Gnotobiotic Room

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: Gnotobiotic Room

  1. #1


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,305
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي Gnotobiotic Room

    Gnotobiotic Room
    طبعًا الحكاية خياليَّة، وضمير المتكلِّم لزوم السرد فحسب.

    الروح تمرض كما الجسد، وتتعرَّض إلى جراحٍ غائرةٍ في صميمِها وإن كنَّا لا نراها، وجريح الروح يحتاج إلى طبيب لِيداويَهُ، لكنَّه طبيب يجب أن يرى ما لا يُرى في المعتاد، طبيب تخصُّصٍ في أعماق النفوس البشريَّة ودرس أمراضها وعِلَلِهَا وطرق علاجها، فأحيانًا كثيرةً يستغرق العلاج وقتًا طويلًا، ربَّما أسابيع وربَّما شهور، ويُشفى المريض من دون أن يتناول حبَّة دواء واحدة.
    ولكنْ، كما يتناقض طبيب الجسد باعتماده الدواء وتسرُّعه في عملية الشفاء، وطبيب النفس باعتماده الكلام الهادئ أحيانًا، والإصغاء التام معظم الأحيان، ولا يتعجَّل الشفاء، فإنَّهما يتَّفقان في أمر جوهري، يتعلَّق بشرف المهنة،كلاهما لا يحقُّ له الإفصاح عن أسرار مرضاه مهما بلغت من السوء، وإن كانت المهمَّة على عاتقنا، نحن أطباء النفس، أشدَّ وأقسى، إذ لا يُستبعد أن يجيء قاتل ليعترف بجرائم تشيب لهولها الولدان والأبدان!
    اليوم أحدِّثكم عن حالة عائشة، عائشة فتاة في أوَّل مراهقتها، بل ربَّما في آخرها، طويلة القامة، شقراء، دخلت مكتبي وجلست على المقعد المقابل لي، وأخذت تتأمَّل جدران العيادة في صمتٍ كأنَّها محتارة من أين تبدأ، أفسحْتُ لها مجالًا في الوقت كما تريد، من بعد ذلك، يبدو أنَّها حسمت أمرها أخيرًا، فقالت لي في ثقة: مشكلتي لن تجد أحدًا يعانيها في العالم كلِّه!
    لم يؤثِّر بي هذا الكلام، فأنا أسمعه من كل المرضى عندي تقريبًا، وبعد ذلك نفاجأ بأنَّها حالة فوبيا phobia من الصراصير الطائرة عند بعض البنات! أو حالة بارانويا Paranoia حادَّة عند بعض البنات أو بعض الشباب، فكلُّهم عبقري مضطهد، لا يقدِّره أحد، بل ويسعون إلى تحطيمه وتحجيم قدراته الكفيلة بإنقاذ العالم، بل - وتصوَّروا ذلك - مرَّةً جاءت فتاة تكاد تبكي لأنَّها اكتشفت أنَّها تعاني فوبيا ركوب الطائرات Aviatophobia، مع أنَّها لم تركب طائرة في حياتها وليست مطالبة بركوب واحدة!
