قلم حبر أحمر وفرنك واحد... كاتب قصص وروايات!

[ منتدى قلم الأعضاء ]


صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 21 إلى 22 من 22
  1. #21


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,283
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: قلم حبر أحمر وفرنك واحد... كاتب قصص وروايات!

    10_ وحش المستحيل!

    صبَغَت قصتي الحقيقية مع معلمة علم النفس حياتي بصبغة الاستهتار وعدم المبالاة بشيء، والابتسام أمام الصعاب، والنوم ملء الجفون حتى لو كان اليوم التالي يوم امتحانات عصيبة!
    وشخصية هذه المعلمة أفهم أنها أرادت الأذى والانتقام، ولكن شخصية أستاذ اللغة العربية لم أفهمها ولا أحد فهمها أصلًا، بل حتى هو نفسه شخصيًا لا يفهم نفسه!
    كان الأخ أستاذًا مستحيلًا بمعنى الكلمة، فلا يعجبه شيء، وكل الإجابات في هذه الكرة الأرضية، لا لدينا نحن وحدنا كطلاب، هي إجابات خاطئة تمامًا، حتى لو كان قائلها سيبويه أو الكسائي شخصيًا!
    وحينما أصف أستاذي هذا بأنه أستاذ مستحيل، فهذا لأنه بشحمه ولحمه لا يعرف ما هي الإجابة الصحيحة، ولنقل مثلًا تم طرح جملة بسيطة، على غرار: (اشترى أخي لعبةً)، وكان المطلوب إعراب (لعبةً)، فإن الأستاذ يرفض أنها (مفعول به) ويعتبر ذلك إعراب (الجهلة أمثالنا)! وهنا يتم اختراع إجابات في الإعراب، تشمل علوم النحو بأكمله (مفعول معه، مفعول مطلق، تمييز، حال، مفعول لأجله، مضاف إليه...) والأستاذ يرفض كل هذه الإجابات (الجاهلة)، ثم يأتي دوره ليخبرنا بالإعراب (الراقي)، وإذ به يحكي لنا أنه حينما تزوج، وفي صباح عرسه، أعدت له امرأته طعامًا لذيذًا جدًا جدًا، من اللحم المشوي، وبعد انتهائه من تناول الطعام، سألها ما هذا اللحم؟ فأخبرته بأنه لحم حية مشوية!
    طبعًا لم أجد في كتب النحو والبلاغة والعروض والصرف والأدب، كلمة واحدة، إعرابها (حية مشوية) ولا حتى (مقلية) أو (مسلوقة)، أبعد الله عنا كل هذه الأصناف التعيسة!
    ولم يكن هذا هو الرد الوحيد منه إذا ما وجد نفسه محاصرًا لا يعرف الإجابات، سواء في الإعراب أو حتى في أسئلة تحليل النص، إذ كان يتحفنا بإجابة تحليلية نادرة، ومفادها أنه يعرف مذيعة تلفزيون كانت تظهر على الشاشة أربع مرات، بأربع فساتين مختلفة، ولكن، يا لبراعتها النادرة! كانت (تخدع) الجماهير المتابعة، فلم يكن لديها سوى فستان واحد، لكنه تلبسه على أربعة أوجه! (هل يمكن ذلك فعلًا؟ لا أعلم ولا أتوقع ولا أتخيل! ولكن ليس هنا السؤال، بل إن هذه المسكينة لم يكن لديها سوى هذا الفستان اليتيم، وبالتالي ألم ينتبه المتابعون إلى أنها ترتدي يوميًا الفساتين الوهمية الأربعة هذه؟ أم أنها كانت تلجأ إلى علب الدهان المتنوعة مثلًا، لتتابع الخداع)؟!
    ولا يعني هذا أن الأستاذ لم يكن يتكرم علينا بالإعراب! محاولته التهرب بقصة الحية المشوية والفساتين الوهمية كانت في أسئلة التحليل، وفي أسئلة الإعراب حينما يحاول أن يرينا أننا جاهلون لا نفهم شيئًا، ولكنه كان يقتحم عالم النحو بمنتهى (البراعة)، ليخبرنا أن هذه الكلمة إعرابها (مبتدأ مبني على الضمة في محل نصب مفعول به) وتلك الكلمة (مفعول معه مبني على الفتحة الظاهرة على آخره في محل رفع مبتدأ)، وما إلى ذلك الهراء والتخريف... وللعلم فإن مدير دار المعلمين تقدم بشكوى، وأتت الموافقة على إلغاء التعاقد مع الأستاذ المذكور مع نهاية الفصل الأول، ولكن الأستاذ أتى بواسطاته، ليتابع التعاقد في الفصلين الثاني والثالث، بل ويستلم مادة ثانية إضافة إلى مادة اللغة العربية!
    وزاد قلمي حِدَّةً وسخرية لاذعة من الأساتذة، ومن الهيئة التعليمية بالكامل، وكم من صديق لي اتسعت عيناه ذهولًا، وهو ينظر إليَّ غير مصدق، هاتفًا باستنكار: (هل أنت حقيقة من كتب هذا؟ هل أنت متأكد أنك أتيت إلى دار المعلمين لتصبح أستاذًا؟ لقد بهدلت الأساتذة يا رجل)!
    ولكني لم أبالِ بشيء من ذلك، فلقد كان لي جمهوري الكبير من هؤلاء الزملاء، ثم اتسع ليشمل أساتذتي في دار المعلمين، ومن بينهم أستاذ اللغة العربية نفسه (والحمد لله أنني لم أكن قد سجلت إحدى مواقفه في قصصي هازئًا به وقتها)!
    ببساطة (صادر) هذا الأستاذ مني دفتر القصص، دخل حينما كان صديقي يعيده إليَّ، فسأل هل هذا دفتر المادة؟ وتبرع صديقي لإخباره بأنه دفتر قصص يكتبها عمر، فأخذ الدفتر وفتحه، وأخذ يقرأ بعض الوقت، ثم قال لي متحمسًا: (سآخذ الدفتر، لأقرأ قصصك على مهل، وأرجعه إليك بعد ذلك)، كان هذا في العام 2001، وطبعًا لم يَعُد الدفتر إلى مكانه بين دفاتري وكتبي، ولم يكذب الأستاذ ويقدم إليَّ الوعود، بل أخبرني بصراحة تامة أنه قرأ كل القصص فيه، وأنه يوميًا يعيد قراءة قصتين أو ثلاث قبل النوم، حتى ينتهي الدفتر، فيرجع إلى قراءتها مرة ثالثة ورابعة وخامسة، ولا يسأم منها، بل إنه لم يَعُد يستطيع النوم، ما لم يقرأ هذه القصص!
    (يبدو أنني كنتُ مخطئًا إذ كتبتُ في الصفحة الأولى: قصص ساخرة بقلمي عمر قزيحة)، ولم أكتب (حكايات جدتي) أو (حكايات ما قبل النوم)!
    وعاد قلمي ينساب بقوة لأعيد إنتاج كل القصص التي تمت مصادرتها، وإذ طلب مني أستاذ آخر أن يقرأ أخذت أنسخها له على دفتر ثالث، خوفًا من عملية مصادرة أخرى، ولكنه لم يصادرها، بل كتب ملحوظات توجيهية لبعض منها، وأثنى عليها جميعًا، وطلب المزيد، ووجدتُ نفسي أكتب المزيد والمزيد، بحماسة شديدة، ليثني عليها كذلك، ويعتذر لأنه لم يستطع كتابة تقييم إيجابي لكل قصة بقصتها، بسبب ضغوط العمل مع اقتراب الامتحانات.
    وأستاذة ثالثة طلبت مني أن أعطيها دفتري لتقرأ قصصي، وكان أن أشادت بتنوع اتجاهاتي القصصية، أسريًا واجتماعيًا، وبتوجهها إلى الأطفال والشباب والكبار على حد سواء، وكل ذلك يملأني فخرًا بنفسي (بكل تواضع طبعًا)
    وما زال أستاذ اللغة العربية (يتحفنا) بالمزيد، وقبل أن أسأل نفسي ما الذي أثار إعجابه الشديد بقصصي، وهو الذي لا يعجبه شيء، إذ به يخبرني بأن أكثر قصصي تأثيرًا في نفسه، قصة الجرذ،
    وأنا نفسي لا أستطيع قراءتها بأكملها دفعة واحدة!
    تلك القصة فيها مشاهد لم أعرف كيف تمكنتُ من كتابتها، ومن هذه المشاهد، أن الأستاذ يفتح البراد في بيته، ليرى جرذًا كبيرًا جالسًا هناك، فيجمد مكانه رعبًا، لتأتي زوجه وتسأله لماذا يحدق في وعاء الكوسا باللبن هكذا! بل إنه يصب الشاي من الإبريق، فيفاجأ بأن ما ينزل من الإبريق ليس شايًا، بل دم... دم الجرذ! (كان الأستاذ قد قتل جرذًا في الصف في وقت سابق)، ولا أعلم هل هذه القصة تؤثر في النفس، أم أنني أنا لا أتأثر بشيء، أم أن الأستاذ يمزح معي؟!
    لا، لم يكن الأمر مزاحًا، فالأستاذ أتانا؛ بعد ذلك بفترة؛ بمسابقة الامتحان الفصلي، وقبل أن يوزعها لنا، أخبرنا بصراحة تامة: (اخترتُ لكم هذا النص للامتحان، من وحي قصص عمر، بل من وحي أكثر قصة أعجبتني وأثَّرَت بي في قصص زميلكم عمر)، وإذ بالنص عن الجرذ!
    أدركتُ مدى صحة المقولة (الناس أذواق وأهواء)، ولكن بعض التعليقات والردود تثير الغيظ فعلًا، ومن ذلك حينما فتحت قريبة لي دفتر قصصي، بعد أن أخذته من أختي، ما كادت تنظر في أول قصة، حتى ارتفع صوت ال (هيهاهاهااااا)، وأخذت كلماتها ترتجف وتتقطع من القهقهة: (قص..صة... مض...حكة..هيهاها... الولد يلعب نيهاهاها)!!!
