الموضوعـ الحادي والثمانــــــــــــين : حفظ السر ..
يقول الشيخـ :::: اشتهر قديماً : كل سرٍ جاوز الإثنين .. شاعـ ..
ومن اللطائفـ أن أحدهم سئل : من الإثنين ؟ فأشار إلى شفتيه .. وقال : هذانـ !!
لا أذكر أني همستـ في أذن أحد من الناس بسرّ .. واستأمنته إياه ..
ثم فاجأني قائلاً : يا محمد .. اسمحـ لي لا أستطيع أن أكتمه ..
بل كل شخصـ يضرب بيده صدره .. ويقول : والله لو وضعوا الشمس في يمينيـ ..
والقمر في شماليـ .. أو السيف على رقبتيـ .. على أن أخبر بسرك .. ما أخبرتـ !!
ثم إذا اطمأننت ووثقت .. وكشفت له أسرارك .. تصبّر شهرين أو ثلاثة ..
ثم حدث به .. فلا يزال يُتناقل حتى يصلكـ ..
فوجدتـ أن سرك لا ينبغي أن يجاوز شفتيكـ .. فلا تكلف الناسـ ما لا يطيقونـ ..
إذا ضاقـ صدر المرء عن سر نفسه فصدر الذي يستودع السر أضيقـ ..
جربت كثيراً من الناسـ .. فوجدتهم كذلكـ ..
والمشكلة أنك تأتيهم على سبيل الاستشارة .. فيشيرون عليك .. ثم يفضحون سركـ ..
فيسقطون من عينكـ .. ويصبحون من أبغض الناس إليكـ ..
ومن أعجبـ ما في التاريخ ..أنه قبل معركة بدر ..
لما سمع النبيـ صلى الله عليه وسلمـ .. بقافلة قريش مقبلة وأراد قتالها ..
خرج صلى الله عليه وسلمـ إليها مع أصحابه .. فلما شعر بهم أبو سفيانـ ..
استأجر رجلاً اسمه ضمضم بن عمرو الغفاري .. وقال اذهب وأخبر قريشاً بالخبر ..
فمضى ضمضمـ .. مسرعاً إلى مكة .. كان وصوله مكة يحتاج أن يسير أياماً ..
وأهل مكة لا يدرون عن شيء من ذلكـ ..
وفي ليلة من الليالي رأت عاتكة بنت عبد المطلب .. رؤيا أفزعتها ..
فلما أصبحتـ بعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلبـ ..
فقالت له .. يا أخي .. والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني ..
وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة .. فاكتم عليَّ ما أحدثك ..
ولا تحدث به أحداً .. قال لها : نعم .. وما رأيتـ ؟
قالت : رأيت راكباً أقبل على بعير .. حتى وقف بوادي "الأبطح" ..
ثم صرخ بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث ..!
فأرى الناسـ قد اجتمعوا إليه .. ثم مضى فدخل المسجد والناس يتبعونه ..
فبينما هم حوله .. إذ صعد به بعيره فوق الكعبة ..
ثم صرخ بمثلها : انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاثـ ..
ثم صعد به بعيره على رأس جبل أبي قبيس .. فصرخ بمثلها ..
انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاثـ ..
ثم أخذ صخرة فقذفها من أعلى الجبل .. فأقبلت تهوي من فوق الجبل ..
حتى إذا كانتـ بأسفل الجبل تكسرتـ ..
فما بقي بيتـ من بيوت مكة إلا دخلته كسرة من الصخرة ..
فاضطرب العباس وقال : والله إن هذه لرؤيا ! ثم خشي أن تنتشر فيصيبه أذى ..
فقال لها محذراً : وأنت فاكتميها لا تذكريها لأحد ..
ثم خرج العباسـ منشغل البال بأمر هذه الرؤيا .. فلقي الوليد بن عتبة وسط الطريقـ ..
وكان له صديقاً .. فحدثه بالرؤيا .. وقال له : اكتمها .. فلا تخبر بها أحداً ..
فمضى الوليد ..فلقي ابنه عتبة فحدثه بها .. ثم لم يمض سويعاتـ ..
حتى حدث بها عتبة .. ثم تناقلها الناسـ .. وفشا الحديث بها في أهل مكة ..
حتى تحدثت بها قريش في مجالسها .. وفي الضحى ذهب العباس ليطوف بالكعبة ..
فإذا أبو جهل جالس في رَهْط من قريش .. في ظل الكعبة .. يتحدثون برؤيا عاتكة !!
فلما رأى أبو جهل العباسَ قال : يا أبا الفضل .. إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا ..
فلما أقبل إليه العباسـ وجلس معهمـ ..
قال له أبو جهل :يا بني عبد المطلب .. متى حدثت فيكم هذه النبية ؟
قال : وما ذاك ؟ قال : تلك الرؤيا التي رأت عاتكة .. قال العباس : وما رأتـ ؟
قال : يا بني عبد المطلب .. أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكمـ ؟
قد زعمتـ عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاثـ ..
