل ما سبق ذكره، نزلتُ في اليوم الأول إلى الثانوية، بحماسة شديدة..
نزلتُ مع والدي بالسيارة، وأنا أشعر بالسعادة لأنه سيعلمنا..
ليس لأنه والدي، فهو لا يُحابي أحدًا والفضل لله تعالى..
ولكن لأن والدي اشتهر في ضيعتنا بأنه أفضل مدرِّس للغة العربية فيها، ولله الحمد أولًا وأخيرًا..
كنت أشعر بالحماسة، ولكنها لم تدم طويلًا، لقرب المسافة بين البيت والثانوية..
وهكذا، دخلت إليها، وأنا واثق بأنها ستكون مرحلة تعليمية مختلفة في حياتي..
ولم يكن ليخطر ببالي في ذلك اليوم، أنها ستكون حقًا مختلفة..
ولكن ليس لما تخيلته..
بل لما مررت به خلالها من مواقف وأحداث..
ولم تتأخر تلك المواقف والأحداث على الإطلاق..
فلقد بدأت..
ومنذ اليوم الأول..
لا، بل منذ الحصة الأولى..
مباشرة.
وما أزال أتذكر اليوم الأول، وأنا في الملعب قبل رنين الجرس، أستمع لضجيج التلاميذ، ومن يلتقي مع رفاقه ممن كان معه في صف الشهادة المتوسطة..
والغريب أنني كنت أقف وحدي ليس معي أي زميل ممن كانوا معي من قبل..
ويبدو أن عددًا كبيرًا منهم التحق بثانويات أخرى أو ترك المدرسة ليتوجه إلى المهنيات، وبقي قليل تسجلوا في الثانوية نفسها في الفرع العلمي،
بينما كان من الطبيعي بالنسبة إليّ، اختيار الفرع الأدبي..
لكن وقفتي لوحدي لم تستمر طيلة الوقت..
فلقد فوجئت بزميل كان معي في صف الثالث المتوسط، ثم افترقنا سنتين، إحداها كنت في الرابع المتوسط "صف الشهادة" في مدرسة خاصة،
ورسبت، والسنة الأخرى أعدت الصف في مدرستي الأولى..
أي أن هذا الزميل كان قد سبقني بسنة دراسية، ثم رسب بدوره في أول سنة له في المرحلة الثانوية، واضطر لإعادتها، فالتقينا مجددًا..
وكم شعرت بالسعادة حين التقيته، وكم شعرت بالأسف لذلك فيما بعد، لما تسبب لي به، سامحه الله..
ولا أنسى الإشارة أننا تصافينا في سنوات لاحقة، وأصبحنا رفاقًا بحق..
لم يكن ليخطر في بالي أنه يخطط للأذى من وقت أن رآني، لفكرة انتقام غبية تسيطر عليه، وتشكل كابوسًا في حياته..
كنت فقط سعيدًا لرؤيته وأنني لن أقف لوحدي في الملعب، لا أعرف أحدًا ولا أحد يعرفني..
إلا ما أشرت إليه من رفاق تسجلوا في الفرع العلمي، وكانوا معًا، ويبحثون عن رفاق لهم في الصف ذاته...
ومع ارتفاع رنين الجرس، شعرت بشعور غريب..
رغم أنني قضيت سنوات طوال في المدرسة فعليًا، إلا أن رنين الجرس بدا لي غريبًا..
وكأنه رنين لانطلاقة جديدة في المسيرة التعليمية..
بل وكأنه رنين لنذهب إلى صفوفنا، وما إن يدخل أي أستاذ ليخبرنا بأي معلومة، حتى نشير إليه باستهانة، قائلين: "هذه معلومة قديمة، نعرفها منذ سنوات"!!
وقفنا في الملعب من دون انتظام، ووقف أمامنا أحد النظار _للدقة، أحد الناظِرَين في الثانوية_ يخبرنا أين صفوفنا..
ولأن "النساء أولًا" حتى في الثانوية، كان على الشباب أن ينتظروا حتى تتفضل البنات بالتوجه إلى صفوفهن..
ونقطة الاعتراض أن عدد البنات كان أكثر من عدد الشباب بحوالي ثلاثة أضعاف..
أو ضعفين ونيّف على الأقل..
ثم إن مشيتهنَّ بطيئة للغاية، فأخذنا نتململ من الوقوف ومن الانتظار..
