بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة السادسة عشرة

ذكريات من العام 2006
وإلى الآن إذ أسترجع هذه الذكريات، أحمد الله تعالى على نعمة الأمان التي أشعر بها...
كان رد الصراف؛ آنذاك؛ رهيبًا بالفعل...
وقد أحسست؛ صراحة؛ بخوف كبير لما أنا مقدم عليه...
إنه الضياع حتمًا، وللأسف...
ضياع الحرية، وحتى لو أثبتُّ براءتي، فإنني مهدد بضياع مستقبلي المهني في حال تأخرت التحقيقات خمسة عشر يومًا متتالية...
وبمحاولة أخيرة يائسة، سألت الصراف:
_ وما شأني أنا يا أخي؟ هل تظن أنني أطبع أوراقًا نقدية؟
أجابني بعناد:
_ وما شأني أنا؟ أنت تحمل خمسمئة ريال زائفة، وستخرج من هنا لتشتري بها، و...
قاطعته؛ وقد بدا لي مخرج النجاة من هذا المأزق الصعب:
_ وهل تظن أنني أتيت من بلدي؛ في رحلة برية؛ استغرقت بنا ما يقارب الستين ساعة، لأشتري بخمسمئة ريال مزورة من السعودية، وقد كلفتني الرحلة إلى السعودية أربعة أضعاف هذه الخمسمئة؟؟
جمد الصراف قليلًا، كأنه يفكر في هذا الكلام الذي سمعه مني الآن، ولم أمهله هنا، بل تابعت استلام زمام المبادرة، لأقول له:
_ وضميرك وواجبك، يقولان لك أن تؤذيني؟ وأنا بريء؟ والمخطئ صراف لا يخاف الله، في لبنان؟
عاد الرجل يقول بعناد:
_ ولكن الشيطان ماهر، وسيوسوس إليك حتمًا أن تشتري بها، وعندئذ...
أسرعت أقاطعه بحزم:
_ إذًا؛ لنضع حلًا وسطًا فيما بيننا، قم بالخربشة على الخمسمئة المزورة هذه، بل واكتب أنها مزوة إن أحببت ذلك، واختمها بختمك، ثم...
قاطعني بدهشة:
_ ولماذا لا أمزقها فحسب؟؟
أجبته غاضبًا:
_ كي أستطيع أن أمسك الصراف الذي أعطانيها من عنقه بها، إن شاء الله.
مرت لحظات صمت قاسية، وكانت لحظات صعبة جدًا، أعتقد أنها أصعب ما مررت به في حياتي، حتى تلك اللحظة، وأخذت أفكر ماذا يمكن أن يكون قرار هذا الصراف، ماذا سيفعل؟

_ نعم، هذا ما سأفعله.
قالها الصراف، إذ يمد يده نحو سماعة هاتفه، فأدركت أنه سيبلغ الشرطة، وكدت أهرب، لكني لم أفعل، والحمد لله، إذ إنه كان يمد يده ليفتح درجًا تحت الهاتف، ما جعلني أتخيل أنه يريد استخدام الهاتف للاتصال بالشرطة، فشعرت بالخوف والتوتر، وكم أسعدني أن الصراف أخرج قلمًا من ذلك الدرج، ليخربش على الورقة النقدية بطريقة يجعل من المستحيل استخدامها، ويعيدها إلي، ورغم أنه لا يمكن لي أن أنتقم من الصراف الذي أعطانيها، كوني أخذت العملة السعودية من صرافين مختلفين، ما يجعل الحقيقة تضيع بينهما، إلا أنني كنت سعيدًا لنجاتي من هذا المأزق، مرحليًا على الأقل!

