خيال من حكاية!
من البديهيِّ بمكانٍ، أن تحمل إلينا أيَّامنا في هذه الدُّنيا كثيرًا من الحوادث التي ربَّما لا يُصدِّقها من يسمعها، إذ تبدو له أقرب إلى الخيال أو المبالغات، نظرًا إلى ما فيها من العجب العجاب أحيانًا، أو تصرُّفاتٍ تبدو لا منطقيَّة بأيِّ حالٍ من الأحوال، ولكنَّ الدُّنيا ليسَ من مهامِّها إقناعنا بكلِّ حدثٍ تأتي به إلينا، ولنا أن نقبل أو نرفض ما يمرُّ بنا، لكنْ هل نغضب أو نبتسم؟ هذا هو السُّؤال الحقيقيُّ!
من ذلك، يومًا ما كنَّا في المسجد نتابع خطبة الجمعة، ولقد أفاض الإمام واستفاض، تلك الأيَّام القديمة جدًّا، لم نكن قد سمعْنَا بشيء اسمُهُ المكيِّف، وأقصى ما نطمح إليه مروحة في السَّقف، لا نفع لها ولا ضرر، فالشَّمس تدخل من نوافذ المسجد شواظًا من لهيب، ونحن في حزيران أو تمُّوز أو آب، أشهر (الإبداعات) في الخطب والتَّطويل، كونها أشهر فصل الصَّيف، إذًا لتكن خطبة الجمعة فيها أطول ممَّا هي في الشِّتاء بأربعة أضعاف مثلًا!
أفاض الإمام كما يشاء، جلس للاستراحة القصيرة، تنفَّسْنا الصُّعداء، لقد (هانت) أخيرًا! قام الإمام للخطبة الثَّانية، هذه فقط عظة سريعة بدون القراءة عن الورقة، تكلَّم الإمام (كثيرًا) كعادته، هل قلنا عظة (سريعة)؟ صحيح، ولا تناقض في هذا إطلاقًا، هي (قصيرة) قياسًا إلى الخطبة الأولى، لكنَّ الوقت الذي تستغرقه ليس بالقليل قطعًا!
بدأ الإمام بالدُّعاء، ثمَّ الآية الكريمة التي يتلوها ويختم بعدها: {إنَّ الله يأمركم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي}، وإذ به يجمد لحظة، يهتف بعدها بصوتٍ مدوٍّ: (البغي! نعم! إنَّه البغي)! وانطلق في حديث عن البغي، يبدأ ولا ينتهي! يا ربِّي! خطبة جمعة ثالثة!
عاد الأمل إلينا في الخلاص، والإمام يعيد تلاوة الآية: {إنَّ الله يأمركم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر}، وإذ به يجمد لحظة، يهتف بعدها بصوتٍ مدوٍّ: (المنكر! نعم! إنَّه المنكر)! وانطلق في حديث عن المنكر، بعبارات تتردَّد تتكرَّر!
وبعد فترة طويلة، عاد الإمام يتلو: {إنَّ الله يأمركم بالعدل والإحسان وإيـ...}، وإذ به يجمد لحظة، يهتف بعدها بصوتٍ مدوٍّ: (الإحسان! نعم! إنَّه الإحسان)! وانطلق في حديث عن الإحسان، ولم يكن في الإطالة أيُّ إحسان! ثمَّ تلا: {إنَّ الله يأمركم بالعدل} سكت لحظة، هوت الأقدام بين القلوب، لكنَّه أكمل التِّلاوة وأنهى العذاب!