ولما حان دورنا، انطلقنا كالقذائف المدمرة نحو الصفوف..
ولا أتكلم عن نفسي، فصفي كان بفضل الله، يبعد بضعة أمتار عن مكان وقوفنا، وكان الصف الأرضي الوحيد..
ومع دخولي إلى الصف، مع رفيقي ذاك، شعرت بدهشة عميقة..
كنا في مدرستنا السابقة، يتراوح عددنا بين ال 26 وال 36 تلميذًا في الصف الواحد..
وحتى السنة التي كنت خلالها بالمدرسة الخاصة، كان عددنا 18..
لكن هنا، كانت هناك ثلاث بنات في الصف، وأنا ورفيقي..
أي أننا كنا خمسة فقط!!
والثانوية رسمية، أي أنه من الطبيعي أن تكون صفوفها ممتلئة عن آخرها بالتلاميذ..
وقبل أن أسأل رفيقي إن كان الحال هكذا معه في السنة الماضية، دخل شاب في مثل عمري الصف..
وسألنا "هل هذا هو صف الثانوي الأول الأدبي"؟ (أيامها كنا نسميه صف ال seconde رغم خطأ هذه التسمية)!
أدركت من لهجته أنه ليس من منطقتنا، بل من مدينة طرابلس نفسها..
أجابه رفيقي بالإيجاب، وعرّفنا بعضنا ببعض..
كان فعلًا من طرابلس، واسمه "محمد"..
ولم أكن أعرف وقتها، أن هذا الشاب سيكون يومًا ما أعز أصدقائي، وأكثر إنسان أثق به على الإطلاق..
لم يطل تعارفنا وقتها، بل لم يطل وقوفنا، فلقد دخلت الصف معلمة...
توقعنا أن تعرِّفنا نفسها، أن تخبرنا من تكون، أن تتعرَّفنا الأقل..
ولكنها انطلقت، من دون مقدِّمات، تتحدث باللغة الفرنسية، بسرعة كبيرة..
والحقيقة أنها حتى لو تحدثت ببطء، فلن يتغير شيء من الواقع..
وفي كآبة شديدة، ذهبت بحماستنا أدراج الرياح، أخذنا نستمع إليها دون أن نفهم شيئًا..
والحقيقة أنها كانت متحمسة للغاية في تدريسها..
والدليل قدوم شاب وفتاتين إلى الصف خلال الحصة، لم تفكر أن تسألهم من يكونون!!
أي أن عددنا في الصف الثانوي الأول، كان تسع تلاميذ، من بيننا ثلاثة يعيدون الصف!
ولن أستطرد في قصتها هنا، فقد سبق أن قدمتها في حكايتي مع اللغة الفرنسية، ولكن شعور الدهشة إثر اصطدامي بالمدير، بعدما طردتني المعلمة من الصف، وتبريره لي بأن (الإسهال قد أهلكه)، لم يكن شعورًا هينًا، ولم أفهم كيف يمكن للمدير أن يتكلم بهذا الكلام مع تلميذ!
لكن المهم هنا، أنه، وبعد الاستراحة رجعنا إلى الصف، ليدخل ذلك الأستاذ..
وما كاد يدخل، وقبل حتى أن يجلس، أشار إليّ بيده أن أقوم من مكاني وألحق به..
فعلت ذلك، وأنا لا أعرف ماذا يريد، ولا أستطيع التخمين...
لكني أجبتُ طلبه، واتجهتُ نحوه، وأنا أشعر بالدهشة الشديدة لمناداة أستاذ لي بأول حصة يدخل بها إلينا...
ومن المؤكد أنه لا يريد مني أن أحضر طبشورًا مثلًا، فاللوح ممتلئ بالطباشير البيضاء والملونة...
وما إن وصل الأستاذ إلى طاولته، وقبل حتى أن يجلس، ابتدرني بقول عجيب..
جعل عيناي تتسعان من الدهشة..
كل الدهشة..

ولن أدعي أن حيرتي هذه استمرت طويلًا، لكنها استمرت طويلًا!!
طبعًا هذا ليس بتناقض ولا من قبيل الألغاز..
فالأستاذ لم يتأخر في إخباري بما يريد، وقبل حتى أن يقعد في مكانه..
ولكن الحيرة لم تزل، بل تضاعفت أضعافًا عديدة..
فلقد قال الأستاذ لي بطريقة آمرة:
_ هيَّا!!