خرجت من الصرافة، شاعرًا بأنني قد رجعت إلى الحياة، ولكن...
لم تكتمل الفرحة! فلقد هتف بي الصراف قائلًا بلهجة عجيبة:
_ أنا أعرف تمامًا أنك تسكن في الفندق الذي بجوارنا، رأيتك عدة مرات وأنت تخرج وأنت تدخل!
سألته بحذر، وقد رجعت إلي مخاوفي:
_ ماذا تقصد؟؟
لم يجبني الأخ! ليتركني في حالة ما بين التوتر والراحة، ما بين الخوف والرجاء، لكني تابعت طريقي إلى الفندق، وما إن دخلته حتى واجهني مفاجأة قاسية جدًا، أنستني الصراف والخمسمئة ريال المزورة والشرطة كلها! فلقد كان الرعب يرتسم مجددًا، رعب الضياع في السعودية، إذ إن أحد رفاق الرحلة استوقفني هاتفًا:
_ أنت! لا اسم لك في الفندق!
أردت أن أسأله ما معنى هذه الخرافة التي تفوه بها توًا، لكنه تابع بلهجة مستغربة:
_ نحن نريد الذهاب إلى جدة غدًا، وأخبرتنا أنك ستذهب كذلك، سألنا عن جوازات سفرنا، جواز سفرك ليس موجودًا، لم تستلمه إدارة الفندق نهائيًا، هل هو معك؟
أجبته منزعجًا:
_ كيف يكون معي؟ إنه مع مسؤولي الرحلة السعيدة هذه!
وذهبت أبحث عنهما في كل الغرف المخصصة لنا، لكني لم أجد أحدهما، وانتظرت مدة طويلة حتى حضرا، فاندفعت إليهما أسألهما عن جواز السفر، فكان أن توجها إلى إدارة الفندق ليسألا عن جواز السفر! وكان أن سألتهما إدارة الفندق عن جواز السفر! وخرج أحدهما يخبرني عابسًا:
_ لقد سألناهم في الإدارة عن جواز سفرك، ولقد سألونا في الإدارة عن جواز سفرك، ذلك أنهم في الإدارة لم يروا جواز سفرك، ونحن في الإدارة... أقصد نحن مسؤولا الرحلة، لم نر جواز سفرك، و...
قاطعته، قبل أن يتابع هذه الحكاية الخرافية:
_ كيف لم تروا جواز سفري؟ كيف تم ختمه عبر الحدود السورية والأردنية والسعودية إذًا؟
أجابني أحدهما بحكمة:
_ توكل على الله!
وانصرفا من أمامي، وأنا أشعر بأنني دخلت مرحلة خطر غير متوقعة...
ماذا سيحصل بعد أن تنتهي رحلتنا هنا؟ كيف سأتجاوز الحدود الثلاثة في طريق الرجوع؟
أم هل سأبقى في السعودية حتى أهلك من الجوع والعطش وأنام متشردًا على الأرصفة؟ أم أن السلطات السعودية
ستلقي القبض عليَّ بتهمة الإقامة غير القانونية؟
يا له من كابوس آخر يرتسم أمامي الآن، ولما يزل الكابوس الأول بعد!
لم أدر لحظتها أن الرعب الفعلي لم يكن قد بدأ بعد، وأنني سأنال منه الكثير لاحقًا، لكنني كنت أفكر بكلمات رفيقي في الرحلة:
_ لا اسم لك في الفندق!

يا ربي! ماذا سأفعل؟
كيف اختفى جواز سفري من الفندق، بل كيف لم يتم تسجيل جواز سفري أساسًا في هذا الفندق؟
ماذا سأفعل حين ستنطلق قافلتنا راجعة إلى لبنان، بعد عدة أيام؟
عدت أبحث عن مسؤولَي الرحلة حتى وجدت أحدهما، ونقلت إليه أسئلتي ومخاوفي، فكان رده مثل زميله:
_ توكل على الله.

نعم، ما خاب من توكل على رب العالمين، فهو أرحم الراحمين...
لكن، يجب أن نأخذ بالأسباب، وأن نسعى في الأرض، وواقعيًا إن ظل جواز سفري مفقودًا، فسأقع في كارثة قاسية، لأنني لن أستطيع مغادرة الأراضي السعودية، وعمليًا يجب أن نتوكل على الله تعالى ونبحث عن جواز السفر، لكن مسؤولَي الرحلة لا يباليان بشيء، ويريدان التوكل من دون أن يفعلا شيئًا، أو يبحثا عن جواز سفري الذي اختفى من بين أيديهما، في مسافة ما، بين الحدود السعودية والفندق في مكة...

يا لها من (بهدلة) عنيفة تنتظرني!
سأدخل مخافر قوى الأمن، للتحقيق، وللتثبت من شخصيتي في لبنان، وللتأكد من أنني دخلت السعودية بشكل قانوني، ولن يستغرق هذا الأمر عدة ثوانٍ طبعًا، بل سيأخذ وقتًا، ومن المؤكد؛ كذلك؛ أنني لن أكون آنذاك أنتظر في (فيلا) أو على الأقل (منزل) أحد عناصر الشرطة، بل سأكون في زنزانة ما!

كانت تلك الأفكار التعيسة تسيطر عليَّ تلك اللحظات، وتسبب لي توترًا كبيرًا، أعتقد أنه دفع بمعدتي إلى إفراز الحموضة بشكل كبير (أسيد المعدة) حتى شعرت بأن حلقي يحترق!