    يا أختي اقرئي أولًا، ثم اضحكي وأتحفينا بآرائك، أو ابقي صامتة، هذا أفضل لكِ ولنا، فأنا لم أكتب قصصي لمهرجي السيرك ليلقوها على مسامع جماهيرهم، حتى تضحكي بهذه الطريقة من قبل أن تقرئي جملتين على بعضهما، ولكن لا بأس، ردة فعلها هينة إزاء صديق لي طلب مني أن يقرأ، فأعطيته دفتري، وما كاد يفتحه، حتى أخذ يقلب صفحاته بسرعة شديدة، لينهي عشر قصص في أقل من عشر ثوان، ويهز برأسه بعدها، قائلًا بمنتهى (الحكمة): (أسلوبك ينقصه التوجيه الصحيح)!
    رددتُ ساخرًا: (نعم، أحسنت، أسلوبي ينقصه التوجيه الصاروخي، الذي يشتغل على البنزين الخالي من الرصاص)! فسألني بارتياب: (ماذا تقصد)؟ ولم أرد سوى بابتسامتي المتهكمة، فهرب من نظراتي إلى دفتري، ينظر فيه، ولكن هذه (الأعجوبة) انتهت بعد ثوان معدودة، إذ هتف، كأنه قد وجد كنزًا: (ها أنت تقلد العلمانيين! لماذا كتبتَ أن السيارة انطلقت على الأوتوستراد؟ يجب أن تقول إنها انطلقت على الطريق العام)! فأجبتُه بأن هناك فارقًا كبيرًا بين اللفظتين، في مفهوم من يقرأ قصصي من أولاد منطقتي، فهم يستخدمون كلمة (الطريق العام) قاصدين بها الطريق البحرية، ويستخدمون كلمة (الأوتوستراد) للطرق المخصصة للسيارات السريعة، ومن يريد الذهاب إلى العاصمة، وهو موضع مرور باصات الركاب.
    لم يَبْدُ أنه فهم ما أقول، لكني سألتُه بفضول متهكم: (ما دخل العلمانيين بكلمة الأوتوستراد؟ وما دخل غير العلمانيين بكلمة الطريق العام)؟ فنظر إليَّ ببلاهة، كأنه مصاب بالصمم، ثم طلب إليَّ أن يحتفظ بالدفتر، ليقرأ متمهلًا (الحمد لله، بدأ عقله يتحرك)! ثم يعطيني (توجيهاته) فطلبتُ إليه أن يقرأ، محتفظًا بتوجيهاته هذه لنفسه، لأنها لا تقدم شيئًا لأحد.
    وتحول الأمر ناحية أخرى مع رفاقي في دار المعلمين، زميلة لي بدأت بال(نق) فوق رأسي، تريدني أن أكتب قصة (معاناتها) مع زميلتنا التي تأخذها كل يوم إلى السوق لتشتري (بابوجًا)، وتقف تتفرج على البابوج نفسه فترة من الزمن، كأنها قد تحولت إلى هندية تقف أمام تمثال بوذا! وبعدها تمشي من دون أن تشتريه، ويتكرر هذا المشهد كل يوم، فراقت لي الفكرة، وكانت (حكاية بابوج)، لكن بعد استئذان صاحبتها أولًا، بطلة القصة، لأن قلمي ينحو منحى السخرية إن اقتضى الأمر، فأذنت بل وتحمست، وأخذت القصة بعد أن كتبتُها، لتقرأها وترجعها إليَّ كما قالت، ولكنها أخذتها وقرأتها وأبدت رأيها في كل مضامينها، ولم ترجعها! (البابوج هو الحذاء المنزلي لدينا، وفي بعض المناطق البابوج هو الحذاء المنزلي للإناث فحسب).
    وربما مزقت الأخت القصة، لأن إخوتها؛ كما اعترفَت لي؛ ضحكوا عليها ضحكًا شديدًا، وهم يقرأون القصة، وقد صغتُ أحداثها على أن البابوج هو المتكلم، وكم سُعِدَ هذا البابوج بنظرات (الانبهار) في عينيها، إذ تحدق به يوميًا، ما لا يراه في عيني زبونة أخرى! وحينما اشترتْه؛ أخيرًا؛ بعد تردد ثلاثة أسابيع (فقط)، أخذت تنظر إليه ب(حنان) فتوقع أنها ستضعه فوق رأسها، ولكنها ألقت به أرضًا من دون رحمة أو شفقة بعظامه! لتضعه في قدميها، لا، بل وإنها رفعت قدمها به لتهوي على الصرصور بضربة قاتلة، جعلت البابوج (يقرف حياته)، وأخذ يغني أشعارًا يرثي بها واقعه الأليم هذا!
    طبعًا أعدتُ إنتاج القصة كلها بعد سنوات، لكني فقدتُها في ظروف أخرى سأخبركم بها، أما الآن، فإنني أرجع إلى طلبات كتابة القصص، فهذا صديقي في دار المعلمين، وفي منطقتي قبل دار المعلمين، فاز ورفاقه ببطولة كرة القدم لدورة مخصصة للشباب، وكان فوزهم غريبًا جدًا! إذ لم يستطيعوا تنفيذ تسديدة صائبة واحدة طيلة المباراة، وأُرهِق حارس مرماهم المسكين بالتصدي للعديد من الهجمات والفرص، لكنه لم يستطع المحافظة على نظافة شباكه، فلقد تلقى هدفًا، كان كافيًا لخسارة المباراة، لولا أن قلب هجوم فريق الخصم، سجل في مرمى فريقه وفي الثانية الأخيرة (والأخ لم يسجل أي هدف في كل مباريات البطولة، استيقظ آخر ثانية، وليسجل في شباك فريقه)!
    وفي الشوط الإضافي الثاني، يتسبب قلب الهجوم هذا بضربة جزاء، للمسه الكرة في منطقة جزائه بيده من دون سبب، ويسددها لاعب فريق صديقي، بمنتهى الرعونة لتضرب العارضة، وهنا يقفز الحارس بطريقة عجيبة، لتهوي الكرة فوق رأسه، وترتفع في أعلى الشباك! ويحصل صديقي ورفاقه على جائزة البطولة...
    لم أكتب قصة هنا، بل جمعتُ ما بين القصة والمقابلة الصحافية، والتقرير الإخباري، بأسلوب لم أكتب بمثله من قبل قط، لأتخذ دور صحافي يجري مقابلة مع الهداف الأحمق، الذي يتكلم مؤثرًا في الجماهير، عن الرحمة والحب والتسامح مع الخصوم، فينسون الكأس ويهتفون بحياته، حياة (وحش المستحيل) الذي رحم كل خصومه وأحبهم، ولم يرض أن يسجل في شباكهم، وبلغت به المحبة مبلغًا يندر أن يصل إليه أحد في الكرة الأرضية، ليفجرها في آخر مباراة ويساعد خصومه مسجلًا في شباك فريقه، مرضيًا جماهيره التي كانت تطلب إليه أن يسجل كل مباراة، وهو يعدها ويخلف بوعده، كما كانت المقابلة مع (أبو قرعة) حارس المرمى الذي حقق تصديًا فذًا وهدفًا دوليًا في وقت واحد، ولكن الهدف سيسجل للاعب الخصم، وبالتالي يبقى تصديه الرائع والرهيب للكرة، عنوانًا وقدوة لكل حراس المرمى في العالم، ووجهتُ كلمة شكر مؤثرة لكلٍّ منهما آخر القصة، وأعطيتها لرفيقي ليراها، ثم أنسخها له، لكنه أخذها، مدعيًا أنها (لم تعجبه) وسيعدل بها قليلًا ويرجعها لي لأنسخها، وكان ضياع القصة هنا، لقد خدعني برأيه هذا القصة أعجبته حتى النخاع، ولكنه؛ يا لتهوره ورعونته؛ نسخ منها عدة نسخ، واتصل ببعض رفاقه في الفريق الساخر، يخبرهم بأن هناك من يهزأ بهم، طالبًا إليهم التوجه إلى المقهى والنظر إلى الجدران، وذهب بعد ذلك يعلقها على الجدران الخارجية في مقهى الضيعة (فعل ذلك نهارًا، والمقهى لا يفتح إلا مساء).
    كل هذا لم أعرفه وقتها، لكن مساء، كنت أستعد للخروج، وإذ بصديق عزيز لي يصل، طالبًا إليَّ، وهو لا يكاد يستطيع التقاط أنفاسه لما بذله من العدو، هذا الأخ كان صديقًا مقربًا لي، ويعرف أنني كتبتُ قصة بهذا المضمون، وأخبرني بما حصل، لقد رأى ذلك المخادع يعلق قصتي في القهوة ويتوارى ضاحكًا كالمجانين، ثم رآهم، حضر بعضهم بداية الأمر، ثم اتصلوا برفاقهم، وكانوا يغلون من الغيظ، وأخذوا يهددون كاتب هذه ال(مقابلة صحفية) بالشرب من دمائه، ودق عظامه بأكملها، لو أنهم تمكنوا من معرفة من يكون! (لم يأتِ المسكينان اللذان هزئت بهما في القصة وحدهما، بل الفريق بأكمله، وانفجروا بالصراخ والتهديد لي، ثم نزعوا القصص ومزقوها ألف قطعة وربما أكثر)!
    وكم مرة؛ بعد ذلك؛ أسمع خطواتٍ مسرعةً من خلفي، وأنا عائد إلى بيتي، فأبدأ بالركض، خوفًا من أن يكون الأخ الذي كتبتُ له القصة قد اعترف بمن يكون الفاعل!
    ولكني تعلمتُ درسًا قاسيًا، ألا أعطي أحدًا من قصصي هذه ما لم يكن معي نسخة أخرى منها، ولكن حتى هذا الدرس لم ينقذ قصصي من الضياع، ولهذا حكاية أخرى، ولكن الخطوة الصحيحة الأولى هي رفض كل طلب كتابة قصة تسخر من الآخرين، حتى لو كانت سخرية من تصرفاتهم أو أحداثهم، لا منهم هم شخصيًا، ليكتب قلمي وفق ما أحب وأهوى فحسب...
    وزادت قصصي غزارة وإنتاجًا، وتحولت بها من القصص القصيرة إلى الطويلة والروايات الاجتماعية، والخواطر الأدبية الساخرة، حتى تلقيتُ في العام 2009 ضربة قاسية جدًا، كادت تدفع بي إلى اعتزال عالم الكتابة القصصية بالكامل، وكان أن تلقيتُ بعدها بثلاثة أعوام صدمة أخرى، كادت تدفع بي إلى الاعتزال مجددًا...
    تابعوا معنا (الحلقة الأخيرة) إن شاء الله تعالى.

