فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 20 من 20
  1. #1

    الصورة الرمزية Risa-Chan

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    155
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    Smile فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    هذه القصة من وحي الخيال .... إستمتعوا بها
    ..............................
    ...الجزء الأول...

    توقفت سيارة أجرة عتيقة الطراز أمام هضبة مرتفعة , يشق نجيلها العشبي الممتد على مرمى البصر , طريق ضيق يوصل المار لأعلى الجبل ..
    كانت شمس أيار ترسل أشعتها في حنو ولطف , واشتركت مع نسمات الصباح الندية في خلق جو من السحر والألفة , وتعانق النسيم مع وشوشات البنفسج العطري , لتصنع معا صورة خلابة للطبيعة والأريحية ..
    ترجل من سيارة الأجرة فتى شاب في السابعةعشرة من عمره , طويل القامة , رياضي الجسد , يخفي عينيه بمنظار أسود رغم أشعة الشمس الحانية , ويحمل حقيبته الصغيرة على كتفه , كان طفولي الملامح , هادئ القسمات , على رأسه استقر شعر بني ناعم كثيف , وحباه الله بزوج من العيون الخضراء الواسعة , تشبه العشب الممتد , وبرز من وسطهما أنف مستقيما , وشفتان رفيعتان بلا مبالغة.
    ملئ صدره بالهواء المنعش النقي , والتفت لصاحب السيارة وانحنى نحو نافذته المفتوحة وسأله في بساطة :
    ـ كيف أصل لكوخ السيد (هاريس) ؟
    لاك السائق سيجاره , وغمغم مشيرا بسبابته للأمام :
    ـ اذا قطعت هذا الطريق للأعلى ستجده أمامك , كوخ قديم .
    ابتسم الفتى قائلا :
    ـ أشكرك جزيل الشكر .
    وتراجع للخلف لتمض السيارة في هدوء ..
    استدار يتأمل طريق الجبل الضيق , وخطى أولى خطواته للكوخ ..
    هب النسيم الرقيق يداعب مقدمة شعره في حنان , وابتسم في حبور لمرأى الفراشات تتراقص على أنامل الياسمين , وكأنها تشارك الصباح فرحته بالطبيعة الساحرة , وواصل طريقه في استمتاع , وذاكرته تعود به تدريجيا لأيام بسيطة انقضت ..
    لقد عانى مؤخرا من نوبة اكتئاب حادة , عزف خلالها عن المضي للمدرسة وامتنع عن مقابلة أصدقاءه القدامى , وفضل الإنزواء بعيدا عن كل النشاطات التي اعتاد ممارستها ..
    لم يكن الأمر سهلا عليه , لقد فقد والداه في حادث مروري أليم وهو بعد في الثامنة , فقرر عمه الوحيد إيقاءه تحت وصايته ورعايته إلى أن يصبح قادرا على العيش بمفرده , ولأول مرة يشعر (ويلي ستيوارت) , المرح الحيوي النشيط , بطعم المرارة والوحدة , فعمه رجل غريب الأطوار , يعيش وحيدا , صموتا , هادئ هدوء القبور , بالكاد يتحدث , وتقريبا لا يغادر منزله إلا نادرا , مكتفيا في عيشه على إيراد بضع عقارات ورثها عن أبيه , يقض جل وقته في مرسمه الخاص , منخرطا في رسم لوحات سيريالية لا تثير اهتمام أحد , تغلب عليها الألوان الغامضة , وحين نقول غامضة .. فإننا نعني الغموض بكامل معانيه , فمن العسير تمييز ألوان لوحاته , وفي المرات القليلة التي تمكن فيها (ويلي) من اختلاس النظر للوحات عمه , كاد يصاب بالجنون المطبق , من استخدامه العجيب للألوان , ومن منظر الفوضى الهائلة في مرسمه , وأقسم على عدم دخول هذا المرسم مادام بكامل وعيه ..
    حاول (ويلي) جاهد التأقلم على هذا الوضع الجديد دون فائدة , فيوما بعد يوم يشعر بالخواء والكآبة تحتويه , وعمه لا يشعر به أبدا..
    قد يظن البعض أن هذا العم رجل قبيحا , غير مهندم , يتدلى كرشه أمامه وبالكاد يصفف شعره , لكنه على النقيض تماما , كان رجل في النصف الأول من عقده الثالث , يولي أناقته حيزا كبيرا , وسيم للغاية على نحو يدير رؤوس الرجال قبل النساء , بشعره الأصفر الذهبي , المنسدل في نعومة إلى ماتحت أذنيه , وحاجباه الرفيعان في أناقة , وتحته جوهرتان واسعتان بلون الفيروز الصافي , يحتار الناظر في تصنيف لونها , الذي يخيل إليك أنه يتنقل بين اللون الأزرق الصاف , والأخضر النقي , في مزيج مذهل , وأنف كالسيف يشق منتصف وجهه , وشفتان رقيقتان بلون الزهر , واستدق تحتهما ذقن رفيع , في وجه مستطيل نحيل , يشع وسامة وجمالا ..
    لم يكن عمه عنيفا بخيلا , أو رجل تكره معاشرته .. بل بالعكس , فهو ينفق على المنزل وعلى (ويلي) في سخاء , ولكنه يفعل كل هذا في صمت وهدوء , إلى أن ضاق (ويلي) ذرعا به وبحياته ونمط معيشته المملة .. إلى أن سقط (ويلي) في بؤرة الكآبة والعزلة , فأقترح عليه عمه (وليم ستيوارت) قضاء بضع أيام في الجبل , في منزل رجل عجوز يدعى (هاريس) , في الحقيقة كانت بادرة طيبة من عمه الغامض , دفعت بدماء الحيوية والنشاط لجسده , ودبت الأمال في قلبه ليواصل حياته في منزل عمه , إلى أن يتمكن من الاستقلال بحياته بعيدا عن عمه , وصمته ولوحاته المجنونة ...

    يتبع...
    التعديل الأخير تم بواسطة Risa-Chan ; 17-12-2006 الساعة 09:37 PM

  2. #2

    الصورة الرمزية Risa-Chan

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    155
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    التكملــة...

    ابتسم (ويلي) للطبيعة الساحرة , والخضرة الممتدة في حميمية , وقرر نزع منظاره الداكن , فالشمس ترسل خيوطها في نعومة وحنان فلا داعي إخفاء عينيه , وحين نزعه انعكست خضرة العشب على عينيه , وكأن بينهما اتفاقا مسبقا على النقاء والصفاء ..
    واصل طريقه للأمام وهو ينظر حوله مستمتعا , وهبت وقتها نسمة صباحية تحمل في طياتها عبق مطر هطل قريبا , يشي به العشب المبتل أسفل قدميه , وعبثت بمقدمة شعره الناعم وكأنها تشاركه فرحته .. كم كانت مبادرة عمه كريمة حين سمح له بالمضي في أحضان الطبيعة الغناء , شعر وقتها برغبة شديدة في رؤية عمه , والتعلق بعنقه ليشكره كما يجب , وضحك في سره من مظهره وهو يتعلق بعنق أحدهم وهو في سن السابعة عشرة ..
    قطع (ويلي) مايقارب كيلومترين , حتى برزت أمامه مجموعة من المنازل الصغيرة في نواحي متفرقة , هنا وهناك , ومع كل منزل يراه التصقت قطعة زراعية صغيرة , يشرف على حصادها قاطنوا المنازل , وابتسم في حنان حين رأى صبية يتقاذفون كرة من القماش , بالكاد يسمع رجع أصواتهم وهم يلهون بعيدا , وغمغم :
    ـ يبدو أن الحضارة لم تلوث بعد قلوبهم , ما أسعدكم ببساطتكم .
    وصل أخيرا للكوخ المنشود , فكما وصفه السائق , أمامه تماما , توقف عن السير وأنزل حقيبته أرضا , وأخذ يجاهد لاستعادة انفاسه المتلاحقة , فلم يكن قط معتادا على السير مسافات طويلة على أرض مرتفعة , ولم يعتد بعد على هواء الجبل البارد رغم حلول الربيع , وتطلع للكوخ في اهتمام ..
    كان كوخ مبني من القرميد مؤلف من طابقين , تعلو قمته مدخنة سوداء بفعل الدخان المستمر , وفي مقدمة الكوخ سور خشبي تهالك معظمه بفعل قسوة الظروف المناخية , وإلى يمينه غرفة صغيرة التصقت به , تكهن أنها زريبة .. وتأكد من ذلك عندما حمل له النسيم رائحة الغنم التي تفوح منها , لكن سعادته بكل مايراه طغت على انزعاجه من تلك الروائح النفاذة , وفي الجهة الأخرى قطعة زراعية بسيطة تحوي شجيرات قصيرة مازالت تنمو .
    برز أحدهم من داخل الكوخ , فتطلع إليه (ويلي) في دقة .. كان رجلا نحيلا أبيض البشرة , له شعر بني ضارب للحمرة , تحف ذقنه لحيه صغيرة مذبذبة من لون شعره , حليق الشارب , تشع الصرامة من عينيه الضيقتين , وبين أصابعه وضع سيجارا يرتشفه بين لحظة وأخرى , يرتدي قميصا رماديا فتح مقدمة أزراره , وسروالا من نوع (البلوجينز) الأزرق , ورغم التجاعيد أسفل عينيه الا أن حيوية الشباب مطلة بوضوح من جسده الممشوق .
    ابتسم له (ويلي) حينما التقت نظراتهما , وحمل حقيبته وأسرع إليه , توقف أمامه معتدلا , وقال في بساطة :
    ـ طاب صباحك يا سيد(هاريس) .
    رمقه بنظرة متعالية شملته من الأعلى إلى الأسفل , قبل أن يرد تحيته في برود شديد , فقال (ويلي) :
    ـ أنا (ويلي ستيورات) , وقد أتيت من قبل ..
    قاطعه في برود :
    ـ من قبل (وليم ستيوارت) , أعلم هذا جيدا , وكنت اتنظرك .
    ارتفع حاجبي (ويلي) من مبادرة الرجل الخشنة , وتساءل في نفسه " هل هربت من عمي (وليم) لأقع في براثن (هاريس) " نفض هذا الخاطر المزعج سريعا , حينما استدار العجوز قائلا في جفاء :
    ـ اتبعني .
    رمقه (ويلي) في انزعاج , وقد عكر أسلوبه فرحته بالطبيعة والجبل والنسيم , لكنه تبعه مستسلما ..
    دلف للكوخ وتأمل المكان حوله , أول ما وقعت عليه عيناه ردهة صغيرة تشمل الطابق الأول بأكمله , في زاويتها اليمنى طاولة خشبية تضم مقعدين فقط , وفي أقصى الردهة موقدا صغيرا تدلى من قائمه المعدني قدر نحاسية , استحال لونها إلى الأسود الداكن بفعل الاستخدام المتكرر , وبجوارها خزانة على هيئة أرفف نظمت فيها أطباق الطعام النظيفة , وفي نهاية الردهة ارتفع سلم خشبي يوصل للأعلى , فخمن (ويلي) فورا أنه يؤدي لحجرات النوم , ما أثار انتباه (ويلي) هو النظافة التي تشع من حوله رغم الرطوبة ورائحة الأغنام القوية .
    وقف العجوز (هاريس) بجوار السلم وقال له مشيرا للأعلى :
    ـ غرفتك في الأعلى , آخر غرفة في الممر .
    أومأ (ويلي) برأسه إيجابا , ثم قال في تردد :
    ـ هل يزعجك وجودي يا سيد (هاريس) ؟
    رمقه في صرامة , وتجاهل تماما الرد عليه وغادر الكوخ صامتا ..
    استمر (ويلي) يتطلع إليه حتى خرج , وتسارعت نبضات قلبه من كل مايحيط به , وتساءل في حيرة :
    ـ لماذا كل هذا الجفاء ؟ هل يعرف عمي (وليم) ؟
    وزفر في ضجر ورفع رأسه يتطلع لأعلى السلم , وارتقى درجاته شارد الذهن , ضيق الصدر ..


    ما ان صعد (ويلي) أولى خطواته على السلم العتيق , حتى سمع الخشب تحته يأن , فتوقف عن السير وازدرد لعابه في صعوبة , وتردد في مواصلة الصعود رافعا رأسه للأعلى , وتساءل في أعماقه عن طريقة هذا العجوز في الصعود والهبوط , مالبث أن استجمع قواه وواصل الصعود بحذر شديد ..
    توقف في نهاية السلم وتطلع للرواق المفضي لغرف النوم من يمينه إلى يساره , كان مظلما وباردا لولا بصيص من الضوء الشاحب , تسلل خفيه من نافذة صغيرة مطلة على القطعة الزراعية بجوار الكوخ , فتمتم ساخرا :
    ـ والآن ياابن المدينة , هل ستصمد أمام هذه المغامرة الجبلية ؟
    وهز كتفيه هازئا وقطع الرواق الضيق , في نهاية الرواق باب خشبي تقع خلفه غرفته المخصصة له كما أخبره العجوز الصارم , وإلى يسارها غرفتان , خمن أن احداها للعجوز , على كل ليمض الآن نحو الجزء الذي يعنيه .
    أمسك أكره الباب ودفعه في حذر شديد , وتطلع للغرفة في دهشة , وضيق ..
    كان أشبه بمستودع قذر , زج فيه بكل ماهو عديم الفائدة من مقاعد محطمة , وعصي , ومجموعة كتب قديمة في صندوق متهالك , امتلئ على آخره بالكتب والبقية تناثرت حوله في اهمال , ناهيك عن الغبار الذي ثار بمجرد ولوجه الغرفة , وحمد الله كثيرا على وجود سرير , وضع عشوائيا في منتصف الغرفة , يشهد بالقذارة والاهمال .
    وضع حقيبته أرضا , وعقد ساعديه أمام صدره وابتسم في سخرية , قائلا :
    ـ أهي رحلة جبلية أم رحلة إلى المنفى يا عم (وليم) ؟
    وغمرت العزيمة قسماته وهو يحل ذراعيه , وشمر عن ساعديه في حماس , وهو يقول :
    ـ انه تحدي لمقدرتك على الصبر والتحمل يا ابن (فرانك ستيوارت) .
    وأسرع نحو نافذة الغرفة الوحيدة , وفتحها على مصراعيها , فغمرت أشعة الكون المكان , وحملت نسائم أيار رائحة البنفسج الندي , لم يضيع وقته على هبات النسيم المنعشة إنما انطلق مسرعا إلى السرير ونزع غطاءه الرث فتصاعد الغبار سريعا لفمه , فلم يبالي أو يتوقف عن عمله , وحمل الجزء الاسفنجي وألقاه في الممر بقوة وهو يسعل بفعل الغبار المتمرد , وثنى قوائم السرير المعدنية ووضعه أيضا في الممر , ووثب إلى صندوق الكتب وحشر الكتب الملقاة أرضا بداخله في قوة , وهو يتمتم في أسف :
    ـ معذرة أيتها الكتب العزيزة , فلقد وضعت في موضع لا يليق بك .
    وسحبه في منتصف الغرفة , وأخرج كل ماهو عاطل عن العمل , مقررا التخلص منه فور انتهاءه من تنظيم غرفته الخاصة ..
    انتصف النهار وقد تحولت الغرفة إلى مكان نظيف مهيء للسكن , وانتقلت قذارة الغرفة لملابس (ويلي) النظيفة , ورغم التعب والغبار إلا أنه كان مسرورا مما فعل , فلم يتصور قط حجم نشاطه إلا اليوم فقط .
    لم يتبقى سوى حصوله على شراشف نظيفة , وحمام ساخن منعش يزيل ماعلق بجسده ووجهه من غبار .
    فتح حقيبته وأخرج منها ملابس نظيفة , حملها في حرص وهبط إلى الطابق الأسفل ..

