المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الرسول صلى الله عليه وسلم وإدارة الجانب الابتكاري



الصوت الحر
30-7-2009, 11:41 PM
الرسول صلى الله عليه وسلم وإدارة الجانب الابتكاري


بقلم: د. محمد المحمدي الماضي


لا يمكن للمرء أن يكتب عن الإدارة في الإسلام عامةً، والمستلهمة من منهج قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم خاصةً, دون أن يتعمَّق في جانب جوهري وأساسي، يغفل عنه كثيرٌ من المديرين والمهتمين, رغم أهميته القصوى, في مستقبل أية منظمة؛ ألا وهو "إدارة الابتكار والإبداع"، والتي اعتبرها بعض علماء الإدارة البارزين، مثل عالم الإدارة الأشهر "بيتر دراكر"، من بين وظائف المدير الأساسية، مثلها مثل التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة، وإن كنت أعتبر أنه لا قيمة لوظائف الإدارة الأخرى ما لم تقُم على الابتكار والإبداع، وتدعمه، وتؤدي إليه، وتُشيعه في كافة أرجاء التنظيم، وهذا ما نحاول أن نطوف حوله في هذه المقالة.



الإدارة عمل عقلي لا عملي


لا بد من التأكيد- ابتداءً- أن الإدارة بكافة وظائفها عبارة عن عمل عقلي، وليست عملاً عضليًّا بأي حال من الأحوال، ويتوقف نجاح أي قائد وفعاليته في إدارته على مدى إعمال عقله، واستخدامه في هذه الإدارة؛ فكل وظائف الإدارة من تخطيط، وتنظيم، وتوجيه، ورقابة؛ تقوم على استخدام عقله، وإعمال فكره، وليس استخدام العضلات.

والفرق شاسع بين ذلك المدير الذي يدير العمل، وذلك الذي يؤدي العمل؛ فالأول يُعمل عقله وفكره؛ ليحقق ما يصبو إليه من نتائج بواسطة الآخرين، والآخر يعمل معهم أو يعمل لهم، ولكنه في جميع الأحوال لا يديرهم، وما أسهل وأسلس عمل الأول، وما أصعب العمل مع الثاني وأشقَّه عليه وعلى من يعمل معه.

لذا فإن القائدَ الفذَّ هو من يؤمن- ابتداءً- بأنه إنما يُدير عقول الأفراد، لا أجسادهم ولا عضلاتهم، وعلى قدر نجاحه في تفجير طاقاتهم الإبداعية والابتكارية على قدر ما يكون نجاحه ونجاح منظَّمته، والوصول بهم إلى أعلى درجات التميُّز والتفوق، وبناء ما يسمَّى بالميزة التنافسية الدائمة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه هي المهمة الأساسية لأي قائد، وخاصةً على المستوى الإستراتيجي.


مكانة العقل في الإسلام


ولذلك لا نجد مذهبًا كرَّم العقل كالإسلام، ولا شيئًا كرَّمه الإسلام في الإنسان كالعقل، وإذا أردت أن تقف على بعض مظاهر هذا التكريم حاوِل إحصاء الآيات التي تناولت العقل والفكر واللبَّ والفؤاد, بكل مشتقاتها في القرآن الكريم ومواضعها التي تدلُّ على تكريم الذين يعقلون ويتفكَّرون ويتدبَّرون، ولوم الذين لا يتفكرون ولا يعقلون ولا يفقهون, واعتبار أرقى طبقة من طبقات المؤمنين هم أولي الألباب.. ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ﴾ (آل عمران: من الآية 191).

ولن أقف لأحصي عدد الآيات التي تناولت ذلك, وحتى الكتب التي تناولت مكانة العقل والفكر في الإسلام, سواءٌ بشكل كامل أو جزئي، وإنما ما يهمني هو أن نقف على مدى اهتمام الإسلام بالعقل وتكريمه له, ولفت نظر الإدارة في أي مستوى إلى النظر إليه؛ باعتباره أعظم طاقة يجب تفجيرها لأعظم مورد يجب الاستفادة منه، وهو المورد البشري، والذي يتحدد بناءً عليه مقدار ما تحققه الأمم والمنظمات من تأخر أو تقدم، وما يحققه أي قائد من نجاح أو فشل.


