بسم الله الرحمن الرحيم


الحلقة الثانية عشرة

أدركنا أننا سندفع ثمن تصرف هذا السائق غاليًا، لم يكن الأمر بحاجة لاستنتاجات وافتراضات،
فالجندي كان يتميز غيظًا، ولا أعلم هل كان أحد المسؤولَين في الرحلة يريد أن يتدخل لتهدئته، إذ انطلق يصرخ في وجه السائق:
_ أقول لك أن تذهب بالباص للتفتيش، فتذهب أنت خلفي! هل سنفتش إطارات ساقيك بدلًا من إطارات الباص، أم أن حقائب المسافرين في بطنك؟؟

رغم دقة الموقف أخذ بعض الزملاء يضحكون لهذه الكلمات، وأعتقد؛ مجرد اعتقاد؛ أن هذا الأمر زاد في غضب الجندي، فصرخ بوجه السائق:
_ ابقوا هنا، لن يأتي دوركم للتفتيش الآن، ربما في الغد!

كان الخبر رهيبًا بالنسبة لنا! حتى نحن الرجال لن نتحمل ذلك، فما الحال بالنساء والأطفال؟
لكن الجندي لم يبق في مكانه ليسمع اعتراضاتنا، غادر الباص، وأمام أعيننا أخذنا نرى الباصات التي تأتي بعدنا تخضع للتفتيش وختم جوازات سفر ركابها وتنطلق، ونحن في مكاننا...

ولنقول الحق هنا، لم تكن هذه كلمات الجندي بدقة، طبعًا أنا لن آتي بالكلمات حرفيًا بعد كل هذه السنين وأذكر معناها العام، وما أذكره بحرفيته أورده كذلك، لكن ما أقصده أن كلام الجندي نبا عن الأدب والذوق تمامًا بحق السائق، وأن كلمة (مسطول) ربما تكون كلمة هينة جدًا، إزاء سواها من الكلمات التي سمعها سائقنا من هذا الجندي، ولا أعلم هل يُلام الجندي على هذه التجاوزات، أم أن خطأ سائقنا الفادح جعله يستحق كل ما يقال بحقه من الإهانات؟

تكلم بعضنا مع مسؤولَي الرحلة ليحاول حل الموقف، فغادر أحدهما قليلًا، ثم رجع إلينا يخبرنا؛ بمنتهى البساطة؛ أنهم رفضوا الاستماع إليه، وأنه من الممنوع علينا أن نغادر الباص نهائيًا، ويجب أن نبقى كل هذا الوقت في الباص، ولم يخبرنا هذا الخبر السعيد، إلا وأنا أقوم من مكاني لأنزل من الباص!

هتف بي المسؤول مستنكرًا:
_ إلى أين؟
أجبته ساخرًا منه:
_ هل تعتقد أنني سأصدق هذا الكلام؟ هؤلاء بشر يقومون بواجبهم لكنهم ليسوا بوحوش، هل سيحبسوننا في الباص، من دون أكل ولا شرب؟ هل يريدون حبس النساء والأطفال كذلك؟

غادرت؛ ومعي بعض الركاب؛ إلى المسجد هناك، نجلس فيه نحتمي من أشعة الشمس التي بدأت تشتد، وندعو الله تعالى أن يفرِّج عنا ما نحن فيه من الكرب، ثم؛ بعد فترة ليست بالطويلة؛ غادر أحد الركاب ليتكلم مع مسؤولي الحدود، واستبشرنا بأن المشكلة سوف تُحَل، فقد أخبرته أن يركز لهم على مسألة وجود النساء والأطفال، وأنه لا يجوز معاقبة عشرات الناس بسبب خطأ شخص واحد، ولكن...
لم يتم حل المشكلة نهائيًا!
لا لأن رجال الأمن مسؤولي الحدود كانوا قساة القلب، بل لأن حماقات السائق لا تنتهي، بل وحماقة مسؤول الرحلة نفسه، فلقد أخبره هؤلاء أن نبقى في الباص (قليلًا) فقط، فدورنا في التفتيش قد حان، والأخ الرائع أخبرنا بأنهم رفضوا الاستماع إليه!
حسنًا، ماذا لو رجعنا حالًا للباص؟ هل تُحَلُّ المشكلة؟ لا طبعًا!
فالسائق (اختفى) كالمعتاد، ولم نستطع العثور عليه، ولكم تمنينا لو يعاوننا مسؤولو الحدود بإطلاقهم الكلاب البوليسية ليحضروه رغمًا عنه!
مرت ساعات طوال، ونحن ننتظر ونرتقب رجوع الأخ الرائع، حتى (ظهر) أخيرًا، يمشي ويتثاءب، ولكم بدا متضايقًا منا ومن اعتراضاتنا، فحضرته ذهب لـ(ينام) لأنه (متعب قليلًا)!