أذكر ذلك اليوم، أنَّنا عُدْنا إلى البيت بعد الصَّلاة، وإذ بالعصر يؤذَّن قبل أن نصل إلى بيوتنا! الأمر الذي جعلنا نسأل أنفسنا، لماذا خطب الجمعة عذاب مقيم؟ وما المشكلة في الإيجاز بما قلَّ ودلَّ؟ وهل يجب (عقابنا) لأنَّنا في أيَّام الصَّيف، إلى حدِّ إصابتنا بضربة شمس حادَّة أو بانفجار في الشَّرايين والأوعية الدمويَّة؟
مرَّةً، أردْنَا التَّجديد، ولأسماعنا التَّطوير، ولأفهامنا مزيدًا منَ التَّنمية الفكريَّة الفذَّة! استمعَنا إلى هذه الخطبة في منطقة أخرى، ولقد بدأ الإمام من بعد الافتتاحيَّة التَّقليديَّة بتذكيرنا بقول الله عزَّ وجلَّ، من بعد: (أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم، بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، اقتربَتِ السَّاعة وانشقَّ القمر)! تحمَّسْنَا! هذه خطبة عن علامات يوم السَّاعة، هذا كلام فيه الذِّكرى والتَّذكير، فيه الوعد والوعيد، وإذ بالإمام ينطلق في حديث عنِ المحرَّمات منَ الرَّضاعة! وفي حديثه يستفيض بلا حساب، ومعلوماتِهِ – لو صحَّ أنَّها معلومات – يكرِّرها كأنَّها نفحة من عذاب! خطبة أولى وثانية بالمعلومات ذاتها، وبعد أن نزل كانَتِ الخطبة الثَّالثة، وقد أعاد المعلومات من جديد، و(أتحفَنا) قائلًا إنَّه على أتمِّ الاستعداد - لكي لا يطيل الآن (على أساس أنّك لم تُطِلْ إطلاقًا يا رجل)! - لاستقبال أسئلة المصلِّين حول هذا الموضوع (المهمِّ جدًّا) بعد الصَّلاة!
بارك الله بكم! لكنْ، هل فعلًا هناك من سيسأل حول هذا الموضوع بعد أن كرَّرْتَه ثلاث مرَّات، حتَّى تكون على (استعداد) (لاستقبال) أسئلتهم استعدادًا (تامًّا)؟ أو أنَّهم سيولُّون فرارًا بكلِّ سرعة وحماسة؟ في الواقع لا أدري، فلقد كنْتُ من أوائل المغادرين بعد الصَّلاة، تحسُّبًا أن يتحمَّس الإمام فيلقي الخطبة الرَّابعة حتَّى لو أنَّه لم (يستقبل) أسئلة المصلِّين، الحائرين طبعًا، يبدو أنَّهم جميعًا إخوة في الرَّضاعة وأولاد عمٍّ، حتَّى تُسمعهم الأحكام الخنفشاريَّة (ومعظمها من اختراعك) ثلاث مرَّات، فقط لا غير!
يومًا ما، كنَّا طلَّابًا في كلِّيَّة التَّربية، في دورة الإعداد لنكون أساتذة في المرحلة الثَّانويَّة، بعد أن أمضينا في التَّعليم الابتدائيِّ تسع سنوات قبل ذلك، فوجئنا بطلب في مادَّة التَّدريب، يجب أن نحقِّق حصص حضور في ثانويَّة واحدة على الأقلِّ، وكان هذا عجيبًا جدًّا، نحن ندرُس في كلِّيَّة التَّربية، ونُدرِّس كذلك في ثانويَّة في بيروت (سنة تحضيريَّة)، فمتى نحضر؟ وأين؟ عندنا عشرات الأبحاث والمقالات التي لا تنتهي، فهل نخترع الوقت اختراعًا؟
لكنْ، القانون هو القانون، الحضور أمر لا بدَّ منه، زُرْتُ إحدى الثَّانويَّات، التقيْتُ بمنسِّقة المادَّة وكنَّا على معرفة مسبقة، في لقاء جمعَنا منذ خمس سنوات قبل ذلك، يسَّرَت لي المنسِّقة أمر الحضور، ولكن لم أكن أعلم عمق المأساة المقبلة، يبدو أنَّ هناك من (مزح) مع أحد الأساتذة هناك، وأخبره أنَّني مفتِّش أرسلَتْه وزارة التَّربية خصِّيصًا لأجله، أو لو أردنا الدقَّة الكلاميَّة، لقد أرسلَتْني وزارة التَّربية لأكتب تقريرًا بحقِّه!