مقدمات ومحددات الابتكار


إن الابتكار والإبداع في المنظمات مقدمات ومحددات؛ يجب على الإدارة أن تعملها, وتعمل على تحقيقها, فإنها إن وُجِدَت وُجِدَ الابتكار، ومن أهم هذه المحددات أو المقدمات الضرورية للابتكار:

1- تدعيم الجانب الإنساني في المنظمة، والارتقاء بإنسانية الأفراد، واحترام إرادتهم وفكرهم ومشاعرهم.

2- إعلاء شأن المشاركة، واعتبار كل فرد ليس مجرد منفِّذ، وإنما مشارك في اتخاذ القرارات ووضع الخطط.

3- شيوع روح الإحساس بالمسئولية في كافة أرجاء التنظيم, وتحوُّل كل فرد في هذا الإحساس وكأنه المسئول الأول والأعلى عن المنظمة، حتى وإن كان في أدنى درجات السلم الإداري.

4- الفهم التام والواضح لرسالة المنظمة وأهدافها وغاياتها الإستراتيجية، والاقتناع بها والاستعداد للتضحية بأي شيء لتحقيقها.

5- البعد عن البيروقراطية والجمود في الهياكل التنظيمية، واعتبارها وسيلةً وليست غايةً، وتمتعها بالمرونة والعضوية (Organicity) بما يُتيح للأفراد أكبر قدر من حرية الحركة نحو الابتكار والإبداع، دون وضعهم في قوالب الجمود والتحجر.

6- تمكين الأفراد بما تحمله هذه الكلمة من معنى، وجعلها حقيقة وليست مجرد أمنية أو شعار، خاصةً أنها أصبحت من ضمن المفردات الإدارية التي تعتبر من بين التوجهات الحديثة في إدارة الموارد البشرية، ولا يمكن تحقيقها بالطبع دون توافر ما سبق ذكره من مقدمات ومحددات.

7- وجود نمط قيادي إنساني تشاوري، يتبنَّى العمل بروح الإبداع والابتكار، ويحسن تهيئة الظروف المختلفة لذلك.

8- تبنِّي نمط القيادة المعرفية التي تسعى إلى جلب المعرفة ونشرها، وإتاحتها لكافة الأفراد بالقدر المناسب، وفي الوقت المناسب، وبالأسلوب المناسب.

9- الإحساس بالأمن والأمان والاستقرار داخل منظمته، والتحرُّر من كل مظهر من مظاهر الخوف الذي يمكن أن تسبِّبه له المنظمة أو إدارتها، فالإنسان الخائف غير الآمن على نفسه أو أهله أو ماله، لا يمكنه أن يفكر أو يبدع، خاصةً إذا كان هذا الخوف الناتج من قهر الإدارة أو تسلطها أو تعنتها؛ هو أعدى أعداء الابتكار والإبداع، فإذا وُجِدَ في أمة أو منظمة مات فيها الإبداع والابتكار، وهذا من أهمِّ ما يفسر سرَّ فشل النظم الاستبدادية المتسلِّطة القائمة على سلطة البطش والقهر البوليسي، وإهدار حرية الفرد وكرامته، وانتهاك سيادة القانون وسلطته، حتى وإن كان من صنع أياديها.

10- خلق مناخ ابتكاري إبداعي يقوم على كل ما سبق ويدعمه، ويحافظ عليه بشكل دائم ومستمر؛ بحيث يتمكَّن الفرد بمجرد الوجود فيه من ممارسة عمله بأعلى درجات الإبداع والابتكار.

فالقائد الفعال هو ذلك الذي يعمل على إيجاد مثل هذا المناخ وإدارته بكفاءة وفعالية، والحفاظ على هذا الوضع باستمرار، وهذا هو التحدي الأساس أمام الإدارة.


مظاهر من إدارة الابتكار في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.


قد يتعجَّب البعض حينما يعلمون أن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم على كافة أركان ومقوِّمات النمط القيادي الابتكاري، الذي يدعم ويشجِّع الابتكار في أعلى الدرجات، وذلك في كل مظاهر إدارته صلى الله عليه وسلم.