  2. #22


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,283
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: قلم حبر أحمر وفرنك واحد... كاتب قصص وروايات!

    11_ الأمل الذي يتهاوى

    ظل القلم يطاوعني بفضل الله تعالى سنوات طوال، وبات لديَّ عدد من الدفاتر التي خَطَطْتُ قصصي فيها، وكلما أشتري دفترًا أنظر إلى حجمه الكبير، وأقول لنفسي إنني ربما لن أملأ منه سوى صفحات قليلة، وأجد القلم يطاوعني، بل ويغلبني في الدفق القصصي المتوالي، إلى أن حان العام 2009، ذلك العام الذي حمل إليَّ ذكرى أليمة فعلًا، ولا أعني بهذا ذكرى طلاقي زوجتي، بل لقد سافرتُ بعدها مباشرة إلى السعودية لأداء العمرة، وفي ليلة الرجوع،كنتُ متحمسًا لأبتدئ كتابة قصة مطولة جديدة، أتناول خلالها رحلاتنا الثلاث إلى العمرة (هذه الرحلة واثنتان في سنوات سابقة)، وإذ بسائق الباص يتوقف فجأة في بداية منطقتنا، معتبرًا أنها محطته الأخيرة، وعلينا أن (ندبر أنفسنا)!
    وكيف نفعل ذلك، وقد وصلنا قرب الثانية والنصف ليلًا، في غاية الإرهاق، ومعنا حقائب السفر، ومطرة ماء زمزم تتسع ل 20 ليترًا؟ والحمد لله أن إحدى أخواتي اتصلت لتعرف أين نحن، وهل وصلنا، وما إن علمَتْ بوضعي حتى أتى زوجها بسيارته ليعود بي إلى البيت، ولم أصدق أنني أفتح باب بيتي، سأعِدُّ لنفسي كوبًا من الشاي، وأبتدئ الكتابة القصصية، ثم أصلي الفجر وأنام، و... ما هذا؟ أين أنا؟
    كدتُ أظن أنني دخلتُ بيتًا آخر غير بيتي، فباب الصالون اختفى من موضعه! وكان عندي ملفات من الأوراق والدفاتر أضعها على الكنبة التي مقابل الباب الخارجي، لم أجد منها شيئًا، تصوَّرْتُ أن أحدًا قام بنقلها من مكانها، ولكني كنتُ أتساءل محتارًا عن (الإعصار) الذي أخذ باب الصالون ومشى!
    الأسوأ من ذلك أنني لم أجد علبة الشاي مكانها، ولا حتى جهاز استقبال الإنترنت من الشركة الرسمية، ذهبتُ إلى مكتبتي حيث أضع دفاتري القصصية، مددتُ يدي لأفتح باب الغرفة، وإذ به يتهاوى أرضًا، وأنا فوقه، كاتمًا آهة ألم حادة، متسائلًا كيف وقع هذا الباب، ثم أدركتُ الحقيقة فيما بعد، فلقد كان هناك بابان، واحد أنام فوقه تقريبًا، وقد جرحتُ ذراعي به، والثاني باب الغرفة الثابت موضعه، لا شك أن هناك إعصارًا فعلًا خلع باب الصالون وألقى به إلى إحدى الغرف الداخلية، ولكن، يا له من إعصار منظم مرتَّب! قام بفتح باب تلك الغرفة، ثم دفع بباب الصالون ليقف بين دفتي بابها تمامًا، ما شاء الله! كم نفتقد مثل هذا الترتيب التخريبي المنظم!

    قمتُ متجاهلًا آلام ذراعي، والدم الذي يسيل منها، لأفتح الخزانة، وكانت المفاجأة الساحقة هنا... عدد من دفاتري قد اختفى، وتلك الملفات التي كانت على الكنبة لم تكن في المكتبة، بل وهناك دفاتر وجدتُ أجزاء منها، ضاع مني عشرات القصص والروايات والخواطر، وضاع مني تلخيص نحوي وآخر بلاغي، مبسطان أشد التبسيط ليفهمهما من لم يدرسوا اللغة العربية من قبل حتى!
    المفاجأة كانت قاسية جدًا، ملأتني غضبًا بالفعل، ولم أعد أستطيع النوم رغم الإرهاق الذي أعانيه، والصداع الشديد في رأسي، ولم أصدق أن أتى الفجر لأتصل بأهلي، وأعرف حقيقة ما حصل في بيتي، وأتت الإجابة المدهشة!
    أهلي؛ في غيابي؛ أتوا بامرأة تعمل في تنظيف البيوت لقاء أجر مادي، وما إن علمَتْ الأخيرة بأنني مطلِّق، حتى أرادت أن (تمسح آثار المرأة) من البيت، فكان أن خلعَت باب الصالون، وألقَتْ بكل ما وجدَتْه لي أمامها في النفايات، لا تستثني في ذلك، الدفاتر والأقلام والكتب، ولا الأحذية والجوارب، ولا فرشاة الشعر أو الأسنان، حتى أنني سألتُ والدتي (رحمها الله) لماذا لم تأتِ هذه المرأة العبقرية ببلدوزر ضخم تَدُكُّ به منزلي من مكانه، ثم تُشعِل به النيران، لتمحو آثار من كانت امرأتي من قبل؟ (أما علبة الشاي فكانت في الثلاجة)!! !
    لم أستطع؛ بصراحة؛ إعادة إنتاج كثير من الإنتاج اللغوي الذي ضاع مني، كما لم أستطع إعادة إنتاج سوى عدد بسيط من القصص التي ضاعت، بسبب حماقة هذه المرأة التي نظفت البيت، وحتى خلعها باب الصالون كان بحجة محو (الآثار)، ولكنها لم تستطع إرجاعه إلى مكانه بعدها، لذلك لم تخلع باقي الأبواب، والحمد لله أنها لم تتحمس لذلك، وتأخذ بخلع الأبواب، وتكسير البلاط كذلك!
    كدتُ أعتزل الكتابة القصصية آنذاك، ولكني تابعتُ، وبكثير من الصعوبة، ووقتها كنتُ أكتب في بعض المنتديات، ثم أجد ما كتبتُه مسجلًا بأسماء الكثير من الناس في منتديات شتى، وكلهم ينسب كتابتي إليه هو! ومرة دخلتُ إحدى تلك المنتديات لأعترض على التي نسخت خاطرة وجدانية لي، عن طفلة فقدتُها (وهي خاطرة أدبية فحسب، وليست حقيقية)، وأخذَت تلك الأخت تتلقى (التعازي) في (طفلتها)! والمصيبة أنها كانت تَرُدُّ بأن (كلماتها) مجرد (أحاسيس وجدانية) جادت بها قريحتها!
    وحينما رددتُ متسائلًا لماذا لم تنسب الخاطرة إلى صاحبها؟ انفجرت الأخت بالشتائم، وأنه من حقها أن (تنقل) ما يعجبها وتسجله باسمها، وأن الإنترنت ليس مسجلًا باسمي أنا حتى تستأذن، فأفهمتُها بأن من حقها النقل، لكن نسبة النقل إلى شخصها الكريم، يُعتَبَر سرقة، فكان الرد أنني تلقيتُ الحظر من إدارة المنتدى!
    وأحمق آخر، لم أجد لحماقته مثيلًا، كنتُ قد سجلتُ العام 2010 قصيدة شعرية عروضية لوالدي، وكتبتُ آخرها أنها (بقلم والدي: د. رياض قزيحة)، ففوجئتُ بأن الأحمق قد نسخها حرفيًا ،وأعضاء المنتدى يهنئونه بهذا الأب المبدع! وهو يَرُدُّ التهاني بكل تواضع وفخر، ولم أحتمل هذه السماجة، فسجلتُ عضوية، ودخلتُ أسأله إن كان (د. رياض قزيحة) هذا والده أم والدي؟ وكان الرد أنني تلقيتُ الحظر من إدارة المنتدى كذلك!
    وخاطرة أخرى عن طفلة فقدتُها، خاطرة تجمع بين الشعر والنثر، وجدتُ أن أخًا ما، بل مدير منتدى، قد سجلها باسمه، في القسم الإسلامي، منتدى النفحات الإيمانية! ولم أعلم ما علاقتها بالإسلام والإيمان، فأنا لا أتناول بها مسائل العقيدة والفقه، ولكن الأخ كان متفهمًا هنا، وردَّ بكل أدب واحترام، معتذرًا أنه لم يكتب اسم صاحبها، ونقلها إلى قسم الأدب والخواطر، مسجلًا آخرها أن الخاطرة للكاتب (عمر قزيحة) وأنه مجرد ناقل، ولكن.. .رغم ذلك ظلت فكرة الاعتزال تراودني، وأنى لي أن ألاحق كل من يأخذ ما أكتب ليسجله باسمه؟ ثم لو لاحقتهم فعلًا فلن يخلو الأمر من الجدال السخيف الذي قد لا يؤدي إلى نتيجة إلا فيما نَدُر.

