هَميمـْ
13-3-2012, 07:10 PM
أعلمُ أن الموت قرينُ الحياة ينتهي أحدهما ويبدأ الآخر ، وليس من هاجسٍ أرق البشر من عهد آدم إلى نهاية العالم كذلك الهاجس الذي يسمونه الموت ..
http://im26.gulfup.com/2012-03-13/1331657985971.jpg
"1"
إني أرى تلكَ الروابطَ الخفية التي تجمعُ عالم الأحياء بعالم الأموات ، وتلتقي فيها العينُ بالورق لتتأملَ ضريحاً خالداً ماشاء الله له الخلود !
كنتُ قد أعددت قائمةً بأسماء الأضرحة التي سأزورها هذه السنة ، لم تكن قائمةً بُنيت على مبنى التخصص والانتقاء ، إنها جولةٌ سريعة على قبور القوم خصوصاً تلك المقبرة التي سأدفنُ نفسي فيها عما قريب ، أردت أن أرى الجيران وأن آخذَ من أخبارهم قبل أن أختار الجزء الذي سأرقدُ فيه !
مضيتُ إلى المقبرة الأولى يسمونها الساقي كان كلُّ شيءٍ فيها يوحي بالتريث قبل العبور ، رأيتُ ضريحاً شاخصاً في أعلى المقبرة كان لون شاخصه قرمزياً كلون الشفق ، شدني لونُه وذلك النحتُ الذي على الشاخص ..
كُتبَ عليه - تاريخُ القراءة - ولأن القبور لا تحتضن المستقبل فقد أيقنتُ أني وقعت على المتخصص السليم .. مؤرخٌ في قبر ؟ هذا هو الصدق والتجرد !
أمسكتُ الشاخص وتأملتُ تلك الأسطرَ الغريبة وللدهشة رأيتُ بعض الصور العجيبة كنتُ أقرأ ساعةً ثم أستحي من حارس القبور أن يطردني كأنه قد سأم من كثرة قبوره فقال لي إن كنتَ متعلقاً بذلك القبر هكذا فارفق بنفسك قبل أن تجتمع عليك بقية القبور ، إنها تشعرُ بالأحياء إذا نزلوا أرضها ، قلتُ صدقت ! ،، أسرعتُ إلى الرحال وجندلتُ ذلكَ القبر في أحدها ثم انتقلتُ للمقبرة الثانية !
http://im26.gulfup.com/2012-03-13/1331657986223.jpg
"2"
كانت السماءُ قد اكتست باللون الأبيض تلك السماء المصطنعة وذلك اللون المصنوع أيضاً ، ظننتُ لوهلةٍ اني سأدخل مقبرةَ الملوك أو شيئاً كهذا ، استعنتُ بأحد الدلالين ليرشدني إلى وجهتي التالية كانَ أسمرَ اللون مقطبَ الجبين وما إن أخرجتُ له دراهم حتى أسفرَ وجهه وصار يبادلني الشعور حتى شككتُ أني أمشي إلى جانب نباش قبور ينافسني في المهنة ، أخذنا الطريق المختصر إلى تلك المقبرة . سألته عن وجهتنا المقبلة فقال لي : إني لا اعلمُ تحديداً ما الذي تريدُه ، أخبرتُه بالقبر فكان لخبرته يأخذ بيدي بين تلك المقابر يمنةً ويسرة إلى أن أوقفني على تلك المقبرة المذهلة ، لم أشاهد مقبرةً مثلها في حياتي إن شواخصها توحي بحياة أصحابها لا بموتهم ظننتُ لوهلةٍ أني سأحظى بفرصة الكلام مع أولئك الموتى ،، ليس الموتى بالتحديد لم أكن متأكداً من هذا فكل شيءٍ في تلك المقبرة ينبض بالحياة ، حارسُ القبور شيخٌ وقور له من الجلالة والعظمة ما يفسر اختياره لحراسة تلك المقبرة استأذنته للدخول فسألني عما أريد أريتُه جدول زياراتي وأخبرتُه أني أريدُ نبشَ قبرٍ اسمهُ الكفاف .. قال لي