    كنت أعرف الخطوة المعتادة، ستنفعل قليلًا وهي تبدأ بشرح مشكلتها، وتنظر إليَّ قليلًا كأنَّها تنتظر ردَّة فعل تعاطفيَّة، ولا أبخل عليها بذلك، لكنِّي أشير إليها لتسترخيَ على الشيزلونج، وتشعر فعلًا بأنَّهَا مريضة نفسيًا وتحتاج إلى علاج، وقد أتَتْ إلى من يعالجها، فذلك ممَّا قد يسهم في علاجها فعلًا، ما لم تكن مصابة بالهيستريا Hysteria وتبدأ معها نوبة شديدة تستغرق وقتًا طويلًا لمجرَّد تهدئتها لا يكفي لفعل أيِّ شيء آخر، إلَّا في ميعاد جلسة أخرى.
    وأنا أتبع هذه الطريقة مع مرضايَ كلِّهم، لكنِّي هذه المرَّة لم أفعل، فما قالَتْهُ عائشة كان آخرَ ما أتوقَّعْه حينما تحدَّثَتْ عن المشاكل، والدتها مريضة بالسرطان، ووالدها استدعى طبيبًا من الأقارب في وقت متأخِّرٍ في الليل بسبب انتكاسة صحِّيَّة قاسية أصابت الأمَّ، ولم يتردَّدِ الطبيب في تلبية النداء وأتى، وبكلِّ نبلٍ عالج المريضة ولم يرضَ بأن يأخذ أجرًا.
    طبعًا هذه ليست مشكلة قاسية أو حتى هيِّنة، أعني بالنسبة إليَّ كطبيب نفسي، لكنَّ المشكلة أنَّ هذه الفتاة التي لا تكاد تبلغ الثامنة عشرة وجدت نفسها معجبة بهذا الطبيب! وإلى الآن ما يزال الوضع عادِّيًا، لكنَّ الطبيب وجد سيارته متعطِّلةً إذ نسي إطفاء أضوائها للهفتِهِ على المريضة، وخرجت عائشة إلى الشارع لتخفِّف عن نفسها التوتُّر العنيف الذي عاشته في الساعة الماضية، خرجت رغم أنَّ الوقت الثانية ليلًا، وذلك لتشتريَ بعض المأكولات التي تهواها البنات من الشيبس والشوكولا من الدكَّان الصغير هناك، والذي يفتح على مدار الساعة.
    كدت أعتقد بأنَّنِي بدأتُ أفهم أبعادَ القضيَّة، وهي تسكت وتتردَّد ثم تتكلَّم في حيرةٍ كأنَّها تكلِّم نفسَهَا ولا تشعر بي: نعم، رأيته من قبل، أنا واثقة بذلك، لكن هل رأيتُهُ أو لا؟ قلت لنفسي إنَّها ولا شكَّ تعاني ظاهرةً عادِّيَّةً يمرُّ بها الكثيرون من مرضانا، وهي وهم الرؤيا السابقة التي لم تحصل Déjà vu، لكنِّي أدركْتُ بعدَها أنَّها لا تتحدث عن إنسان ما، فصاحبة الدكَّان هي أمُّ هشام العجوز الحنون الطيِّبة، لكنِ الزقاق الضيِّق المظلم الذي يمتدُّ من خلف الدكَّان إلى مكان ما، كانت هذه الفتاة تشعر بأنَّها مرَّتْ به عدَّة مرَّات من قبل، وهي لا تفهم سبب هذا الشعور، وإن كانت تكاد تكون متأكِّدة من أنَّها لم تمرَّ به في حياتها!
    وهذا ليس تناقضًا طبعًا، بل هذا جزء ممَّا ذكرناه من مرضها الذي اعتقدت أنَّها مصابة به، ونعرفه نحن بوهم الزيارة المسبقة déjà visité، وجال في خاطري أنَّها تعاني رهابًا ما سببُهُ المكان المظلم أو يحمل لها ذكرى تعيسة، وبدا لي ذلك واضحًا من توتُّرها، وشعرت بالسعادة وأنَّني أدركت المرض بنجاح وبسرعة، حينئذٍ تابعَت، وهي ترتجف توترًا: ومن ذلك الزقاق خرج لي شابٌّ، يبدو متشرِّدًا متوحِّشًا، لحق بي، ركضت وأنا أصرخ نحو بنايتنا، وكان ذلك الطبيب يقف في الشرفة رأى المنظر، فأمسك بِقِدْرٍ نحاسيَّةٍ ثقيلةٍ كنتَ قد وضعتُها هناك لتجفيفها، وألقاها بكل قوَّته لتهوي على رأس مطاردي الأحمق، وتلقيه أرضًا والدم ينزف من رأسه!