    ولكن العام 2012 حمل إليَّ أملًا كبيرًا، أملًا في تحويل أعمالي إلى الجمهور اللبناني، ثم العربي، وذلك عبر محطتين مختلفتين، أولاهما كانت حينما التقيتُ بأحب رفاقي، الصديق الرائع محمد، صاحب موقف (أعجبتني كثيرًا)، والذي نزلت العارضة الخشبية فوق رأسه من ركلة الجزاء التي (أتحفْتُه بها)، التقينا وذهبنا نتناول؛ صباحًا؛ وجبة لحوم مشوية متنوعة، ثم اتجهنا إلى مركز للإنتاج والتوزيع الإعلامي، لأرى إن كان الختم الخاص بي قد بات جاهزًا أم لا، وكانوا عند كلامهم المسبق وموعدهم، فاستلمتُ الختم، وكدتُ أغادر، لولا أن استوقفني أحد الشباب هناك، شاب كنتُ أعرفه بالشكل فحسب، وتبادلتُ وإياه أجهزة الهاتف الجوالة قبل ذلك بسنوات، المهم أنني لبَّيْتُ نداءه لأرى ما يريد، وتوقفتُ ومحمدًا، ويا للكارثة! يا للهول! إنه يريد أن يأخذ (رأيي القيِّم) في أشعاره!
    لا أحد يعرفني على أنني شاعر، فلماذا يريد الأخ رأيي؟ جلستُ متحفزًا للفرار، وقد كان ذلك حال صديقي محمد، فكلانا لم ننسَ تجربة سابقة لنا مع شاعر متحمس في أحد المساجد، جعلنا نولي فرارًا من أشعاره، وهو يطاردنا صارخًا بها، ملوحًا بيديه، كالمجانين، حتى كاد يصعد معنا إلى منزل صديقي آنذاك، ليتابع إلقاء قصائده الدولية تلك!
    الحمد لله أن هذا الأخ لم يكن كذلك، بل كان يريد رأينا في أبيات قليلة قد نظمها، ثم أخبرنا أن لديه خبرة في المونتاج، وإن كان لديَّ قصائد شعرية، يمكن له أن يصنع منها فيديو كليب يُعرَض في القنوات الإسلامية، ويا لها من أمنية! أن يظهر اسمي على أنني صاحب القصيدة على الشاشات الفضائية!
    ولأنني أعرف أن ما أكتبُه ليس بقصائد، ولا يصلح للغناء الشعري، كدتُ أنفي له هذه الفكرة، ولكن صديقي محمدًا سألني متحمسًا (لماذا لا تعرض له قصيدتك التي ترثي بها الطفلة)؟
    بدا الاهتمام في أعين الشاب، واسمه مصطفى، لكني لم أتحمس هنا، بل سألتُه إن كان يعرف شخصًا يمكن أن يحول قصصًا لي للتمثيل التلفزيوني، فأخبرني بأنه يعرف، ولماذا لا يعرف؟
    تجدد الأمل في نفسي، وقد كان يراودني منذ سنين طوال، وفي منزلي جهزتُ عددًا كبيرًا من القصص والخواطر لأرسلها إلى الإيميل الذي أعطانيه مصطفى، ولكني لم أتلق ردًا، حتى نفد صبري بعد أسابيع، فرجعتُ إلى ذلك المركز، والتقيتُ بالأخ مصطفى، ولقد استقبلني متحمسًا، معلنًا إعجابه بكتاباتي القصصية أيما إعجاب، وحتى قصيدة (جالت بخاطري ذكراكِ أميرتي) سيحولها إلى (موال) مع مؤثرات صوتية، وتُعرَض في طيور الجنة، إن أحببتُ ذلك، ولكني لم أحبَّ ذلك! لا لأنه سيحولها إلى (موال) لا (أنشودة)، بل لأن القنوات لا تتبنى الفيديو كليب، بل تتركه لصاحبه، وليتولى تكلفته المادية بنفسه، فإن فشل فالقناة لن تخسر شيئًا، وإذا ما نجح يمكن التعاقد معه فيما بعد، وتكلفة إنتاج هذاالفيديو كليب كانت تزيد عن راتبي الشهري بخمسة أضعاف (فقط)، فتركتُ الفكرة كلها، أما القصص فأخبرني مصطفى بأنه سيحولها إلى مخرج متميز متمرس، ما أعاد الأمل إلى نفسي، ستتحقق أمنيتي السابقة إن شاء الله، ستتحقق، ولكن... هل ستمر الأيام من دون أن يتصل مصطفى بي؟ لقد أعطيتُه رقم هاتفي، ولكن أرجو ألا (ينام) كما فعل حينما أرسلتُ إليه الإيميل، لا، بل اتصل، وفي اليوم نفسه، اتصل ليخبرني أنه جالس في مكتب المخرج، والأخير يريد أن يطلب مني كتابة شيء ما ليُعرَض على المسرح، ويا للفرحة الغامرة! ولكن... لقد طلب مني المخرج طلبًا غريبًا، غير متوقع على الإطلاق.