ستجدُ هنالك شيخاً أبيضاً مضطلعاً في بحور العربية عالماً بها ، قلت نعم . أذنَ لي بالدخول ومضيتُ والسكينةُ تغشى خطواتي بين تلك القبور المضيئة حتى وصلتُ لذلك الضريح .. تأملتُ شاخصَه لوهلة كان قد كتب فيه ما يدلُّ على علمه " كتابٌ يعيد صوغ قواعد اللغة " رأيتُه فالتزمتُ الصمت وأنا أقرأُ نقوش ذلك الشاخص ثم استأذنتُ حارسَه فأذن لي وقال على الرحب والسعة إن هؤلاء الموتى قد كتبوا حياتهم في ذلك الشاخص ؟ فقلتُ أموتىً هم ؟ قال : ماذا ترى ؟ قلتُ : أرى كل شيءٍ فعلوه وفهموه في حياتهم ، إني أقفُ معهم بين هذه الشواخص كما لو استوقفتُ أحدهم وهو يمشي ليحدثني قليلا .. ابتسم الشيخُ الوقور وقال يا بني إنهم موتى ولا شك ولكنهم قد دفنوا حياتهم في هذه القبور فهم يعودون للحياة كلما نبشها نابشٌ مثلُك ! شكرتُه على حسنِ تعامله فأماء لي برأسِه ومضى ينبشُ قبراً آخراً ، ودعتُه بنظرة ملؤها الشعور بالنقص على وجه المقارنة ثم مضيت .
http://im26.gulfup.com/2012-03-13/1331657986962.jpg
"3"
خلت القبور من الزوار فجأةً ، خلتُني للحظات أسيرُ وحيداً بين أسوار المقابر ، بحثتُ عن دلالي فلم أجده ، كنتُ أعلمُ أن علماً يُشترى بالدراهم يُباع بها ، رأيتُه مع رجلٍ آخر لاحقاً ، كأنه قد اشترى علمَه بأكثر مما دفعت ، لم أعوِّل عليه كثيراً فقد أهداني ذلك الشيخُ الوقور خريطةً بأسماء المقابِر وأماكنها كنتُ أتنقلُ بينها تائهاً حتى وقعتُ على واحدةٍ لم تزل تعملُ على أسوارها قناديل الشمع !
ناديتُ الحارس يا مولاي . فلم يُجب . كان يغطي مقبرتَه بقماشٍ أبيضَ رقيق التفتُ ورائي فرأيتُ المقابرَ كلها قد اكتستْ بمثل ذلك القماش مضيتُ خطوات فلوح لي الكهلُ بيده من بعيد وأشار لي أن المقابر تقفلُ وقت الصلاة ، توجهتُ لبركةٍ فضية وتوضأت بها ثم انتظمتُ في صفوف المصلين ..
http://im26.gulfup.com/2012-03-13/1331657986254.jpg
"4"
انتهت الصلاة ولم أكد أسلم عن شمالي حتى انطلقَ الناسُ يعدون ويتسابقون إلى المقابر ، حتى لقد خشيتُ على موعدي التالي أن يسطو عليه أحدهم فانتعلتُ حذائي بسرعة وتوجهت إلى المقبرة التالية ، رفعتُ الخريطة إلى الأعلى متأملاً في مكانها ، ناداني أحدهم من بعيد . التفتُ إليه فإذا هو أحد أصدقائي ممن عشقوا تنبيش القبور صافحتُه وعانقتُه .. قال لي كيف هي لقاءاتك اليوم ؟ أجبتُه بأني لم أحظ إلا بلقائين اثنين وأخرجتُ له الرحال وفيها الشواخصُ المجندلة ؟ تأملها قليلاً ثم أخرجَ من جيبه ورقةً وبدأ يدونُ فيها أسماءَ الشواخص !
ظننتُه سيزورهم من جديد ، إن تلك القبور تملك خاصية التعدد فهي تحملُ من أنفسها ما يظفرُ به الجمعُ ولا يستأثرُ به الفرد . أخرج لي من رحاله أيضاً ما أخرجتُ له أوراقي ودونت بها أسماء شواخصه افترقنا وقد زاد في جدول كل واحد منا بضعُ لقاءات تملؤ عليه يومَه .