حضَرْتُ عند المنسِّقة، في صفِّ القسم الثَّاني، الحصَّة التَّالية حضَرْتُ عند أستاذة بعض شعب الثَّانويِّ الأوَّل، درس (رسالة في القضاء)، مصطلحات قضائيَّة، وأوامر وتحذيرات، شرحَتْها بأسلوب مميَّز، فعليًّا – على الرُّغم من سرعة الضَّجر التي أمرُّ فيها عادةً – لم أشعر بمرور الوقت، دُقَّ الجرس (فجأة)، وكأنَّ الحصَّة بدأت منذ بضع دقائق فحسب، ما يدلُّ على عمق تملُّكها المادَّة، علمًا وتعليمًا، محتوًى وأسلوبًا.
لماذا نذكر كلَّ هذا؟ لأنَّ الحصَّة اللاحقة عند ذلك الأستاذ (المخدوع)، في شعبة ثانويِّ أوَّل أخرى، لم أكن على علم بـ(الدُّعابة) التي تلقَّاها، دخَلْتُ الصَّفَّ، وإذ به يصرخ من الخوف بالتَّلاميذ يطالبهم بالوقوف لـ(سيادة المفتِّش)! أخذْتُ أبحث بعينيَّ عن هذه السِّيادة التَّفتيشيَّة أين تكون! لم أجد أحدًا طبعًا، خطر لي أنَّ الأستاذ يعيش حالة من الهذيان، أصرَّ الأستاذ على أن أجلس مكانه، فرفضْتُ ذلك رفضًا قاطعًا، وجلسْتُ مع الطُّلَّاب.
حتَّى حين صِرْتُ مدرِّبًا في كلِّيَّة التَّربية فيما بعد، لم أجلس مكان أيِّ متدرِّب عندي، إمَّا أن أجلس بين الطُّلَّاب، وإمَّا أن أبقى واقفًا آخر الصَّفِّ، مكانة أستاذ الصَّفِّ محفوظة لا يمكن المساس بها، ولكن لا علينا من هذا! نرجع إلى أحداث هذه الحصَّة الخياليَّة، رسالة في القضاء، الدَّرس ذاته، بدأ الأستاذ يتصبَّب عرقًا ويرتجف، بدأ يغمغم بكلمات لا أحد يفهم ما هي تارة، وتارة ينفعل ويصرخ بأعلى صوته، وهو يظنُّ في الحالتين أنَّه يشرح الدَّرس!
ضجرنا جميعًا، الوقت لا يمضي! والأستاذ في حالته العجيبة هذه، بل إنَّها أسوأ بكثير ممَّا ظنَنْت! أحد الطُّلَّاب قال له: "أريد دخول الحمَّام يا أستاذ"، وإذ به يصيح منفعلًا: "أحسنت! إجابة صحيحة"! إجابة ماذا يا رجل؟ هل طرحْتَ أنت سؤالًا ليجيب عنه الطَّالب إجابة صحيحة أو إجابة خاطئة؟ كرَّر الطَّالب في تردُّد: "لكنْ، أنا، أريد أن أدخل الحمَّام"؟ صرخ الأستاذ من جديد، في الانفعال ذاته: "أحسنت"!
دوَّتِ الضَّحكات الشَّامتة! الطَّالب بدأ يرقص تقريبًا، أشرْتُ إليه بالخروج من الصَّفِّ رحمةً به (وإن كان ذلك ليس من صلاحيَّاتي، لكنَّ الأستاذ في عالمٍ آخر تمامًا)، عاد الأستاذ يشرح ويشرح، أشكُّ في أنَّه هو نفسه يفهم ما الذي يتكلَّم به، وأنا أحاول أن أتمالك نفسي وأصبر، لكنْ عبثًا، ثمَّ مرَّت معلومة ما عن قضاء ليس في كتاب الله ولا في سنَّة رسوله، وإذ بالأستاذ يقول: "مثل الرَّشوة، لم يكونوا يعرفونها في تلك الأيَّام"!