    وضعتُ السماعة، وأنا أفكر في هذا الطلب، المخرج لم يطلب قصة قصيرة، ولا رواية اجتماعية، ولا حتى قصة بوليسية (وإن كنتُ لا أكتب مثل هذه الأنواع إلا تهكمًا، لا كقصص جرائم حقيقية)، ولكن كل شيء يهون، إلا أن يطلب إليَّ المخرج كتابة نص عن السيرة النبوية الشريفة!
    لقد أرسلتُ إلى مصطفى قصصي وخواطري، وتوقعتُ أن يكون طلب المخرج متعلقًا بها، وهناك الكثير من الكتب التي تتناول السيرة النبوية الشريفة، ولستُ بأفضل من العلماء الذين كتبوها، بل لن أتساوى معهم بشيء، فلماذا يطلب مني المخرج هذا الطلب؟ بل وآخر مهلة للتسليم في اليوم التالي، الساعة السادسة مساء!!
    رغم ضيق الوقت، لم أضايق نفسي، فالصداع كان شديدًا (بداية إنفلونزا)، فتركتُ كل شيء، ونمتُ بعمق، متسائلًا؛ قبل أن أغفو نهائيًا؛ كيف أنام، وأمامي هذا الطلب، والمهلة الأخيرة لا يفصلنا عنها وقت طويل؟!
    رغم أن الأجر المادي سيكون كبيرًا، يزيد قليلًا عن راتب شهر كامل، إلا أنه لم يكن الحافز لي لخوض التحدي، بل لأنني أردتُ أن أكتب في مجال آخر غير الذي اعتدتُه، أردتُ خوض التحدي، لعل ذلك يكون بداية لانتشار قصصي ورواياتي، واتصل بي الأخ مصطفى ليخبرني بأنه قد كتب عن السيرة النبوية، ويريد لقائي لنتعاون سويًا لإتمام النص، وضايقني هذا، فلستُ مع فكرة كتابة النص الثنائي بأي حال، ولا أعارض ذلك بشكل عام، ولكن عن نفسي، أكتب ما يحلو لي، ولكني ذهبتُ للقاء مصطفى، وكان قد كتب عددًا من المقدمات، طالبًا رأيي، ولم أبخل عليه بالتدقيق وإعادة الصياغة اللغوية، ولكني أخبرتُه؛ بصراحة تامة؛ أنني لا أجد أي مقدمة فيها تصلح للعمل المطلوب، ولا حتى لسواه، وأخبرتُه بكثير مما أعرفه من السيرة النبوية، وهو يسجل الأفكار،
    ولكن لم يكن بإمكاننا أن نكتب كما يحلو لنا، فالمدة المتاحة عشر دقائق لا أكثر، وسيكون فيه مؤثرات صوتية، ويَتَخَلَّلُهُ مقاطع إنشادية، فالنص لمسرحية إسلامية ضخمة تُحضَّر بدعم كثير من الجهات والشخصيات الإسلامية، وهناك شباب آخرون، ربما يكون بعضهم؛ أو أحدهم على الأقل؛ قد كتب نصوصًا أخرى، ما ضايقني بحق، إما أن يُطلَب العمل مني أو من غيري، لستُ في مجال التنافس والمسابقات مع أحد.
    وهنا وجدتُ نفسي مترددًا هل أكتب أم أنسى الفكرة؟ وقبل دقائق قليلة من موعد لقاء المخرج، طلبتُ ورقة أخرى، وتركتُ العنان لقلمي، ينطلق كما يحب، مستمتعًا بالصراع مع الوقت، وبالتحدي الذهني الرهيب، فهناك الكثير والكثير مما يمكن ذكره في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف أختصر كل ذلك في أقل من عشر دقائق؟!
    وهكذا، وجدتُ أنني أقوم بعمليات عقلية كثيرة، تنظيم الأفكار، الكتابة، توازن العبارات الممنوحة لكل فكرة، تسلسل الأحداث، وحينما انتهيتُ كنتُ ألهث تعبًا، لكني اتجهتُ بورقتي هذه مسرعًا إلى مصطفى الذي هتف بدهشة: (هل كتبتَ النص)؟ أجبتُه بالإيجاب، فتناول الورقة، وأخذ يقرأ النص، ثم هتف بدهشة أكبر: (كيف تكتب بهذا الأسلوب)؟
    حاولتُ جاهدًا، وفاشلًا، أن أظهر بمظهر التواضع، ولكن ابتسامة الفخر كانت كبيرة، وإحساسي بأنني كاتب رائع يتنامى في أعماقي! (بكل تواضع طبعًا) واستطرد مصطفى بحماسة: (إنه سخيف جدً)!
    اتخذتُ قراري هنا بالرجوع ونسيان فكرة المخرج والنصوص كلها، وكفاني (تشردًا) خارج منزلي من الصباح إلى المساء، ولكن كانت هذه نصيحة مصطفى نفسه! طلب إليَّ ألا أعرض النص (السخيف) على المخرج، فطلبتُ إليه أن نتَّجه فورًا إلى المخرج، للحاق بوقتنا، وكان لقائي الأول به، وببعض الشباب في مكتبه، لتكون جلسة لا تُنسَى، وفهمتُ منها ما أخطأ مصطفى فهمه.
    لم يطلب المخرج منا كتابة نصوص في الموضوع نفسه ليختار الأفضل، بل هناك شاب مكلف بكتابة مسرحية بين شخص ملتزم وآخرين عابثين بالدين، وشخص آخر يقرأ مجلدات في السيرة النبوية، فالتمويل (الافتراضي) كان هائلًا، والربح المتوقع منه أضعاف قيمة التمويل هذه، لكن كل ذلك لم يكن مهمًا لي، بل ما كتبتُه، كنتُ أنظر إلى المخرج وهو يقرأ ورقتي، مترقبًا رأيه، وأتى هذا الرأي، الرأي الرائع فعلًا، لقد قال المخرج كلامًا على غرار (دعست لي على بطني، أو في بطني) أو شيئًا قريبًا من ذلك...
    نظرت إليه في تساؤل، فأردف قائلًا في حماسة: (إنه أفضل نص أقرأه منذ زمن، هذا ما أريده بالضبط، أسلوب بسيط يتمتع بالقوة ويخلو من التعقيد، لقد حققتَ كل ذلك)!!
    لم أتمالك نفسي من النظر إلى مصطفى في شماتة لرأيه في أسلوبي، رغم احترامي كل الآراء، وزاد في الشماتة رفض المخرج للمقدمات التي كتبها مصطفى كونها خارجة عن المطلوب، ثم طلب مني المخرج تولي عمل أحد الزملاء (كتابة المسرحية بين الملتزم والعابثين)، لأن الزميل بارع بالإلقاء، لا بالكتابة المسرحية ولا القصصية، فأخبرتُه أنني مستعد لذلك، فطلب إليَّ؛كذلك؛ كتابة أشعار عن الصفات التي كان يتمتع بها النبي صلى الله عليه وسلم، لكني لم أعده بذلك كون الشعر لا يأتيني في أي وقت كان، ثم أشاد المخرج بقصصي (الرائعة)، طالبًا أن أحكي للشباب قصة (الكاميرا الخفية)، ففعلتُ ذلك لتنال استحسان الجميع، والحمد لله تعالى، ثم غادرنا مكتبه، والأمل في نفسي كبير، سَيَتِمُّ تقديمي؛ نهاية المسرحية الإسلامية؛ أمام الحضور على أنني الكاتب (الرائع)، وأنني صاحب النص (المدهش)، ويا للفخر!
    بدأتُ كتابة المسرحية فور وصولي إلى منزلي، مع كوب الشاي المعهود بلا سكر، ثم أرسلتُها إلى إيميل المخرج، لِيَرُدَّ بعد فترة باتصال هاتفي، يهنئني به على القوة الإبداعية في كتاباتي (هكذا وصفها، لا أصف نفسي)، وأخذتُ أنتظر يوم العرض الكبير، يوم الفخر، ولكن...

    سحب الممولون تمويلهم! أرادوا أن يكون العرض أضخم، ويتعدى مناسبة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ليكون عملًا عامًا، وسيدخل معنا عدد آخر من الكتَّاب والشعراء، والتمويل سيكون ضخمًا جدًا، وبالتالي رواتبنا ستكون أعلى بكثير، وأسعدني هذا طبعًا (عملان أدبيان وستكون أجرتهما ألفي دولار وأكثر)، أكثر من راتب ثلاثة شهور، ولكن... ما زلنا مع (لكن) هذه، انتهى كل شيء فجأة، اختلف الممولون فيما بينهم، وطارت الفكرة (نهائيًا) إلى السنة المقبلة، وما زالت تلك السنة المقبلة لم تشرفنا بعد! ثم أخبرنا المخرج بأن العمل انتهى إلى غير رجعة، ومن دون سبب، إلا خلاف الممولين فيما بينهم، ولا نعرف سبب الخلاف، ولا مدى خطورة مثل هذا الخلاف حتى لا يستطيع أحد أن يَحُلَّه!

    أخبرني مصطفى عن مخرج آخر، وأعطاني موعدًا فجائيًا لم أكن مستعدًا له، فحملتُ جهاز اللابتوب الخاص بي، متجهًا إلى طرابلس، إلى أحد المحلات التي أتعامل معها، لأشتري فلاش ميموري، متابعًا إلى المركز الذي يعمل به مصطفى، لأفتح اللابتوب وأنسخ كل القصص والخواطر إلى الفلاش، ثم اتجهنا _ أنا ومصطفى _ إلى مقابلة المخرج، بطلب واضح محدد، فهذا المخرج أخرج وشارك في التمثيل، عامين متتاليين، في مسلسل اجتماعي عُرِض على إحدى القنوات الفضائية الخاصة بتقديم أناشيد الأطفال، وتبثُّ على القمرين النايل سات والعرب سات، وكان طلبي هل تصلح إحدى قصصي أو بعضها للتمثيل الكوميدي أو الاجتماعي؟ وهل تشتريها القناة المذكورة مني؟