    يتبع...
    التعديل الأخير تم بواسطة Risa-Chan ; 17-12-2006 الساعة 09:38 PM

  3. #3

    الصورة الرمزية Risa-Chan

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    155
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    هبط (ويلي) السلالم والغبار يغطيه تماما , والعرق ينضح من جسده في غزارة , وقد التصقت خصلات شعره بجبينه المبتل , وأسرع إلى العجوز الذي أتخذ مدخل الكوخ مجلسا له , على مقعد هزاز يصدر أنينا مع كل هزة , ووقف أمامه قائلا بأنفاس متسارعة :
    ـ أين الحمام يا سيد (هاريس) ؟
    رمقه العجوز في دهشة من مظهره القذر , وتراقصت ابتسامة خبيثة على شفتيه وهو يشير للخلف قائلا :
    ـ در حول الكوخ وستجده .
    ابتسم (ويلي) ووثب بضع خطوات , وتوقف فجأة كالذي تذكر شيئا ما , فرجع إليه هاتفا في لهفة :
    ـ بالمناسبة يا سيدي , هل تعيرني بعض الشراشف النظيفة , ووسادة وثيرة أسند رأسي إليها ؟
    مط العجوز شفتيه في ضجر , وغادر مقعده متثاقلا وهو يغمغم بكلمات مبهمة , ودلف لداخل الكوخ , اتسعت ابتسامة (ويلي) وانطلق صوب الحمام , ليزيل ما علق به من أتربة , وأعماقه ترقص فرحا وارتياح ...
    دفع باب الحمام الخشبي , وتطلع للحمام في بساطة .. لم يكن سيئا بأي حال , فنزع ملابسه وألقاها خارجا , وترك مياه الدش تغمر رأسه وجسده ..
    ياه .. كم هو منعش ماء الجبل , استخدم قطعة صابون جديدة احضرها معه من المدينة , ودلك يديه جيدا وهو يقول ضاحكا :
    ـ أين أنت يا (وليم) لترى بساطة ابن أخيك ؟
    وعبث بالماء ما طاب له , قبل أن يغادر الحمام نظيفا , تفوح منه رائحة عطر الصابون الخفيفة ..
    صعد مجددا لغرفته وشعر بالارتياح حين وجد شرشفا نظيفا ووسادة بلون السحاب موضوعه على سريره في عناية , فأعد سريره , وأخرج من حقيبته قطعة كعك , وعلبة عصير , وجلس على طرف سريره يتناولها في هدوء وشهية ..
    مالت الشمس نحو الغروب حينما سمع أصوات ثغاء متداخلة , فنهض جالسا من السرير ووضع كتابا كان يتسلى بقراءته جانبا , وتطلع من نافذته أعلى السرير ليتبين الأمر , وأطلق من شفتيه صفير دهشة طويل , وهو يرى مجموعة من الأغنام تقف بجوار الكوخ مصدرة تلك الأصوات , وأشرأب بعنقه للأمام حينما سمع صوتا أنثويا ناعما يقول :
    ـ معذرة على تأخري يا أبي , فـ(أستر) فر بعيدا واحتاج الأمر لجهد عظيم حتى وجدته .
    لم يستطع رؤية صاحبة الصوت الناعم , فربما كانت تقف أسفل غرفته تماما , بالمقابل وأرهف سمعه ليرى بماذا يجيب الأب , الذي خمن طبعا أنه العجوز الصعب (هاريس) , ولم يتلقى جوابا , فهب من رقدته وأغلق أزرار قميصه في عجل , ليقابل الفتاة , وهرول نحو الأسفل وأعماقه تنبض سعادة ..
    أخيرا سيجد من يتحدث إليه في هذا المكان , فلو اقتصر الأمر عليه وعلى العجوز فلن تطيب الاقامة له هنا , وقف في نهاية الردهة ليرى صاحبة الصوت الناعم , وعدل من هندامه للمرة الثانية وحاول تنظيم خصلات شعره الامامية على نحو مضحك , وانتصب مكانه حينما فتح الكوخ ودلفت الفتاة وهي تقول بتنهيدة ارهاق :
    ـ سأحاول اتباع أسلوب جديد مع (أستر) العنيد , فلقد أرهقني بـ..
    بترت عبارتها دفعة واحدة حينما وقعت عيناها على (ويلي) وأخذت تتطلع إليه في اهتمام عجيب .. بالمقابل , تطلع إليها (ويلي) بنظرات مماثلة ..
    كانت فتاة فاتنة بحق , في عمره تقريبا أو ربما تصغره قليلا , تملك أجمل عينان رآها , بلونها الأزرق الصافي , وتلك الأهداب الكستنائية بلون شعرها , المنسدل ناعما غزيرا إلى منتصف ظهرها , تاركة بضع خصلات قصيرة تتمايل في نعومة على منتصف جبينها , وعقدت في منتصف رأسها منديلا سماويا جميلا , له أنف منمنم وشفتان صغيرتان في رقة .
    ابتسمت الفتاة في ترحاب , وقالت :
    ـ إذن أنت هو .
    أجاب مأخوذا بفتنتها :
    ـ أنا هو ماذا ؟
    ضحكت في نعومة , واستدارت حينما تبعها والدها , فعادت تدير رأسها إليه وتقول في طيبة :
    ـ أهكذا أنتم يا أبناء المدينة ؟
    زمجر العجوز حنقا من نظرات (ويلي) واقترب منه قائلا في عداوة واضحة :
    ـ لماذا تحدق بها على هذا النحو ؟
    جذبته الفتاة من ذراعه وهي تقول في عتاب رقيق :
    ـ أبي ؟
    توقف العجوز مكانه , في حين تضرج وجه (ويلي) بحمرة الخجل , ونكس رأسه مغمغما في حرج :
    ـ عذرا , حسبتك تعيش بمفردك .
    رفع رأسه عندما أجابت الفتاة في لطف :
    ـ أيصنع هذا فارقا ؟
    ابتسم في تردد , وهي تمنحه ابتسامة جميلة للغاية , ولم يبالي مطلقا بالعجوز وهو يحرك مزيجا تغلي به القدر على النار , في حركة عصبية تشي بانفعالاته المكبوتة ورغم رائحة الحساء الشهية , فان (ويلي) لم يبالي أيضا , فكل ما سلب عقله وقتها , هو الفتاة ..
    فتاة الجبل الفاتنة .
    على مائدة العشاء التي ضمت الثلاثة , قالت الفتاة في بساطة :
    ـ اسمي (ليليان) .
    توقف (ويلي) ازدراد طعامه , وتمتم في حرج لم يفارقه منذ التقاها :
    ـ وأنا (ويلي ستيوارت) طالب بالمرحلة الثانوية .
    رمقت (ليليان) أبيها بنظرة جانبية , وقالت باسمة :
    ـ أتمنى لك طيب الاقامة معنا , سآخدك غدا معي للمرعى , و..
    قاطعها العجوز في صرامة :
    ـ لن يذهب لأي مرعى .
    تطلع إليه الاثنان في حيرة , فتناول قطعة خبز وهو يقول في حزم :
    ـ سأعلمه أمور مفيدة , أفضل من التسكع في المراعي بين الأغنام .
    تواثب الغضب في أعماق (ويلي) من فضاضة العجوز , وصرامته اللامعقولة , وقطب جبينه أكثر حينما أردف راميا ابنته بنظرة ملتهبة :
    ـ ولا أعتقد ان وقتك يسمح بهذه الترهات .
    ابتسمت (ليليان) في هدوء وأتمت عشاءها وكأن شيئا لم يكن , مما ضاعف من دهشة (ويلي) من هذه العائلة العجيبة , وتمنى وقتها رؤية عمه , شعر أنه يشتاق إليه ..
    يشتاق إليه بحق ..
    ألقى (ويلي) جسده في قوة على سريره , وتطلع للقمر المنير من نافذته أعلى السرير , وشعر بكآبة مريرة تلف كيانه , ووحدة هائلة تمزق أحشاءه ..
    بالكاد أتم عشاءه ..
    انه حزين للغاية , فجأة شعر أنه في مكان ليس له , ومع عائلة لا ترحب به كما تصور , لماذا يرسله عمه لمكان كهذا , وهل يعرف (هاريس) شخصيا ..
    بالتأكيد يعرفه , فهو ليس ذلك الشخص المهمل ليلق به في براثن الغرباء ..
    عمه انسان رقيق المشاعر رغم تحفضه على الكثير من سلوكه الغامض .. ولكنه ليس سيء ..
    ليس سيء أبدا ..
    تناهى إلى مسمع (ويلي) وهو في رقدته تلك , نقرا خفيفا على باب غرفته , فاعتدل جالسا وأرهف سمعه , تكرر النقر الخفيف فهب من سريره , وفتح الباب في حرص , فطالعه نور صادر من شمعة صغيرة تحملها (ليليان) , في طبق معدني قديم , وقد ذابت معظم أجزاء الشمعة وصنعت قاعدة جديدة لنفسها .
    ابتسمت (ليليان) من منظره مرتديا منامته , وقدمت له طبق الشمعة وهي تقول في خفوت :
    ـ تفضل يا سيد (ويلي) , فلا أحسبك معتادا على الجلوس في الظلام .
    تناول منها الشمعة وهو يحدق بها في امتنان , وتعاظم امتنانه حين منحته بعض الخبز والماء, وهي تستطرد في اشفاق :
    ـ لسبب أجهله لم تتم عشاءك , وحتما ستشعر بالجوع بعد مضي الوقت , وربما قبل استغراقك في النوم .
    ملئ الأمل قلبه من لباقتها ولطفها الحاني , ومد كفه في تردد ليحمل ما أحضرته , تمنى لو أخبرها سبب عزوفه عن إتمام العشاء , ولكن الأمر سيكون في قمة الوقاحة لو صارحها بالحقيقة , فالتزم الصمت تماما , ومن دهشته مما يحدث نسي شكرها , لم تنتظر شكره في الواقع إنما منحته ابتسامة تفاؤل , وتمتمت :
    ـ سيكون لنا حديثا طويلا خلال الأيام القادمة , آمل ألا تغضب من والدي , فليس سيئا كما ظهر لك اليوم , شيئا فشيئا ستدرك ما أقصد , والآن .. طابت ليلتك يا سيدي .
    والتفتت خلفها في حذر , ورددت الجملة الأخيرة , وأسرعت إلى غرفتها المجاورة لغرفته , وأوصدت الباب في حرص شديد ..
    أغلق (ويلي) بابه ووضع الشمعة على منضدة قريبة , ورمق الخبز في شرود حزين ..
    لقد أعاده تصرفها عنوة للأيام الماضية , حين كانت شقيقته الكبرى ترعى شؤونه , ودمعت عيناه تأثرا عندما تذكر رحيلها المأساوي , أثناء اشتراكها في المقاومة الشعبية أبان الحرب العالمية الثانية , توفيت وهي تدافع عن قضية نبيلة , هدفها تحرير بلاده من الاحتلال الألماني السخيف , لقد نجت شقيقته من الموت في حادثة السيارة لتموت في الحرب , وتنتهي عائلة (فرانك ستيوارت) مخلفة صبي صغير لا يفقه من الحياة شيئا .
    ولولا (وليم ستيوارت) , لكان الآن في أحد الملاجأ , أو متشردا ينبذه المجتمع ..
    شكرا لك يالهي على نعمك العديدة , شكرا لك ..
    ساعات الصباح الأولى في الجبال , والشمس تداعب الأفق , ينتشر ضباب خفيف مصحوبا ببرودة محتملة , والعشب الأخضر النضر يوحي براحة هائلة تعبق الفؤاد , ومع انحدار الندى من شرائط البرسيم الناعمة , تتوجه (ليليان) فتاة الجبل الصغيرة , تقود قطيعا من الأغنام يتجاوز عددها أصابع الأطراف بقليل , وتتجه صوب مرعى بعيد , حيث يتوفر طعام الأغنام الطازج بكثرة ..
    فتح (ويلي) عينيه على ثغاء الأغنام المتواصل , وحملق في السقف وكأنه يجاهد لمعرفة أين قضى ليلته , وحين استعاد كامل وعيه تذكر مجريات الليلة المنصرمة , وأدار رأسه يرمق الشمعة الخاملة في ركن قريب , ثم نهض متثاقلا وفرك عينيه في بطء , وألقى نظرة من نافذته المفتوحة ليرى (ليليان) وهي تنظم القطيع في حزم , أراد استبقاءها ريثما يتهيأ للمضي معها , لكن خوفه من والدها منعه , فهب من مكانه وحمل منشفة نظيفة وانطلق للأسفل محاولا كسب الوقت ليرافقها خلسة .
    غادر الكوخ وابتسم لرؤيتها تستعد للمغادرة , واستدارت هي استجابة منها لفتح أحدهم الباب , واعتدلت مبتسمة في حماس , فبادرها قائلا في حرج :
    ـ صباح الخير .
    أجابت في لهفة :
    ـ صباح الخير والسعادة .
    أشار للحمام في ارتباك , وهمس :
    ـ سأغسل وجهي , و..
    بتر عبارته في حرج شديد , تمنى اخبارها برغبته في مرافقتها , ليرى المرعى الذي تمضي إليه مع أغنامها , ولكن حياءه الشديد وقف عائقا في طريقه ..
    فطنت الفتاة لرغبته , فغمزت بعينها قائلة في خفوت :
    ـ والدي يستخدم الحمام الآن , بامكانك غسل وجهك في الساقية وأنا سأنتظرك .
    انبهر لعبارتها التي تعني صراحة رغبتها المماثلة في مرافقته , وأومأ برأسه موافقا في حرارة وتلفت حوله بحثا عن هذه الساقية , فضحكت وهي تشير لجهة قريبة وتقول :
    ـ هناك يا سيدي .
    وثب بسرعة البرق إليها , وغسل وجهه بالصابون في مبالغة , أراد الاستحمام أيضا لولا وقتها الضيق , وهرع إليها يجفف بقايا الماء وابتسامته المتفاءلة تملئ وجهه .. وقال في سعادة :
    ـ مستعد .
    رمقته بابتسامة حانية , وغمغمت :
    ـ لا أعتقدك ستمضي للمرعى بملابس النوم .
    سرت حمرة خجل خفيفة على وجنتيه , وخفض رأسه هامسا :
    ـ سأكون جاهزا خلال ثوان .
    تطلعت لجانب الكوخ وهي تهمس في حذر :
    ـ حاول أن تسرع , فوالدي على وشك الانتهاء من حمامه .
    انطلق مسرعا أثر كلماتها , فليس مستعدا أبدا لتمضيه اليوم بكامله مع ذلك العجوز الصارم ..
    في زمن قياسي كان يقف أمامها مهندما , ورائحة عطر رقيقة تفوح منه , وقد صفف شعره في عناية , رمقته في حنان , وهمست :
    ـ هيا بنا .
    تبعها في فرح واللهفة تملئ قلبه لرؤية عالم جديد يجهل كل شيء عنه ..
    الخضرة المكسوة تبعث في النفس الارتياح , ومنظر البنفسج العطري يصنع صورة خلابة لطبيعة الجبل , اذا أقترنت تلك الطبيعة الساحرة بخرير جدول صغير , يشق طريقه مستسلما نحو المجهول , يعبث بسطحه النسيم العبق , حاملا في طياته شذى الأزهار الناعمة .
    كانت (ليليان) تقود قطيعها في احتراف يوحي بالمهارة والاعتياد , في حين ظل (ويلي) يحتضن الطبيعة بعينيه , وهو يسير بجوارها غير مصدق لكل السحر الأخاذ , الذي خلقه الله عز وجل .
    قالت وهي تهش على أغنامها :
    ـ أهي المرة الأولى التي تزور فيها منطقة كهذه ؟
    أجاب مأخوذا بالجمال , وعيناه تجوبان ما حوله :
    ـ أجل , هذا الجبل خلاب ..
    وتطلع إليها بعيني عاشق , وأردف في أعماقه :
    ـ لا يضاهي هذا الجمال سوى جمالك يا (ليليان) .
    أشارت للمقدمة وهي تقول في حماس :
    ـ وصلنا يا سيدي .
    استوقفها , وترك القطيع يواصل سيره نحو طريقه المعتاد , وقال في طيبة :
    ـ لا أرى داعيا للألقاب , أنت (ليليان) وأنا (ويلي) فقط .
    رمقته في حرج , وغمغمت :
    ـ كلا .. أنت سيدي , وعمك سيدي أيضا .
    عقد حاجبيه قائلا في اهتمام :
    ـ أتعرفين عمي ؟
    ابتسمت في حياء , وهمست متساءلة :
    ـ الرجل الأشقر .
    ابتسم لوصفها , وقال :
    ـ نعم .. الرجل الأشقر .
    سارت بضع خطوات للأمام , في صمت شارد , ثم قالت :
    ـ زارنا عدة مرات من قبل .
    واستدارت ترمقه , واستطردت في صوت متهدج :
    ـ وكان طيبا حنونا , رجل رائع بكل معنى الكلمة .
    ملئ الفخر قلب (ويلي) إزاء هذا الإطراء , وشعر أنه بحاجة للغوص أكثر في كيان هذه الفتاة , ليعرف المزيد مما يخفى عليه ..
    سـألها في اهتمام ممزوج بالدهشة :
    ـ متى فعل هذا ؟ أقصد .. أنا أعيش معه منذ عشر سنوات أو أكثر , ولم أسمعه قط يتحدث عنكم .
    شملت ابتسامة واسعة وجهها وهي تخرج قلادة ذهبية طوقت عنقها , وتجيب :
    ـ زارنا قبيل شهر , وقدم لي هذه .
    كانت قطعة ذهبية صغيرة على هيئة زهرة النرجس , تحفة فنية رقيقة .. دهش (ويلي) لرؤيتها , مالبث أن سألها في اصرار :
    ـ لماذا يزوركم عمي ؟ ويقدم لك هدية أيضا , ماصلته بأبيك ؟
    صمتت لحظة , ثم قالت في بطء :
    ـ تدعي السكن مع عمك , ولا تعلم علاقته بأبي ؟
    ضاق من أسلوبها المتموج , وقال في ضجر :
    ـ أقمت معه قريبا .
    غمغمت وهي تداعب قلادتها :
    ـ والدي عمل طاهيا في منزل آل (ستيوارت) , حتى قامت الحرب .. فتطوع في الجيش , ثم عاش هنا بعد تركه عمله , ونزوح الاحتلال البغيض .
    رمقها في اهتمام , فهذا الجزء جديد عليه , واستحثها على المضي في قصتها فقالت في شرود :
    ـ أصيب والدي في المعركة ولم يستطع بعدها ممارسة عمله كالسابق , فقرر السيد (وليم) إعفاءه من عمله , ومنحه هذا الكوخ الجبلي نظير خدماته , وصداقته .
    التزم (ويلي) الصمت تماما وان لم تفارقه دهشته من كل ما يسمع ..
    ما أروعه من انسان .. رغم الفارق الاجتماعي بينهما , فقد اعتبره صديقا له , وقدم له ما يعينه على الحياة الكريمة , حتى بعد تركه العمل ..
    خطر بباله سؤال نقله فورا للسانه , فسألها :
    ـ إذن .. لماذا زاركم قبل شهر ؟
    ابتسمت في عذوبة , وقالت في لطف شديد :
    ـ قدم لأبي مبلغا كبيرا من المال مقابل استضافتك هنا .
    وازداد الحنان في نبرة صوتها وهي تستطرد :
    ـ أرادها مفاجأة لك , كما أخبرني سرا .
    اتسعت عيناه دهشة , وانعقد لسانه داخل حلقه ..
    هكذا الأمر إذن ..
    عمه يخطط لارساله إلى هنا , من قبل أن يطلب هو ذلك ..
    تمنى وقتها انقضاء هذه الفترة سريعا , ليطير لعمه الغالي ..
    كم كان مجحفا في حقه , حينما أعتقده لا مبالي بعواطفه ومشاعره ..
    كان تفكيره منصبا على راحته .. وهو يحسبه لا يفكر سوى بنفسه ...
    وتناولت كفه بين يديها , وغمزت بعينها قائلة في مرح :
    ـ ولقد أوصاني بك .
    تطلع إليها في عمق , واسترجع كفه في هدوء .. وسار للأمام شارد الذهن ..
    لقد رتب لأمر سرا منذ البداية , لهذا السبب لم يمانع في سفره ..
    بل إنه انتظر تلك اللحظة ..
    التفت إليها ومن عينيه تتواثب السعادة , وابتسم قائلا في بساطة :
    ـ مادام الأمر كذلك , لماذ تعامل والدك بصلف معي ؟
    اطلقت ضحكة صافية كصفاء النبع , وقالت في دلال :
    ـ لأنه يخشى علي من فتيان المدينة .
    ارتفع حاجباه في تعجب , مالبث أن خفظهما وابتسم مع استمرار ضحكاتها العذبة , ووقفت بجواره تتأمل قطيعها المنتشر في المرعى , وتمتمت :
    ـ كان في موقف محرج حينما طلب عمك منه السماح لك بالعيش معنا .
    وأدارت رأسها إليه وتابعت :
    ـ ورغم المبلغ الكبير الذي دسه عمك في جيبه , لم يفكر قط في الترحاب بك أو اعداد الغرفة لك , معتبرا المال للاقامة فقط , بغض النظر عن رداءة الغرفة أو سوء المعاملة .
    وركضت لقطيعها في عجل , وتركته يقف صامتا منشغل العقل بوالدها الفظ ..
    وفي أعماقه دار سؤال واحد .. كيف احتمل عمه سخافته ؟
    كيف ؟
    التعديل الأخير تم بواسطة Risa-Chan ; 17-12-2006 الساعة 09:39 PM

