الحلقة الرابعة

إنها أيام المونديال، المونديال الفرنسي، آخر مونديال تابعت بعض مبارياته تلك الفترة الزمنية
إذ أثار اهتمامنا؛ بادئ الأمر؛ كلام عن لاعب عربي يلعب في المنتخب الفرنسي ويعتبر معجزة حقيقية، واسمه زين الدين زيدان...

لكن الأمر الثاني الذي أثار اهتمامي كان المنتخب الألماني، وما ذلك إلا بسبب ولد، صدع رؤوسنا بالألمان ولاعبيهم الرائعين المدهشين، وليته اقتصر على هذا! بل كان يخبرنا بالنتيجة التي سيفوز بها المنتخب الألماني على كل منتخب سيواجهه في المونديال، فألمانيا ستسحق أمريكا 6_ صفر وتسحق يوغوسلافيا 5_ صفر، وتهزم إيران 4_ 1(فقط)، وذلك لأنها ضمنت تأهلها إلى الدور الثاني!
أما كيف ضمنت تأهلها إلى الدور الثاني، والمونديال لم يبدأ بعد، فهذا ما لم نعرفه وقتها، وتمادى هذا الأحمق ليخبرنا بمن سيسجل أهداف ألمانيا في كل مباراة!

ففي المباراة الأولى ستتوزع السداسية بين أوليفر بيرهوف (هدفين) ويورغن كلينسمان (هدفين) وأولاف مارشال (هدف) وتوماس هاسلر (هدف)
وفي المباراة الثانية سيسجل بيرهوف (هدفين) وكلينسمان (هدفين)، وتوماس هيلمر (هدفًا) واحدًا،
والحمد لله أنني لم ألتق بهذا المحلل الفظيع سوى مرات نادرة فحسب، لكني حفظتها له!

ولا أنسى ذكر كم صرعنا هذا الفتى بكلامه عن أندرياس كوبكة، الحارس الرهيب، الذي يحتاج أي لاعب في العالم إلى أن يسدد عشر مرات على الأقل نحو مرماه، ليتمكن من نيل هدف واحد في مرماه الحديدي، لتضع ألمانيا كأس العالم في جيبها الصغير!

أذكر في مباراة فرنسا وجنوب إفريقيا كيف تحمس المعلق اللبناني ليخبرنا أن لبنان حاضر أخيرًا في المونديال! والسبب أن ببير عيسى، مدافع جنوب إفريقيا، من أصول فرنسية، لكنه؛ كذلك؛ من أصول لبنانية! وبالتالي لبنان في المونديال، و...
وسجل بيير عيسى هدفين في مرمى فريقه، فقلنا ليت المعلق لم يخبرنا بهذه المعلومات الرهيبة، لكان ذلك أفضل له ولنا!

وببساطة لم يعجبني زين الدين زيدان، خاصة حينما داس اللاعب السعودي الملقى أرضًا، وكانت البطاقة الحمراء المستحقة بحقه آنذاك...
وبالعودة إلى بيير عيسى، فقد تسبب الأخ بركلتي جزاء ضد فريقه، في مباراة منتخبه ضد السعودية، وبالتالي من أصل ستة أهداف تلقتها جنوب إفريقيا، سجل اللاعب (اللبناني) هدفين في شباك فريقه وتسبب بآخرين... ولا أدري لماذا لم (يبدع) هكذا في مباراة جنوب إفريقيا مع الدانمارك، ثاني مباراته في المونديال؟ أم أنها كانت فترة استراحة له مثلًا؟

لم أتابع سوى مقاطع من المباريات، بل تابعت ثلاث مباريات مكتملة في الدور الأول، مباراة الافتتاح بين البرازيل واسكتلندا، والمباراة الثانية بين المغرب والنرويج، وثالث المباريات بين إيطاليا وتشيلي... ومباراة رابعة في ربع النهائي بين كرواتيا وألمانيا، تلك المباراة التي فازت بها كرواتيا المغمورة كرويًا على ألمانيا الرهيبة بثلاثية نظيفة، ولم أصدق كيف رأيتُ بعدها بأيام قليلة، ذلك الولد الذي أخبرنا عن ألمانيا متغزلًا بحارس مرماها كوبكة!