ولعل من بين أعظم جوانب شخصيته القيادية العبقرية الفذَّة أنه تمكَّن ببساطة ويسْر من تفجير الطاقات الإبداعية والابتكارية لصحابته؛ على اختلاف قدراتهم ومستوياتهم، وجعْل كلٍّ منهم يعمل بعقلية وفكرة لخدمة الفكرة التي آمن بها، وذلك بأعلى درجات الكفاءة والفعالية الفردية والتنظيمية.

فقد جعل كلاًّ منهم قائدًا متميزًا في مجاله، يستشعر أعلى درجات المسئولية، وينغمس في العمل لفكرته بكل كيانه ووجدانه، ويشارك ويُبدع ويبادر بتقديم أفكاره ورأيه، دون حتى انتظار أن يطلب ذلك منه.

ولعل هذه واحدةٌ من أعلى درجات النمط القيادي الابتكاري، والذي ظهرت أمارته في مواقف عدة أشهرها يوم بدر، ومبادرة الحباب بن المنذر باقتراح موضع لنزول الجيش الإسلامي غير ذلك الموضع الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي دلَّ على مدى إحساسه بالمسئولية والمشاركة والمبادرة وإعمال فكره وعقله في جغرافية المكان، وكأنه القائد الأعلى للجيش، وليس مجرد جندي عادي.

ولعلي لا أتجاوز الحقيقة حين أقرر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استطاع أن يحقق بهؤلاء الأفراد العاديِّين في عاداتهم وطباعهم ومستوى حضارتهم وإمكاناتهم أعمالاً غير عادية، تفوَّقوا بها على أكثر الدول المحيطة بهم عدةً وعتادًا وتنظيمًا وحضارةً، وهما الفرس والروم، الدولتان العظميان حينئذٍ، وهذا هو ما أعتبره بحق معيار نجاح أي قائد.


غزوة الأحزاب كنموذج


رغم أن سيرته مليئة بمظاهر النمط الابتكاري، إلا أنني سوف أكتفي بالإشارة إلى موقف واحد فقط؛ هو غزوة الأحزاب، محاولاً الغَوص في بعض جوانب إدارته الابتكارية والإبداعية لها صلى الله عليه وسلم، والتي تمثلت في الآتي:

1- إدارة الجانب المعرفي والمعلوماتي..

حيث يظهر من سياق السيرة عن هذه الغزوة أن المعلومات قد وصلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عما يدبِّره اليهود بتأليب المشركين وتحزيبهم ضد المسلمين بعدد كبير لا طاقة لهم به، وأن هذه المعلومات التي حصل عليها الرسول صلى الله عليه وسلم كانت دقيقةً، وفي الوقت المناسب، ولعل هذا ما جعل لها قيمةً في اتخاذ القرار لمواجهة الخطر القادم.

ثم إن الأهم من وصول المعلومة هو حسن توظيفها، وإشاعتها ونشرها ليعرفها كافة العاملين في المنظمة؛ ليكونوا جميعًا على نفس المستوى المعرفي لقيادتهم؛ لذلك بادر الرسول صلى الله عليه وسلم بعقد جلسة شورى عاجلة من ذلك النوع الذي يُطلق عليه الآن "العصف الذهني"؛ حيث ذكر تلك المعلومات لعموم المسلمين، وأوقفهم على طبيعة الخطر القادم وحجم المشكلة التي سوف يتعرَّض لها المسلمون، وطلب منهم المشاركة بالرأي والفكر للتصدي لذلك.

ولعل هذا يحمل في طياته أخصَّ خصائص الإدارة المعرفية التشاورية، التي تسعى إلى إدارة عقول وفكر مَن معها وليس مجرد أجسادهم، وتفجِّر طاقاتهم الإبداعية والابتكارية، بجعلهم يستشعرون المسئولية وينغمسون في المشاركة والعمل؛ وقد كان.

2- الفكرة المبتكرة..

يعرف الابتكار في أبسط معانيه بأنه التوصل إلى وسيلة جديدة غير مألوفة لتحقيق نفس الهدف، وهو ما حدث بالفعل في ذلك المناخ الإبداعي الذي صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته.