    كنت فرحًا بنجاح تشخيصي السريع لكنَّها فاجأتني وهي تتابع باكيةً: أنا المسؤولة عن ذلك، صحيح أنَّه هرب بسرعة، في سيَّارة قريبة، لكنِّي وشيت برقمها، وكان... آه؟ نعم نعم كان (...) إلى الطبيب، وحضَّرنا ضدَّه محضرًا في الشرطة، ولا بدَّ أنَّهم سَيُمْسِكُونَ به ويعاقبونه بتهمة محاولة الاختطاف.
    سألتها في دهشةٍ وحذرٍ: تهمة؟ وأبعاد ما أقول تتَّضِحُ في ذهني، وأنا أضغط زرَّ التسجيل في المسجِّل الصغير الذي أضعُهُ على طاولة قريبة، لا تستطيع رؤيتها من مكانها، بدون أن أستأذنها في ذلك كما تقتضي أخلاقيَّات المهنة التي درسناها، فلقد توقَّعْتُ سماع شيء بشع، ولم يَخِبْ ظنِّي، أخبرتني وهي تنتفض من البكاء، أنَّها تعيش وحدها بين أربعة جدران في البيت، وهذا الفتى تعرَّفَتْهُ في الجامعة وأحبَّتْهُ، وأحبَّها أو هكذا تظنُّ، اتَّفقَت معَه على المكان والزمان ليختطفَها في سيَّارته، وكانت مستعدَّةً فعلًا لذلك، ولكنَّ قدوم الطبيب اليومَ أربك كلَّ شيء في حياتها، لقد وقعَتْ في غرام الطبيب الذي ربَّما يكون من جيل والدها أو أكبر منه، رأت فيه الرجل الذي يستطيع حمايتها، ورغبت في أن يتزوَّجَهَا، ووجدت نفسها تكره ذلك الفتى السمج ثقيل الظلِّ، وتصرخ بدون إرادتها وتجري، وهو يجري خلفها محاولًا أن يفهم سبب صراخها، بدا لي أنَّ صراخها أربكَهُ ليركض خلفها متجاهلًا أنَّ صراخها سيجذب الناس، بدلًا من أن يهرب، أو ربَّما يحبُّها إلى حدِّ الجنون ليبقى في مكانٍ يرتفع صراخها فيه، مخاطرًا بنفسه بهذا الأسلوب الغريب!
    هدأَتْ هي قليلًا هنا، أمَّا عقلي فكان يفور في مكانه، وأنا أتخيَّل الموضوع، شابٌّ بريء، وإن كان وغدًا يستحق الركل بالأقدام لموافقته الفتاة على هذه الفعلة الغبيَّة، لكنَّه بريء من اتِّهامِ أنَّه يريد اختطافها رغمًا عنها، وقد نال جزاءَ غبائه قدرٌ نحاسيَّةٌ كبيرةٌ ربَّما تضطرُّ به إلى المستشفى لإجراء غُرَزٍ جراحيَّةٍ في رأسه، والآن تبحث عنه الشرطة، وسينال مدَّةَ سجنٍ طويلة جدًّا، وهذا ليس عدلًا، لكن ما أفعل أنا؟ طبيب النفس مثل كاهن الاعتراف، عليه فقط أن يستمع اعترافات المخطئين ولا يحقُّ له إفشاؤها، لكنْ ماذا لو سكتُّ أنا؟ هل يدفع مراهق أحمق سبب عدم توازن عقله وفهمه الحياة معظم سنوات حياته في السجن معَ المجرمين؟ لا، السكوت عن ذلك جريمة حقيقيَّة!