  4. #4

    الصورة الرمزية Risa-Chan

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    155
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    سـألها في اهتمام ممزوج بالدهشة :
    ـ متى فعل هذا ؟ أقصد .. أنا أعيش معه منذ عشر سنوات أو أكثر , ولم أسمعه قط يتحدث عنكم .
    شملت ابتسامة واسعة وجهها وهي تخرج قلادة ذهبية طوقت عنقها , وتجيب :
    ـ زارنا قبيل شهر , وقدم لي هذه .
    كانت قطعة ذهبية صغيرة على هيئة زهرة النرجس , تحفة فنية رقيقة .. دهش (ويلي) لرؤيتها , مالبث أن سألها في اصرار :
    ـ لماذا يزوركم عمي ؟ ويقدم لك هدية أيضا , ماصلته بأبيك ؟
    صمتت لحظة , ثم قالت في بطء :
    ـ تدعي السكن مع عمك , ولا تعلم علاقته بأبي ؟
    ضاق من أسلوبها المتموج , وقال في ضجر :
    ـ أقمت معه قريبا .
    غمغمت وهي تداعب قلادتها :
    ـ والدي عمل طاهيا في منزل آل (ستيوارت) , حتى قامت الحرب .. فتطوع في الجيش , ثم عاش هنا بعد تركه عمله , ونزوح الاحتلال البغيض .
    رمقها في اهتمام , فهذا الجزء جديد عليه , واستحثها على المضي في قصتها فقالت في شرود :
    ـ أصيب والدي في المعركة ولم يستطع بعدها ممارسة عمله كالسابق , فقرر السيد (وليم) إعفاءه من عمله , ومنحه هذا الكوخ الجبلي نظير خدماته , وصداقته .
    التزم (ويلي) الصمت تماما وان لم تفارقه دهشته من كل ما يسمع ..
    ما أروعه من انسان .. رغم الفارق الاجتماعي بينهما , فقد اعتبره صديقا له , وقدم له ما يعينه على الحياة الكريمة , حتى بعد تركه العمل ..
    خطر بباله سؤال نقله فورا للسانه , فسألها :
    ـ إذن .. لماذا زاركم قبل شهر ؟
    ابتسمت في عذوبة , وقالت في لطف شديد :
    ـ قدم لأبي مبلغا كبيرا من المال مقابل استضافتك هنا .
    وازداد الحنان في نبرة صوتها وهي تستطرد :
    ـ أرادها مفاجأة لك , كما أخبرني سرا .
    اتسعت عيناه دهشة , وانعقد لسانه داخل حلقه ..
    هكذا الأمر إذن ..
    عمه يخطط لارساله إلى هنا , من قبل أن يطلب هو ذلك ..
    تمنى وقتها انقضاء هذه الفترة سريعا , ليطير لعمه الغالي ..
    كم كان مجحفا في حقه , حينما أعتقده لا مبالي بعواطفه ومشاعره ..
    كان تفكيره منصبا على راحته .. وهو يحسبه لا يفكر سوى بنفسه ...
    وتناولت كفه بين يديها , وغمزت بعينها قائلة في مرح :
    ـ ولقد أوصاني بك .
    تطلع إليها في عمق , واسترجع كفه في هدوء .. وسار للأمام شارد الذهن ..
    لقد رتب لأمر سرا منذ البداية , لهذا السبب لم يمانع في سفره ..
    بل إنه انتظر تلك اللحظة ..
    التفت إليها ومن عينيه تتواثب السعادة , وابتسم قائلا في بساطة :
    ـ مادام الأمر كذلك , لماذ تعامل والدك بصلف معي ؟
    اطلقت ضحكة صافية كصفاء النبع , وقالت في دلال :
    ـ لأنه يخشى علي من فتيان المدينة .
    ارتفع حاجباه في تعجب , مالبث أن خفظهما وابتسم مع استمرار ضحكاتها العذبة , ووقفت بجواره تتأمل قطيعها المنتشر في المرعى , وتمتمت :
    ـ كان في موقف محرج حينما طلب عمك منه السماح لك بالعيش معنا لفترة .
    وأدارت رأسها إليه وتابعت :
    ـ ورغم المبلغ الكبير الذي دسه عمك في جيبه , لم يفكر قط في الترحاب بك أو اعداد الغرفة لك , معتبرا المال للاقامة فقط , بغض النظر عن رداءة الغرفة أو سوء المعاملة .
    وركضت لقطيعها في عجل , وتركته يقف صامتا منشغل العقل بوالدها الفظ ..
    وفي أعماقه دار سؤال واحد .. كيف احتمل عمه سخافته ؟
    كيف ؟
    مع بلوغ الثامنة صباحا في الجبال , تستطيع رؤية قممها المكسوة بالثلوج رغم حلول فصل الربيع , ومن الطبيعي ايضا أن ترى الوعول الجبلية تتواثب عبر الصخور الملساء , تسابق الريح وتعانق السحاب , ومع هبوب النسائم اللطيفة , تشعر برغبة عارمة في تنقية ذهنك من كل همومك , والتمتع بهذه المناظر العذبة الساحرة ..
    استرخى (ويلي) على العشب الطري , مريحا ظهره على صخرة ناعمة , وبين يديه مفكرة صغيرة .. أخذ يقلب صفحاتها في هدوء وهو ينقل عينيه بين سطورها , وثغاء الأغنام يملئ المرعى ...
    سمع أصواتا صادرة من معدته فاعتدل في جلسته , وتلفت يبحث بعينيه عن (ليليان) , وهو يربت على معدته متمتما :
    ـ نسيت احضار شيئا ألتهمه ..
    سمع صوت خطواتها خلفه فاستدار بجذعه الأعلى , فطالعته ابتسامتها الرقيقة وهي تحمل صرة صغيرة , فوضع كتابه جانبا حينما جثمت قربه , وحلت الصرة وافرغت محتوياتها البسيطة , كانت تحتوي على قطعة خبز وأخرى جبن , مع كوب فارغ ..
    ازدرد لعابه وهو يرى الطعام , وغمغم :
    ـ هل سيكون كافيا لكلينا ؟
    ابتسمت في نعومة , وهمست دون النظر إليه :
    ـ هذا افطارك .
    سألها في حيرة :
    ـ وماذا عنك ؟
    خفضت رأسها حياء وأجابت :
    ـ لقد تناولت افطاري قبل مغادرتي الكوخ .
    تطلع لعينيها في احترام كبير , وتظاهرت هي بمتابعة أغنامها , فمس كفها في رفق وغمغم في لطف :
    ـ سنقتسمه بيننا يا (ليليان) .
    احتضنت كفه وابتسمت , وهزت رأسها نفيا , قائلة في حنان :
    ـ كلا .. لست جائعة , ثم أنني مسؤولة عنك حتى تمض .
    خامرته رغبة في مداعبة خصلات شعرها الناعمة , لكنه نفض هذا الشعور الجرئ , وقال كالذي افاق من حلم :
    ـ ولماذا الكوب فارغ ؟
    نهضت تحمله وهي تهتف في مرح :
    ـ لنملئه بالحليب الطازج .
    وجذبته من كفه لينهض , فتبعها في سعادة , توغلت في المرعى بين القطيع المنتشر , تبحث عن عنزة جدها المفضلة , وجثمت أمامها ورمقت ضرعها وهي تقول :
    ـ هل سبق وتذوقت الحليب الطازج ؟
    تطلع (ويلي) للذباب الذي يحوم حول أنف العنزة , ويلتصق باصرار على ضرعها , فأصابه تقزز شديد ونفور من هذا الضرع , الذي تصر (ليليان) على اطعامه حليبه ..
    وفي مهارة وحرفة , وضعت (ليليان) الكوب أسفل الضرع , وبدأت تسحب الحليب في هدوء , وشعر (ويلي) بعجزه عن مجاملتها في شربه , لا سيما وهي تطرد الذباب بحركة واهية من يدها , وهو لا يفتأ يعود مجددا .. أراد (ويلي) التخلص من هذا المأزق و فسألها في قلق :
    ـ (ليليان) .. أخشى عدم قدرتي على شربه .
    سألته وهي تحلب العنزة المستسلمة في هدوء :
    ـ ولماذا ؟ لو تذوقته هذه المرة فستطلبه دائما .
    مط شفتيه في توتر , ورمق الذباب في انزعاج و قائلا :
    ـ ولكن الذباب ..
    بتر عبارته حينما نهضت حاملة الكوب في حرص , وقدمته له قائلة في سعادة :
    ـ تفضل .. مازال دافئا .
    شعر أنه في مأزق حقيقي وأن معدته توشك على القفز من فمه , لكن لم يرد قط وضعها في موقف محرج , فمد كفه المرتجف وتناوله , فتساقطت بضع قطرات منه على أصابعه فهتفت به محذرة :
    ـ احذر .
    تطلع للكوب في تقزز , وضايقه الذباب الي لم يكتفي بالضرع , إنما يحاول اقتسامه معه ملتصقا بأصابعه , فسد فتحة الكوب بكفه وقال في ارتباك :
    ـ عزيزتي .. هل استطيع احتساءه وأنا أتجول في المرعى ؟
    تطلعت إليه في دهشة وتمتمت :
    ـ بالطبع , ولكن تناول افطارك أولا بينما أراقب القطيع .
    كانت عبارتها بمثابة طوق النجاة , فركض بعيدا عنها ليتخلص منه قبل أن تتخلص معدته من محتويات الليلة الماضية ..