هيَّا؟ هيَّا ماذا؟ ما المفترض أن أفعل يا تُرى؟
تساءلت بحذر:
_ هيَّا ماذا؟!
صرخ الأستاذ في وجهي فجأة، وبلهجة تساؤلية:
_ هيباشوشا؟!
صحت بدهشة عارمة:
_ من؟
صرخ الأستاذ مجددًا، وبصوت رهيب، كمن يحاول أن يشق حنجرته:
_ زُحل!
خطر لي خاطر غريب، جعلني أسأل الأستاذ في حذر شديد:
_ هل سنبدأ بالتنجيم؟!
هذا لأنني كنت متأكدًا أن "هيباشوشا" هذا منجم لا محالة، وإلا لِمَ يذكر الأستاذ اسمه، ثم يذكر اسم أحد الكواكب؟!
طبعًا لا أؤمن بالتنجيم، وأعرف أنه عمل يؤدي بمن يستمع إليه مزاحًا إلى حرمانه من أجر الصلاة أربعين يومًا، ومن يستمع إليه تصديقًا فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم..
فما البال بمن يفعل ذلك إذًا؟!
انتبهت إلى أن الأستاذ ينظر إليَّ في ترقب لما سأقول، فأدركت أنه لم يستمع إلى ما قلته، فأعدت السؤال، لكن بسخرية هذه المرة:
_ هل سنبدأ بالتنجيم يا أستاذ؟!
صرخ الأستاذ في غضب:
_ اخرج من الصف، هيّا..
يا حبيبي يا حبيبي!!
إن شاء الله كل ما جاء أحدكم سيخرجني من الصف، ومن أول يوم؟
سألته باعتراض:
_ لماذا؟ أنت قلت لي "هيباشوشا" وقلت لي "زحل"، ما المفترض أن يعني لي هذا؟!
تمتم الأستاذ بتهكم:
_ ما شاء الله، ما شاء الله، ألم تدرس درسك؟ ستنال صفرًا، حتى تتربى أن تدرس!!
هتفت به مستنكرًا:
_ أدرس درسي؟ هذا أول يوم في الثانوية، فكيف سأدرس درسي هذا و...
قاطعني بلهجة حاسمة:
_ هذا لا يعنيني، كان بإمكانك أن تسأل رفاقك ماذا أخذتم، بدلًا من أن تنزل إلى الثانوية وتقف أمامي هكذا!
أشكر الله أن رفاقي تطوعوا هنا لإفهام الأستاذ المتحمس هذا، أننا في أول يوم في المرحلة الثانوية، وأنها أول حصة يأتي بها إلينا، واستغرق ذلك بعض الوقت حتى اقتنع الأستاذ وفهم، أو هكذا ظننت، لكني فوجئت به ينظر إليّ متسائلًا:
_ نعم؟!
رددت خلفه، لأسأله بدوري:
_ نعم نعم؟!
صرخ الأستاذ (كعادته حين ينفعل):
_ ماذا تفعل هنا؟ لماذا لست في مقعدك؟
أحسست بأنني سأنشق من فرط الغيظ، فاستدرت راجعًا إلى مقعدي بدلًا من الدخول في نقاش عقيم مع هذا الأستاذ غريب الأطوار، وما كدت أجلس، حتى فوجئت به يشير إليّ بإصبعه، فسألته:
_ أنا؟!
كنت متوقعًا أنه سيقول لي هذه المرة "ماذا تفعل هنا؟ لماذا لم تأتِ إليّ" مثلًا، لكنه اكتفى بهز رأسه إيجابًا، فأشرت بيدي متسائلًا، و...
وهنا انفجر الأستاذ صارخًا بغضب شديد:
_ ما لي أراك بليد الفهم اليوم؟! آه؟! هل تلزمك ساعة كي تفهم؟!
هتفت به بمزيج من الرجاء والتوسل والضيق والضجر والغضب، كلها مع بعضها:
_ أفهمني ماذا تريد يا أستاذ، وتكرم!
رد متهكمًا:
_ صعب عليك أن تفهم أني أسألك عن اسمك!
أطلقت تنهيدة غيظ، محاولًا السيطرة على نفسي، وأجبته بشيء من العصبية:
_ عمر قزيحة.
ردّ قائلًا:
_ يا عيب الشوم عليك، ألا تستحي على دمك؟
لا حول ولا قوة إلا بك يا رب.. يا رب ألهمنا الصبر على هذه البلوى!