    * ما ينبغي أن أفعل بالضبط؟
    * سأحافظ على أخلاقيَّات المهنة، فهذا الأحمق يستحقُّ العقاب حتَّى لو لم يَنْوِ اختطافها!
    * بل هو عوقب بالفعل بضربة فتحت رأسه، ومن الظلم معاقبته على ما لم يفعل، ولكن...
    * ما ينبغي أن أفعل؟ لا أعلم!

    تابعوا معنا الجزء الثاني



  2. الأعضاء الذين يشكرون أ. عمر على هذا الموضوع:


  3. #2


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,305
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: Gnotobiotic Room

    Gnotobiotic Room
    الجزء الثاني

    تركْتُ المريضة تمضي محدِّدًا لها وقتًا آخر، بدونِ أن أسألَهَا السؤال الواجب: وما مشكلتكِ الآن؟ لتتكلَّم وتحدِّد مكمن المشكلة بالضبط، وأخذت أفكِّر مليًّا وأحزم أمري ثم أنقضه تكرارًا، إلى أن حسمت الموضوع، فاتَّجهت نحو مخفر الدرك، وطلبت مقابلة الضابط المسؤول، وأخبرْتُه بتفاصيل القصَّة، وأن الشابَّ صاحب السيَّارة ذات الأرقام (...) أراد اختطاف عائشة، وذلك وفق طلبها هي، وهو بريء من أيِّ شيء آخر، وقد نال جزاءه ضربةً في رأسه، وأخذت عليه عهدًا مغلَّظًا بأن لا يتكلَّم أمام أحد بأنَّني زرْتُه أو حتَّى كلَّمْتُه، ووعدني بذلك، رجعت إلى منزلي وأنا مرتاح الضمير، ولكن!
    أأرتاح وقد خرقت قواعد مهنتي مرَّةً ثانية؟ لا، بل بلى! لقد حميْت مستقبل مراهق، ولكن، تطوَّرَت كلُّ الأمور بغتة، لقد وجدوا تلك السيَّارة وألقَوا القبض على صاحبها، وهو ذاهب إلى عمله في مطعم صباحي صغير، ولقد أنكر كلَّ شيء، هذه القصَّة لم يسمع بها ولا يعرفها، بل إنَّه لا يذهب إلى تلك المنطقة ولا يعرف أحدًا فيها، لكنَّهم لم يصدِّقوه وأوسعوه ضربًا ليعترف، ثمَّ استدعوني إلى المخفر لأتعرَّفه هل رأيته من قبل؟ وهل هو المشتبه به أو لا؟
    كان هذا التصرُّف غاية في الحماقة والغباء منهم في نظري، لكن يبدو في نظرهم أنَّ هذه هي (أصول مهنتهم)! لا أعلم لماذا لمست الصدق في نبرات الشابِّ، رغم حِدَّةِ صوته، وهو يصرخ إذ يدخل غرفة الضابط: هنا من سيتعرَّفني ويؤكِّد لكم جريمتي؟ لماذا لم يتحفنا بحضوره قبل أن تضربوني؟ من؟ أنتَ الذي تعرفني؟ هل رأيتك أنا في حياتي؟
    رغم تأكيدي لهم بأنَّني لم أرَهُ ولا أظنُّ أنَّه رآني، إلَّا أنَّهم أعادوه إلى الزنزانة، ثم أرسلوا دوريَّة لإحضار عائشة، وقد فعلوا ذلك بأسوأ طريقة ممكنة بالنسبة إلى فتاة تعتزُّ بنفسها وبأنوثتها، وضعوا الحديد في يديها وهي تحت بيتها، واقتادوها إلى سيَّارة الشرطة كأنَّها مجرمة أمام نظرات الجميع هناك!