    ابتعد (ويلي) بما فيه الكفاية عن أنظار (ليليان) , وتلفت حوله ليتأكد من أنها لن تلمحه , وسكبه على العشب والحرج يكسو وجهه , فهو لا يستطيع مجاملتها في شرب حليب لا شك أنه ملوث , يكفي ما رآه من ذباب يحوم حوله , وعاد أدراجه ليتناول إفطاره وبراءة الأطفال في عينيه ..
    اختفى قرص الشمس خلف سحابة رمادية كبيرة , ملئت صفحة السماء الزرقاء , و(ويلي) يتابعها بعيني عاشق , وهو متمدد على الأرض المخضرة , واضعا كتابه على صدره , ويسند رأسه على ساعده الأيمن , ويسراه على سطح كتابه الصغير ..
    تراقصت على رأسه فراشة صغيرة , فابتسم في سعادة لرؤية كل هذا الجمال الفريد , وتنهد مغمغما في أسى :
    ـ ياأبي الحبيب , ليتك بقيت حيا لتشاهد ما يشاهده ابنك من روعة .
    واحتضن كتابه في حنان , سمع (ليليان) تهتف به وتشير إليه من بعيد :
    ـ (ويلي) , حسبك من خمول واقترب .
    نهض جالسا في هدوء , وتثاءب في عمق .. فكل شيء هنا يساعد على النوم القرير , وبخطوات متأنية تقدم منها , فابتسمت وأشارت لحقل أزهار رائع , وهي تقول في فخر:
    ـ هل سبق وشاهدت جمالا كهذا ؟
    تألقت عيناه فرحا مما يراه , فعلى مساحة شاسعة زرعت أزهار من مختلف الألوان , ورائحة العبق العطري تفوح في دفئ ونعومة ..
    تعلقت (ليليان) بساعده وقالت في بساطة :
    ـ أراهن أنك لم ترى جمالا يضاهي ماتراه الآن .
    كان ينظر للأزهار وفي أعماقه حيرة من جرأة هذه الفتاة , على الرغم من أنها فتاة جبلية , إلا أنها تجاوزت حاجز الزمن , وتصرفت كما لو كانت تعرفه منذ أمد طويل , بتعلقها به على هذا النحو , صحيح أن الأمر يسعده , لكن مع أب صارم كوالدها , فعليه الحذر .
    أخذت (ليليان) تتطلع للكتاب في يده في اهتمام , وانتزعته منه وهي تقول :
    ـ ماهذا ؟
    أجاب بابتسامة باهتة :
    ـ مفكرة .. كتب فيها والدي أولى قصائده , ولم يتسنى له الوقت لنشرها .
    صمتت برهة , وأعادته إليه متمتمة :
    ـ ولماذا ؟
    جلس في هدوء على الأرض , وتنهد في عمق قائلا :
    ـ برحيله انتهى كل شيء .
    اتسعت عيناها دهشة , وافترشت الأرض بجواره , ورمقته في تعاطف .. خيل إليها أنها ترى التماعه دموع في عينيه , فالتزمت الصمت تماما , عاجزة عن مواساته .. لكن (ويلي) أكثر صلابة مما يبدو عليه , فقد رسم على وجهه ابتسامة حزينة , وقلب صفحاته قائلا في خفوت :
    ـ أترغبين في سماع احدى قصائده ؟
    همست :
    ـ لا بأس .
    تنحنح ليتخلص من مرارته , وبدأ يقرأ قصيدة والده الراحل ..
    (( اشتقت إليك شوق السنونو لوشوشات الربيع ....
    وضحكات النسيم في وسط الغدير ..
    أيتها الفاتنة فتنة العذارى ..
    ضعي عقدا من النجوم على شعرك ..
    وطوقي عنقك الجميل بشذى البنفسج ...
    وسابقي الريح إلى الحياة ..
    إلى الحب ..
    وتذكري أنني احترق شوقا للقاءك ..
    فأناملي دوما تعانق خيال أناملك ))
    وصمت (ويلي) ..
    وغرقت (ليليان) في احساس جديد ..
    صوت (ويلي) الدافئ وهو يلقي القصيدة , حملها بعيدا عن هذا العالم , إلى عالم آخر مجهول ..
    رمقته في افتنان , في حين ظل هو شاردا حزينا .. ربتت على كفه في حنان , وهمست في عذوبة :
    ـ كلمات ساحرة .. عذبة .
    أطرق برأسه وأجاب في خفوت :
    ـ لقد غرق والدي في الحب حتى آخر عمره .
    صمتت قليلا ثم قالت :
    ـ في حب والدتك ؟
    هز رأسه نفيا , وتمتم :
    ـ بل في حب الأزهار , والعصافير , وخضرة الأشجار ..
    ورفع رأسه متطلعا للسحاب , وأردف منتهدا :
    ـ وحب الخير .
    ومن قلبه انحدرت دمعة ألم , تحمل رائحة الفراق ..
    عند المساء , ومع آخر همسات الشفق , الذي عانق قرص الشمس المتحضر , عادت (ليليان) من المرعى , بعد اعادة الأغنام لأصحابها في المنازل المجاورة , يتبعها (ويلي) في صمت ..
    عادت حزينة محطمة الفؤاد ..
    لقد عرفت كل شيء عن (ويلي) ..
    عرفت لماذا أختار المجيء إلى هنا , عرفت بقصته البائسة مع عمه , وصمته الدائم , وحزنه الأبدي ..
    وتعاطفت معه للغاية ..
    لم يتوقع (ويلي) اخبارها بأمر عائلته الصغيرة بهذه السهولة , ولكنه ندم كثيرا بعد افضاءه بما في قلبه , رغم موجة الارتياح العارمة التي احتوت كيانه ..
    لماذا يخبر (ليليان) هذه الأمور الخاصة ..؟
    أهو الارتياح ؟
    أم هي روحها البسيطة الشفافة ؟
    أم رابطة الأخوة التي نسجت خيوطها بينهما منذ الليلة الماضية ؟
    أو هو مزيج من كل حسناتها واهتمامها ؟
    ربما ...
    وجدت (ليليان) والدها بانتظارها على أحر من الجمر أمام الكوخ , والشرر يقدح من عينيه , راميا (ويلي) بنظرة ملتهبة , ثائرة .. فمسحت الحزن عن عينيها , ولوحت بكفها وكأن شيئا لم يكن , وهي تقول في بساطة :
    ـ مرحبا .
    وقادت عنزات أبيها الأربع للزريبة , في حين وقف (ويلي) بالقرب من العجوز في حرج , غير قادر على النظر لوجهه , فزمجر العجوز قائلا في غيظ جاهد ليكبته :
    ـ لو لم تكن من عائلة (وليم ستيوارت) , لتعاملت معك على نحو ملائم .
    تضرج وجه (ويلي) بحمرة الخجل , وخفض رأسه معتذرا , فأسرعت (ليليان) إلى أبيها وهي تقول في سرعة :
    ـ مهلا يا والدي ..
    ووقفت أمام (ويلي) مستطردة في حزم :
    ـ أنا من طلب منه مرافقتي للمرعى , لم يتصرف (ويلي) بمفرده ولم يزج بنفسه رغما عني .
    قطب الأب جبينه ورمقته بنظرة نارية أخرى , فرفعت (ليليان) رأسها وتابعت في فخر :
    ـ انه من أسرة نبيلة , محترمة , والحق يقال .. لم يحاول قط إيذاء مشاعري أو التحرش بي .
    ازداد احتقان وجه (ويلي) من كلمات (ليليان) الجريئة , الواضحة المغزى , لكنه ترك الحوار لها ولأبيها الذي أشتاط غضبا من دفاع ابنته عن شخص التقته توا , وأمام ناظريه أيضا , فهتف محتدا :
    ـ (ليليان) ...
    قاطعته في ثبات :
    ـ أنت شخص يحترم وعوده , ولقد وعدت بمعاملته أفضل معاملة لحين رحيله , أليس هذا وعدك للسيد (وليم) .
    التقى حاجبا (ويلي) من تصريحها هذا , وشده الحنين ثانية للقاء عمه الحنون , واضغى مجددا لـ(ليليان) وهي تتابع في حزم :
    ـ (ويلي) محترم , ليس تافها أو حقيرا , انه شخص تأتمنه على ابنتك .
    بدأت الأمور تعود لنصابها في عقل الأب , فتغيرت نظرة الغيظ تدريجيا , لتحل محلها نظرة أقرب للطبيعية , وهو يزفر في استكانه , ويعود أدراجه للكوخ .
    تنفس (ويلي) الصعداء بعد مضيه , فاستدارت نحوه قائلة في ثقة :
    ـ أرأيت ..؟ لقد انتهى الأمر .
    رمقها غير راض , وهتف بها في عتاب رقيق :
    ـ هل اعتدت على مخاطبة أبيك بهذا الأسلوب ؟
    ارتسمت الحيرة على قسماتها اللطيفة , وهي تغمغم :
    ـ وماذا في ذلك ؟
    ابتسم مشفقا , وأجاب :
    ـ انه والدك .. ليس شخصا آخر .
    وتطلع للباب المفتوح , وأردف , وصورة والداه تحتل كيانه :
    ـ آباؤنا يستحقون منا الأفضل دائما .
    وأسبل جفنيه في رثاء ..
    وخلف الباب , كان الأب يصغي إليه في اهتمام , وقد تركت كلماته صدى في قلبه , وتأكد أن شكوكه حوله لامكان لها ..
    على مائدة العشاء , تناول الثلاثة عشاءهم في صمت تام , أخذ (ويلي) يقلب حساءه في شرود , وقد بدأت مشاعر الشوق تدغدغ أحاسيسه , كان مستغرقا في التفكير ..
    كل تفكيره منصبا على عمه ..
    ماذا يفعل الآن ؟ هل يتناول وجبة العشاء أيضا ؟ أم انه ينام بمعدة فارغة كما هي عادته ؟
    صمت (ويلي) وشروده أثار انتباه الفتاة ووالدها , فقال هذا الأخير في لهجة بدت في اذني (ليليان) حانية , ولم تلفت انتباه (ويلي) :
    ـ ألا يعجبك حسائي ؟
    هز (ويلي) رأسه نفيا في بطء , وهمس :
    ـ بالعكس .. انه لذيذ للغاية .
    وتراجع بمقعده للخلف وتابع في خفوت :
    ـ ليلة سعيدة .
    رمقت (ليليان) طبقه المملؤ وهتفت به :
    ـ لم تأكل شيئا .
    غمغم بكلمات مبهمة , وصعد لغرفته في صمت ..
    رفعت (ليليان) الأطباق وهي تقول لوالدها :
    ـ يبدو أنه متضايق مما قلته .
    غسل الأب الأطباق مغمغما :
    ـ أيتوجب علي الاعتذار منه ؟
    مطت شفتيها في ضيق قائلة :
    ـ كان سعيدا في المرعى حتى تذكر عمه .
    قال الأب يستحثها على المضي :
    ـ ثم ؟
    تابعت وهي تنظف المائدة :
    ـ طفت الكآبة عليه , ولا أحسبه سيمكث معنا طويلا ..
    توقف الأب عن عمله , وقال بعد برهة صمت :
    ـ سأحاول استبقاءه قدر المستطاع .. انه (وليم) بمظهر آخر .
    فعلا .. يشبه عمه في نقاء سريرته ..
    أيام مضت و(ويلي) في الجبل , مستمتعا بضيافه (ليليان) , ووالدها الذي غير أسلوبه معه , فأضحى يتحدث معه ببضع كلمات , لم يعد يتجاهله أو يضايقه , بالمقابل .. أصبحت (ليليان) أكثر احتراما لوالدها , وأكثر تقبلا لنصائحه , لقد أضفى (ويلي) بروحه الشفافة , لمسة حانية على الأب وابنته , فاقتربا أكثر من بعضهما البعض .
    ذات مساء , وحين عودة (ويلي) من المرعى , سلمه السيد (هاريس) رسالة من عمه (وليم) .
    تلقفها (ويلي) في سعادة جمة وهو يهتف من أعماقه :
    ـ عمي (وليم) .. يالسعادتي .
    رسم السيد (هاريس) ابتسامة خفيفة على شفتيه قائلا :
    ـ وصلت قبل ساعة .
    شكره (ويلي) في حرارة , وصعد لغرفته ليقرأها في تركيز ..
    جلس على سريره وفض المظروف في عجل وقلبه يتراقص سعادة , فتح الرسالة والتهم كلماتها في شوق , رغم قصر الرسالة , وقلة كلماتها ..
    عزيزي (ويلي) ..
    اشتقت لك يا (ويلي) , أرجوك يا عزيزي , حاول العودة سريعا , أنا وحيد للغاية , وأنت عائلتي .
    عمك الذي يحبك .
    (وليم) .
    انقبض قلبه في حزن , وبدى متناقضا مع ابتسامته الحانية على شفتيه , ووجد نفسه يضم الرسالة لقلبه , ويقول في حسم :
    ـ لا تبتأس يا عمي , غدا ستجدني أمامك .


    سقط دلو الماء من يدي (ليليان) , وهي تقف عند الساقية , حينما سمعت بقرار رحيل (ويلي) , وتحجرت الدموع في مقلتيها وهي تقول مرتجفة :
    ـ راحل ؟ بهذه السرعة ؟
    تألم (ويلي) مما أصابها , وهز رأسه موافقا وهو يهمس متأثرا :
    ـ هذا ضروري .. أنا في ضيافتكم منذ أسبوعان , وأظنه كاف جدا .
    أشاحت بوجهها لتخفي دموعها , فربت (ويلي) على كتفها قائلا بابتسامة حنونة :
    ـ معذرة .. عمي يرتقب عودتي بفارغ الصبر , لا أحد لي سواه , وهو وحيد الآن .
    أبعدت كفه و قالت في حدة :
    ـ هل افتقدك الآن ؟
    واخفت وجهها لتنخرط في بكاء مرير .. فالتقى حاجبيه في أسى , وأشاح بوجهه عاجزا عن الحديث ..
    لقد قربت بينهما الأيام المنصرمة كثيرا , أخبرته عن والدتها الراحلة , وعن افراط أبيها في دلالها , وتحمله لعنادها , واعجابه بقوة شخصيتها ..
    أخبرته أيضا برغبتها في دخول المدرسة كأبناء المدينة , وترك الرعي للأبد لولا ظروفهم الصعبة .
    أمسك بساعديها في رفق , وقربها منها وهو يهمس في لطف وحنو :
    ـ عمي يحتاجني كما يحتاجك أبيك , لسنا وحدنا في هذه الدنيا لنقرر ما هو في صالحنا , ويساهم في الوقت ذاته في اتعاس الآخرين .
    غمغمت من بين كفيها :
    ـ لا ترحل يا (ويلي) , أتوسل اليك .. أمكث معنا مزيدا من الوقت , لا أتصور منزلنا بدونك .
    وبكت في مرارة وهي تجثم أرضا , فرمقها في تأثر , وانسحب في صمت واشفاق , عاجزا عن مواساتها بأقل الكلمات ..
    أمام نار الموقد , جلس حزينا على مقعده الخشبي , فوضع السيد (هاريس) قدحا من الشاي له , وجلس بجواره قائلا في خفوت :
    ـ لقد حجزت نفسها في غرفتها وترفض العشاء .
    تمتم (ويلي) في أسف , وعيناه على المائدة :
    ـ معذرة يا سيدي , يبدو أنني مصر على ازعاجك لآخر دقيقة .
    ربت (هاريس) على كفه وهو يقول في أبوه :
    ـ بل ساهمت في ادخال البهجة لهذا المنزل الهادئ , وغيرت من سلوك ابنتي .. أصبحت أكثر تقبلا لنصحي وارشادي .
    هز رأسه نفيا , وهمس :
    ـ لم أفعل شيئا يذكر ..
    ورفع رأسه متطلعا للنار المتأججة , وأردف بابتسامة حنين :
    ـ أشعر بتأنيب الضمير يا سيد (هاريس) , لقد جعلت (ليليان) تتعلق بي , وهأنذا راحل .
    ابتسم العجوز في تفهم , وقال :
    ـ أنت الآن بمثابة أخ أكبر لها , وعليك كأخ زيارتها كلما شئت .
    هتف في حماس :
    ـ بالطبع .
    عند الفجر ..
    حزم (ويلي) حقيبته اليتيمة , ورمق الغرفة بنظرة الوداع الأخيرة ..
    سيشتاق حتما لها , وللسيد (هاريس) , و(ليليان) الجميلة .. وتطلع للجبال البعيدة من النافذة , وشعر بمقلتيه تمتلئان بالدموع , فنفض عن نفسه هذا الشعور السلبي , وغادر الغرفة في تثاقل .
    وجد الأب ينتظره في الأسفل , فسأله في قلق :
    ـ أين (ليليان) ؟
    أجابه بعد لحظة صمت :
    ـ في الخارج .
    هتف في انفعال :
    ـ رحلت للمرعى ؟
    ابتسم وقال :
    ـ قلت في الخارج ولم أقل في المرعى .
    وقبل أن يعترض (ويلي) حمل عنه حقيبته , ودفعه للأمام هامسا :
    ـ انها هناك منذ ساعات الصباح الباكرة ..
    خرج (ويلي) من الكوخ ووجدها تقف قرب السور صامته , وخيطان لؤلؤيان ينحدران في استكانه على صفحة وجهها الناعمة , وثب اليها وأمسك كفها بكلتا يديه وضغطه في رفق , وقال مشجعا :
    ـ أهذه دموع الوداع أم دموع الدلال ؟
    رفعت عينيها المثقلتان من الدمع , وهاله احمرارهما , وهمست في صوت مبحوح :
    ـ أرجوك .. لا تنساني .
    داعب شعرها الناعم وهمس في اخلاص :
    ـ لن أنساك يا زهرة الجبل الفاتنة , سأظل أذكر رعايتك واهتمامك , وثقي أننا سنجتمع يوما .
    وأسرع بالفرار منها قبل أن تخونه عبرة ما , واختطف حقيبته من والدها , وركض بعيدا وهو يهتف في أعماقه :.
    ـ لماذا أتألم ؟ ألست راحلا إلى قدري , إلى الشخص الوحيد الباق على قيد الحياة , ويربطني به رابط الدم .
    لم يلتفت خلفه أو يرى (ليليان) تلوح له بكفها المرتجف , قبل أن تلقي نفسها بين ذراعي أبيها , وتسكب آخر انفعالاتها على صدره , من حسن حظه أنه لم يفعل , وإلا لم استطاع كبت دموعه اكثر من ذلك

    عاد (ويلي) للمنزل ..
    ليس الأمر بسرعة قراءة الكلمات , لقد استغرق الأمر منه عدة ساعات بالقطار , ونصف ساعة لحين وصول سيارة عمه , بقيادة السائق , وعندما وصل للمنزل تنفس الصعداء ..
    الخميلة الجميلة أعلى التل مازالت شامخة متحدية كما هي , وأزهار الكرز يانعة في اغصانها , كل الجمال الذي تركه رجع إليه , رجع مملؤا رغبة للمكوث مدة أطول مع عمه , وصمته , وحزنه الغامض ...
    استقبلته الخادمة العجوز في فرح , قائلة :
    ـ حمد لله على عودتك يا بني .
    أجابها في وقار :
    ـ أشكرك يا (مارتا) .
    وأرسل بصره للردهة وسألها في اهتمام :
    ـ أين عمي ؟
    ابتسمت في حنان , وقالت :
    ـ في غرفته .
    ابتسم في اشفاق , مغمغما :
    ـ في مرسمه ؟
    اتسعت ابتسامتها وقد فطنت لمغزى عبارته , وقالت في تأكيد :
    ـ بل في غرفته , تركته يتناول الشاي .
    سألها ضاحكا :
    ـ ساعة الغذاء ؟
    هزت رأسها نفيا , وقالت في أسى :
    ـ تناول النذر اليسير من الطعام منذ رحيلك , انه يتناول فقط ما يبقيه على قيد الحياة .
    عبس (ويلي) في شدة من عبارتها , وترك حقيبته تسقط من يده , وهرع إليه في قلق شديد ..
    قرع باب غرفته , وفتح الباب قبل أن يتلقى الرد , ووجده جالسا في شرفة تطل على الحديقة , وأمامه العديد من أقداح الشاي , وأعقاب السجائر المستعملة , فازداد تأثره لرؤيته في هذه الحالة , وأغلق الباب في حرص , وتقدم منه قائلا :
    ـ ها قد عدت يا عمي .
    خيل اليه أن عمه انتفض مكانه , قبل أن يهب واقفا على قدميه ويلتفت إليه قائلا في خفوت , والفرحة تملئ وجهه :
    ـ (ويلي) .
    واندفع نحو ابن أخيه واحتضنه في شوق , فأحاط (ويلي) جسد عمه في حنان , وأراح رأسه على صدره قائلا في أسف :
    ـ سامحني , تأخرت عليك .
    ربت العم على ظهره , وغمغم :
    ـ لا بأس .. كان عليك الرحيل لترتاح قليلا .
    ابتعد (ويلي) عن ذراعيه في صعوبة , ورأى دمعة فارة من عينيه , فالتقى حاجباه تأثرا , وقال في حرج :
    ـ لو علمت مسبقا بمدى تأثرك برحيلي , لـ..
    أسكته عمه بابتسامة باهتة , وربت على كتفيه , ثم أحاطهما وقاده ليجلس معه على الشرفة .
    جلس (ويلي) في خجل من دموع عمه التي أهدرها بلا مبرر , في حين ظل العم محتفظا بابتسامته الحزينة , وقال وهو يداعب قدحه :
    ـ (ويلي) .
    رفع (ويلي) رأسه وتطلع لعمه في تساؤل , فالتقت الأعين في صمت , ثم تنهد العم في حرارة , وقال في تردد :
    ـ أريد اطلاعك على سر حزني .
    اتسعت عينا (ويلي) في ترقب , وركز أسماعه تماما لعمه وهو يقول في لهجة تحمل طنا من الحزن والبؤس والكآبة :
    ـ لقد فقدت شخصا عزيزا جدا أبان الحرب العالمية الثانية .
    تصبب جبين (ويلي) بالعرق , رغم نسمات الربيع , وعمه يقول في لهجة شبة باكية متهربا من النظر إليه :
    ـ فقدت أبنائي الثلاثة .. وزوجتي التي أحببتها .
    ارتعد (ويلي) من هول ما يسمع و وارتجفت أطرافه في شدة , ودون شعور وجد نفسه راغبا في ضم عمه إلى صدره , لاسيما وهو يرى دموعه تخدعه لتفر من مقلتيه دافئة متلألئه ..
    تابع (وليم) في شبة شرود :
    ـ أعلم أنني آذيتك بصمتي المتواصل , ولكنني لم أجد مخرجا سواه , ولم أرد ازعاجك بحزني ومتاعبي , و..
    قاطعه (ويلي) في حرارة وعتاب :
    ـ لماذا تخفي عني سرا رهيبا كهذا ..؟ لماذا ؟
    انتحب (وليم) رغما عنه , فتركه (ويلي) يفرغ انفعالاته التي كبتها طويلا .. طويلا , إلى أن تمكن من فرض الهدوء على كيانه , وتابع في خفوت :
    ـ حينما طلبت مني الذهاب للجبل , عرفت أنه ذنبي , لم استطع توفير حياة أسرية سعيدة لك , كنت انانيا , اعتقد أن الرعاية هي المال .. سامحني يا عزيزي , وعندما رحلت .. شعرت وكأن قبضة باردة تعتصر قلبي , سامحني ..
    أخذ يردد الكلمة الأخيرة كثيرا , و(ويلي) يرمقه في أسى , وفي هدوء نهض , وأحاط كتفي عمه من الخلف , وأسند رأسه لرأسه , وقال في ثبات :
    ـ لو أخبرتني بالحقيقة منذ البداية , لوفرت علي وعلى نفسك كل هذا العذاب , مازال الوقت أمامنا لنبدأ من جديد .
    ضغط (وليم) بكفيه على معصمي ابن أخيه , وتمتم في حرج :
    ـ هل تسامحني يا (ويلي) على تقصيري ؟
    اعتدل (ويلي) ورمقه بنظرة طويلة , ثم زفر وقال :
    ـ أسامحك ؟ أتطلب مني السماح وأنت ترعاني ؟ أتطلب مني السماح وأنا أتنفس طيبتك مع أطلاله الصباح ؟
    من الذي يحيطني برعايته وحبه وحرصه طوال السنوات الماضية ؟ من الذي يدثرني حين أقذف غطائي وأنا نائم ؟ من ومن ومن ..
    واحتضنه مجددا وهو منخرط في البكاء المرير , الذي يمزق نياط القلوب , وأطلق (ويلي) ضحكة خافته بدت متناقضة مع دموعه الدافئة وهو يقول هامسا :
    ـ انتهت الحرب يا عمي , وأنا معك , سأكبر وانا هنا , تحت ظلك , ولن أتركك حتى آخر يوم في عمري .