    وكانت الإجابة الصادمة، القناة نفسها طلبت إليه وإلى رفيقيه في المسلسل إعداد حلقات هذه السنة وتمثيلها، والبحث عن الممولين كذلك! فالقناة مشغولة بتمويل برنامج ترفيهي لديها، ولم أعد أفهم ما يحصل، ولا كيف يُنظَر إلى الكتابة الأدبية في بلادنا؟ هل على الكاتب أن يبحث عن الممولين ويذهب بهم إلى القنوات الفضائية؟! لماذا لا يخصص الكاتب لنفسه؛ إذًا؛ مكافأة مادية يقتطعها من راتبه الشهري، على أنها أجرته في ما يكتبه من القصص التي سَيَتِمُّ تمثيلها؟!
    طلب إليَّ المخرج أن أزوره لاحقًا، ومن يدري؟ فرجعتُ إليه بعد حوالي أسبوعين، والأمل في أعماقي لايتجاوز صفرًا في المئة، وأخبرني المخرج بأن قصصي راقَت له كثيرًا، ولكن لم يَتِمَّ العثور على الممولين، لم يعثر سوى على اثنين، كل منهما يتبرع بتمويل حلقة واحدة، وبالتالي لن يرى المسلسل النور، لأن القناة تريده متسلسلًا بثلاثين حلقة، لتعرضه في شهر رمضان، فأدركتُ بأن ما أسعى إليه ليس سوى سراب، ومع هذا، خطر لي أمر ما، فسألتُ المخرج بفضول: (ماذا عن الكاتب؟ هل سيرضى _ لو وُجِدَ الممولون _ أن يشاركه الكتابة والأجر المادي شخص آخر)؟
    أجاب المخرج بالإيجاب، فاتجهتُ للمغادرة، عالِمًا بأن الإجابة _ مهما كانت _ لن تغيِّر من الواقع شيئًا، وهنا وصل الكاتب، وجلسنا سويًا، قرأ الكاتب كثيرًا من القصص، وضحك لفكرة قصة(الكاميرا الخفية)، وأُعْجِبَ بقصة (إعلان) إعجابًا شديدًا، مع أن القصة الأخيرة تحوي ثغرة كبيرة (وكنتُ منتبهًا لها من دون مبالاة بها، لأني أهدف إلى أمور رئيسة، تتمثل بإبراز دور الإعلانات السلبي، واهتمامنا غير المفهوم بكل ما هو نشاز، والأكثر أهمية، وضع الرجل المناسب في المكان غير المناسب، ووضع الرجل غير المناسب في مرتبة القيادة التي لا يستحقها)

    أخبرني ذلك الكاتب أنه يستطيع سد هذه الثغرة، فيما لو تمكنا من إنتاج المسلسل، ولكنه يحتاج وقتًا طويلًا للتفكير، فأخبرتُه بأنني أستطيع إعادة إنتاج القصة وسد الثغرة في جلسة واحدة، ولايوجد عندي مشكلة في تغيير المبرر (المخرج أصابه الذهول) إلى حركة واقعية ضمن أحداث القصة، تتناسب مع الأحداث والسياق تمامًا.
    فتلك القصة كتبتُها لنفسي بادئ الأمر، أما الآن فإنني أحاول نشرها كقصة ممثلة، تُعرض للمشاهدين، لذا، أعدتُ إنتاجها بعد رجوعي إلى البيت، مغلقًا الثغرة بخطوات منطقية، مضيفًا إلى الأحداث ما أراه مناسبًا، لتصبح وفق الشكل الآتي:

    إعلان
    المضطر يفعل أي شيء كان!
    هذا ما قاله وليد لنفسه وهو يكاد يتميز من الغيظ
    وليد هذا خريج من كلية الإعلام بتقدير الامتياز الأول
    ومع هذا لم يجد أي عمل إلا بالمؤسسة المزعجة هذه
    مؤسسة إعلامية عجيبة جدًا، مديرها لا يحمل شهادة إعدادية
    لكن الضرورات تبيح المحظورات
    والمضطر يركب الصعاب

    _ سوف تكون مقدم إعلانات
    قالها مديره حميد في برود تام
    فانتفض وليد في مقعده صارخًا:
    _ مقدم إعلانات؟؟ أنا؟!
    رد المدير في ازدراء تام:
    _ نعم، أنت.
    وأضاف في لهجة استحقارية تامة:
    _ هذا هو مستواك الإعلامي يا رجل،
    وإن لم تكن موافقًا، فتفضل، الباب (يطلع جمل)!!
    أحس وليد برغبة أن يقوم من مكانه ويخنق المدير
    يا ترى لو فعل هذا، فهل تعتبر هذه جريمة!!
    لكن لا يا وليد، اضبط نفسك وتمالك أعصابك
    ثلاثة شهور وأنت تبحث عن عمل ولا تجد
    كل المؤسسات الإعلامية مكتفية وممتلئة عن آخرها
    وهنا فرصتك الوحيدة لإبراز مهاراتك الإعلامية الحقيقية
    ومن يدري بم يأتينا الغد؟
    ربما ستصبح أفضل مقدم نشرة أخبار في الشرق الأوسط
    أو ربما تصبح _ كما تحلم من أيام طفولتك _ مراسلًا صحفيًا في الدول
    الأوروبية

    _ لن يحصل هذا أبدًا.
    قالها المدير، وكأنه قرأ أفكار وليد
    وقبل أن يعترض المسكين
    وقف المدير يتابع كلامه بصرامة:
    _ رفيق طفولتي ومشاغباتي وحياتي كلها ممدوح، سيكون المراسل الصحفي الخاص بنا في المكان الشاغر الوحيد.
    وقف وليد، ووجهه يتلون بألوان الغضب
    لكن المدير لم يبدِ أدنى اهتمام به أو بمشاعره..
    وإنما أشار بيده مضيفًا في شماتة تامة:
    _ للمرة الأخيرة يا وليد، إما أن توافق على تقديم الإعلانات، أو (الله معك) لا نحتاج إليك!

    ما هذا الزمن المقلوب هذا يا وليد؟؟
    أنت تتعب وتدرس وتسهر الليالي
    وأهلك يدفعون لك المبالغ الجنونية
    كل هذا لأجل أن تكون الأول على دفعتك
    وبعدها يتحكم فيك ولد مثل هذا لا يحمل أي شهادة؟
    وممدوح (الزفت التاني) هذا كان في صفك ورسب
    وشهادته الوقت أقل من شهادتك
    بأي منطق سوف يكون المراسل الصحفي وأنت تقدم الإعلانات؟!

    _ ماذا قررت يا رجل؟!
    زمجر المدير في ضجر غاضب للانتظار
    فابتلع وليد ريقه بصعوبة بالغة
    وتمتم بصوت منخفض مختنق كله أسى ومرارة:
    _ مو....موا.........موافق
    وابتسم المدير في ظفر
    وأشار بيده قائلًا في (تسامح) مصطنع:
    _ استعد للتدريبات يارجل، الإعلان المساء عن معجون الأسنان
    وكاد وليد ينفجر من شدة الغضب
    مرارة هائلة تلك التي ملأت قلبه
    مرارة هائلة كانت، وبحق
    لقد بدا له أن مستقبله الذي طالما رسمه بأحلى الصور في ذهنه قد انتهى
    بل تدمر وبلا رحمة
    وكل ذلك، بسبب إنسان تافه لا قيمة له سوى الواسطة
    وليت الأمر اقتصر على هذا، لربما حاول وليد أن يتغاضى عنه
    أما أن يرى زميلًا له، أقل مستوى منه بما لا يقاس، يستولي على منصب، وليد أحق به، فهذا ما لا يمكن احتماله

    _
    هل أنت مستعد لبدء التدريب؟
    انتفض وليد من المفاجأة، إذ لم ينتبه لقدوم أحد، وهو شارد في أفكاره هذه،
    واستدار مسرعًا، ثم هتف في دهشة:
    _
    ناصر، ماذا تفعل هنا؟
    رد ناصر في (شموخ):
    _ ما هذا السؤال؟ أنا هنا لتدريبك يا رجل!
    ردد وليد في استنكار:
    _ تدريبي؟! ما معنى هذا المزاح؟!
    أجابه ناصر مبتسمًا:
    _ أخبرني المدير أنك ستقدم الإعلان عن معجون الأسنان مساء،
    وأنا هنا لتدريبك على (فنون) إلقاء الإعلانات.
    وقبل أن يعقب وليد بكلمة، أو يستوعب الوضع تمامًا،
    تابع ناصر في زهو:
    _ أنا هو المخرج يا رجل!
    وكانت الانتفاضة الثانية لجسد وليد
    انتفاضة ملؤها الاستنكار والرفض لما يرى ويسمع منذ دخوله حياته العملية..
    (أغبى) طالب في كلية الإعلام في تاريخها كله، كما وصفه الأساتذة هناك أيامها، هو... المخرج!!

    آه يا زمن، ما أقسى هذه المفاجآت!!
    ناصر الذي كان (يجري) خلف وليد في ساحةكلية الإعلام، ثم يأتيه في بيته ساعات وساعات، طلبًا للمساعدة وإعادة الشرح، سيكون مدربًا له الآن!!
    وليد الذي نال تقدير الامتياز الأول بأعلى نتائج حققها في كافة المواد على صعيد الوطن بكامله
    وليد الذي حقق نتائج مبهرة ومدهشة لكل أساتذته في كافة مجالات العمل الإعلامي
    من إنتاج وإخراج ومراسلات صحفية وتغطية إخبارية أيام المواد النظرية والتطبيقية
    يجد شخصًا كان يتضرع إليه أن يسمح له بالغش عنه في الاختبارات، وقد بات مدربًا له!!