    ولحق أبوها المسكين بها إلى المخفر، لكنْ لم يصل إلى هناك في الوقت اللازم، كانت المسكينة تتعرَّض إلى الضرب بالعصا على قدمَيْهَا من إحدى الضابطات، لتعترف بـ(جريمتها)، وصراخها الباكي يدوِّي في أرجاء المخفر، واسترحامها الذي لم ينفعها، وكاد والدها يسقط مصابًا بالسكتة القلبيَّة، بل إنَّه وقع مغشيًّا عليه، ولم يستطيعوا إيقاظه إلا بوعاء كبير من الماء البارد في وجهه، أقسم إنني لم أجد أشدَّ منه انكسارًا، وهو يقول في ذلَّة: ابنتي على علاقة بشابٍّ وكان يحضِّر لاختطافها؟ الموت أرحم لي من ذلك!
    أخبره الضابط في فخرٍ كيف اكتشفوا (ملابسات الجريمة)، وذلك (بتحرِّياتهم المكثَّفة) بعد بلاغي أنا، وقادتهم تحرِّياتهم إلى معرفة مرض الأمِّ وقدوم الطبيب في وقت متأخِّر، وانتفض الأب هنا في عنف، كأنَّه سمع أكبر هراءٍ في حياته! وقد عادت إليه بعض دماء الحياة، ليصيح في غضب: هل جننت؟ هذه قصة مضى عليها خمس سنين!
    سخر منه الضابط ومن محاولاته (الفاشلة) لإبعاد التهمة عن ابنته (المذنبة بكلِّ تأكيد)! لكنَّ الأب تابع ثائرًا: تقول إنَّني أكذب؟ ما رأيك في أن آخذك إلى المقبرة وأدلَّكَ على قبر امرأتِي، وتقرأ شاهد قبرها بنفسك؟ أو أنك لا تعرف القراءة؟ ثمَّ ماذا؟ قلت لي إن ابنتي نزلت تشتري من الدكان في وقت متأخِّر في الليل؟ أيُّ دكَّان هذا الذي يفتح عندنا إلى هذا الوقت؟ ومن هذه المرأة التي تدَّعي أنَّها صاحبة الدكان؟ هل عندنا نساء يجلسْنَ في الدكاكين ليلَ نهار؟؟ ثمَّ إنَّني لم أرَ طبيبًا واحدًا منذ وفاة زوجتي!
    رغم كلِّ ذلك لم يستسلم الضابط المحقِّق، بل سأله عن الزائر الذي كان بالأمس، ولم يكن ذلك الزائر سوى فنِّي الأدوات الكهربائيَّة! وهو لم يَنَمْ عندهم، وما الداعي إلى ذلك وبيته قريب جدًّا من بيتهم؟ بل إنَّ المسكين لا يستطيع أن يقود درَّاجة حتَّى يقود سيَّارة لتتعطَّل به! وقدومه لم يكن لعمل، بل لتناول بعض الشاي في سهرة صغيرة، يتبادل فيها الرجلان ذكريات طفولتهما ومعارفهما بأسلوب ساخر كعادتهما كلَّ مدَّة ومدَّة!
    هنا لم يجد الضابط بدًّا من إطلاق سراح الفتاة التي خرجت تعرج على قدمَيْهَا، ويبدو أنَّها نالَتْ بعض الجلد على ظهرها كذلك حينما لم تنفع (الفلقة)، فلقد كانت منحينةً بشكل يثير الشفقة، تتأوَّه بكلِّ خطوة، وأخذ والدها يصرخ في وجهي، وفي وجه الضابط، وفي وجه من يعرف ومن لا يعرف، ويتوَّعدنا بالويل والثبور، وعظائم الأمور، وأراد الضابط سجني بتهمة تضليل العدالة، وإن كانت تهمتي هذه عقوبتها الغرامة فحسب لا أكثر، لكن يبدو أنَّه أراد الانتقام منِّي لهذا المقلب، كما يظن!