اتجهتُ إلى المقبرة التالية ، عرفتُ مكانها ولأن الزحام بدأ يقل فقد رأيتُ لوحة المقبرة من بعيد تقدمتُ إليها حتى وقفتُ على بوابها ، شابٌ صغير في مقتبل العمر لا أظنه جاوز السادسة عشرة ، أبهجني ببسمته فقابلتُه بمثلها ، قال لي : اطلب يا سيدي ؟ قلتُ له إني نباش قبور وأحبُ أن يطلعني على قبرٍ اسمُه طريقُ الحب ، ابتسم لي مرةً أخرى ثم قال إن مقبرتنا صغيرةٌ للغاية فهي لم تبنَ إلا منذ عامين اثنين وبطبيعة الحال فهي لا تحوي إلا بضعةً وخمسين قبراً ! سألتُه إن كان القبرُ موجوداً ؟ فأجاب بنعم ولكنُه آثرَ أن يُحضرَ ليَ الشاخصَ بدلاً من أن أقف عليه . أذنتُ له بذلك فضيقُ تلك المقبرة لا يسمحُ لك بالمشي على شواخصها لأنها لا تملكُ طرقا !
ناولني الشاخص رأيتُه فأعجبني شكله تصفحتُه فزدتُ إعجاباً به كنتُ أستغرب يوم قال لي إن صاحب القبر لم يدخلُه بعد ، دعوت له بطول العمر وبركة الأثر ، وأعجبتني فكرةُ رؤية الضريح وصاحبِه الحي في آن واحد ..
http://im26.gulfup.com/2012-03-13/1331657986495.jpg
"5"
تجولتُ كثيراً بين تلك القبور لم يكن الزمان حاجزاً بيننا فقد قابلتُ من مات قبل قرن ومن لم يولد بعد وقابلتُ من ملوك الغساسنة والإغريقين ما جعلني أذهلُ أني أقفُ حياً تحت سقفٍ تضيئُه الكهرباء ، حاورتُ ابن المقفع في بعض الأمور ، واستمعتُ إلى خطب واصل ابن عطاء ، وألهمتني فراسة آلان جريسبان عن نظرية انهيار الاقتصاد ،
كان جدولاً مليئاً بالفوائد عشتُ مع عمري الذي لم يجاوز أوائل العشرين آلاف السنين في ظرف ساعات يالها من فرصةٍ عظيمة ..
وطئت قدماي أرض المعرض صباحاً كان الجوُّ يوحي بنشوةٍ عظيمة ، لا يعرفها إلا من يشعرُ بها ، عندما يجتمعُ أناسٌ من كل مكان وتقرأ في عيونهم حيرة الحبَّ وفرحة اللقاء ، هذا ما أقرأه وأشعرُ به دائماً هذا الموسمَ من كل عام !
هَميمـْ
13.3.2012
http://im26.gulfup.com/2012-03-13/1331657985971.jpg
"1"
إني أرى تلكَ الروابطَ الخفية التي تجمعُ عالم الأحياء بعالم الأموات ، وتلتقي فيها العينُ بالورق لتتأملَ ضريحاً خالداً ماشاء الله له الخلود !
كنتُ قد أعددت قائمةً بأسماء الأضرحة التي سأزورها هذه السنة ، لم تكن قائمةً بُنيت على مبنى التخصص والانتقاء ، إنها جولةٌ سريعة على قبور القوم خصوصاً تلك المقبرة التي سأدفنُ نفسي فيها عما قريب ، أردت أن أرى الجيران وأن آخذَ من أخبارهم قبل أن أختار الجزء الذي سأرقدُ فيه !
مضيتُ إلى المقبرة الأولى يسمونها الساقي كان كلُّ شيءٍ فيها يوحي بالتريث قبل العبور ، رأيتُ ضريحاً شاخصاً في أعلى المقبرة كان لون شاخصه قرمزياً كلون الشفق ، شدني لونُه وذلك النحتُ الذي على الشاخص ..
كُتبَ عليه - تاريخُ القراءة - ولأن القبور لا تحتضن المستقبل فقد أيقنتُ أني وقعت على المتخصص السليم .. مؤرخٌ في قبر ؟ هذا هو الصدق والتجرد !