    _ أمسك بهذا.
    مد وليد يده يلتقط في آلية، من دون أن يعرف ما هذا الذي يمسكه،
    ثم انتبه إلى نفسه، وهو يهتف في دهشة:
    _ ما الذي...
    قاطعه ناصر، مشيرًا بيده، ظنًا منه أنهذا دليل على كونه (محترف) إخراج:
    _ هذه أنبوبة معجون للأسنان، يجب أن تحملها في يدك، وأنت تلقي بإعلانك، و...
    قاطعه وليد في غضب:
    _ لم أسألك عن هذا، بل عن...
    انطلق صوت المدير حميد في هذه اللحظة، ليقاطع وليدًا بدوره:
    _ ناصر، أريدك في مكتبي قليلًا.
    نظر إليه وليد في مقت، فتابع مبتسمًا:
    _ وانتظرنا هنا يا وليد، دقيقة أو دقيقتان على الأكثر،
    وسيرجع ناصر إليك، ليتولى أمرك!!

    ودوت الكلمتين الأخيرتين (يتولى أمرك) في ذهن وليد
    بل كادتا تدمران أعصابه تمامًا
    ومع خروج المدير والمخرج، وجد وليد نفسه وحيدًا في غرفة
    التدريبات، وفي يده أنبوبة معجون أسنان.

    كل شيء قام بحسابه منذ تخرج، بل منذ دخل، كلية الإعلام، إلا هذا!!
    لم يخطر بباله قط أن يتم (دفن) مواهبه في عمل تافه كهذا!!
    لم يجل في ذهنه، ولا مرة، أن يجد من هم أدنى منه علميًا، وقد باتوا يتحكمون بأمره في العمل
    وألقى وليد بنظرة متحسرة إلى الأجهزة الإعلامية
    لكم اشتاق إلى التعامل معها
    أن يمسك الميكروفون
    أن يقف خلف الكاميرا
    أن يدلي بتعليق أو يقدم تقريرًا صوتيًا على الهواء، و...
    وهنا، خطرت في بال وليد فكرة أقل ما يقال عنها إنها مجنونة
    بكل معنى الكلمة.

    _ الحقيقة، لست أريد منك شيئًا يا ناصر.
    كان ناصر على وشك الجلوس آنذاك، لكنه توقف مبهوتًا، حين سمع كلمة المدير هذه،
    فهتف في دهشة:
    _
    كيف؟ أنت قلت لي...
    قاطعه حميد مبتسمًا:
    _
    كان هذا فقط في محاولة مني لــ(ترويض)وليد، أردته أن يذوق شعور المنتظر ليتدرب على الإعلان، بدلًا من قرفه هذا، سيطول انتظاره الآن، ولن يبقى له من هم إلا أن (يرجع ناصر ويخلصني بقى.. ورح أقدم مية إعلان مش واحد).

    ابتسم ناصر معجبًا بعبقرية مديره الفذة والتي ندر مثيلها، ولقد تابع الأخير في اشمئزاز واضح:
    _شهادات؟ ما الذي تفعله الشهادات بأيامنا هذه؟ ترى كل شخص لا يعرف رأسه من رجليه يحمل شهادة ويأتي إليك مطالبًا إياك بأن تجعله أفضل الموجودين.
    وتحولت لهجة حميد إلى الغرور، مع استطراده:
    _ صدقني يا ناصر، من أول نظرة مني إلى وليد، أدركت أنه لا يفهم شيئًا في أصول الإعلان،
    وأنت تعرف (فراستي) الرائعة في هذه الأمور.
    أسرع ناصر يقول متملقًا:
    _ فعلًا، حتى أنك أدركت (مواهبي) في الإخراج من أول لحظة رأيتني فيها.
    رد حميد، وغروره يزداد:
    _
    بالتأكيد، أما وليد فهذا أفضل ما حصلت له عليه، وإن كنت أعلم أنه لن يتوقف عن الشكوى
    والتذمر، حتى لم أعد أستبعد أن يخرج لي من شاشة التلفاز، ليسمعني اعتراضاته!
    هَمَّ ناصر بأن يقول شيئًا ما
    أراد أن يعقب منافقًا مديره ليكسب رضاه أكثر
    ولكن الأخير فوجئ به، تتسع عيناه في دهشة كبرى، وبإصبعه يشير مرتجفًا
    إلى ما خلف مقعده
    واستدار حميد ليرى ما هناك
    ثم كادت عيناه تغادران محجريهما
    فعلى شاشة التلفاز المضاءة خلفه
    برز مشهد عجيب
    إلى حد لا يمكن تصديقه
    بأي حال كان.

    لو أننا أردنا وضع عنوان مشترك للحالة العامة التي مر بها الجميع
    في تلك الأمسية، لاحتلت كلمة (الدهشة) الصدارة بكل جدارة
    وما نقصده بكلمة (الجميع) المعنى العام للكلمة
    فالدهشة لم تكن خاصة بناصر وحميد وحدهما
    أو حتى بطاقم العمل في المحطة الإعلامية بأكمله
    بل؛ كذلك؛ بكل المشاهدين للمحطة
    فلقد انقطع البرنامج فجأة، لتظهر صورة شاب وسيم ينظر
    إلى الكاميرا في سخرية، وملامحه تنطق بالتهكم وإن لم يتكلم..
    وتسمرت العيون _ كل العيون_ على الشاشة حين أخذ هذا
    الشاب يلوح بيديه في حركات معتوهة تمامًا، وجسده يترنح
    متمايلًا، وكأنما يغني إيقاعًا خاصًا به
    ثم مد الشاب يده يلتقط شيئًا ما، ليرفعه أمام عدسات الكاميرا
    وكان هذا الشيء أنبوبة من معجون أسنان
    وارتسمت ضحكة على وجه الشاب، كادت تبتلع وجهه بالكامل،
    وهو يقول:
    _
    معجون سنان، معجون سنان، بيسبب هريان، معجون سنان،
    بيعملك سعدان، معفن جربان، كلك هريان ،راسك ضربان،
    أبو أمل وسيبان، معجون سنان، معجون سنان.

    وللصراحة والأمانة، لم يقل الشاب هذا
    وإنما (غناه) بصوت منكر أجش، كأنه حمار ينهق بعد أن سُدَّ حلقه بملعقة!!
    وتزايد ترنح جسد الشاب وتلويحه بيديه، وارتفع صوته وازداد نشازًا، وهو يتابع:
    _
    معجون سنان، معجون سنان، يا بابا معجون سنان، معجون سنان،
    معجون سنان، يا بابا معجون سنااااااااااااااااااااااان!!

    ومع انقطاع البث، ارتفع صوت ناصر يهتف في استنكار، وصوته يتقطع من اللهاث:
    _
    أيها الحقير! قمتَ بتشغيل الأجهزة، لتحول بث (بهمنتك) هذه إلى الهواء! كيف خطر لك القيام بعمل أحمق كهذا العمل أيها المجنون؟
    انفجر وليد ضاحكًا، وكلمة (المجنون) تدوي في أذنيه
    كان يبدو وكأنه قد فقد عقله فعلًا
    أو أن كلمة (المجنون) قد أصابته فعلًا بـ(الجنون)!!
    لكم اعترف ناصر نفسه بذكاء وليد، وأشاد بهذا أيام الدراسة في الكلية
    واليوم بات وليد (مجنونًا) في عين من لم يكن ليرى النجاح لولا أن كرس وقته له بكل شهامة

    _ لقد جن المدير وكان سيأتي إلى هنا ليضربك، لولا أن منعته من هذا
    نظر إليه وليد بطرف عينه في استخفاف واضح
    وأخذ يرفرف بجفونه ويحرك برموشه، وكأنه يستمع إلى كلمات الغزل ويستمتع بها
    وفقد المخرج أعصابه تمامًا
    وضم قبضته واتجه ناحية وليد ليضربه

    _
    ولييييييييييييد تعاااااااااال إلى مكتبيييي حااااااااااااااالًا
    انطلق صراخ المدير المدوي يجلجل في تلك اللحظة، في أركان المؤسسة الإعلامية كلها
    ليمنع _ من دون أن يدري _ تشابكًا بالأيادي، كان على وشك الاندلاع ما بين ناصر ووليد
    ولقد قهقه الأخير ضاحكًا في شماتة، واتجه نحو مكتب المدير وهو يغني:
    _
    لالالالالا..ترالللللااااااااااااااا......لالالالال الاااااااااااااااا
    ودخل مكتب مديره متابعًا غناءه السعيد
    وجلس يمد رجليه فوق بعضهما
    وهو يقول في استهانة:
    _ خير؟
    صاح المدير في جنون:
    _ ماذا فعلت أيها التعس؟ أكيد أنت مرتش لتدمر مؤسستي هذه، مدير شركة المعجون اتصل بي ويطالب بالتعويضات، سوف ندفع كل الخسائر ونرد له اعتباراته المعنوية، بكلمة واحدة، سوف نفللللللللللللللللسسسسسسسسسسسسسسسسس
    قهقه وليد وكأنه استمع إلى دعابة طريفة
    وارتجف جسد حميد، وهو يفكر أن ينضم إلى قبائل أكلة لحوم البشر!!
    وقتها سيلتهم المجنون الجالس أمامه، والذي يحمل اسم وليد!!