سيكون موقفي صعبًا للغاية، فالخوف الآخر أن يغدر الصراف باتفاقنا، ولم لا يغدر، وهو الذي قال لي إنه يعرف في أي فندق أنا، بعد أن أعاد إليَّ الورقة النقدية المزورة؟ ماذا لو أبلغ عني، وأتى رجال الشرطة، كيف سأثبت هويتي؟ ستكون أمامهم قضية (غير شكل)! متهم بترويج أوراق نقد زائفة، ولا يملك جواز سفر حتى!

انتبهت؛ هنا؛ إلى أنني أصبحت بجوار أبراج مكة، ما أدهشني بحق!
كيف وصلت من الفندق إلى هنا؟ كيف مشيت هذه المسافة، وأنا لا أشعر بنفسي!
حاولت أن أنفض الأفكار المشؤومة من ذهني، ودخلت فرع البلاغ، لأسأل صاحب المحل:
_ في أي مسجد يصلي الشاطري؟ أنتم المحتكرون لتسجيلاته، ألا تعلم في أي مسجد؟
أجابني بحماسة:
_ بلى، إنه في مسجد الشعيبي، في حي السلامة، يصلي هو والشيخ عبد الله بصفر معًا!

كنت أعلم ذلك، ولا أتوقع أنه صحيح!
إذ إنني؛ بعد رجوعي من الرحلة السابقة ببعض الوقت؛ سافر صديق لي إلى جدة، مع بعثة ما، وتحديدًا بأوائل رمضان، وكان نزولهم في جدة، وكانوا يصلون التراويح في مسجد الشعيبي خلف الشيخ عبد الله بصفر، وإذ قرر صديقي أن يذهب إلى مسجد التقوى في شارع التحلية، ليصلي الفجر خلف الشاطري، وأن ينطلق في وقت السحور، فوجئ بصوت الشاطري في صلاة التراويح ينطلق بالفاتحة، ثم بمتابعة سورة الأعراف، ابتداء من الآية:
{وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم}...
ولقد سمع وقتها أن الشاطري قادم بشكل مؤقت فقط، هذه الأيام فقط، وبعدها سيصلي الشيخ بصفر وحده مرة أخرى، لم أتخيل أن الشاطري سيبقى هو وبصفر سويًا ثلاث سنوات! لكن؛ لا بأس، ليكن حيثما يكون، سأصلي خلفه، لكن هل أستطيع ذلك فعلًا؟
نعم، أستطيع، سأذهب إلى هناك، وأصلي خلف الشاطري، مهما كان الثمن، حتى لو لم يبق معي سوى ريالات قليلة، لا تكفيني لأصرف يوميًا سوى ريال واحد أو ريالين كحد أقصى، فأنا هنا في السعودية، في مكة، ولا أعلم هل يتيسر لي أن أرجع إليها مرة أخرى، أم لا!

رجعت إلى الفندق، لأتكلم مع مديره، وأخبرته بمشكلتي، فأخبرني بأنه لا مشكلة في بقائي في الفندق حاليًا، حتى ينتهي الحجز، وذلك لأن أجار الغرف مدفوع، حتى لو لم يكن لي اسم في الفندق...
(كأنني سألته عن هذا الأمر، وأنا لا أعلم)!
وتابع المدير بأن الأمور كلها بسيطة، سيسلمني بطاقة الفندق، وإن استوقفني حاجز الأمن في طريق الرجوع بين جدة ومكة، ليس عليَّ سوى أن أخبره أن جواز سفري في الفندق وفق الأصول، وأناوله بطاقة الفندق، وباتصال هاتفي واحد يؤكد هو أنني مقيم فعلًا في الفندق مع قافلة للعمرة، ولا توجد أي مشكلة تعترض طريق مشواري إلى جدة!

أخذت بطاقة الفندق، وخرجت مسرعًا، لأباغت بصوت يهتف بي:
_ جدة... جدة... عشرة ريالات!
سيارة تاكسي قرب الفندق؟ أول مرة أرى سيارة تاكسي هنا! وسائق السيارة يهتف بي بهذه الكلمات، أردت الركوب معه، لكني وجدت نفسي أشير إليه بالرفض، ولا أعلم لماذا، ومن دون أدرك سببًا واضحًا لهذا، وانصرف السائق، لأشعر بالغضب لأن هذه الفرصة قد فاتت...