فلم تكد الأفكار يقدح زنادها حتى طرأت فكرة لأحد صحابته المغمورين حينئذٍ، والذي لم يكَد أن يتحرَّر من الرقِّ حتى ظهرت تلك الأزمة، وهو سلمان الفارسي رضي الله عنه، فانغمس بكل وجدانه وكيانه عقلاً وفكرًا وإحساسًا في ذلك المناخ الذي يتحوَّل فيه الفرد العادي إلى مشارك ومبادر مبدع ومبتكر بشكل غير عادي.

وكانت فكرته المبتكرة وغير المألوفة عند العرب حينئذٍ هي حفر خندق في الجزء الذي يمكن اقتحام المدينة منه، وهو بين لابتين مرتفعتين، وهو ما يدل على مدى انغماس سلمان رضي الله عنه، وانهماكه في التفكير المسئول، والقائم على دراسة ومعرفة بجغرافية الموقع وإعمال عقله وفكره لحلِّ المشكلة، وكأنه القائد الأعلى والمسئول الأوحد عن حلِّها.

وكم كانت فكرةً موفقةً وصائبةً، قلبت الموازين، وحوَّلت ضعف المسلمين قوةً، وقوة المشركين ضعفًا، وشكَّلت لهم مفاجأةً إستراتيجيةً لم يحسبوا لها حسابًا، وقلبت خططهم وتدبيرهم رأسًا على عقب، ووضعتهم في موضع الدفاع بدلاً من الهجوم، وأفقدتهم ميزة العدد والعدة التي كانوا يتمتعون بها.

3- اغتنام الفرصة وحسن توظيف الطاقات الإبداعية للأفراد..

لقد تمكَّن المسلمون من خلال الفكرة الملهمة والمبتكرة لسلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه مِن وقف تهديد المشركين والحد منه، ولكن ظل تهديد اليهود قائمًا، وهم الذين حزَّبوا هؤلاء المشركين أصلاً، وتقع ديارهم في مؤخرة المسلمين ويكشفون عوراتهم، ولو سمحوا للمشركين بدخول المدينة من قبلهم، وهي الجهة الوحيدة المتبقية لذلك؛ لأصبح المسلمون في وضع من أحرج ما يمكن، هذا بالرغم مما بين المسلمين واليهود من مواثيق وعهود على عدم السماح بأن يتمَّ غزو أي منهم من قِبَل الآخر؛ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لا عهدَ لليهود ولا ذمة؛ فهم قتلة الأنبياء.. ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (100)﴾ (البقرة)، ومع ذلك لم يبنِ قراره تجاههم على مجرد الظن والتخمين، وإنما تأكد من خيانتهم من خلال وفدٍ أرسله إليهم؛ ليجسَّ نبضهم، ويستطلع موقفهم، وأكدوا له خيانتهم، وتبجُّحهم وفجورهم.

وهنا كان أكثر المواقف حرجًا في هذه الأزمة؛ ولكن من فضل الله سبحانه وتعالى ظهرت فرصة عظيمة؛ وهي إسلام أحد المشركين من غطفان، وكان يُدعَى نعيم بن مسعود، وقدِم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن إسلامه، ويضع نفسه تحت تصرفه وقيادته.

فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم، بحكمته وعبقرية قيادته وحسن تصرفه، وتوظيفه للطاقات الإبداعية والابتكارية لشخص لم يكد يعلن إسلامه، إلا أن يضع ثقته فيه، يوجِّهه للقيام بمهمة عقلية يترك له فيها حرية التصرف، ويمكنه من أدائها بما يتراءى له، والهدف هو- كما وجَّهه الرسول صلى الله عليه وسلم- ألا يعلن إسلامه؛ فهو في المسلمين فردٌ لن يضيف شيئًا إذا انضمَّ إلى صفوفهم المعلنة، وإنما عليه أن يخذِّل عنهم، فإنما الحرب خدعة، أو كما قال له صلى الله عليه وسلم.

وهنا ترى كيف أدار الرسول صلى الله عليه وسلم الأمرَ من جانبه الفكري والعقلي الإبداعي؛ حيث انطلق نعيم بن مسعود كما هو معروفٌ في السيرة، ووضع خطةً متقنةً لإفساد العلاقة التحالفية بين اليهود والمشركين، وزرع بذور الشك والفرقة بينهم؛ بحيث ينفضُّ عقدهم وحلفهم، ويفشل كيدهم وتدبيرهم، ويرجع جمعهم دون إلحاق أي أذى بالمسلمين، وكل ذلك بدون استخدام سهمٍ واحدة، وإنما من خلال إعمال الفكر، واستخدام العقل بأعلى درجات الفعالية والإبداع.