ولم أتحمل أن يَمُرَّ الموقف مرور الكرام، فاستوقفته هازئًا به بطريقة قاسية فعلًا، موسعًا إياه إهانات حادة (لم أكن قد اكتسبت بعض الحكمة التي عندي الآن طبعًا)، وهكذا:
_ الكأس في جيب الألمان الصغير يا (مسطول)! خسرت ألمانيا يا (غشيم)! الحق عليها، كان يجب عليها أن تذهب إلى خياط ليوسِّع لها جيبها ليدخل الكأس فيه، بل الحق عليك! لأنك لم تنصحها بذلك أيها (الأبله)! يا سلام! 3_ صفر يا (هبلينو)! لكن، نتيجة لا أحد يحكي فيها، يا صاحب العقل (المضروب) والرأس (المنزوع) في التحليل الكروي!
ظل الولد صامتًا كأنه صنم، أو كأني أتكلم مع شخص آخر لا علاقة له به! إلى أن تابعت شامتًا بالحارس الألماني:
_ مرت الكرة من بين قدمي أغبى الحراس (كوبكة) الذي...
صرخ الولد مثل وحش ثائر:
_ تتكلم عن (كوبكة)؟ تهينه؟ آه؟ تسبه؟ ألا يؤنبك ضميرك، وأنت تصف كوبكة بهذا الوصف؟ آه؟
وأخذ الولد يدير عينيه في الأرض أمامه، لأغادر أنا بسرعة فائقة، وقد أدركت عم يبحث هذا المخبول! كل هذه الإهانات بحقه، ولم يبالِ بها، وبالمقابل لم يتحمل سماع كلمة واحدة بحق كوبكة!!
الحمد لله أنني لم أسب بيرهوف أو كلينسمان كذلك!!

المباراة الأخيرة التي شاهدتها ذلك المونديال كاملة، كانت المباراة الختامية، والتي فازت بها فرنسا بثلاثية نظيفة على البرازيل، ويا للهول! كل من يشجع فرنسا وألمانيا والأرجنتين وهولندا وإيطاليا، وأي منتخب في العالم، حتى المنتخبات التي لم تصل إلى كأس العالم، نزل يحتفل! ولنا أن ننزعج بأصوات الهتافات والصراخ والزمامير وما إلى ذلك...

ظللت أتابع كرة القدم بعدها، لكن قليلًا، إلى أن حان وقت المونديال 2002، شاهدنا بداية مباراتين فحسب! مباراة إيطاليا والإكوادور افتتاحيًا، ثم مباراة إيطاليا وكرواتيا تاليًا... إذ كان الضغط أيامها علينا كبيرًا، امتحانات التخرج من دار المعلمين، وامتحانات التخرج من الجامعة اللبنانية، وأذكر مرة كان لدينا امتحانان في يوم واحد، أنهينا امتحان دار المعلمين في عكار، وانطلقنا بسرعة إلى طرابلس لامتحان الجامعة، وكان رفيقي بحاجة إلى قلم، دخلنا مكتبة هناك لشراء القلم، وكان صاحبها يستمع في الراديو، وكم أزعجنا هتاف المعلق يعلن الهدف السابع لألمانيا في مرمى السعودية، وكم فاجأنا هتاف صاحب المكتبة السعيد لتقدم السعودية بسبعة أهداف، ما دفع زميلي إلى الانفجار في وجهه كالديناميت، لأن هذا الزميل يتابع كرة القدم باهتمام نادر، كأنها الأوكسيجين بالنسبة له، ولا يتحمل سماع حرف واحد خاطئ فيها، وبقدر ما أسعدني حماسة صاحب المكتبة، بقدر ما أزعجتني ردة فعل زميلي، فنحن على أبواب الامتحان، وليس لدينا وقت لإضاعته في الحوارات والنقاشات والتحليلات الكروية، أما صاحب المكتبة فقد وصل إلى خلاصة مفادها أن العرب لا يحبون بعضهم!
وبعد ذلك، رغم ارتياحنا من الامتحانات، إلا أنني لم أجد نفسي متحمسًا لمشاهدة مباراة كرة قدم من أولها لآخرها، بل كنت أتابع بعض المقاطع في بعض المباريات، لا كلها، إلى أن شاهدت المباراة الأخيرة بأكملها، وبانتهائها، نزل كل من يشجع البرازيل وكل المنتخبات العالمية الأخرى، إما ليحتفل بفوز البرازيل، أو ليشمت بخسارة ألمانيا...