    لكنِّي، قبل أن يتمادى، أخرجْتُ له شريط التسجيل من جيبي، وأسمعْتُه صوتَها واعترافَها، فصاح في غضب هادر: إن كنتَ بسيطًا إلى هذا الحد حتى يتلاعب بك الأطفال بقصصهم الخياليَّة، هل من الضروري أن تشاركنا سخافاتك وتحولنا إلى مسخرة بين الناس؟ نسأل رجل عن مرض امرأته التي توفِّيَتْ منذ خمس سنوات؟ وطلب منِّي الضابط أن أغرب عن وجهه سريعًا، ولقد فعلت ذلك، وأنا أشعر بالخزي لخرقي قواعد أخلاقيَّات مهنتي، بهذا الأسلوب المخزي.
    حاولت تحليل الموقف بعد ذلك بهدوء، ووصلت إلى النتيجة المنطقيَّة، أو أظنُّ أنَّني فعلت ذلك، لكنِّي لا أجد تفسيرًا آخر، الفتاة كانت تخلط الأمور ببعضها، لهدف ما في ذهنها، وكانت تريد مساعدتي، هي معجبة بِفَنِّي الأدوات الكهربائيَّة رغم كِبَرِ سنِّهِ، ربما يكبرها بعشرينَ سنةً، لكنَّها تريده، تشعر بأنَّه مثل والدها في تصرُّفاته ورجولته وحتَّى ميله إلى النكتة الدائمة، لكنْ فكَّرَتْ في أنَّها لو قالت لي إنَّها معجبة برجل يكبرها بهذا الكمِّ من السنين لهذا السبب، فإنَّنِي سأنصحها بأن تكفَّ عن هذه الحماقة! لذا خلطَتْ قصَّة قديمة بالواقع الآن، وبالغت في إظهار خوفها وأنَّها كانت ستضيع إلى الأبد وتضيع أنوثتها كلُّها، لولا هذا المنقذ الخرافي، أمَّا رقم السيارة فقد جاءت به، ربَّما من ذاكرتها إذ لمحَتْهُ في مكان ما، وربَّما من الخيال لكنَّه طابق الواقع، لسوء حظ ذلك الفتى المسكين.
    لقد سبَّبْتُ لها بخرقي قواعد المهنة ضررًا كبيرًا، ولكنْ، أنا لم أرَ شيئًا بعدُ منَ الضرر! عائشة عادَتْ إلى بيتها معَ والدها ونزلَتْ منَ السيَّارة باكيةً وهو يسندها، لا تكاد تستطيع السير، فهم الكلُّ أنَّها نالَتْ ضربًا قاسيًا، وبدأت التحليلات والشائعات الغبيَّة التي يحبُّها الناس لسببٍ ما، فخاضُوا في عرضِهَا وشرفِهَا، ومرَّغُوا أخلاقَها بالوحل، خاصَّةً أنَّ بعضهم تنامى إلى سمعه، بل ربَّما قام بتأليف ذلك، أنَّها على علاقة بشابٍّ، وكبرت الأقاويل وانتشرت!
    وسمعَتِ الفتاة طرفًا من تلك الأقاويل التي تمزِّق كيانها، وهي تجلس على كرسي في شرفة بيتها تمدُّ رجليها نحو الدرابزين، محاولةً أخذ بعض هواء المساء النقي، وغاب وعيها عن تفكيرها لا عن تحرُّكاتها، فوقفت لتمسك بالدرابزين وتَثِبَ من فوقه...