فذكر نعيم لليهود- باعتباره حريصًا عليهم وحليفًا لهم- أن المشركين سوف يرحلون ويتركونهم وحدهم لمحمد ينفرد بهم، وينتقم منهم لما فعلوه، فطلبوا منه النصح فقال: اطلبوا منهم رهائن من أبنائهم؛ فإن فعلوا كانوا صادقين، وإلا فإنهم ينوون الغدر بكم؛ فاحذروهم ولا تمكِّنوهم من دخول المدينة من جهتكم.

ثم تحوَّل إلى المشركين وقال لهم- باعتباره واحدًا منهم- إن اليهود قد ندموا على فعلتهم وخافوا من انتقام محمد، وأرادوا مصالحته، وتأمين أنفسهم، وإثبات صدقهم له، وذلك بأخذهم أفضل أبنائكم، وتقديمهم له فداءً على ما فعلوه، فتعجَّب المشركون؛ ولكنه قال امتحنوهم بأن يسمحوا لكم بدخول المدينة من قبلهم وسوف ترون، وبالفعل وجد المشركون ما قاله نعيم حقًّا، حينما طلبوا من اليهود ذلك فرفضوا على الفور، وتأكَّد اليهود بأن نعيم كان صادقًا حيالهم، ورفضوا السماح للمشركين باقتحام المدينة من قبلهم، وانفضَّ هذا الحلف اللعين بهذه الحيلة الذكية المبتكرة.

وتمَّ القضاء على أخطر عقبة في هذه الغزوة بجهد فرد عادي، تمَّ توظيفه بأفضل ما يمكن أن يوظَّف به قائد أحد أفراده؛ ليحقق أعلى درجات الإبداع في أدائه.

4- الوقوف على حقائق الأمور:

لم يقتنع الرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد تخمين ما يمكن أن يتخذه المشركون من قرارات بعد ذلك، هل سوف يرحلون، أم يستمرون في الحصار، أم يهاجمون بطريقة أو بأخرى، وحتى يقف على حقائق أمرهم ويعرف قرارهم ليبني موقفه على اليقين أراد أن يُرسل من يأتيه بخبرهم، بالذهاب إليهم ومخالطتهم كأنه أحدهم والوصول إلى قادتهم، ومعرفة ما يفكرون فيه دون أن يشعر به أحد، وأن يعود ليخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحكي ذلك حذيفة بن اليمان فيما بعد لأحد شباب المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

حينما انتدب الرسول صلى الله عليه وسلم أحدهم لهذه المهمة؛ ولكنهم لشدَّة البرد والخطر والجوع والخوف وطول الحصار، لم يُجِبْ أحدٌ.. حتى حدَّد حذيفة بن اليمان، فقام وذهب بين صفوف المشركين، وكما قال: جلست بين مجموعة منهم كان فيها أبو سفيان والبرد شديد؛ فقال أبو سفيان على كل منكم أن يتعرَّف على من معه فبدأ حذيفة بمن قبله، وسأله: مَنْ أنت؟ وبذلك لم يسأله أحد، وكان ذلك حسن تصرف وسرعة بديهة منه، ثم أخذ أبو سفيان يتكلم عن حرج موقف المشركين ونفاد مؤنتهم، وما فعلته الريح والعواصف والبرد بهم، وأنهم ليس أمامهم إلا الرحيل في الغداة، ثم رجع فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليقف بذلك على حقائق الأمور، ويحدِّد الخطوة التالية على بينة، ويبني قراراته دائمًا على معرفة يقينية وحقيقية، وكل ذلك من خلال وسائل وأساليب بشرية من أفراد عاديين، وليس بوسائل إعجازية خارقة لا يقدر عليها البشر.


وهذا هو مناط القدوة والأسوة لكل قائد في أي موقع؛ كي يدير كما كان يدير الرسول صلى الله عليه وسلم، ليفجِّر الطاقات الإبداعية والابتكارية في الأداء، ولعمل الفكر قبل العمل، والعقل قبل العضل.