    من الظلم القول أن (ويلي) شخص عادي , بعد تلك المصارحة , عقد (وليم) العزم على بدأ حياة جديدة مع صديقه وابن أخيه الحبيب (ويلي) , الذي ظل مخلصا لعمه , وفيا لوفاءة , وعاش معه حتى آخر العمر ..

    .................................................. .....
    إنتهى الجزء الأول من القصة
    لكن ماراح أحط الجزء الثاني إلا إذا شفت 10 ردود
    التعديل الأخير تم بواسطة Risa-Chan ; 17-12-2006 الساعة 09:40 PM

  5. #5


    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    المـشـــاركــات
    115
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........


    كلمات أسرت قلبي...
    رغم أنني لم أكمل قراءة ما بدأت...
    إلا إنها رائعة... بكل معنى الكلمة...
    فكلماتي في هذا الوقت لا تسعفني...
    لأنني على عجل من أمري لدي بعض الامور التي يجب أن أنهيها...
    لكن لا تقلقي عزيزتي... سأكملها وأقول لك رأي بصراحة...
    فأنا وأنت من عشاق القلم...
    و كلماتي السابقة تخبرك و تشجعك... على إكمالها...
    فهذا ما أرجوه... صديقتي...
    (( عاشقة كيرا ))
    :yes2: :yes2: :yes2:
    وأتمنى أن تبدي رأيك بكلمات قلمي في مواضيع
    ((شجرة الكرز))
    <<<أول قصة أكتبها>>>
    <<<عالم البرزخ>>>
    تحياتي لك...


  6. #6

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    استبيحك عذرا ان تسمحي لي

    بحجز المكان لحين اتمام القراءة

    ( قراءتي ابطأ من سير النمل على مهل )

  7. #7

    الصورة الرمزية H_Assassin19

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    538
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    Thumbs up رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    اختي عاشقة كيرا

    اولا شكرا على هذا الابداع

    ولكن للأسف لا استطيع مواصلة القراءة:hmmm3: والسبب


    :baffled5wh:







    :nerd2:ماتمت نظارة ولا عدسة مكبرة في البيت الا ولبستها وما في فايدة

    ممكن لو اتكبرين الخط شوي بس لان للأ سف نظري على قد حاله
    :nerd6bs:

    واسف لو كنت بضايقج بهالطلب :rolleyes5cz:

    واريغاتو غوزايماس على المجهود الرائع:laugh2:


  8. #8


    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    153
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    مشكووووووووره اختي على الموضوع انا خلصت صفحتين وباقيلي شوي انشالله اخلصهم
    وشكرا على الموضوع

    اخوج كودو

  9. #9

    الصورة الرمزية Risa-Chan

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    155
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    لقد تم تكبير الخط بناءً على طلب ساحر القرن الأخير
    وأشكر كل من قام بالرد على هذه القصة المتواضعة
    وراح أبدأ بالجزء الثاني بكرة إن شاء الله

  10. #10

    الصورة الرمزية MAISONA

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    2,993
    الــــدولــــــــة
    اسبانيا
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

    بارك الله فيكي أختي عاشقة كيرا على هذه القصة الرائعة والتي من وحي خيالكي الفذ.

    وإن شاء الله سأقرأها كلها .

    بانتظار جديدكي المتميز.

    أختكي : ميسونه

  11. #11

    الصورة الرمزية Risa-Chan

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    155
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    ..الجزء الثاني...
    (الفصل الأول : رياح غامضة ... من دوفر)
    بعيداً عن أحضان الجبل الهادئة , نحن الآن في ضاحية من ضواحي لندن البعيدة عن العمران, في الريف الإنجليزي العريق , والشمس تتثاءب بنعومة خلف الأفق في ساعات الصباح الأولى , و الضباب البريطاني الشهير مازال يلف المكان, في أجواء مألوفة ..
    في ذلك الريف الهادئ شيد قصر آل (ستيوارت), حيث الغابات المحتضنة أشجارها منذ سنوات , وبالرغم من قسوة الحرب , إلا أن الطبيعة اللندنية استعادت قواها تدريجياً , وعادت تمارس حياتها الاعتيادية , الطيور رجعت تعانق زرقة السماء الصافية , والنهر الجاري يتدفق بحيويته المعتادة , حاملاً معه الرقة وخريره العذب ..
    والسناجب الصغير ة على الأغصان , تقضم حبات الجوز بأسنانها الرفيعة , لتلج بيوتها في سرعة مع أدنى صوت يتناهى لمسامعها ..
    عاد الوجود كما كان , وكأنما شيئاً لم يحدث ..
    وفي قصر (ستيوارت) , حدث الكثير بعد عودة (ويلي) ..
    صارحه عمه الحبيب بسر غموضه وصمته الدائمين , وقرر (ويلي) احتمال عمه أكثر من ذي قبل , إكراماً لعطفه وحنانه , لم يتغير في حياتهما الكثير , مازال (وليم) كما هو , يحب عزل نفسه في مرسمه , صموتاً , ولكنه لم يعد نادر الحديث كما في السابق بالكاد حدث تغير طفيف على شخصيته, أصبح يجاذب ابن أخيه أطراف الحديث بين الفينة والفينة , وان كانت بضع كلمات , لكنها كافية له .

    في مرسمه الغامض , الموجود في نهاية رواق طويل بالطابق الأسفل للقصر , حيث الهواء المتجدد والنوافذ المطلة على حديقة القصر , والتي يوليها البستاني ـ بأمر (ويلي) ـ جل رعايته واهتمامه , قبع (وليم ستيوارت) في تلك الساعة المبكرة , يحتسي القهوة المرة التي يعشق , وهو يقف في منتصف مرسمه , متطلعاً في شرود إلى اللوحات المجنونة المعلقة منها والملقاة أرضاً في إهمال , وقبضات الأوراق المتناثرة في كل المرسم , أسند ظهره إلى حاجز النافذة المفتوحة خلفه , ووضع قدح القهوة الفارغ على المنضدة الرخامية قربه , ليلتقط رسالة ما , وأخذ يعيد قراءتها , والنسيم اللطيف يداعب قماش الدانتيلا خلفه , ويعبث بمقدمة شعره الذهبي الجميل ويحاول بنعومته انتزاع الرسالة منه , كل هذا الجمال غاب عن ذهنه وإمارات التركيز تحتل الجانب الأعظم من وجهه , وعيناه تجري على الكلمات في بطء وتوتر ..
    حمل له الخادم هذا الصباح , رسالة وصلته من إحدى قريبات زوجته الراحلة , رسالة غريبة من أرملة صغيرة , تطلب منه استضافتها في قصره لبضعة أشهر , بغية علاج شقيقتها الصغرى على يد طبيب شهير في المدينة , وبسبب بعد المسافة عن مسكنها وأسرتها , قررت المكوث في قصره حتى يتم شفاء شقيقتها الصغرى ..
    قرع أحدهم باب مرسمه وقطع عليه حبل أفكاره , فرفع (وليم) عينيه عن الرسالة , وقال بصوته الهادئ :
    ـ تفضل .
    ولج (ويلي) المرسم مبتسماً في حنان , وهو يلق تحية الصباح بمودة , وأغلق الباب خلفه , وتطلع لعمه صامتاً محتفظاً بابتسامته , وأردف في مرح :
    ـ أخبرني (جون) برغبتك في رؤيتي ..
    تلاشت ابتسامته تدريجياً , عندما تنهد عمه في حرارة , وهو يقدم له الرسالة , فالتقى حاجبيه وهو يتنقل بصره بين الورقة الممدودة وعيني عمه الذابلة , وألتقط الرسالة وقرأها في عناية ..
    عزيزي (وليم ستيوارت) ..
    سنوات مضت ولم نتقابل , وأراهنك أن لا أثر لملامحي في ذاكرتك المتخمة بالجراح , عقب رحيل ابنة عمتي ـ زوجتك ـ والأسباب عديدة , وكلانا يعرفها , فلا داع للخوض في غمارها ..
    أنا (كريستين هارولد) , المرأة التي رأت الكثير في حياتها , بأكثر مما تحتمله سنوات عمرها الأربع والعشرين , تزوجت وترملت , مات زوجي في الحرب كما زوجتك , وغرقت في الحزن والوحدة , ولا أرى في الدنيا سواك لأبث له بهمومي وأحزاني ..
    عزيزي ..
    لست أستدر عطفك , ولكن أناشدك العون في مسألة لا أظن صدرك سيضيق بها , شقيقتي الصغرى (ديانا) تعان من عيب خلقي في القلب , وتحتاج لمتابعة مستمرة من الدكتور (ألبرت جونز) , والذي يعمل في مستشفى لندن , وبما أننا نقيم في (دوفر) , فمن الصعب علينا زيارته على نحو أسبوعي , لهذا قرر والدي ترشيحك لأقيم في قصرك , مع معرفته التامة بوجودك فيه وحدك , فلست أظنك ترفض رفقتي طوال مدة علاج أختي .. لاسيما ألا أقارب لنا هنا سواك .. صدقني , لن تندم على استضافتي , كلانا وحيد , وكلانا يحتاج لبعض التغيير , والنذر اليسير من الاهتمام ..

    مع فائق تقديري / كريستين هارولد

    طغى التوتر على قسمات (ويلي) وهو يبعد الرسالة عن عينيه , ورمق عمه في اهتمام وعمق , في حين أشعل (وليم) سيجاراً, ونفث مع أنفاسه هموم قادمة , فسأله (ويلي) في حذر:
    ـ وما رأيك يا عمي ؟
    عقد (وليم)أحد ساعديه أمام صدره وثنى الآخر , وجذب أنفاس أخرى من سيجاره , وغمغم في قلة حيلة:
    ـ سأستضيفها كما تريد .
    وسعل في شدة وكأنما ذكر أمراً يفوق قدرته على الصبر , فتوترت أعصاب (ويلي) واستمر يرمق عمه في صمت قلق , وهبات شذى الصباح تصر على اللهو بشعره , من النافذة خلفه ..
    هو أعلم الناس بحالة عمه الحبيب ..
    وهذه المرأة لا ريب تخفي أمراً ما ..
    إحساسه الداخلي يخبره بوجود متاعب قادمة في الطريق ..
    وحالة عمه لا تحتمل مزيداً من الضغوط ..
    مطلقاً..
    ماذا لو حدث بقدومها الأسوأ ؟
    هل سيحتمل عمه مزيداً من الأحزان ؟
    أم أنه بحاجة حقاً لوجود امرأة في حياته ؟
    قال (وليم ) بعد فترة من الصمت , وهو يسحق سيجاره بحذائه ومازال في العقب المزيد :
    ـ عرفتها في طفولتها, كانت الفتنة مجسمة.
    رمقه (ويلي) في إشفاق , ووضع الرسالة جانباً , وقال في رفق :
    ـ أخشى أن يرهقك وجودها .
    تطلع إليه في حيرة, وترك اللوحة البيضاء التي استعد للرسم عليها, فازدرد (ويلي) لعابه, مع نظرة عمه المتسائلة, فاستطرد في خفوت:
    ـ أقصد أن القصر سيضم أشخاص سوانا, وأنت بالكاد تحتملني , و..
    قاطعته ابتسامة عمه الدافئة , فتضرج وجهه بحرة الخجل , وشعر أنه أهان عمه دون قصد , وأشاح بوجهه حينما بسط عمه كفيه على كتفيه , وضغطهما في لطف , وسمعه يقول في حنان :
    ـ أتخشى علي من امرأة ؟
    تدفقت دماء الخجل أكثر لوجنتي (ويلي) وعجز تماماً عن الحديث , أو النظر لوجه عمه , ولام نفسه على عبارته ..
    وان كانت شكوكه في مكانها السليم , فليس من حقه الاعتراض على ضيوف عمه , مهما كانوا ..
    ومهما أنبأه إحساسه الداخلي بعدم الارتياح ..
    لكن ما العمل ؟
    وأين كانت تلك المرأة ؟
    ولماذا الآن تحديداً ؟
    وهل غايتها ما ذكرته كلمات الرسالة فقط ؟
    أم أنها تخفي أمراً ؟
    ماهذه الحيرة ...؟

    .......................................


