عروس الكون السوداء

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,290
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي عروس الكون السوداء


    عروس الكون السوداء

    ويتطاير البحر زبدًا عاتيًا، كأنما مَوْجُهُ بالمنايا آتيًا، والسماء اكْتَسَتْ لون السواد الرهيب، غيومها تزحف في كل الاتجاهات، كأنها تشكل معسكرات القتال، لِتَصُبَّ هولها فوق رؤوس من لا قلبًا دافئًا لهم يحتمون به، وأنا في تلك الحجرة الضيقة أقف أمام سرير طفلتي... لا زالت عيناي دامعتين مذ غادرتني ابنتي بجراحها العميقة بعدما غدرت بها صخور البحر، سالت دموعي نيرانًا كاوية إذ يفتقدها قلبي، الغرفة ضاقت حتى تحولت حجرة لا تختلف عن تابوت الموتى إلا في حجمها، وسقفها تلاشى، ليتركني أواجه حياة الغضب العاتية، وقلبي يهتف باسم ابنتي، يناديها بكل أحرف المد في لغتنا، أين أنتِ يا مايا؟ أم أنكِ كاتيا؟ ربما كنتِ سلوى أو نجوى، المهم أنكِ طفلتي التي افتقدتها سبع عشرة سنة متتالية، لا أعرف أين هي، ولا كيف تلاشت من عالمنا... سبع عشرة سنة تمضي، والآمال تذوي في خضم الآلام المتتالية، والدمع امتزج بدمي داخل جسمي، وليتهما امتزجا خارجه منذِرَين بالنهاية، فأي حياة تحلو وروحي ضائعة بعد ما انتزعتها مني طفلتي في رحلة تحطيم قلب أبيها؟ ولكنْ، وسط زمجرة الريح أسمع خطاها، خطى أنثوية يتردد صداها، وروحي ترتد في جسدي بعد طول غياب، لأسرع خارجًا، وأقف أمامها خاشعًا، إنها ابنتي! طفلتي صارت صبية رائعة الجمال، رأيتها أول مرة هنا عروس البحر الزرقاء، والآن أراها عروس الكون السوداء، يتناغم فستانها الأسود وتلكَ الغيوم، ينسجم ولونَ موج البحر الذي نسي هويته وتخلى عن لونه القديم، وقميصها الأبيض أشبه بلون الزبد، ولماذا؟ لماذا لا تهدأ دموعي؟ يا دموعُ، قد انهمرتِ أسًى لفراقها، فها هي الآن، فلم تنهمرين بعد؟ وأشعر بجسمي يرتجف تأثرًا، ينتفض شوقًا وحنينًا، فأفتح ذراعيَّ عن آخرهما لأحتضن ابنتي، لأبثَّها أمانًا أفتقده منذ غابت عني، وتهمس ابنتي بصوتها الحنون، تُعَبِّر عن دهشتها لحرارة ماء السماء! لا يا عزيزتي! إنما هذه دموع أبيكِ التي تخرج من كيانه حممًا لاهبة، بجراحٍ نازفة، سبع عشرة سنة أعيشها في انتظاركِ، أفلا ترحمينني؟ وأمسك بِيَدِ ابنتي، لأرفعها مقبِّلًا إياها بكل آلامي المتجددة، وإذ ترتفع يدها ينحني جسمي حتى أركع أمام طفلتي، ولا زلتُ أقبِّل يدها تلك القبلة الممتدة، قبلة الامتنان، قبلة الحب، قبلة كلمة (بابا) التي لا زالت تدمر نفسي يومًا تلو الآخر، وتمسك طفلتي بكتفيَّ وقد أدهشتُها لما فعلت، إنها لا تعلم أنها ليست بأنثى فحسب، بل هي إلى جنان الله تعالى مفتاح، ربما ينقذني من عذاب النار يوم الحساب الرهيب، فكيف لا أقبِّل يدها؟ كيف لا أرجوها أن ترحم ضعفي وتشفع لي؟ بل كيف أطلب إليها ذلك، وهي لا تشعر بأني قد قدمتُ إليها شيئًا بعد! وأنهض لأحتضنها، ولكن... لا يا زمان لا! شياطين البشر تعوي، فَتَفِرُّ ابنتي، ويصرخ وجداني بها أن انتظري، وأتحدى على ضعفي وجراحي شياطين البشر وسواهم لألحق بابنتي وأحتضنها، ولا تجد ابنتي لها ملجأ إلا هناك... في قلبي! نعم، اختفت ابنتي من أمام عيني، ولكنها دخلت قلبي تطلب؛ هنالك؛ الأمان، وهل يستطيع قلبي أن يحتمل نبضين؟ إن نبض ابنتي بكل حيويتها يتحد بنبض جسمي الذي أنهكته السنوات الطوال، وأشعر بأوتار صدري تتمزق، ولا أبالي! تمزقي إذا شئتِ، وأنت يا قلبي، اخفق بعنفك المعتاد، اخفق ولا تتردد، فلتتسارع نبضاتك حتى تودي بي إلى الآخرة فلست بك أبالي، يكفيني أن نبضاتك تحمل اسم ابنتي، حبيبة قلبي، آه لكم تمنيت لو أقتطع جسدي قطعًا في سبيلها، لكن قَدَرُها أن تغيب في قلبي فلا أراها، وأمشي رغم الظلام الشديد، ضياء ابنتي يذهب بالظلام، وأتقدم نحو البحر بزبده الغاضب وموجه المهتاج، وأنظر إليه بهدوء يثير عجبه مني، أجل يا بحرَ الردى، لست منك بخائف، طفلتي في قلبي فكيف أخافك؟ اغضب كما تشاء، ولتتطاير أمواجك، ولتغادر مكانك لتبتلع كل من ترى، فلست أخافك، بل إنني؛ يا بحرُ؛ أعلم أن الزمان سيدور، وسترجع ابنتي يومًا ما تجلس على صخورك تتأمل صفاء نفسك، سترجع عروس البحر مجددًا، ربما لا يكون فستانها بلون غضب السماء آنذاك، ولكن جمالها سيكون قِبْلَة الأعين جميعًا، فابنتي فيها حلا الأيام، وروعة السنوات، سترجع عروس البحر يومًا ما، لكني لن أكون؛ يا بحرُ؛ هنا! بل سأكون هناك في أعماقك، جثة هامدة، من حولها تسبح أسماك الحياة الجديدة، سأكون في أعماقك جسدًا، وفي الآخرة روحًا تنتظر أن يسكن قلق سنوات حياتها الطوال، فاغضب الآن كما تشاء، ابنتي هنا! ويا ابنتي قلبي اسْكُنِي، ونبضاته أيا نبض روحي أَسْكِنِي، فإني الآن في طريقي أمضي، ومعي رفيقان وفيان لا يفارقانني، دموعي والخفقة القاسية في قلبي، ومعي أنتِ يا روحًا أفنيْتُ آمالي وأنا أبحث عنها، ابنتي، لعلكِ في عالمكِ البعيد تسمعينني! لا أصدق أنكِ لستِ في مكان ما في هذه الحياة، ربما أخفتكِ أيادي نهر الكراهية السوداء، وستظل روحي تبحث عنكِ في كل مكان، حتى يتحقق وجودكِ ما بين قلبي الذي يهمس حبًا وحنينًا، وعيني التي تصرخ بصوتكِ شوقًا وألَمًا... نعم يا ابنتي، ليكن قلبي ملاذكِ، وليكن قلبكِ موضع استقراري من رحلة حياتي، فلم يَعُدْ بي طاقة لتحمل العذاب، وتبتسم ابنتي ابتسامتها الصافية التي تشعل الروح بريقًا وهاجًا، ويدوي الرعد بغضب هدَّارٍ في السماء البعيدة!