فسننتظر بكم ثلاثة أيامـ .. فإن يك حقاً ما تقول .. فسيكونـ ..
وإن تمضـ الثلاث ولم يكن من ذلك شئ نكتب عليكمـ كتاباً أنكم أكذب أهل بيت العرب ..
فاضطرب العباسـ .. وما رد عليه شيئاً .. وجحد الرؤيا .. وأنكر أن تكونـ رأت شيئاً ..
ثم تفرقوا .. فلما أقبل العباسـ إلى بيته ..
لم تبق امرأة من بني عبد المطلبـ .. إلا جاءت إليه غاضبة ..
تقول : أقررتم لهذا الفاسقـ الخبيث أن يقع في رجالكم ..ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ..
أما فيكم حمية .. فاحتمى العباسـ .. وثار .. وقال : والله ..
لئن عاد أبو جهل إلى مثل كلامه .. لأفعلن وأفعلن .. فلما كان اليوم الثالثـ .. من رؤيا عاتكة ..
ذهب العباسـ إلى المسجد .. وهو مغضبـ ..
فلما دخل المسجد رأى أبا جهل .. فمشيـ نحوه يتعرضه ليعود لبعض ما قال فيقع به ..
فإذا بأبي جهل يخرجـ من باب المسجد يشتد مسرعاً ..
فعجب العباس من سرعته ..!! فقد كان مستعداً لخصومة وعراك ..
فقال العباسـ في نفسه : ماله لعنه الله ؟! أكلّ هذا خوفٌ مني أن أشاتمه ؟!
وإذا أبو جهل قد سمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري الذي أرسله أبو سفيان ليستعين بأهل مكة ..
وإذا ضمضم يصرخ في الوادي واقفاً على بعيره ..
قد جدع أنف بعيره .. والدم يسيل على وجه البعير ..
وقد شق ضمضمـ قميصه وهو يقول : يا معشر قريش اللطيمة .. اللطيمة ..
أموالكمـ مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها ..
ثم صاح بأعلى صوته : الغوث .. الغوث ..
عندها تجهزتـ قريش وخرجت .. وكان من أمرها في معركة بدر ما كان ..
فتأمل كيف انتشر السر في لمحة عين .. مع قوة الحرص وشدة الاستئمانـ ..!!
ومن نشر السر أيضاً ..أن عمر رضيـ الله عنه لما أسلم .. أراد أن ينشر الخبر ..
فأقبل إلى رجل منهم .. هو أعظمهم نشراً للإشاعة ..
فقال : يا فلان .. إني محدثك بسرٍ .. فاكتم عنيـ ..!
قال : ما سركـ ؟ .. قال : أشعرتـ أني قد أسلمتـ .. فانتبه .. لا تخبر أحداً ..
ثم تولى عنه عمر .. فما كاد يغيب عنه ..
حتى جعل الرجل يطوف بالناس ويردد : أعلمتَ أن عمر أسلمـ ..!!
أعلمتَ أن عمر أسلمـ ..!! عجباً !! وكالة أنباء متنقلة ..
وفي يوم من الأيام بعث النبيـ صلى الله عليه وسلمـ أنساً رضيـ الله عنه في حاجة ..
فمرَّ بأمه .. فسألته .. إلى ماذا أرسلك النبيـ صلى الله عليه وسلمـ ؟
فقال : والله .. ما كنت لأفشيـ سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلمـ ..
هكذا كانـ أنس وهو صغير .. في شدة حفظه للسر ..
وأنى لك اليومـ أن تجد مثل أنس ..
قالت عائشة رضيـ الله عنه .. أقبلت فاطمة تمشيـ ..
كأن مشيتها مشية النبيـ صلى الله عليه وسلمـ .. فقال النبيـ صلى الله عليه وسلمـ ..
مرحباً بابنتي .. ثم أجلسها عن يمينه .. أو عن شماله ..
ثم أسرَّ إليها حديثاً .. فبكتـ .. فقلت لها : لم تبكينـ ..
ثم أسرَّ إليها حديثاً .. فضحكتـ فقلت : ما رأيت كاليوم .. فرحاً أقرب من حزنـ ..
فسألت فاطمة عما قال لها النبيـ صلى الله عليه وسلمـ؟
فقالت : ما كنتـ لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلمـ ..
حتى قبض النبيـ صلى الله عليه وسلمـ ..فسألتها ؟
فقالتـ : أسر إليَّ : إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتينـ ..
ولا أراه إلا حضر أجليـ .. وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي .. فبكيتـ ..
فقال : أما ترضينـ أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة .. أو نساء المؤمنينـ .. فضحكت لذلكـ ..

:: قالوا ::
من عرف سرك أسرك ..