  12. #12

    الصورة الرمزية Risa-Chan

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    155
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    (الفصل الثاني :: إمرأة ساحرة)
    هناك .. قرب النهر الصاف , جلس (ويلي) حزيناً , شارداً , على بساط عشبي طري , غير مصغ لأنشودة النهر الأبدية , ومياهه الشفافة , وبين أصابعه شريط برسيم ذابل , سحقه فستحال لونه النضر , إلى الخضرة الداكنة , وهو جالساً أرضاً , وقد ثنى ركبتيه وطوقهما بذراعيه , مرسلاً بريق عينيه للبعيد ..
    سماء أيار تشهد مولد الياسمين , وتغريد العصافير يحتفل بالربيع في حفلة وداع رقيقة , وتباشير الخريف طبعت بصماتها على صفرة أشجار الصنوبر الشامخة , شموخ (وليم) وصموده , في مهب أقداره ..
    أربعة أيام مرت وكأنها دهراً بالنسبة لــ(ويلي) ..
    (كريستين) , المرأة الغامضة .. استحوذت على تفكيره كلياً , ودفعت بعقله نحو أكثر من جبهة ..
    إنها قادمة بلا ريب , وستكون لها مكانتها في القصر ..
    وأين سيصل به الأمر مع وجودها ...
    إنه واثق من قدرته على تجاهلها ..
    لكن ماذا عن عمه البائس , وستأتي امرأة ما , تقتحم حياته , وقد تتربع على عرش قلبه ؟
    عرش قلبه ؟!
    انتفض (ويلي) بحق مع هذه العبارة ..
    وأفلت حصار ذراعيه عن ركبتيه ..
    عرش قلبه ؟
    قلب عمه الحبيب ..؟
    هل سينتزع أحدهم قلب عمه , ويفقد هو مكانته ..؟
    مستحيل ؟
    إنه لا يتصور عمه أبداً يولي اهتمامه لشخص غيره ..
    فماذا لو كان الأمر يقصد امرأة فاتنة بشهادته ؟
    هل سيصمد عمه (وليم) , أمام تلك المرأة ؟
    لا سيما ولم يره قط ينظر لأي امرأة منذ قدومه إلى هنا .
    تلك المرأة تخفي شيئاً ولا ريب ..
    وعمه شديد الأناقة , شديد الوسامة , فاحش الثراء ..
    فهل يعقل أن يمر شخصاً بسمات (وليم ) , في حياة تلك المرأة الغامضة مرور الكرام ؟!
    ولكن .. أي نوع من الرجال هو عمه ؟
    إن كان رقيقاً معه هكذا , فكيف سيتصرف أمام كتلة من الأنوثة والنعومة والجمال ؟
    الرقيق لا ينس رقته , ويوزعها بسخاء على الجميع ..
    حتى وإن أظهر عمه النذر اليسير من توتره لقدومها , فأدبه الفطري سيمنعه من البوح بخبايا صدره ..
    لكنه مضطرب..
    لا يتوقف عن الرسم المبهم , والصمت ..
    ليس صمتاً يا عمي , إنما هو الجحيم بعينه ..
    أن تعيش مع شخص يهوى عزل نفسه بمنأى عن الجميع ..
    إلا عني !
    وتلك المرأة قادمة , تظهر البؤس وتخفي شيئاً خلف الستار ..
    يكاد يقسم أنه محق , ويجزم خبث تلك المجهولة ..
    مازال أمامك الوقت يا (ويلي) , لا تستبق الأحداث ..
    خيل إليه أن العبارة الأخيرة انطلقت من فؤاد أرهقه التفكير المضني , فنهض ببطء وعيناه على حزنهما , والكآبة تعصف بشرايين أعماقه ..
    عاد أدراجه في يأس , وكأن أحزان الدنيا تثقله ..
    أرسلت الشمس آنذاك شعاعاً لطيفاً , تسلل من وراء غيمة كبيرة مشبعة بالمطر , سقط أمام طريق (ويلي) وكأنه ينيره في ظلماته , ولكن عبثاً ..
    (ويلي) مقتنع الآن بحقيقة جلية كضوء الفجر الصامت ..
    إنه يحب عمه (وليم) , ويرفض أن يقاسمه أحد هذا الحب ..
    عم (وليم) خلق له فقط .
    له فقط ..
    أخذ يردد هذه الجملة في نفسه بعزم وثبات , إلى أن وصل للقصر وتوقف يرمق السيارة السوداء أمام المدخل , عاقداً حاجبيه في تساؤل مريب ..
    فأمام القصر توقفت سيارة سوداء حديثة , تزامن وقوفها مع وصوله , فضم ساعديه أمام صدره وتوقف إلى يسارها بصرامة محاولاً استراق النظر لراكبيها عبثاً , حينما هبط سائقها في عجل ودار حول مقدمتها ليفتح الباب الخلفي , وينحني في مبالغة وهو يقول في لهجة شديدة الاحترام :
    ـ وصلنا يا سيدتي !
    برزت ساق ممشوقة تنضح نعومة ورشاقة ونضارة , انحشرت في حذاء أسود صغير ذي كعب عال , تليها الأخرى .. ثم أعتدل جسد صاحبتها , وقفز حاجبا (ويلي) للقمة , وأعتدل في بطء مع تدلي فكه السفلى , وذراعيه ينحلان من حول صدره , ودون أن يشعر بهما تقريباً ..
    وترددت أنفاس الانبهار في صدره مرات ومرات ..
    ورغماً عنه أصدر فؤاده آهة ذهول .. ولا يلام أبداً .
    وجهاً لوجه .. وجد نفسه واقفاً أمام أجمل امرأة وقعت عليها عيناه ..
    كانت الفتنة مجسمة , نجمة صباح أضلت طريقها ووصلت خطأ للأرض ..
    امرأة شابة رائعة ..
    من الإجحاف وصف جمالها ..أو الإشارة إليه بالكلمات ..
    عيناها قطعتا ألماس متوهجة , في لون العسل الذهبي الصاف ..
    رموشها تلق ظلال تحت عينيها ..
    أنفها تحفة منمنمة ملساء ..
    شفتاها ثمرة ناضجة , ممتلئتان في إغراء ودعة ..
    وجهها دائري عذب , ناصع البياض كأنامل الياسمين في أول إشراقه ..
    غطت شعرها الذهبي بقبعة بيضاء قصيرة الأطراف , وعلى جسدها الرشيق , فستاناً أبيض حفت أطرافه بشرائط سوداء أنيقة , طويل الأكمام , محتشم العنق , وقد دست كفيها الرقيقين داخل قفاز حريري أسود , بالكاد يلامس طرف الثوب ركبتيها ..
    أرسلت المرأة نظرات طويلة صامتة لـ(ويلي) الغارق في التطلع إلى حسنها , وتركته يتأملها مستمتعة بنظراته , مدركة بخبث أنثوي قدرتها على اجتذاب الرجال , وابتسمت في عذوبة , وقالت في صوت رقيق يفيض دلالاً ودعة :
    ـ صباح الخير .
    انتفض (ويلي) في عنف , كالذي يفيق من حلم جميل , وقال رغماً عنه :
    ـ هه ؟
    اتسعت ابتسامة المرأة وازدادت ثقتها واعتدادها بنفسها , واستدارت تنظر لشقيقتها الصغرى وهي تغادر السيارة بدورها , وتقف بجوارها , فأعادت الفاتنة بصرها لـ(ويلي) وأردفت في خبث وهي ترخي جفونها في حركة مدروسة :
    ـ هل سترسم لي صورة أيها الفتى ؟
    فطن (ويلي) لسلوكه الخالي من اللباقة , وأسرع يرحب بها قائلاً في تلعثم , والكلمات تفر منه :
    ـ عذراً يا سيدتي .
    وانحنى في مبالغة , وضربات قلبه تصل لألف نبضة , وصكت مسامعه ضحكات ناعمة , غادرت شفتي الصغيرة وهي تقول في سخرية :
    ـ يالسوء حظك يا (كريستين) , هاقد وضعت في موضع السلعة مرة أخرى .
    اتسعت عينا (ويلي) لعبارة الفتاة , واعتدل بسرعة وقد فهم مقصدها على نحو خاطئ , وتضرج وجهه بحمرة خجل قانية , وهو يلوح بكفيه قائلاً بارتباك مضاعف :
    ـ أكرر أسفي يا سيدتي , ولكن جمالك .. أ ..
    أطبق شفتيه مع ابتسامة المرأة الواثقة , وضحكات الصغيرة تشق أذنيه للمرة الثانية على التوالي ..
    وغرق هو تماماً في بحيرة صغيرة , هي مزيج من العرق والخجل والارتباك ..
    ترى .. كيف ستكون ردة فعل (وليم) أمام كل هذه الأنوثة الطاغية ؟
    هل سيصمد أم يتهاوى كما فعل ابن أخيه ؟

  13. #13

    الصورة الرمزية Risa-Chan

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    155
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    3ـ (كريستين).
    حملت هبات أيار شذى أول تفتح بنفسج , وتراقصت ستائر الحرير الشفاف داخل الصالون الفخم , المصمم على طراز ما قبل الحرب العالمية الثانية , حيث استقبل (ويلي) ضيوف عمه , قبل أن يستدعيه الخادم .
    كان يحتل الصالون غرفة ضخمة فارهة , يغلب عليها اللون الأبيض والأزرق السماوي , تعج بالتحف الباهظة , وقطع السجدات الوثيرة , وصفت قطع الصوفا البيضاء في تناسق بديع , يوحي بالذوق والأناقة , وفي ركن قصي , نصبت تحفة هائلة الحجم , تبلغ قيمتها آلاف الجنيهات , على أقصى تقدير .
    وضعت المرأة قبعتها جانباً , فبدا شعرها الأشقر متموجاً في نعومة حتى أسفل أذنيها , حيث أطرافه , وأعادت ترتيب ما فر من خصلات بفعل النسمات , وأسبلت جفنيها في حركة مدروسة وعادت تفتحهما , ورسمت على شفتيها ابتسامة تحمل طناً من الثقة والغرور , وهي ترمي (ويلي) بنظراتها , فأنكمش (ويلي) على نفسه , وأسترق بضع نظرات لشقيقتها التي تبدو أكثر هدوءً وطبيعية , كانت جميلة دون مبالغة , في ربيعها الخامس عشر , شقراء كشقيقتها , عيناها في زرقة السماء الصافية , رقيقة الملامح , قصيرة نوعاً ما , بجسد ضئيل أضناه المرض .
    وضعت المرأة ساق فوق أخرى , تاركة طرف ثوبها ينحسر عن فخديها أكثر فأكثر , وتململت في جلستها وهي تقول في ضجر واضح :
    ـ أين الكونت (وليم ستيوارت) ؟
    ازدرد (ويلي) لعابه في حركة مسموعة , وغمغم :
    ـ لقد أرسلت في طلبه منذ برهة , سيأتي حالاً .
    أرخت ظهرها على الأريكة وتطلعت إليه ملياً , فتشاغل هو بالنظر لأختها , والتي بدت هادئة للغاية .
    انفرج الباب عن وجه (وليم) , فنهضت المرأة في انبهار , وتعلقت عيناها بوسامة (وليم) الملفتة , وهمست لنفسها مأخوذة :
    ـ أروع مما تخيلت , ما هذه العينان ؟ ما هذه الشفتان ؟ إنه الجمال بعينه .
    اقترب منها حاملاً ابتسامة ودود , ابتسامة خالية تماماً من مشاعر الإعجاب أو الانبهار , بخلاف ابن أخيه , الذي كاد يصرع أمامها , فتمالكت المرأة نفسها ونفضت عنها ما تشعر به , وإن عجزت تماماً عن السيطرة على خفقات قلبها السريعة , والرجفة الممتعة التي سرت في شرايينها , وحين توقف على بعد خطوات قصيرة منها , امتلأت أنفاسها برائحة عطره الآسرة , وتعلقت عيناها بعينيه , وهو يقول مرحباً , بلكنته الهادئة , ويمد كفه ليصافحها :
    ـ أهلاً بك يا (كريستين) ؟
    أشرق وجهها بابتسامة فرح , وقدمت له كفها مقلوبة وكأنما تدعوه ليلثمها بقبلة , وفي بساطة يحسد عليها تناول أناملها في راحة يده , فسرت قشعريرة لذيذة في أوصالها مع ملمس أنامله الدافئة , وحينما لا مست شفتيه ظهر كفها البض , حلقت (كريستين) في سماء الحب الوردية مع قبلته , وكادت تفقد وعيها مع بريق عينيه الغامض , وتمنت لو يحتضن كفها , ويشبعه تقبيلاً , واحتضاناً , و....
    أعتدل تاركاً كفها بهدوء وتلقائية , فأفاقت من أحلام اليقظة , ودهش (وليم) من نظراتها التي تكاد تخترقه , وصدرها الذي يعلو ويهبط في أنفاس متعاقبة , فخفض بصره مع عجزه عن الاستمرار في التحديق بها , ثم دعاها للجلوس في بساطة , وسمعته يرحب بشقيقتها بهدوء شديد , قبل أن يتخذ مكانه بجوار ابن أخيه ..
    لحظات صمت مضت , كأنها عمراً بالنسبة لـ(كريستين) و(ويلي) ..
    (وليم) يحاول حجب وجهه عن نظرات (كريستين) المفعمة إعجاباً , ونشوة , ولو كان بمقدور البشر اختراق حجب العقول , لسمع أعماقها تصرخ :
    ـ هذا هو هدفك يا (كريستين) , هذا الرجل يمثل المجد , واسم العائلة العريق , وأطناناً من المال , وجمالاً لا يضارع , هذا هو .
    (ويلي) شعر بارتياح عجيب, وكأنما حملاً ثقيلا ً زال عن كاهليه , فنظرات عمه للمرأة الفاتنة , لا تختلف قط عن نظراته إليه , وهذا ما سيدفع بالمزيد من روح الثقة بذاته .
    (ديانا), أخذت ـ بحكم سنها ـ تقارن بين ملامح (ويلي) العادية, وملامح (وليم) المبهرة, واختلست التطلع لشقيقتها الرائعة, متخيلة مدى انسجامهما في المستقبل.
    تنحنح (وليم) وقال في هدوء :
    ـ حمداً لله على سلامتك يا (كريستين) , سنوات مضت على آخر لقاء لنا .
    ابتسمت قائلة في لهجة تقطر دلال ونعومة :
    ـ أجل , كنت صغيرة جداً آنذاك .
    وافقها بابتسامة اجتماعية خالية من المشاعر , ثم أشار لـ(ويلي) قائلا ً :
    ـ أقدم لك ابن أخي , (ويلي ستيوارت) .
    ضاقت حدقتاها وهي تغمغم في ضيق خفي :
    ـ أهو ضيفك أيضاً ؟
    أجاب في تلقائية :
    ـ كلا .. بل يقيم هنا .
    تراقص الغضب في فؤادها , وهي من حسبته يعيش بمفرده , لكن غرورها دفع بغضبها بعيداً , لا سيما مع ثقتها اللانهائية بنفسها وجمالها , فاستعادت ابتسامتها وقالت في تصنع :
    ـ جميل, فـ(ديانا) لا تحب الوحدة.
    مط (ويلي) شفتيه في اعتراض, وترك أمر الرد لعمه, الذي نهض قائلاً في حنان, موجهاً حديثه للصغيرة :
    ـ أتمنى لك الشفاء .
    واستدار لـ(ويلي) وأردف في خفوت شديد :
    ـ تولى أمر العناية بهما يا عزيزي .
    وفي هدوء استفز (كريستين) غادر الصالون , فأشتعل الغضب في أعماقها أكثر فأكثر..
    .............................................