    (عمر قزيحة: 28_2_2019م: الساعة: 17:55 دقيقة مساء).



  2. 3 أعضاء شكروا أ. عمر على هذا الموضوع المفيد:


  3. #2

    الصورة الرمزية Jomoon

    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المـشـــاركــات
    5,615
    الــــدولــــــــة
    لا يوجد
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: عروس الكون السوداء

    السلامـ عليكمـ ورحمة الله وبركاته~

    ما شاء الله تبارك الرحمن،
    ماهذا الجمال؟!،
    تَحَرق قلبي لمقطوعتك الجميلة،
    عزفتَ برقة وألم!،
    ماهذا الكيان الذي تمزق!،
    خلف الخطوات تتبع!!،
    لعله يروي شوقه وحنينه لتلك الطفلة الساكنة في الأمواج!!،
    لا يهمه الغضب!!،
    ولا اضطراب قلبه!!،
    ولا تخبطاته في الظلام!!،


    أسكن ربي قلبك عاجلاً بما تحب!،
    وأجاب مطلبك دنيا يارب وحسنى في الآخرة
    كتابة مدهشة جميلة فخمة ما شاء الله
    دخلت في جوها!!،
    باركك ربي،
    وأجزل لك العطاء،
    استمر،
    في حفظ المولى،،
    ~

  4. #3


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,290
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: عروس الكون السوداء

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Jomoon مشاهدة المشاركة
    السلامـ عليكمـ ورحمة الله وبركاته~

    ما شاء الله تبارك الرحمن،
    ماهذا الجمال؟!،
    تَحَرق قلبي لمقطوعتك الجميلة،
    عزفتَ برقة وألم!،
    ماهذا الكيان الذي تمزق!،
    خلف الخطوات تتبع!!،
    لعله يروي شوقه وحنينه لتلك الطفلة الساكنة في الأمواج!!،
    لا يهمه الغضب!!،
    ولا اضطراب قلبه!!،
    ولا تخبطاته في الظلام!!،


    أسكن ربي قلبك عاجلاً بما تحب!،
    وأجاب مطلبك دنيا يارب وحسنى في الآخرة
    كتابة مدهشة جميلة فخمة ما شاء الله
    دخلت في جوها!!،
    باركك ربي،
    وأجزل لك العطاء،
    استمر،
    في حفظ المولى،،
    ~

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    كل الشكر لكِ أختي الكريمة لدعائكِ الطيب
    ولرأيكِ الراقي في تواضع أسلوبي وكلماتي
    بارك الله بكِ ولكِ، وحفظكِ من كل سوء.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...