    يتبــــــــــــع إن شاء الله...

  4. #3


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,305
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: Gnotobiotic Room

    Gnotobiotic Room
    النهاية

    وقفت لتمسك بالدرابزين وتَثِبَ من فوقه لتسقط أرضًا متكسِّرة العظام! وتمَّ نقلها إلى المستشفى في حالة حرجة جدًّا، ورجال الإسعاف يَشُكُّونَ في إمكانيَّةِ عودتها إلى وعيها.
    رغم كلِّ شيء زرتُها في المستشفى، طبعًا لم أكلِّمْها ولم تكلِّمْني، بل لم ترني وهي نائمة كالأموات، لكنِّي سلَّمْتُ الشريط لوالدها ليفهم أنَّنِي لم أكن أفتري عليها وأنَّني ما فعلت فعلتي هذه إلَّا لوضع الشابِّ الوهمي في دائرة المراقبة كي لا يفكِّر في إيذاء فتاة بريئة، ولقد كان هادئًا تلتمع الدموع في عينيه، ربما لأنَّه فقد الأمل في حياة ابنته، وربَّما لأنَّه يخشى أن تحيا مقعدةً أو بعاهة مستديمة، عدا عن شرفها الذي بات علكة في الألسن بلا رحمة أو شفقة.
    انصرفت من غرفة العناية الفائقة، ورائحة التعقيم القاسية تملأ أنفي، بل وكياني، وأنا أفكِّر لماذا لا يكون في أخلاقيَّات المهنة، بند تحويل غرفة الطبيب العياديَّة إلى Gnotobiotic Room، مثل غرفة العمليات الجراحيَّة، حيث التعقيم التام والكامل حفاظًا على صحَّة مريض الجسد من أيَّة عدوى ميكروبيَّة، لتكون عيادة الطبيب النفسي معقَّمةً تعقيمًا تامًّا كاملًا، لكنَّه تعقيم معنوي، للحفاظ على مريض النفس وكلماتِهِ التي يطلقها كي لا تنتشرَ في الهواء وتؤذي صحَّتَه؟ ربَّما بعض الآفات الجسديَّة يَتِمُّ جبرُهَا بعد وقتٍ، لكنَّ جراح النفس لا يتمُّ جبرُهَا مهما طال بها الوقت.
    وفي النهاية، بعد كلِّ ما قمْتُ به من حماقات، وجدْتُ نفسي أتردَّد إلى عيادات بعض الأطباء النفسيين ليحاولوا علاجي، وهم لم يفهموا رغم خبراتهم ماذا أريد! لم يتخيَّلوا أنَّني طبيب نفسيٌّ سابق، ولم يستطع أي منهم أن يستوعب ندمي عن جريمة ارتكبتها مع أنِّي لم أرتكبها بيدي ولم أحرِّض أحدًا على القيام بها، بل كنت أقوم بحماية الضحِّيَّة! لا أظنُّ أنَّ أحدًا منهم سيفهم ذلك، ولو فهموا لما استطاع أحد مداواة جراح ضميري الذي خان قواعد أخلاقيَّات مهنتي، أبدًا!
    وما بعد النهاية، فوجئْتُ في آخر السنة، إذ أتابع نشرة الأخبار المسائيَّة، باختياري (رجل العام)، نظرًا إلى إسهاماتي الرائعة وإنجازاتي المذهلة، في علاج المرضى بأسلوبٍ مذهلٍ لم يسبقني إليه أحد، إضافةً إلى مساعدتي رجال الشرطة في تحقيق العدالة، من خلال قيامي بدور التحرِّي تطوُّعًا منِّي في أخطر قضايا الاختطاف هذه السنة، ووجدْتُ نفسي أنظر إلى الشرفة في اهتمام، هل أفعل ما فعلته عائشة؟ أو أرجع إلى عيادتي لأفتتحها متفاخرًا بإنجازاتي العظيمة هذه التي لم أكن أعلم عنها شيئًا؟؟

    إنتاج سنة 2022م.


  5. #4

    الصورة الرمزية Jomoon

    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المـشـــاركــات
    5,621
    الــــدولــــــــة
    لا يوجد
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: Gnotobiotic Room

    السلامـ عليكمـ ورحمة الله وبركاته~

    قصة فيها من الغرابة الشيء الكثير،
    لم أفهم
    ،
    هل المريضة كانت تتخيل؟!
    وآخر شيء كيف الطبيب ساعد الشرطة وهو طلع مخطئ؟!!

    ربي يبارك فيك أستاذ على هذه الإبداعات
    ما شاء الله، ربي يبارك
    زادك ربي فضلا
    في حفظ المولى،،

    ~

  6. #5


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,305
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: Gnotobiotic Room

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Jomoon مشاهدة المشاركة
    السلامـ عليكمـ ورحمة الله وبركاته~
    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    قصة فيها من الغرابة الشيء الكثير،
    لم أفهم
    ،
    هل المريضة كانت تتخيل؟!
    كانت تعيش حالة من الأوهام ولا تدري ما تفعل، فاخترعت رواية للطبيب
    وآخر شيء كيف الطبيب ساعد الشرطة وهو طلع مخطئ؟!!
    هو مخطئ فعلًا، ولم يساعد الشرطة، بل تسبب في كارثة للفتاة
    لكن يبدو أن ضابط الشرطة أراد أن يظهر نفسه بمظهر البطل
    وهذا ما تسبب في هذا الفهم الخاطئ من المجتمع لأحداث القضية فظنوا الطبيب بطلًا

    ربي يبارك فيك أستاذ على هذه الإبداعات
    ما شاء الله، ربي يبارك
    زادك ربي فضلا
    في حفظ المولى،،

    ~
    ​وبكم بارك الله وأكرمكم

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...