  14. #14

    الصورة الرمزية Risa-Chan

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    155
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    4 ـ النوايا المزدوجة .
    ثلاثة أيام انصرمت من عمر الأيام , و(كريستين) مع شقيقتها في قصر
    آل (ستيوارت) ..
    ثلاثة أيام مثلت الدهر بذاته , جراء ما شعرت به من الملل والسأم والكآبة ..
    (ديانا) تزور طبيبها لمدة ساعة واحدة كل يومان , يرافقها أحد الخدم من القصر , وتمض (كريستين) الساعات الطوال وحيدة , تتنقل في ضيق ما بين الحديقة وأرجاء القصر المنيف , الهادئ دائماً ..
    (ويلي) يمض لمدرسته ليعود مرهقاً بعد الظهر , بالكاد يجيبها , أما (وليم) فهو قصة أخرى عجيبة ..
    (كريستين) تقسم في أعماقها أنها لم تقابل قط رجل مثله , منذ مجيئها لم يتبادل معها سوى بضع كلمات , لا تتجاوز .. صباح الخير , عمت مساء ً , فقط ..
    فقط !
    الأمر الذي سيؤدي بها للجنون ..
    من أي شيء قد هذا الرجل ..
    ودفعها عقلها الغاضب إلى احتمالات عدة ..
    إما أنه خلق من صخر لذلك خلا قلبه من إحساس الرجل الطبيعي , أو أنه ...
    الثري ذي الأطوار الغريبة ..
    نعم , لا تجد صفة أكثر ملائمة له سواها ..
    لقد اعتادت أن تكون محط أنظار الرجال في (دوفر) ..
    الجميع يحوم حولها, والجميع يتمنى لو تجود له بنظرة..
    مركزها الاجتماعي, وجمالها الأخاذ يبهر كل من يراها ..
    إلا (وليم)..
    يا للقدر ..
    (كريستين) التي طالما استمتعت بإذلال كل من يقترب منها ..
    أضحت في نفس موضع أولئك البؤساء ..
    بالأمس أذلت ناصية نبلاء (دوفر) .. واليوم يذل نبيلاً من (لندن) ناصيتها ..
    وليته يشاركها الوجبات ليتسنى لها مبادلته أطراف الحديث, بل أنه منعزل دائماً في غرفة ما أقصى الرواق الشرقي , تاركاً إياها مع (ويلي) الذي يتجاهلها على نحو سافر, وشقيقتها (ديانا) تقض معظم وقتها متنقلة بين حديقة القصر وإسطبلات الخيول , غير مدركة أبداً نوايا شقيقتها ..
    لكن (كريستين) لم تعتد رفع راية الاستسلام بسهولة ..
    إنها (كريستين هارولد) ..
    الأرملة الأكثر شهرة في (دوفر) ..
    لن تسمح لشخص كـ(وليم) بإذلال ناصيتها ..
    أبداً ..
    وفي هذا الصباح اتخذت قرارها ..
    إن لم يشعر بها (وليم) بهدوء فستجبره بسحرها ودفئها أن يفعل ..
    وفي الغرفة المخصصة لها , ارتدت ثوباً فضفاضاً في لون السماء , عاري الذراعين , قصير كعادتها , وطوقت عنقها بعقد من اللؤلؤ الطبيعي , مع لمسة عطرية ناعمة , دفعت بالمزيد من الثقة لفؤادها , وغادرت الغرفة وفي رأسها تعربد فكرة واحدة ..
    يجب أن ينظر (وليم) إليها ..
    تريد أن ترى نظرات نهمة في عينيه , واهتمام يشوبه الحب ..
    نعم , هي تريده أن يقع في حبها ..
    رغماً عنه سيحبها ..
    وعن طريق إحدى الخادمات وصلت لمرسمه , وتمالكت أنفاسها قليلاً , وقرعت الباب
    وانتظرت ..
    أجابها الصمت فقط , فأنتابها السأم من الانتظار , فعادت تقرع الباب في إلحاح مزعج , ولا مجيب أيضاً , فعقدت حاجبيها الجميلين , وزفرت قائلة في حنق :
    ـ هل يمارس العاملون هنا نوعاً من العبث معي ؟
    وقرنت قولها بدفع الباب في بساطة , فانفرج عن غرفة واسعة , مشرقة في ارتياح , بأشعة شمس الصباح التي تتوسد أرضيتها الخشبية , وان كانت توحي بالفوضى والإهمال , بلوحاتها وأوراقها , وفي المنتصف تماماً وقف (وليم) يضرب لوحته بفرشاته , وقد توقف عن الرسم , وأرسل إليها نظرات حيرة ودهشة ...
    ولأول مرة ينتاب (كريستين) شيء من الخجل , ورجل ما يتأمل محياها الرقيق , فسرت حمرة خجل طفيفة على وجنتيها , دفعتها للقول في ارتباك ضايقها شخصياً :
    ـ عذراً يا (وليم) , لكن طرقت الباب عدة مرات ولم يجبني أحد , فدخلت .
    استمر متطلعاً إليها بذات النظرات التائهة , كالذي يراها للمرة الأولى , ففسرت نظراته تلك على نحو خاطئ , الأمر الذي جعلها تفقد سيطرتها على أعصابها لتصرخ في حدة مباغتة :
    ـ لست كاذبة , إنها الحقيقة .
    اضطرب (وليم) كثيراً من صوتها الحاد المباغت , لدرجة وقوع فرشاته و طبق ألوانه في صوت مزعج , وهو يتراجع للخلف مطبق الشفتين , ممتزج الحاجبين , وقد تسارعت نبضات قلبه , وتعاقبت أنفاسه , وفرت الدماء الطبيعية من وجهه , فغدا شاحباً شحوب الموتى .
    بلغت دهشة (كريستين) مبلغها مع حالته هذه , وأدركت بطبيعتها الخبيثة أنه يعاني من متاعب ما , وتواثبت قطرات السعادة في حناياها , وبسرعة تفوق التصور , تقمصت الوداعة واللهفة الخائفة , وهي تثب إليه قائلة :
    ـ رباه , هل أرعبتك يا عزيزي ؟
    أشاح بوجهه عنها , وحاول عبثاً السيطرة على خفقات قلبه , وقد أرعبه صوتها المرتفع بحق .
    وضعت (كريستين) كفها على صدره , وأودعت شفتيها أكثر ابتساماتها إغراءً وفتنة ,
    وهي تستطرد في قلق كاذب :
    ـ آسفة جداً , أنا الملامة على تصرفي , و..
    بترت عبارتها حينما شعرت بنبضات قلبه أسفل كفها , تكاد تخترق صدره , وأدركت أنه خائف للغاية , وبالرغم من جهلها أسباب كل هذا الذعر والأمر لا يستحق , إلا أنها قررت استغلال هذا الأمر لصالحها , فربتت على صدره , ورفعت رأسها إليه ودفعت بالمزيد من أريجها العطري لأنفاسه , والسكينة الخادعة تملئ عينيها , وتأملت وسامته في افتنان , ثم ملت نحوه هامسة كالأفعى :
    ـ لا تقلق , (كريستين) هنا , وستظل بجوارك لترعاك .
    تجاهلها تماماً ومازال مشيحاً بوجهه , وقد عجز حتى عن الرد مع ارتجافه شفتيه , وجزءً كامن في ذاكرته يخبره أن من تقف جواره , تحمل الكثير من دفئ زوجته وحنانها , فرفع ذراعيه في بطء ليحتويها , لولا صرخة ألم انبعثت من أعمق أعماق فؤاده , تحمل صوت زوجته الحبيبة , فأزاحها عنه برفق , وركض مغادراً مرسمه وهو يسد أذنيه بكفيه , والألم يغزو ملامحه , ويعمي بصيرته .
    وقفت (كريستين) في مكانها حائرة , فتصرفه أقلقها وأسعدها في نفس الوقت ..
    إنه بحاجة للمزيد من الوقت معها , لتكسب وده وحبه , لكنه غير طبيعي ..
    بل إنه ..
    معتوه ؟!
    أجل .. إنه كذلك ..
    مثلما توقعت ..
    تألقت عينيها في نشوة , واستدارت تنظر للوحاته وهي تهمس في ثقة :
    ـ إنه مريض يا (كريستين) , هذه فرصتك الذهبية , لن يقف شيء بينك وبينه , ستجذبينه بقلبك ودفئوك , واهتمامك المزيف , ومع شخص كهذا .. لن يكتشف خداعك له أبداً .
    تطلعت للوحاته الغامضة , ومررت سبابتها على إحداها وقلبت شفتيها قائلة في امتعاض :
    ـ ياللسخف , لوحات غبية , من المؤسف أنه فاحش الثراء .
    استمرت تستعرض لوحاته وإهمال مرسمه , و حذاؤها يدوس أكوام الأوراق في استهتار ..
    ثم أردفت في خيلاء :
    ـ إنه لا يستحق كل ما حصل عليه في حياته .
    من يصدق أن (وليم ستيوارت) معتوه ؟
    ضحكت في سرها وهي تضم ساعديها أمام صدرها , متخيلة نفسها تزف لمعتوه مثله , ولكن لا يهم ..
    عائلتها تواجه شر الإفلاس , وسمعتها على المحك ..
    والكونت المعتوه هدفها ..
    لن يقف أحد في سبيل أهدافها ..
    وستقذف (ويلي) كالحذاء القديم من طريقها ..
    و..
    " ماذا تفعلين هنا ؟ "
    صكت هذه العبارة الغاضبة أسماعها , فأفاقت في فزع من أفكارها , وعقدت حاجبيها في شدة وهي ترى (ويلي) أمام عتبة المرسم , غاضباً حانقاً , ولم يمهلها لتستعيد جأشها بل وثب نحوها , وغرس أصابعه في ذراعها العاري وهو يتابع في خشونة :
    ـ ما لذي جاء بك إلى هنا ؟
    أحتل العناد والغضب محل الصدارة في مشاعر (كريستين) فأستاعدت ذراعها وصرخت في ثورة :
    ـ لا شأن لك , وإياك والتدخل في أموري .
    صاح في ثورة مماثلة :
    ـ ليست أمورك فقط إن تعلق الأمر بعمي (وليم) .
    انقلبت سحنتها وبدت أشبة بالشيطان وهي تتراجع للوراء , وتصوب إليها نظرات تحرق الفؤاد , بادلها بمثلها , وأسرعت تغادر بدورها , محاولة إيجاد منفذ آخر يفضي بها لـ(وليم) , لا سيما الآن وقد أدركت جزء من متاعبه .
    أما (ويلي) فقد زفر في غضب , والخوف يتسلل إلى أعماقه ويعبث جيداً بمشاعره ..
    مثلما تكهن ..
    هدف هذه المرأة عمه ..
    وتغير الأمر يا (ويلي) , فعوضاً عن خوفك من عمك على هذه المرأة , أصبح الأمر معكوساً ..
    ومرعباً ..
    فطن لحالة الألوان المسكوبة أرضاً , فانحنى وحملها مع الفرشاة في عناية , ووضعها على المنضدة الرخامية , ولفت انتباهه أنبوب الألوان الفارغ , ذي اللون الأسود , فحمله في حرص , واحتواه بين أصابعه قائلاً لنفسه :
    ـ إن ابتعت المزيد من هذه الألوان القاتمة , فسأحتفظ بعمي (وليم) إلى الأبد .
    واحتوت راحته الأخرى الأنبوب , وعقله شارداً لما وراء حجب النظر ..
    نعم .. سأبتاع كل الألوان الداكنة في المتجر ..
    سأجعلك تنغمس في سواد سرمدي ..
    هذه هي الطريقة الوحيدة التي أضمن بها الاحتفاظ بك لي ..
    لا أريد شفاؤك من مرضك ..
    أريدك أن تبقى كما أنت ..
    لا تقوى على العيش دوني ..
    قلبك لي فقط يا عمي الحبيب ..
    للأسف يا (ويلي) ..
    لست مختلفاً أبداً عن (كريستين) ..
    وكما تسعى هي لاستغلال ضعفه ومرضه , ستفعل أنت الشيء ذاته ..
    حبك الأناني لعمك , سيحطمه دون أن تشعر ..
    هذه هي المؤامرة القذرة ..
    والضحية , (وليم) البائس ..

    .................................................. .............

  15. #15

    الصورة الرمزية Risa-Chan

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    155
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    5 ـ على حافة الهاوية .
    اكفهرت سماء أيار , وشقت خيوط البرق اللامعة سحبها المتعانقة , وأسدل الظلام سدوله رغم تجاوز الساعة الواحدة بعد الظهر بقليل , وأعقب البرق صوت الرعد الرهيب , المصاحب لزخات من المطر البارد , وراحت نوافذ القصر العتيق تصدر صريراً مخيفاً مع هبوب الريح القوية في الخارج , وأضحى رواق القصر المظلم إلى ما يشبه مغارة مهجورة , تقطنها الأشباح , لا سيما مع زمجرة الريح الغاضبة ..
    دست (ديانا) رأسها أسفل وسادتها في غرفتها, وأغمضت عينيها ذعراً مع هبوط صوت الرعد الرهيب, ثم فتحت جفنيها وتطلعت لشقيقتها في حيرة..
    كانت (كريستين) تقف أمام النافذة في صمت وشجاعة , وقطرات المطر تتحطم على النافذة بالخارج , وعيناها شاردتان للغاية , والتفكير العميق يرسم بصمته في وضوح على قسماتها , تساءلت (ديانا) عن طبيعة شقيقتها الغريبة , وقد وقفت في مواجهة ضوء البرق الصاعق , واللامبالاة تغزو ملامحها , لم تكن تعلم أن (وليم) محور تفكيرها ..
    لم يعد مسموحاً لها بالتجول في القصر كما في السابق ..
    (ويلي) حذر الخدم من السماح لها ببلوغ المرسم , طالما عمه بداخله ..
    الأمر الذي أحنقها ..
    أحنقها بشدة ..
    لكن لا شيء بيدها , ليست سيدة القصر لتكسر أوامره ..
    لا سطوة لها وهي في مصاف الضيوف ليس إلا ..
    و(وليم) لا أثر له إطلاقاً ..
    منذ ذلك اليوم لم ترى له وجهاً ..
    وهذا الأمر يزعجها ..
    يغيظها ..
    ويسلب منها لذة الارتياح ..
    ولكنها لن تعدم وسيلة ..
    إن لم يكن (وليم) لها , فلن يكون لسواها ..
    بذكائها وخبثها ستحقق هذه المعادلة الصعبة ..
    حزمت أمرها وبخطوات قوية غادرت الغرفة , فهتفت بها (ديانا) في فزع :
    ـ إلى أين ستذهبين ؟
    تجاهلتها كلياً وهي تصفق الباب على وجهها , فدفنت (ديانا) نفسها أسفل الغطاء الثقيل , وجاهدت لسد أذنيها عن هدير السماء ..
    قطعت (كريستين) الرواق المفضي لغرفة (وليم) , والجمود يملئ ملامحها , وقرعت باب غرفته عدة مرات , وحين لم يبدي استجابة , دفعت الباب في جرأة وقحة , وأرسلت بصرها لداخل الغرفة شبة المظلمة , وعقدت حاجبيها حينما لم تجده , فأغلقت الباب متمتمة :
    ـ لا ريب أن المعتوه في مرسمه .
    وبسرعة خاطفة هبطت للأسفل , ووقفت قليلاً أمام البيانو القديم , الموضوع إلى يسار السلم , فاتجهت إليه مبتسمة في سخرية , ومررت إصبعها على سطحه اللامع , وتلاشت ابتسامتها وسخريتها دفعة واضحة , حين رأت ثقب خلفته رصاصة أعلى الغطاء , فتوترت أعصابها رغماً عنها , وتذكرت بلمحات خاطفة أيام مريرة , تحمل عنوان الحرب .
    نفضت عن نفسها هذا الشعور السلبي , ورفعت الغطاء في حذر , وضغطت احد أصابع البيانو , فأصدر صوت تردد صداه في الردهة الخالية , فتدفق الارتياح لصدرها فاتخذت مجلسها على المقعد الدائري الصغير , وراحت تنقل أناملها بين أصابع البيانو , وعزفت لحناً قديماً من ألحان المقاومة الشعبية , واسترسلت في عزفها , والسماء تزأر غضبى , والرعد يهز الجدران في هدير مفزع .
    وفي انسيابية , تسلل صوت البيانو في أرجاء القصر الغارق صمتاً وحزناً , إلى أن وصلت أنغام البيانو لمرسم (وليم) , فتوقف عن ضرب لوحته بالفرشاة , وأصغى في انتباه للعزف , وتداعت في مخيلته صورة زوجته الحنون , حين كانت تعزف هذا اللحن بالذات , أبان الاحتلال البغيض , وضحكات أطفاله الثلاثة , أحباءه الذين رحلوا إلى السماء ..
    " (وليم) .. حتى لو فرقنا الموت, فحبنا باق "
    " عش حياتك يا حبيبي, وساعد في بناء (لندن) مع أبناء شعبنا الغالي "
    " لا تدع الحزن يحتوي قلبك , وفكر في المستقبل "
    " أنت حبي الوحيد .. حبي الغالي "
    أخذت تلك الكلمات تدور في عقل (وليم) ويتردد صداها في روحه ..
    كانت آخر كلمات زوجته وهي تموت بين ذراعيه ..
    لقد رحلت , وحل الحزن والعذاب محل الفرح والسعادة ..
    برحيلها رحلت الأيام السعيدة واللحظات الحنونة ..
    صوت البيانو ما زال مستمراً ..
    وقلب (وليم) يدق بشدة ..
    بعنف ..
    كلا .. لا أريد سماع ما يذكي نيران شوقي لـ(جوليا) .
    كفى عزفاً ..
    كفى عذاباً ..
    أفلتت أصابعه ألوانه الداكنة الجديدة , هدية (ويلي) له ..
    وجثم (وليم) أرضاً , واحتضن جسده المرتجف بذراعيه , والدموع تترقرق في عينيه ,
    وسرت قشعريرة خوف في أوصاله , ودب الرعب في كيانه الواهن , والموسيقى تصر على تعذيبه أكثر فأكثر ..
    البيانو.. هديته لـزوجته (جوليا) , في عيد ميلادها الثامن والعشرين ..
    لم تسعد به البائسة كثيراً ..
    وبرحيلها , أقسم ألا يستخدمه ..
    حتى (ويلي) تجاهل وجوده وكأنما لا يراه رغم وجوده في مكان بارز..
    وصرخت أعماق (وليم) في عذاب :
    ـ من يثير في نفسي ذكرى مؤلمة , يجهل أنه يعذبني ويرهقني , البيانو أحد هذه الذكريات ..
    صر على أسنانه في قوة ودموع جرحه النازف تنهمر بغزارة , وتلاحقت أنفاسه وصدره يضيق بها بلا رحمة , وارتجافه جسده تزداد , ومازال يطوق صدره بذراعيه ما أقسى حياتك يا (وليم) ..
    وما أشده من عذاب ذاك الذي تحيا في نطاقه ..
    فجأة .. توقفت الألحان , ففتح (وليم) عينيه في بطء , وحل ذراعيه تدريجياً عن جسده , وبدأت الدماء الطبيعية تعود لوجهه , وهدأت أنفاسه المضطربة .
    لم يخطر بباله قط أن (ويلي) الآن , يواجه لحظات صعبة مع (كريستين) , الفاتنة الشرسة .
    قبض (ويلي) على معصم (كريستين) في قوة رهيبة , دفعتها للوقف والصراخ
    في حدة :
    ـ ويحك أيها الحقير , من تحسبني ؟
    سطع البرق على وجه (ويلي) الغاضب , ثم قال في صوت هادئ يخفي خلفه عاصفة من الثورة والغيظ :
    ـ لا أحسبك سوى نبيلة من أوساط راقية , ولكن أتتصرف النبيلة في ممتلكات الغير كما تهوى ؟.
    قاومت إحكام قبضته عبثاً , وهي تجيب في حنق :
    ـ كل هذا لأنني سمحت لنفسي بالعزف ؟
    أجابها في برود مستفز ومازال محتفظاً بمعصمها :
    ـ تعزفين في ليلة عاصفة ؟
    وأفلت معصمها مع آخر حروف عبارته , فتحسسته في ألم وتمتمت في شراسة :
    ـ أعزف طالما البيانو هنا .
    تأملها في إمعان فأجابته بنظرة تحد ومقت , وتجلت الحيرة في عينيه وهو يقول في خفوت :
    ـ ماذا تريدين بالضبط ؟
    قطبت جبينها في تساؤل , فتنهد في حرارة , وأردف بأعصاب قوية :
    ـ أنت هنا لأجل مرض شقيقتك كما ذكرت آنفاً , و(ديانا) تزور طبيبها بمفردها , ولم أرك قط تجلسين معها أو تلقين بالاً بها , وكثيراً ما أراها تتجول وحيدة في حديقة القصر , أو تلهو مع سائس الخيول , في حين تتفرغين أنت لمضايقه عمي (وليم) .
    اشتعلت أعماقها ثورة , متصوره أنه أهان كبرياءها المريض , فقذفت بالكلمات في وجهه قائلة في نفور :
    ـ أضايقه ؟ ذلك المعتوه ؟ سيكون من حسن حظه أن ألق له بالاً .
    قفز حاجبيه في ذهول , وهو يتراجع برأسه , لكن سرعان ما استعاد طبيعته , ومال إليها صارخاً :
    ـ عمي ليس معتوهاً .
    صاحت في هياج :
    ـ بل هو كذلك , اعرضه على أي اختصاصي وستسمع الجواب بنفسك .
    بهت لعبارتها الصريحة , وأدرك أنها أصابت كبد الحقيقة في براعة تحسد عليها , واستمر يحدق بها , فأشاحت بوجهها , واستطردت بأنفاس ملتهبة :
    ـ وعوضاً عن اتهامي جزافاً بما لم أفعل , خصص جزء من وقتك الثمين وجالسه لبضع ساعات فقط .
    وأدارت رأسها وتابعت في احتقار :
    ـ وحاول انتشاله من مستنقع الظلام الذي يحيا فيه مع لوحاته الغبية .
    ومرقت بجواره متعمدة الارتطام بكتفه , فأخذ يتطلع إليها في دهشة , وعقله يميل إلى تصديق عبارتها ..
    بالفعل ..
    لم يحاول قط الجلوس مع عمه من قبل ..
    حينما أدرك طبيعته الصامتة تركه كما يهوى ..
    لم يجاهد صمته ذاك , وعوضاً عن مساعدته فر بعيداً إلى جبال (اسكتلندا) , حيث (ليليان) ..
    وهناك , نسي عمه تماماً , حتى أرسل له رسالة تذكره بوجوده كجزء من حياته ..
    حتى بعدما صارحه عمه بهموم احتواها قلبه الرقيق , استمر وضعه على حاله ..
    متى اهتم بعمه بالضبط ؟
    عدا سؤال يتيم يلقيه على مسامع الخدم عن طعامه , هذا إن خطر السؤال بباله ..
    عمه بحاجة لقلب كبير .. كبير .
    فؤاد عطوف يطوي أحزانه ..
    لقد فشلت يا (ويلي) ..
    عمك أكثر كرماً منك ..
    لم يطلب منك المساعدة قط ..
    لم يطالبك بأخذ ما في قلبه من عتمة , بعد مصارحته لك ..
    ظل كريماً كما هو ..
    حزن لوحدتك وعجز في الوقت ذاته عن انتزاع أحزان قلبه ..
    لماذا أخبرك بحزنه يا ترى ؟
    أليس لتخرجه من بؤرة التعاسة ؟
    من أجل حياة خالية من مشاعر الألم والعذاب ..
    من الطبيعي أن تكون أنانياً يا (ويلي) , فلقد أعتدت على الأخذ , ولم تتعود العطاء ..
    حياتك الطويلة من عمك لم تعلمك شيئاً , لكن بضع كلمات من (كريستين) الخبيثة علمتك في لحظات قصار , ما عجز عقلك الصغير عن استيعابه في عشر سنوات , مدة إقامتك في القصر..
    كيف تدعي إذن حبك الشاذ لعمك ..
    ليس حباً , إنه تملك ..
    شيئاً تملكه وتجهل طريقة الاحتفاظ به ..
    هذه هي صورتك الأصلية ..
    اذهب إليه يا (ويلي) فما زال في العمر بقية ..
    اركض إليه وقبل قدميه جزاء معروفه اللانهائي ..
    حاول .. فعمك يستحق المساعدة .
    وبكل مشاعره الجديدة وثب لمرسم عمه ..
    ..............................