ظلت الحماسة مفقودة هنا، حتى مونديال 2006، لم أشاهد فيه سوى المباراة الختامية فحسب، ورغم أنني لا أعرف أن لإيطاليا مشجعين لدينا، إلا أن الاحتفالات بانتصارها لم تكن قليلة! أما المونديال اللاحق، 2010، فلم أشاهد فيه ولا مباراة، ولا حتى المباراة الختامية! وما شاهدته في جميع مبارياته لا يبلغ ثلث ساعة كحد أقصى...

المونديال السابق 2014 شاهدت بعض مقاطعه، ولم أكن مهتمًا بما يسمونه (الظاهرة) ليونيل ميسي، ولا بكلامهم عن إنجازاته في الدوري الإسباني، فمما شاهدته، وجدت أنه من الصعب فعلًا أن يحمل هذا اللاعب كأس العالم، ولم يكن رأيي هذا مبنيًا على تحليلات صحيحة، فلم يكن لدي المعطيات الكافية لذلك، إنما هو مجرد إحساس فحسب... ذلك المونديال المؤلم!
ولا أعني بالألم خسارة الأرجنتين ولا فوز ألمانيا... بل أعني تضاربًا بالأيادي بين مجموعتين من الشباب في منطقة أخرى، بعضهم يشجع الألمان وبعضهم يشجع البرازيل، أدى هذا التضارب إلى نقل بعضهم إلى المستشفى، وهجوم بعضهم الآخر ليكسر نوافذ تلك المستشفى احتجاجًا على معالجتها من يخالفهم الرأي كرويًا!

وهذا المونديال أخذ الناس يجلسون في المقهى الصغير تحت بيتنا ليشاهدوا المونديال، وكنت أعرف بدخول الهدف قبل أن أراه أمامي على الشاشة حتى، من هتافهم (السعيد)، والغريب أنهم كانوا يهتفون متحمسين لأي هدف يدخل، أيًا كان الذي يسجل هذا الهدف!

هذا المونديال شاهدت بعض مبارياته كاملة، واستمعت إلى بعضها، بأن أدير التلفاز، وأشتغل في الطباعة، أو تنقيح أطروحة الدكتوراة، وأنا أستمع إلى صوت المعلق، ومما شاهدته أسفت لنتائج المنتخبات العربية، تمنينا أن يتأهل منتخبان منهما؛ على الأقل؛ إلى الدور الثاني، ولكن الخبر الأليم لم يكن له علاقة بالعرب ونتائجهم، ولا بخروج ألمانيا من الدور الأول أو الأرجنتين من الدور الثاني أو البرازيل من ربع النهائي، بل لجريمة القتل التي تعرض لها شاب لبناني، والتي تمت على يد اثنين من جيرانه، والسبب أنه استفزهما باحتفاله بخسارة ألمانيا واحتفاله بفوز البرازيل، وقد لقي مصرعه أثناء احتفاله الأخير هذا بفوز البرازيل على صربيا 2 _ صفر، ليقوم الجاران، وهما يشجعان ألمانيا، بطعنه عدة مرات بالسكين، ليقضي نحبه فورًا!

يبدو أننا (نتطور)؛ في المونديال؛ أكثر بكثير مما كنا في طفولتنا، ومن رأيتهم؛ آنذاك؛ حمقى في المدرسة، إذ يسألون كل من يقابلونه إن كان يشجع ألمانيا أو البرازيل، يبدون لي؛ الآن؛ في غاية العبقرية والدهاء فعلًا، وأخشى أن يأتي يوم يتحول فيه الحماسة لمتابعة المونديال وتشجيع المنتخبات إلى حرب أهلية بين مشجعي ألمانيا ومشجعي البرازيل، مع حلفاء مثل حلفاء الحرب العالمية الأولى والثانية، يشكلون محور الأرجنتين وفرنسا وهولندا وإيطاليا...
والله المستعان!

في ختام هذه المقالة، نستودعكم الله لننهيها بالدعاء:
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.


عمر قزيحة
20/7/2018
الساعة: 6:47 صباحًا