سألته بعصبية أكبر:
_ لماذا؟!
رد بصوت يوحي بثقته في ما يقول:
_ أنت تعرف نفسك، ما من داعٍ لتظهر نفسك بمظهر الغشيم!!


لا إله إلا الله!!
يا ربي ما هذا المصاب؟!

بذلت جهدًا خرافيًا للسيطرة على نفسي، وأنا أتساءل:
_ لماذا يا عيب الشوم عليّ يا أستاذ؟ أنا لا أعرف!
أجابني هازئًا:
_ خمس سنوات وأنت بالصف ذاته؟ أليس في عقلك بعض الفهم حتى تعرف كيف تنجح؟ هل من الضروري أن يبلوني الله بك كل سنة؟!

نظرت إليه غير مصدق لهذا التخريف الذي يقول..
كنت وقتها في الخامسة عشرة من عمري، ولو صدق الأستاذ فيما يقول، لكان معنى قوله إنني كنت بأول صف في الثانوية وعمري عشر سنين!!
ثم إنني كنت في تلك السنوات، قصير القامة كثيرًا، بملامح طفولية أكثر من اللازم، وأي شخص يسألني في أي صف، وأقول له إنني في أول صف في الثانوية، كان
يضحك بسخرية، ويطلب مني ألا أمزح معه..
وعبثًا حاولت إفهام بعضهم أنني، ولولا رسوبي سنة دراسية، لكنت في ثاني صف في الثانوية..
وكيف يقتنعون بهذا، وكان أفضلهم يخبرني بأنني في الثاني المتوسط؟!
ولكم كان هذا يضايقني آنذاك، لكنه بدا لي مثل "اللبن" كما نقول، أمام ادعاء هذا الأستاذ الأحمق..
ومرة أخرى حاولت عبثًا أن أفهمه بأنها السنة الأولى لي في الثانوية..
ثم سألني الأستاذ عن اسم أبي، فأجبته، ومع أنهما زميلان في الثانوية نفسها، إلا أنه بدا وكأنه لم يسمع باسمه في حياته كلها..
ولم يقتنع الأستاذ قط بأنني لا أكذب عليه في ما أقول!!
والعجيب الغريب أنه سألني عن أخي، والأعجب الأغرب أنه سألني في أي صف أصبح أخي الآن في الجامعة، الثالثة أو الرابعة؟ وأخي يكبرني بسنتين في المرحلة الثانوية فقط!!
(وما عرفته فيما بعد، أنه كان في الحصة الثالثة في صف أخي، ثم أتى ليسألني في أي صف أخي الآن)!!
والأسخف أن الأستاذ أصرّ على البدء بالدرس، لكنه أخبرنا بأنه يعتبر الكتاب المدرسي تخريفًا وهراء لا حدّ لهما، وأن "الجغرافيا" التي سوف "يتحفنا" بها ستجعلنا أعظم من علماء الجغرافيا في العالم..
مع العلم بأن هذه "الجغرافيا" التي أخذ الأستاذ يتلوها على مسامعنا كالصاروخ، ونحن نكتب بسرعة خيالية لنلحق به، هي نفسها الدروس المسجلة في الكتاب، وقد نقلها الأستاذ إلى دفتره
لسبب ما..
كان درسنا الأول عن الكواكب، ولكم ابتسمت متهكمًا حين عرفت من هو "هيباشوشا" هذا!!
انتهت حصة الجغرافيا هذه، ونحن نلهث من التعب والإرهاق..
وبصراحة لم أعرف كيف مرت الحصتان اللاحقتان، وقد بدا لي النهار مثل الكابوس بسبب هذه البلاوي التي شاهدتها..
ولكنّي، عمليًا، لم أكن قد شهدت شيئًا منها بعد..
ففي اليوم التالي، دخل أستاذ الجغرافيا إلى الصف..
وفي سيناريو بدا لي نسخة طبق الأصل من أحداث الأمس..
أشار إليّ الأستاذ لألحق به..
فعلت ذلك بمزيج من الدهشة والغيظ..
لِتَتِمَّ إعادة مشهد الأمس بدقة متناهية، ابتدرني الأستاذ بالكلام قبل حتى أن يجلس..
لم يسألني عن "هيباشوشا" هذه المرة..
لكنه قال لي ما جعلني أشعر بدهشة شديدة..
وأنظر إليه غير مصدق ما تسمعه أذناي..

تابعوا معنا