سأله أحد الطُّلَّاب هنا، ولم يَعُد يستطيع السُّكوت عن هذا التَّخريف: "ماذا عن الحديث الذي يلعن الرَّاشي والـ..." صرخ الأستاذ متحمِّسًا: "أحسنت، إجابة صحيحة"! دوَّت الضَّحكات في قوَّة، الطَّالب لا يجيب، بل حتَّى إنَّه لا يسأل لمجرَّد السُّؤال، هو يعترض على معلومة غريبة لم يسمع بها أحد في العالم! حملْتُ دفتري (دفتر تسجيل ساعات الحضور وتواريخها)، وقُمْتُ لأنصرف، وبدأ الأستاذ يرتعش ويرتجف!
"توقَّف! أرجوك"! صرخ الأستاذ، واندفع نحوي، يكاد يبكي: "سيدنا، طمئنْ قلبي! هل... هل الحصَّة ناجحة؟ ألم يعجبك الشَّرح؟ ثمَّ إنَّك لاحظْتَ أنَّني أستخدم الأساليب التَّربويَّة في تشجيع الطُّلَّاب حين يجيبون إجابات صحيحة"! أساليب تربويَّة؟ تشجيع؟ أواثق فعلًا بما تقول؟؟ أساليبك العجيبة يا عزيزي كادت تدفع بأحد الطُّلَّاب إلى التَّبوُّل في ملابسه؛ لأنَّه (أحسنْت! إجابة صحيحة)! وهو يكاد ينهار ليقضي حاجته يا رجل!
اتَّجَهْتُ نحو باب الصَّفِّ، لحق بي الأستاذ: "سيدنا! أرجوك"! سألتُه مستنكرًا عن سبب استخدامه هذا اللفظ وتكراره إيَّاه، ارتعدَت حروف كلماته، وهو يؤكِّد لي أنَّه يعلم (الحقيقة)! أخذْتُ أفكِّر في هذه الحقيقة، ما عساها تكون!! هل أصيب هذا الرَّجل بالخرف إن شاء الله؟ أعني لا سمح الله طبعًا! لكنَّه اندفع يخبرني أنَّني المفتِّش القادم لخراب بيته تحديدًا، ويرجوني أن أعطيَه فرصةً أخرى ليثبت نفسه وسأكون راضيًا!
فرصة أخرى؟ هل تنوي القضاء عليَّ يا رجل؟ حصَّة أخرى أحضرها عندك؟ هل سأصبر على الخرافات ولا أصاب بالفالج؟ لا أظنُّ ذلك! عاد الأستاذ يرجوني أن أصوِّب له ما وقع من الأخطاء! تكلَّمْتُ بعد أن هدأ، أخبرتُهُ أنَّني لسْتُ مفتِّشًا ولا علاقة لي بالتَّفتيش لا من قريب ولا من بعيد، وصوَّبْتُ له معلوماته عن الرَّشوة، وإذ به يصيح بغتة كأنَّه اكتشف الذَّرَّة في وجوه طلَّابه: "هل سمعتم ما قاله سيادة المفتِّش؟ لقد كانوا يعرفون الرَّشوة"!
يا أخي! كلُّ الشَّرح لك أنْ لا علاقة لي بالتَّفتيش، وتقول (سيادة المفتِّش)؟ ما شاء الله عنك! الله يحميك لشبابك صحيح، وعفا الله عمَّن أوهمَك بهذا، ثمَّ افترض أنَّني كذلك، هل ترسلني الوزارة لأكتب في حقِّك تقريرًا سلبيًّا أيًّا كان إبداعك في العطاء؟ لا أدري صراحةً كيف صدَّق الخدعة، لكنِّي أعلم أنَّني قرَّرْتُ، رحمة به وبأعصابه، أن لا أدخل صفَّه من بعد تلك الحصَّة، إطلاقًا!

يتبع إن شاء الله...
د. عمر قزيحه
شهر 1 سنة 2024م