نص (ليس بقصد الإحراج)
1_ نحن في محل الحلوى الذي نُدِيرُهُ، نتَّبع أسلوبًا ما فتئنا نتَّبعه، مُذْ دَفَع بنا والدنا إلى العمل، ووزَّعَنَا بين مهام الحانوت، بعضنا للبيع، وبعضنا للحسابات، أما هو، فلا يستكين في موضع، فهو كل شيء، ولا شيء في آن واحد، يقول لنا إذا لمس فينا إعراضًا أو نفورًا في خدمة أحد: "خذوا الناس باللطف، وقَدِّموا لهم مما هو أمامهم، حبة زائدة أو ناقصة لن تفعل شيئًا، وأكثر الناس تأسرهم مثل هذه البادرة، فَيعْزُمُون إذا كان في نفوسهم شيء من التردد".
2_ وكنا نأخذ بنصيحته، ونلمس جدواها، ولكننا إنصافًا للحق نقول إن هؤلاء الذين يقبلون أن يتذوقوا هم القلة، لا سيما إذا كانوا رجالًا، فهم عادة لا يدققون، بل يطلبون الصنف بالاسم الذين تكون قد حددته لهم الزوجات، أما النسوة فَلَهُنَّ شأن آخر، فالواحدة منهن تطيل التأمل والمقارنة، وتقبل بابتسامة كل ما نعرضه عليها على سبيل التذوق، ثم تقف فوق رؤوسنا، كما يقولون، ونحن ننسق الحبات في صناديقها الكرتونية لتطمئن إلى أن كل شيء يجري على ما يرام.
3_ على كل حال، كان للقاعدة شواذ بين الرجال، وشواذ القاعدة هنا رجل يزورنا بمعدل مرتين في الأسبوع، يقف أولًا بباب الدكان، وقد عقد كفيه وراء ظهره، ثم يبتسم ابتسامته الهتماء
[1]، ويدخل المحل وقد زاغت عيناه بين تلال (التوفي) و(الملبس)، فأتبادل وأخي ابتسامة ذات معنى ما أظنه أدركها مرة، ويسألنا عن أصنافنا الجديدة، فنصطنع الجد ونحن نُطْنِبُ[2] في مزاياها، وهو يستمع إلينا جادًا مُتَحَلِّبَ الفمِ، قائلًا بين اللحظة والأخرى: (هكذا، هكذا)!!

4_ وهنا تدركنا الشفقة، فَنَمُدُّ إليه حبة يضعها بين أسنانه، يمصها ثم يديرها شمالًا أو يمينًا إلى حيث تُسْعِفُهُ أسنان لا يملكها في واجهة فمه، وإذ ينتهي منها يقول، وهو يمسح فمه بظاهر يده: (حلوة، شديدة الحلاوة، ليت السكر كان فيها أخف) أو (رائحة البيض فيها ظاهرة، هذا لا يناسبني) فنضحك ونحن نقول له بدورنا: (هكذا)!!

5_ كنا نعلم أنه لا يشتري، وأنه لا يملك في جيبه ما يشتري به، ولكن حبه الطفولي للحلوى كان لا يقاوم. وكان دخوله المحل وسيلة يذوق بها قطعة من الكعك، أو حبة من هذه الآلاف المكدسة. وإذ كنا نتأفف، كان والدي ينتهرنا بقوله: (لا تحرموه هذه المتعة، لعلها الوحيدة في حياته، دعوه وشأنه).

6_ ذات صباح، دخل الشيخ، وكان المحل غاصًا بالزبائن، يبتاعون حلوى العيد بسخاء لا تعرفه أيامهم العادية، وحين دخل رفعْتُ يدي متأففة، فرمقني والدي ببعض التأنيب، وقبل أن يفتح الشيخ فاه، امتدت يد أبي إلى علبة ملفوفة كنا قد جهزنا لنبعث بها هدية من المحل إلى زبائننا، فتناولها وقدمها إليه قائلًا: (هدية لك بمناسبة العيد)، تردد الرجل في مَدِّ يده، فأخذ أبي يقول: (هدية، هدية، ألستَ زبونًا قديمًا؟ اقبلها).

7_ وكان واضحًا أن الرجل قد أُحرج، فقد انتفخت رقبته قليلًا، وزحف شيء من الاحمرار إلى وجهه، ولكنه لم يحمل العلبة، ولم ينصرف، بل وضعها جانبًا، وقال: (أريد أشياء أخرى)، وسكت لحظة، وأردف: (أشياء كثيرة.. علبة الشوكولا هذه الكبيرة، و...دزينتين من كعك جوز الهند وكيلو.. _ هل تسجلين ذلك؟ سجليه لئلا تنسي _ أو كيلوين من هذه الحلوى، و...و...، هيئيها في ربطة واحدة مع علبة الهدية وحضري القائمة. سأمرُّ خلال عودتي إلى البيت وأحملها.. وأدفع لكم.. أجل.. أدفع لكم).

8_ قال ذلك، واستدار، وقد كاد أن يصطدم بهرولته بعجوز وطفل... وترك المحل من دون أن يودع الواجهة بنظرة أخرى قبل أن يحاذي سلسلة من الحوانيت
[3] التي لا يبدو أنه يهتم بها.

9- هل أقول إننا لم نكلف أنفسنا عناء تحضير الأغراض وربطها؟ كما أننا لم نكن لنصدق حتى لو نحن هيأناها له بأنه سَيَمُرُّ ليحملها، ولكن ما أثار ألمنا حقًا هو أنه ترك علبة الهدية، وأننا لم نَعُدْ منذ ذلك الصباح نرى له وجهًا.
سميرة عزام _ من كتاب العيد من النافذة الغربية _ بيروت _ دار العودة _ 1982م.


[HR][/HR][1] ابتسامته الهتماء: أي ابتسامة تكشف عن أسنان متكسِّرة لا أصول لها.
[2] نُطْنِب: نبالغ.
[3] يُحاذي سلسلة من الحوانيت: يَمُرُّ بجانبها.