_ جدة... جدة...
عاد الهتاف ينطلق قرب أذني، فقلت بسرعة:
_ عشرة ريالات؟
وفي اللحظة التالية، انتبهت إلى المتكلم! إنه أحد زملائي في الرحلة، لا سائق تاكسي آخر!
وأجابني الزميل بدهشة:
_ أعرف أن المشوار بعشرة ريالات، لكني كنت أسألك هل تذهب معنا إلى جدة غدًا؟ نحن ثلاثة، وربما...
قاطعته بضجر:
_ نعم، سأذهب.
ألا ينسق هؤلاء فيما بينهم؟ أخشى أن يكون عدد الذاهبين غدًا ثلاثون زميلًا لا ثلاثة!
لماذا سأل (منظم) أسماء الذاهبين غدًا عن جوازات السفر في الفندق، وهم أنفسهم لا يعرفون من سيذهب معهم، ومن لن يفعل!
انصرفت نحو الحرم، وزميلي يتابع:
_ سنصلي العصر في الحرم غدًا، وننطلق إلى جدة.

لم أفكر بالرد عليه حتى، لكني أخطأت بالموافقة، إذ (اقترحوا) اليوم التالي أن ننطلق إلى الحرم معًا، فكان من ذلك أننا تأخرنا قليلًا، بسبب تأخر أحدهم، ولقد قطعنا المسافة ركضًا، حتى وصلنا بأنفاس متقطعة، والعرق يغشي أعيننا، وصلنا في الركعة الثانية، وكان من المستحيل دخول الحرم لوجود صفوف المصلين، فانضممنا إليهم، انضممت أنا؛ وحذائي في قدمي؛ بينما خلع الزملاء أحذيتهم قفزًا، ليهبطوا على البلاط اللاهب مكبرين ملتحقين بالصلاة...
ثم بدأ الرقص الأليم!

تجربتي السابقة لم تشجعني على خلع الحذاء، لأقف بقدميَّ الحافيتين على البلاط، أما هؤلاء المساكين، فأخذوا يتقافزون ألَمًا لشدة اللهيب في بواطن أقدامهم، وتمكن أحدهم من مد ساقه ليدفع بفردة حذاء واحدة نحوه، وأخذ ينقل قدميه عليها، ويقفز بقدمه اليمنى ثم اليسرى فوقها، وما كادت تنتهي الصلاة، حتى أسرعوا جميعًا يمسكون بأحذيتهم ليضعوها في أقدامهم، وهم يرثونها _ أي أقدامهم _ بكلام متناثر عن اللحم المشوي، وإحساس الدجاجة المسكينة إذ توضع فوق النيران، وليتهم فعلوا مثلي، لكن تنقصهم الحكمة التي لا تنقصني! وأنا أستمع إليهم مبتسمًا، وذهني يسترجع مشهد ركضي السريع فوق البلاط الملتهب وآثاره الأليمة، في الحرم المدني، من ثلاث سنوات...

اتجهنا إلى موقف جدة، لنركب أول سيارة تاكسي هناك، وما إن انطلق السائق بنا، حتى سأله أحد الزملاء، يحاول مسايرته لتمضية الوقت:
_ هل أنت من مكة؟
قالها متوددًا، ليصرخ السائق في وجهه غاضبًا:
_ مكة؟ أنا من مكة؟ هل تشتمني؟ أعوذ بالله! أنت تشتمني حتمًا! هؤلاء يستحقون الحرق أحياء، يستحقون القتل، يستحقون هدم مكة فوق رؤوسهم! ألا تعلم أنهم أهانوا الرسول، وضربوا الرسول، وآذوا الرسول، وطردوا الرسول، و...
هتف به أحد رفاقنا مقاطعًا:
_ قل صلى الله عليه وسلم.
وعاد زميلنا الذي يجلس بجوار السائق، والذي افتتح الحديث، يقول بدهشة:
_ الله أكبر! ألا تزال حاقدًا عليهم من ألف وأربعمئة سنة، وربع قرن، وسنتين أو ثلاثٍ فوقها!
رد السائق غاضبًا:
_ ألا تعلم أنهم أهانوا الرسول، وضربوا الرسول، وآذوا الرسول، وطردوا الرسول؟!
سأله رفيقنا يائسًا من الوصول لنتيجة ما في هذا الحوار:
_ وحضرتك؟ من أين؟ من المدينة؟
رد السائق بحزم:
_ بل من الطائف.
هتف الزملاء:
_ الله أكبر، الله أكبر!
وسأله رفيقنا بعدها بغضب:
_ أهل مكة آذوا الرسول وضربوا الرسول! وماذا عنكم؟ ألم يقم أهل الطائف بإيذائه وضربه؟
صاح السائق بغضب هادر:
_ (وش بتقول)؟!
أحب الزملاء تهدئة الوضع، فأسرعوا يهتفون بدورهم:
_ (أنا مش وش بقول)!
_ (هو وش مش بيقول)!
_ (وش مش هو بيقول)!

