وقد جاء والد عبَّاس يطلب مقابلتي! في عينيه غضب شديد، اتَّجَهْتُ نحوه وتبعني واحد من أصدقائي، جلسَنا نتكلَّم، حدَّثَني عن العرض والشَّرف، وسألني كيف أحتفظ بصورة امرأته؟ وابنته تقف أمامنا وتبتسم في ثقة وانتصار، أرجو لها حين تكبر أن تدخل قسم التَّحقيق الجنائيِّ، أظنُّ هذا يليق بها كثيرًا! أخرجْتُ الرَّسمة من المحفظة، كُنْتُ قد حدَّدْتُ – بمساعدة خبير – كلَّ العناصر الرَّسميَّة التي حقَّقَها عبَّاس ابن السَّابعة وأشهر في رسمته، وقد بلغت 40/52، وهي نتيجة تُقدَّر بدرجة ممتاز، سألْتُ الرَّجل هل هذه امرأتُك؟ هذه القصبة؟
كُنْتُ أظنُّ نفسي ملك المفاجآت في هذه القضيَّة، لكنَّه فاجأني بنظرة الانبهار إلى الرَّسمة، وبكلماتِهِ بعدها: هذه امرأتي؟ لا أبدًا! هذه أحلى منها بكثير! أين أجدها؟ أين تجدها؟ لو اقتربْتَ قليلًا من ابنك لوجدْتَها هناك في ثنايا عقله، وخفايا قلبه المعذَّب لبعدك عنه وقسوتك بحقِّه، ولأنَّ أمَّه التي يحبُّها بعيدة عنه كذلك، لكنَّها لا تقسو على عبَّاس، فكرهك وأحبَّها، ونَفَرَ منكما معًا!
ظلَّ الرجل ينظر في الرَّسم في شوقٍ عجيبٍ، وأخذ يدعو بأن تكون هذه امرأة حقيقيَّة لا خيالًا، ليتقدَّم لخطبتها حالًا وفورًا، وعلى سنَّة الله عزَّ وجلَّ ورسوله، أخذنا ننظر إليه في دهشة متسائلين أين عقله؟ طلبْتُ منه في نفاد صبر أن يحدِّثني عن عبَّاس قليلًا، فصاح في ذهول: ومن عبَّاس هذا؟ آه؟ عبَّاس!! نعم، هذا الغبيُّ! يريد من أمِّه أن تُدرِّسه، لكنَّها مشغولة بطفلها الرَّضيع الآن، تطلب منه أن ينتظرني لأدرِّسه بعد رجوعي من العمل، حين أطلب منه أن يقرأ عن الحاضر، و(أشعر) بأنَّه أخطأ، أضربه وأصرخ في وجهه: يا جحش!
لم يتحمَّل رفيقي الذي معي هذا الكلام، وقف صارخًا في وجه الرَّجل، كاد يضربه، تبادل الاثنان الصُّراخ، لكنَّ غضب رفيقي كان عاتيًا، وكأنَّ عبَّاسًا ابنه هو لا ابن الرَّجل الذي أمامنا! (حين شاهدْتُ باب الحارة بعد سنوات، تذكَّرْت شخصيَّة رفيقي في أبو عصام حين يبدأ بالصُّراخ المفاجئ، حتَّى يتردَّد صداه في البناية كلِّها، لكثرة التِّلفزيونات الشَّغَّالة على باب الحارة وانفعالات أبو عصام)!!
أوقفْتُ المهزلة أخيرًا، بكلمة حازمة أنِ اصمتا حالًا، صمتا وقلباهما ينبضان في غضب، جلسا، وجلسْتُ أتكلَّم مع والد عبَّاس، شرحْتُ له حالة ابنه، وهو يستمع في اهتمام تامٍّ، ما أسعدنا فعلًا، سألتُهُ عنِ الحادثتَين السَّابقتَين وكيف سكت عنهما، انتفض قال إنَّه لم يسكت! من قال إنَّه قد سكت؟؟ في الصَّفِّ الأوَّل، أخرجَتِ تلك المجرمة ابنه من الصَّفِّ، وأجبرَته على الوقوف تحت الشِّتاء في الهواء البارد مدَّة تُقدَّر بثلاث ساعات وربع (من الثَّامنة إلى الحادية عشرة والرُّبع)، مرض ابنه مرضًا شديدًا، وبعدها لم يكن يريد الرُّجوع إلى المدرسة، وفي الصَّفِّ الثَّاني، أخرجَت تلك المجرمة ابنه من الصَّفِّ، وصلبَتْه في أشعَّة الشَّمس الحادَّة مدَّة تُقدَّر بثلاث ساعات وربع (من الثَّامنة إلى الحادية عشرة والرُّبع)، مرض ابنه مرضًا شديدًا، وبعدها لم يكن يريد الرُّجوع إلى المدرسة، ثمَّ...
سألتُه في غضب: وما كانت ردَّة فعلك؟ لمَ بقيتَ ساكتًا؟ صحيح قال لي قبل ذلك إنَّه لم يسكت، لكن لو كان هذا صحيحًا لما تجرَّأت هذه المعلِّمة على إعادة فعلتها، ولقد انتفض من جديد هاتفًا من قال إنِّي سكتُّ لها؟ لقد قُلْتُ لها: لا تعيديها، وإلَّا... وهنا هبَّ رفيقي من جديد يصرخ في وجهه، وقام هو ليصرخ، ارتفعت أصواتهما حتَّى جاء المدير يحاول تهدئتهما، فصراخهما وصل إلى الطَّابق الثَّالث، لكن لا فائدة تُرجى من محاولات المدير، حتَّى أمسكْتُ بيد رفيقي، ووقفْتُ قائلًا في هدوء: اصمتا!
وتكلَّمْتُ مع الرَّجل بكلام تربويٍّ وإنسانيٍّ، لا أذكر حرفًا ممَّا قلتُهُ له، وربَّما كان كلامي مفكَّكًا، لكنَّه استمع في اهتمام، حتَّى المدير نفسه شارك قليلًا في توجيه بعض النَّصائح لمصلحة عبَّاس، مشكور يا صديقي، لكن لو تصرَّفْتَ بحزم مع معلِّمتك تلك من المرَّة الأولى، ما كنَّا وصلْنا إلى هنا، استمع والد عبَّاس وبدا في عينه الدَّمع، شكرني ووعدني بأنَّه سيهتمُّ بعبَّاس ويحضنه في عينيه، لأنَّه ابنه حبيب قلبه، وصافحنا، وهمَّ بالانصراف، لكنَّه تذكَّر بغتة أنَّه صافح صديقي الّذي صرخ في وجهه، فاستدار إلينا من جديد وبدأ هو وصديقي بالصُّراخ، والمدير لا يستطيع إسكاتهما!
أمَّا أنا فلم أحاول ذلك هذه المرَّة، تركتُهما على راحتهما، مفكِّرًا في الخطوة الصَّحيحة لاستعادة عبَّاس من مستنقع الجهل والضَّياع، لكن كيف؟
المسألة تبدو شبه مستحيلة، إلَّا إن التزم والد عبَّاس بوعوده في المرحلة الأولى...
وحتَّى هذا الأمر وحده لن يكفي، أبدًا!

يتبع إن شاء الله