  16. #16

    الصورة الرمزية Risa-Chan

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    155
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    6 ـ الخاتمة .
    دفع (ويلي) باب المرسم في لطف , وابتسم في حنان لرؤية عمه يجلس على مقعد صغير في زاوية قرب النافذة , صامتاً .. هادئاً , ورأسه ملق على الحائط خلفه , و ملامحه توحي بشرود عميق , والسماء تبرق خلفه .
    اقترب منه بخطوات مرتبكة مترددة , فأدار (وليم) رأسه إليه ببطء , وغمغم باسمه في صوت غير مسموع .. فابتسم (ويلي) في حرج , وأدار عينيه في علبة الألوان الجديدة ليحجب انفعاله , ثم رجع ببصره لعمه , وقال في خفوت :
    ـ أريد مجالستك قليلاً .
    تألقت السعادة في عيني (وليم) واعتدل في هدوء , وهمس في صوت مبحوح :
    ـ تجلس معي ؟
    وثب (ويلي) إليه وجثم أمامه واضعاً كفيه على فخذي عمه , وقال في حنان :
    ـ عمي , لقد جئتك طالباً مساعدتك .
    رمقه (وليم) في حيرة وحرك شفتيه دونما صوت , فأومأ (ويلي) برأسه موافقاً وكانمأ أدرك ما يود عمه قوله , فأردف (ويلي) في عطف :
    ـ أريدك أن تخرج من عزلتك , وتعيش حياتك بطبيعية بعيداً عن مرسمك والقصر , فالحياة لا تتوقف برحيل أحباءنا .
    تراقص الحنين في عيني (وليم) مع عبارة ابن أخيه , وبدا مصغياً إليه في اهتمام , فتشجع (ويلي) على الاستمرار , وتابع بابتسامة حزينة :
    ـ أنت تحجز نفسك هنا منذ سنين , لم تقابل أحداً خارج القصر , كل شيء تغير واختلف بعد الحرب , (لندن) تنبض أملاً وإشراقا , المدينة تحيا من جديد , فلماذا لا نفعل نحن الشيء ذاته .
    انزلقت دمعة يتيمة من مقلتي (وليم) , وأخذ يفرك كفيه في توتر , مع كل عبارة ينطق بها (ويلي) , ولاحظ (ويلي) ارتباكه وانفعاله , فاحتضن كفيه وقال في دفئ :
    ـ ساعدني على التخلص من هذا الحزن الطويل , والصمت اليائس , مازلت شاباً يا عمي , وسيم وأنيق للغاية , المال لا ينقصك , والصحة في جسدك , تنقصك الشجاعة فقط , لتبدأ حياتك من جديد .
    عند هذه العبارة أشاح (وليم) بوجهه , وانحدرت دمعة أخرى جرت في أعقابها أخرى , حتى ابتل وجهه واحمرت أرنبة أنفه , وصدره يكاد ينفجر من ضغط أنفاسه المتسارعة , أصاب (ويلي) القلق عليه , ووقع قلبه بين قدميه حينما همس عمه في بطء
    ـ برحيل عائلتي , لم تبقى لي حياة .
    عقد (ويلي) حاجبيه , واقترن قلقه بخفقات قلبه الذي كاد يثب من مكانه , عندما نهض عمه ووقف مواجهاً للنافذة , والعاصفة تزأر في الخارج , ثم قال في ألم :
    ـ لا يطيب لي العيش دون (جوليا) .
    وأرخى جفنيه في عذاب , فتعلق (ويلي) بذراعه وهو يقول في إشفاق :
    ـ لا أطلب منك نسيانها , لكن الحياة لا تتوقف بموت أحدهم , (جوليا) رحلت لكنك هنا , حياً تنعم بالحياة .
    غمغم (وليم) في قنوط ورأسه يتهدل أرضاً :
    ـ أنا رجل ميت .
    هتف (ويلي) معترضاً :
    ـ عمي !
    وواجهه مستدركاً في حزم :
    ـ طالما تتردد الأنفاس في صدرك , فأنت حي .
    وترقرقت الدموع في عينيه بغتة , وتابع في صوت متحشرج من غصة بكاء أليمة , امتلئ حلقه بها :
    ـ وأنا بجوارك , وسأضل بجوارك .
    وألقى نفسه بين ذراعيه وطوقه في حرارة , وأخذ يجهش بالبكاء ورأسه مدفون في صدره , وهو يغمغم :
    ـ أرجوك ساعدني لتتخلص من عزلتك هذه , أرجوك .
    أخذ (ويلي) يردد كلمته الأخيرة عدة مرات , و(وليم) يقف حائراً لا يعرف كيف يتصرف , إزاء بكاء (ويلي) , فأشاح بوجهه في ألم , وصمت .
    وبجهد جهيد غادر مرسمه بذهن شارد وفؤاد خال من المشاعر, دون أن يسمح له عقله المضطرب بالتفكير في كل ما سمعه , و(ويلي) يحتضن كفه في محبة مخلصة , عاقداً العزم على المضي في طريق شفاء عمه , ولجا الردهة معاً , ولكن صوت (كريستين) الخافت الآتي من زاوية قريبة استوقفهما , ومد (وليم) بصره إليها , وهي تتحدث في الهاتف في صوت خافت , وكأنما تحرص على ألا يسترق أحدهم السمع , مديرة ظهرها لأي قادم من تلك الناحية , والتقى حاجبا (ويلي) وهو يصغ إليها وهي لا تراهما من تلك الزاوية المعتمة , كانت تقول والسخرية تقطر مع كل حرف يغادر شفتيها :
    ـ إنها مسألة وقت يا أبي , فالكونت (وليم ستيوارت) مصاب بنوع غريب من الجنون , يدفعه للعزلة دائماً , وبقليل من الصبر سأغزو قلبه وأتزوجه , ومن ثم سأرسله إلى مستشفى الأمراض العقلية , حيث يجب أن يعيش , أما عن ذلك الأبله (ويلي) فسأركله خارج القصر , فلن أسمح لدخيل كهذا بمشاركتي ثروتي الجديدة .
    امتقع وجه (وليم) من هول ما يسمع , وصعدت دماء مخيفة لعينيه وأغشت بصره , وترنح رغماً عنه , فأسنده (ويلي) بسرعة , وعاد يتطلع لـ(كريستين) في بغض هائل , وهي تطلق ضحكات ظافرة , وتحت ثقل جسده على (ويلي) , سقط (وليم) أرضاً في ضجيج مزعج , بعد ارتطام رأسه أثناء وقوعه بحافة منضدة رخامية , فأفلتت (كريستين) سماعة الهاتف واستدارت وهي تشهق في هلع وذعر , وجحظت عيناها لرؤيتها (وليم) فاقداً وعيه , و(ويلي) يستنجد بالخدم , والخوف يلتهم أعصابه .
    ظلام دامس ..
    عتمة سرمدية ..
    بصيص من الضوء يبدو ضالاً من بعيد , حيث يجب أن أكون ..
    فتح (وليم) عينيه في بطء , ورأى ظلام دامس يحيط به في استماتة , وفي مكان تفوح منها رائحة الدواء , مازال الضباب يكتنف برأسه , والرؤية معدومة كلياً , وسمع في وضوح صوت أحدهم يتمتم بكلمات لم يفقه منها شيئاً , وبضعة أيدي تحاول إسناد رأسه إلى وسادة إضافية ..
    كف ماً تجذب جفنه الأيمن للأعلى قليلاً , وانتقلت تلك الأنامل لعينه اليسرى , دون أن يعرف السبب لكل هذا ..
    يريد أن يسأل , لكن لسانه ثقيل .. ثقيل ..
    ثم غادر الجميع غرفته , وهو لا يفهم شيئاً , ولا يرى شيئاً ..
    وبعيداً عن غرفته ..
    اتخذ الطبيب مكانه خلف مكتبه , وشبك أصابع كفيه أمامه , وأخذ يرمق (ويلي) المنهار في إشفاق , وهو بالكاد يقف , وفي خفوت ينذر بعاصفة سأله الطبيب :
    ـ معذرة يا بني , أنا مضطر لذكر الحقيقة كاملة لك .
    هوى (ويلي) بجسده على مقعد قريب , وقال في انفعال :
    ـ أرجوك يا سيدي .. لا تخفي شيئاً عني , إنه عمي الحبيب .
    قلب الطبيب كفيه قائلا ً في حيرة :
    ـ الفحوص الأولية قررت إصابته بنوع مؤقت من العمى , كونه وقع بقوة على جزء حساس من الدماغ , لكنه صامتاً تماماً , لم يبدي أي استجابة لأسئلتي , فهل يعاني عمك من متاعب في السمع ؟
    حدق به في ألم , وعجز عن التفوه بحرف واحد ..
    لم يعد حاجزه الصمت ..
    لقد أصيب بالعمى أيضاً ..
    عمه الحبيب .. أعمى .
    الرجل الذي لا يجد نفسه إلا في لوحاته ومرسمه ..
    أهذا ما كان ينقصه ليضاف إلى رصيد آلامه ..؟
    ياللقدر ..
    أدرك الطبيب الكهل حزن (ويلي) وشدة مصابه, فقال مشجعاً:
    ـ لا داع للقلق يا عزيزي , فمسألة العمى قد تكون مؤقتة , لكني الآن حائراً في صمته , و..
    قاطعه (ويلي) في مرارة بدت في أذني الطبيب مؤلمة :
    ـ ليس صمتاً مؤقتاً يا سيدي , إنه صمت طويل ..
    ووجد نفسه يروي للطبيب تفاصيل مأساة عمه ..
    منذ البداية ..
    وحين فرغ من حديثه , تنهد الطبيب في حرارة , وغمغم آسفاً :
    ـ في هذه الحالة , أنا مضطر إبقاءه هنا لفترة من الزمن .
    اتسعت عينا (ويلي) في ارتياع , فأسرع الطبيب يستدرك :
    ـ هذا لصالحه يا بني , فعمك مريض بشدة إن صحت روايتك تماماً , إنه مصاب بمرض نفسي , معظم الناس أصيبوا بحالات مماثلة بعد الحرب , البعض منهم شفي ومارس حياته على نحو طبيعي , والبعض منهم عزل نفسه كعمك , وعاش عالماً خيالياً منفصلا ً ـ رغماً عنه ـ عن واقعه .
    سأله (ويلي) في انهيار :
    ـ والحل ؟
    عقد حاجبيه وأجاب في حزم :
    ـ يبقى هنا , وسنحاول بذل جهدنا لشفائه , من العمى ومن مرضه النفسي .
    نكس (ويلي) رأسه , وترقرقت دموع العجز في مقلتيه , وجثم الضيق على صدره فأحصى أنفاسه , وفقد كل رغبة له في الحياة ..
    لقد خسرت القلب الوحيد الذي أحاطك بحبه وعطفه ..
    خسرته بأنانيتك واستهتارك ..
    وحينما نهض , ناء جسده بسنوات عمره الفتية , وجر قدمه في صعوبة من غرفة الطبيب , الذي شيعه في أسى وقل حيلة , وعندما خرج وجد (كريستين) باكية أمامه , فرمقها في خواء , وهي ترتجف باكية بصدق , وقد فرت دماء الحيوية من وجهها النضر , وتركته شاحباً كالأموات .
    أرسل إليها (ويلي) نظرات عميقة تنبض بمزيج مدهش , من العتاب والمقت والكراهية , محملاً إياها ما أصاب عمه الحبيب , امتزجت شفتيها بدموعها وهي تتمتم محترقة الفؤاد :
    ـ لم أقصد ..
    قاطعها بإشارة واهية من كفه , فأطبقت شفتيها في أسى , وتسارعت نبضات قلبها وهي تشعر بندم حقيقي ..
    لم تقصد قط إيذاءه على هذا النحو ..
    فعلاً لم تقصد ..
    لكن حالة (ويلي) الآن ليست طبيعية, وأي كلمة الآن لن تكون في مكانها الصحيح, ولن تكون في صالحها أيضاً .
    وبأنات قلب جريح , مقهور , مرير , قال (ويلي) ودموع ملتهبة تغرق وجنتيه :
    ـ لن يجدي الأسف نفعاً , كلمات الرثاء لن تعيد إلي (وليم) الإنسان , الطيب , المحب , لقد حولته الحرب سابقاً إلى حطام , والآن حولته أنت إلى .. شظايا .
    انهارت أعماق (كريستين) بحق هذه المرة , ومادت بها الأرض , فترنحت . وبهدوء شديد , بصمت يقارب صمت القبور , تركها (ويلي) ..
    لقد خسر والديه من قبل ..
    والآن خسر القلب الوحيد الذي أحبه بإخلاص وصدق ..
    غادر المستشفى وكأنما الروح تفارق جسده , ترك المستشفى مودعاً خلفه جسداً مسجى , خلا مجازاً من روح رقيقة شفافة , رفرفت إلى الوراء .. باحثة عن حب آخر , فارق هذا العالم بلا رجعة .



    النهاية .

    .................................................
    أتمنى أن تكون القصة قد حازت على إعجاب الجميع
    وأنتظر الحين ردودكم وآرائكم على القصة


  17. #17

    الصورة الرمزية Lara_300

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    1,215
    الــــدولــــــــة
    -
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    اختي الغالية ..

    لقد قرأت الجزء الأول حتى الآن ..

    أحببت التعليق فقط قبل أن أكمل , لكي لا يطول تعليقي على القصة ..

    بدايةً أعجبني أسلوبك ,فهو رائعٌ جداً , وكأني أقرأ لأحد الكتّاب المبدعين , وصدقيني فنادراً ما يحصل معي ذلك ,, لكنك بصدق , أبدعت ,,

    والقصة يبدو أنها عاطفية , لكنها جميلة جداً ومؤثرة ,,

    اجمالاً ..:::متميــزة ::

    وسأكملها بإذن الله , ولي عودة ..

    بالتوفيق غاليتي , ولك جزيل الشكر على عرض ابداعك ..

  18. #18


    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    المـشـــاركــات
    115
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    :laugh2: :wink2: :biggrin2:
    بعد اتمام ما بدأت بقرائته...
    أردد قولي ...
    كلمات تأسر القلب بروعتها...
    ولاتوجد كلمات تعبر لك عما بداخلي...
    بصراحة شديدة تستحقين لقب الروائية...
    اسلوبك جميل جداً... و أكثر من رائع...
    فأتمنى لك التوفيق في كتاباتك...
    في انتظار رواية جديدة...
    حتى استمتع بقراءة كلماتك...
    :yes2: :yes2: :yes2:
    أختي العزيزة (( عاشقة كيرا ))
    أشكرك على الرواية...
    أختك(( شجرة الكرز ))

    تحياتي لك...
    التعديل الأخير تم بواسطة شجرة الكرز ; 18-12-2006 الساعة 08:35 PM

  19. #19

    الصورة الرمزية @QUEEN_MOON@

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    4,372
    الــــدولــــــــة
    سويسرا
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    هلا اختي عاشقة كيرا

    بالعفل قصتك رائعة جدا واتمنى لك مستقبل مشرق في تأليف وتصيرين مؤلفة مشهورة في العالم كامل أن شاء الله وأنا أكون لك نائبة خخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخخ < حجزت المكان قبل ما تقولي


    واتمنى من كل قلبي أنك تواصلين مسيرتك في تأليف القصص وتنمين الموهبة الي الله سبحانه وتعالى اعطاك اياها

    وأن شاء الله بعقب على قصتك بعد الانتهاء منها موفقة اختي

    وتقبلي فائق احترامي وتقديري لك

    اختك كوين مون

  20. #20

    الصورة الرمزية Risa-Chan

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المـشـــاركــات
    155
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: فتــاة الجبــل الفاتنـــة ........

    العفو جميعاً... أشكر كل من قام بزيارة الموضوع
    والرد عليه
    queen_moon
    شجرة الكرز
    Lara_300
    والبقية كلهم
    أشكركم من كل أعماق قلبي...

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...