انتهى الحوار هنا، حتى وصلنا إلى جدة، وتفرقنا؛ كلٌّ في اتجاه، وركبت سيارة تاكسي متجهًا إلى مسجد الشعيبي، وقد بدت لي العشرة ريالات التي دفعتها من مكة إلى هنا، والعشرين ريالًا التي نالها سائق التاكسي من قرب موقف مكة في جدة إلى مسجد الشعيبي، مبلغًا باهظًا فعلًا، استغرق المتبقي من ميزانيتي التعيسة تقريبًا، لكن لا بأس، سأصلي خلف الشاطري، صاحب أجمل صوت بقراءة القرآن، وفق رأيي الشخصي طبعًا...
وصلت إلى مسجد الشعيبي، وأخذت أتمشى هناك، لم يحن وقت المغرب بعد، ثم خطر لي؛ من باب الاطمئنان فحسب؛ أن أسأل صاحب مكتبة هناك تجاور المسجد تمامًا؛ عن الشاطري، ولقد فعلت، شاعرًا بأن السؤال لا أهمية له، ولكن...
كانت الإجابة مخيفة لي فعلًا... الشاطري صلى هنا منذ سنوات، سنة واحدة، وغادر بعدها، لكن؛ إلى أين؟ الله أعلم!
واقترح صاحب المكتبة أن أسألهم في دار البلاغ، وهذا فرع كبير لهم مقابل المسجد، ولم أتردد بدخول الفرع لأسأل عن الشاطري أين يصلي، رغم أنني رأيت أنه من الحكمة أن أرجع إلى مكة، فلن يبقى معي شيء فيما لو أردت التنقل في مناطق جدة، ولكني لم أنسحب مباشرة من دار البلاغ، سأرجع إلى مكة، ولكن لأنتظر رد صاحب دار البلاغ أولًا، وإن كان رده لن يعني لي شيئًا، فلن آخذ أي سيارة تاكسي ضمن جدة، وإلا سأجد نفسي أتسول لاحقًا...
أجرى صاحب دار البلاغ ثلاثة اتصالات هاتفية متتالية، ثم أخبرني خبرًا رائعًا:
_ الشاطري يصلي إما في مسجد (...) أو في مسجد (الفرقان) أو في مسجد (...)
(لم أحفظ اسم المسجدين الآخرين وقتها)
سألته بتهكم:
_ وهل هذه حزورة؟ أو لعلك ستتصل مرتين إضافيتين لتعطيني احتمالين آخرين؟ ألا تستطيع أن تحسم أين يصلي الشاطري؟ هل يصلي في مسجد الفرقان، أو في أحد المسجدين الآخريـ...؟
قاطعني صوت حازم من خلفي:
_ الشاطري يصلي في الفرقان.
استدرت لأرى من يتكلم، وقبل أن أفعل كان قد تابع مؤكدًا:
_ وقد صليت خلفه عدة مرات.
التقت عينانا، وهو يتابع:
_ وأنا هنا؛ بصفة خاصة؛ لآخذك إلى مسجد الفرقان، لتصلي خلف الشاطري!
صمت لحظات، ثم تابع مبتسمًا:
_ وبسيارتي!

تبدو لي هذه اللحظات أشبه بالخيال! لقد سرت مع الشاب كأنني معدوم الإرادة تمامًا، حتى فتح باب سيارة، فأدركت أنها سيارته بكل تأكيد، فركبت بجواره، وأنا أشعر بالسعادة لهذه الفرصة النادرة، و...
وانتبهت من الغفلة فجأة!
لقد قال لي إنه هنا (بصفة خاصة)، فما معنى هذا؟
هل هذا الأخ من المخابرات السعودية، وقد لحق بي بناء على بلاغ الصراف؟!
يجب أن أهرب، يجب، على الأقل سأصل إلى الفندق، وأحاول الاحتماء بمسؤولَي الرحلة، وطلب شهادتهما وشهادة كل الركاب، كي لا أسجن بسبب أنني لا أمتلك جواز السفر، وسأعطيه الورقة المالية المزورة وأشير إليه للخربشة فيها...
لعل هذا يجنبني السجن، لعل وعسى!

مددت يدي لأفتح باب سيارته، ولكنه انطلق بها في اللحظة ذاتها...
انطلق بي، في رحلة مجهولة بالنسبة لي...
مجهولة تمامًا!


تابعوا معنا