    _ تررررررررررن
    ارتفع رنين الهاتف لحظتها
    وفي توتر واضح، رفع المدير السماعة قائلًا:
    _من معي؟
    استمع لحظات
    ثم صاح في ذهول تام:
    _ مستحيييييييييل
    ولم يكد يضع السماعة
    حتى ارتفع الرنين ثانية ومزدوجًا
    لهاتف المؤسسة ولجوال المدير
    وتوالت الاتصالات وبدأت آلات الفاكس تستقبل أوراقًا بغزارة
    وتصبب العرق من جبين حميد وهو يتابع كل هذا الضغط المباغت
    أما وليد فكان يمر بأحلى لحظات حياته
    لا شك أنها إهانات مستحقة يتلقاها(الأبله) المدير
    ذلك كي يتربى ويتعلم أن (الناس مقامات)
    أما المدير المسكين فما كادت تسنح له ثانية لم يرن فيها الهاتف
    حتى أسرع هو يضرب الأرقام هذه المرة ليجري اتصاله
    وما إن أتاه صوت محدثه حتى صاح في لهفة واضحة:
    _ اسمع يا رجل، كل أنابيب المعجون تم بيعها، والناس تهجم مثل الجراد على الصيدليات تريد حصتها من المعجون!!
    عجل يا رجل وابعث الشاحنات بكل الكميات التي تقدرون على إرسالها.

    شعر وليد بالصاعقة
    ماذا حصل؟!
    بل كيف يحصل هذا؟!
    مستحيل
    من المؤكد أن المدير يكذب
    أو أن الخرف أصابه من هول الصدمة

    _ قبل أن أنسى يا رجل، جاءتني عروض من شركات عربية كثيرة،كلهم يريدون كميات رهيبة من معجونك المدهش هذا، لا والله لا أمزح، هم يريدون ردكم الآن، لكن انتبه، يجب أن تطبعوا على المعجون كلمة (السعدان)، هكذا أسموه هناك!!

    وهنا وقع وليد على الأرض مطلقًا شهقة رهيبة
    وبدأ قلبه ينبض في بطء مخيف
    أولى بوادر السكتة القلبية
    والعجيب أنه في حالته هذه، كانت تنطلق صرخة استنكار في أعماقه:
    _ ماذا أصاب الناس في هذا البلد؟؟ بل ماذا أصاب العرب جميعًا؟؟
    وأنهى المدير الاتصال
    واقترب منه ينظر إليه في انبهار تام
    وبكل الفخر همس المدير:
    _ وليد
    نظر إليه وليد في ضعف شديد
    والتقت عيناهما
    عين وليد النائم على الأرض
    وعين المدير الواقف والذي لم يفكر في الانحناء ولو قليلًا
    وبمنتهى الانبهار والإعجاب والاحترامقال المدير:
    _ لماذا درست الإعلام يا وليد؟! أنت مجالك الطرب الأصيل يا ابني، آخر العروض كانت من شركة إيطالية تريد أن تكون الوكيل الحصري للمعجون هذا في أوروبا كلها، ولكن لديها شرط، شرط واحد يا وليد، لا تتنازل عنه إطلاقًا.
    تمتم وليد في إعياء واضح:
    _ أي شرط هذا؟؟
    كاد المدير يثب من مكانه، وهو يهتف بحماسة شديدة:
    _أن تكون على الأنابيب صورة المطرب (المبدع)، الذي غنى الإعلان بصوته الشجي الساحر المؤثر!

    وشهق وليد مجددًا
    شهق الشهقة الأخيرة له في الدنيا
    وانتفض جسمه كله وجحظت عيناه
    ورغم المنظر المرعب هذا لم يشعر حميد بالخوف
    بل بالانبهار
    لا بوليد
    بل بنفسه هو!
    وبكل الفخر والرضى قال حميد:
    -
    هل رأيتم كم أني عبقري؟؟ أذكى واحد أعطيه أتفه عمل، وانظروا كيف يوظف ذكاءه وإبداعه وتخطيطه كله لينجح النجاح الباهر، فكرتي العبقرية هذه جعلت مؤسستي أشهر مؤسسة في الكرة الأرضية
    وغمز بعينه متابعًا الكلام لنفسه:
    -
    هذا هو سر نجاح بلادنا العربية على فكرة، من لا يعرف كيف يقرأ ويكتب أعطه الإدارة، واجعل تحت يده أصحاب الشهادات العالية، وانظر ماذا سيحصل بعدها، وأي تطور سيصل إليه البلد.
    ورفع صوته مخاطبًا (جمهورًا) وهميًا، يتخيل أنه يستمع إليه، هاتفًا:
    _
    وأنتم، ما رأيكم؟!

    تمت بحمد الله

    ولكن هذا لم يقدِّم شيئًا ولم يؤخِّر، فما يزال عائق التمويل سدًا ضخمًا أمامنا، ولم نتمكن من تجاوز هذه المشكلة، فكان أن طارت الآمال في مهب الرياح مرة أخرى.
    وعاد الأمل، وإن كان على نحو محدود، فالأستاذ الكاتب طلب أن أكتب مسرحية للأطفال سَيَتِمُّ عرضها محليًا، ولها ممولون (هذه الكلمة جعلتني أوقن بفشل الفكرة)، ولكن الأمر كان ضبابيًا بكل الأحوال، فالكاتب لم يخبرني مضمون المسرحية (وربما لو فعل ما كتبتُها، لأني لا أكتب إلا وفق هواي الأدبي)! ولم يخبرني عن المدة، كل ما طلبه أن (أكتب) فحسب، ودخلتُ التحدي عالِمًا بأنني لن أتخطاه بنجاح هذه المرة، فأنا لا أميل نهائيًا إلى هذا النوع من الكتابات، ولكني أنجزتُ سبع مشاهد مسرحية لعائلة تحصل لأفرادها بعض الأحداث، وفيها بعض الطرافة أحيانًا، وغذَّيتُها بأشعار غنائية محدودة تتناسب مع المشاهد، كل ذلك خلال أقل من 24 ساعة، ومعظم وقت الكتابة كان في الباص، وأنا متَّجِه إلى عملي، أو عائد منه، كتبتُ عن (الصوص والدبدوب)
    و(إضراب عن الطعام) و(نحن يللي بدنا ناكل) و(حاج تحكي يا ماما) و(مين كسر الإزاز)... إلخ
    ...
    وزارني الكاتب في منزلي،بناء على اتصالي، وقرأ المسرحيات جميعها في ثوان قليلة، ولم أتوقع أنه سيقفز من مكانه سعيدًا بما يقرأ أنا نفسي لم يسعدني ماكتبتُه، رغم أنني خاطبتُ نفوس الأطفال واهتماماتهم، والمشاكل التي قد تَمُرُّ بها كل عائلة، وبعضها بنيتُه على قصص اجتماعية أو ساخرة كتبتُها قبل، وبعضها أتيتُ بفكرته من دون بناء على عمل سابق لي، ولكن الكاتب تكلم عن (الحشو) في المسرحيات، وكان مخطئًا، فالمسرحيات كانت تمشي وفق نظام صحيح، مثل (يبتدئ المشهد بباب مغلق "باب الصالون"، والأولاد في الخارج "في غرفهم" غير راضين، لأنهم لا يجلسون مع الضيوف)..مع رصد انفعالات كل متكلم في وقتها، على غرار: أمجد (في عظمة):..... ترد نورا (متضايقة)... وليس مجرد (قال، أجاب، قال، أجاب، قال، رد )!!

    ولكني في النهاية كنت أتفق مع الكاتب بعدم صلاحيتها للعرض المسرحي، بغض النظر عن السبب الذي قد يراه كلٌّ منا، وطلب إليَّ الكاتب طلبه الأخير، أن أكتب مسرحية حول فكرة معينة، فكرة استهلكتها السينما ربما، والمسلسلات قبل ذلك، ثم نعرضها للناس باسمي واسمه!!
    ولم أقبل بذلك قطعًا، ورغم ذلك عاد الأخ يتصل بعد فترة يخبرني بأنه أعطى رقمي لشخص يشتغل في الإنتاج التلفزيوني ويبحث عن كاتب، ولم أضع هذا كأملٍ أتمسك به في اعتباري، وبالفعل مضىت خمس سنين تقريبًا، ولم يتصل هذا المنتج بعد!

    كدتُ أعتزل الكتابة القصصية بأكملها هنا،
    ولكن الزمان أتى، والأيام مرَّت، لتحمل إليَّ صدمة معينة، لن أذكرها هنا قطعًا
    ولكن قلمي عاد للكتابة من بعدها، متجهًا ناحية الوجدانية، وحتى القصة الاجتماعية القصيرة
    (
    حكاية غروب)، والتي حوَّلتها إلى رواية مطولة (النجم البازغ في أعماق وحول الظلام)، ركَّزْتُ فيها على الجانب الوجداني البحث، ووجدتُ قلمي يكتب؛ أول مرة في حياتي؛ كتابة رومانسية، تجاوزت المئة والخمسين خاطرة نثرية وشعرية، بعنوان (خواطر القلوب الحائرة)...

    وما زال قلمي نابضًا بنبض المداد
    وأدعو الله تعالى أن يديم لي هذه النعمة الكبرى

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    عمر قزيحة
    26_1_2018


    التعديل الأخير تم بواسطة أ. عمر ; 27-1-2018 الساعة 05:36 PM

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...