تم تفتيش باصنا، لنتابع انطلاقنا في رحلتنا هذه، والانتظار كان طويلًا جدًا، إذ إننا صلينا الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، ونحن ننتظر السائق، وقد انتظرناه قبلها عدة ساعات، وبعد انطلاقه بالباص بنا بقليل، توقف بنا أمام إحدى الاستراحات، لنصلي المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، ونرتاح ونتعشى و... وقد ضاع نهار كامل (تقريبًا) في انتظارنا على الحدود السعودية بسبب هذا السائق الفذ!
ولا أعلم لماذا وصفه لي صاحب شركة السياحة بأنه (غير شكل)!!

لكني علمتُ؛ فيما بعد؛ أن الباص الثاني الذي لا يقوده هذا السائق، قد عانى ركابه كذلك، لا بسبب سائقهم، بل بسبب سائقنا نحن! إذ إنهم كانوا مضطرين للانتظار كل مرة حتى نلحق بهم، ما يؤكد لنا أن (بركات) سائقنا تتجاوز باصنا المحدود، لتشمل سوانا كذلك!

صلينا المغرب والعشاء، وبعض رفاقنا دخلوا ليأكلوا، وبعضهم أكلوا مما معهم من الزاد القليل، وبعضهم لم يأكلوا لأن الإرهاق والغضب بلغا بهم مبلغهما، فلم يعودوا يستطيعون وضع لقمة واحدة في أفواههم!

وأود التوقف هنا عند عائلة معينة من المسافرين معنا، رجل وامرأته، وولديه، صبي وبنت، والبنت طفلة صغيرة جدًا، لكنها لا تكاد تهدأ، كانت تنطلق بين الركاب في الباص، لتضيفهم من كيس البطاطا (الشيبس) الذي تحمله في يدها، ولا يبدو أنه يطيب لها أن تأكل قبل أن تطعم كل الموجودين، سواء أكانت تعرفهم أم لا تعرفهم، لطيبة نفسها وكرمها، من سنين طفولتها.

وتوقفي بذكر هذه الطفلة له أسبابه، فلطالما كنت أدعو الله تعالى أن يرزقني بطفلة، وكنت أيامها متزوجًا، بل إنني كنت أدعوه تعالى بذلك، من قبل أن أتزوج حتى، لأن الطفلة مفتاح الجنة لمن يُحسِن إليها، وكانت تلك الأمنية _ ولا زالت _ الأمنية الأغلى في حياتي.

وبرؤيتي هذه الطفلة وكرمها وحيويتها، خفق قلبي، وأخذت أدعو الله ربي أن يرزقني طفلة مثلها، تكون قرة عين لي، وتكون مفتاحًا يقودني إلى الجنة يوم القيامة... ولكنْ، أنا لا أذكرها لهذا السبب فحسب، بل لأن لها دورًا ما في الأحداث، سأذكره؛ لاحقًا؛ في موضعه، بإذن الله تعالى...


نرجع إلى الموقف الذي كنا فيه آنذاك، انتهينا من الطعام قبل العشاء بمدة طويلة، لكننا لم ننطلق إلا بعد العشاء بمدة طويلة؛ ربما ثلاث ساعات ونصف؛ وذلك لأن السائق (اختفى) من أمام أعيننا؛ بغتة؛ كي (ينام لأنه متعب قليلًا)!

تنزهنا، تسوقنا من ماركت قريبة هناك، نمنا وأفقنا في الاستراحة المجاورة للمسجد، وشتمنا السائق والحظ (لم أشارك بالشتائم، لكني سمعتُ منه ما لم أسمعه في حياتي كلها)

عاد السائق مرة أخرى، يمشي متثائبًا، وأدار محرك الباص ليتابع رحلته بنا، أو هكذا ظننا، فلقد أغفينا تعبًا وإرهاقًا، ولا أظن أن أحدًا منا قد بقي مستيقظًا، ولكني أجزم بأننا جميعنا قد استيقظنا معًا، في وقت واحد...

فلقد شَقَّ ذلك الصراخ الرهيب آذاننا فجأة...
استيقظنا، لنلحظ أن الباص تتباطأ سرعته، قبل أن يتوقف بنا تمامًا...
وليس هذا المخيف هنا، بل الرعب تمثل في أن السائق نظر إلينا كأنه لا يرانا، وهو يلوح بذراعيه، مطلقًا صراخًا ترتعد له الأبدان!
إنها كارثة رهيبة قد نزلت فوق رؤوسنا، كارثة لا نعلم عنها شيئًا إطلاقًا!
وارتفعت هتافات الركاب المتضرعة لرب العالمين:
_ يا رب، استر، استر يا رب!

تابعوا معنا