أمسكتُ الشاخص وتأملتُ تلك الأسطرَ الغريبة وللدهشة رأيتُ بعض الصور العجيبة كنتُ أقرأ ساعةً ثم أستحي من حارس القبور أن يطردني كأنه قد سأم من كثرة قبوره فقال لي إن كنتَ متعلقاً بذلك القبر هكذا فارفق بنفسك قبل أن تجتمع عليك بقية القبور ، إنها تشعرُ بالأحياء إذا نزلوا أرضها ، قلتُ صدقت ! ،، أسرعتُ إلى الرحال وجندلتُ ذلكَ القبر في أحدها ثم انتقلتُ للمقبرة الثانية !
http://im26.gulfup.com/2012-03-13/1331657986223.jpg
"2"
كانت السماءُ قد اكتست باللون الأبيض تلك السماء المصطنعة وذلك اللون المصنوع أيضاً ، ظننتُ لوهلةٍ اني سأدخل مقبرةَ الملوك أو شيئاً كهذا ، استعنتُ بأحد الدلالين ليرشدني إلى وجهتي التالية كانَ أسمرَ اللون مقطبَ الجبين وما إن أخرجتُ له دراهم حتى أسفرَ وجهه وصار يبادلني الشعور حتى شككتُ أني أمشي إلى جانب نباش قبور ينافسني في المهنة ، أخذنا الطريق المختصر إلى تلك المقبرة . سألته عن وجهتنا المقبلة فقال لي : إني لا اعلمُ تحديداً ما الذي تريدُه ، أخبرتُه بالقبر فكان لخبرته يأخذ بيدي بين تلك المقابر يمنةً ويسرة إلى أن أوقفني على تلك المقبرة المذهلة ، لم أشاهد مقبرةً مثلها في حياتي إن شواخصها توحي بحياة أصحابها لا بموتهم ظننتُ لوهلةٍ أني سأحظى بفرصة الكلام مع أولئك الموتى ،، ليس الموتى بالتحديد لم أكن متأكداً من هذا فكل شيءٍ في تلك المقبرة ينبض بالحياة ، حارسُ القبور شيخٌ وقور له من الجلالة والعظمة ما يفسر اختياره لحراسة تلك المقبرة استأذنته للدخول فسألني عما أريد أريتُه جدول زياراتي وأخبرتُه أني أريدُ نبشَ قبرٍ اسمهُ الكفاف .. قال لي ستجدُ هنالك شيخاً أبيضاً مضطلعاً في بحور العربية عالماً بها ، قلت نعم . أذنَ لي بالدخول ومضيتُ والسكينةُ تغشى خطواتي بين تلك القبور المضيئة حتى وصلتُ لذلك الضريح .. تأملتُ شاخصَه لوهلة كان قد كتب فيه ما يدلُّ على علمه " كتابٌ يعيد صوغ قواعد اللغة " رأيتُه فالتزمتُ الصمت وأنا أقرأُ نقوش ذلك الشاخص ثم استأذنتُ حارسَه فأذن لي وقال على الرحب والسعة إن هؤلاء الموتى قد كتبوا حياتهم في ذلك الشاخص ؟ فقلتُ أموتىً هم ؟ قال : ماذا ترى ؟ قلتُ : أرى كل شيءٍ فعلوه وفهموه في حياتهم ، إني أقفُ معهم بين هذه الشواخص كما لو استوقفتُ أحدهم وهو يمشي ليحدثني قليلا .. ابتسم الشيخُ الوقور وقال يا بني إنهم موتى ولا شك ولكنهم قد دفنوا حياتهم في هذه القبور فهم يعودون للحياة كلما نبشها نابشٌ مثلُك ! شكرتُه على حسنِ تعامله فأماء لي برأسِه ومضى ينبشُ قبراً آخراً ، ودعتُه بنظرة ملؤها الشعور بالنقص على وجه المقارنة ثم مضيت .
http://im26.gulfup.com/2012-03-13/1331657986962.jpg
"3"
خلت القبور من الزوار فجأةً ، خلتُني للحظات أسيرُ وحيداً بين أسوار المقابر ، بحثتُ عن دلالي فلم أجده ، كنتُ أعلمُ أن علماً يُشترى بالدراهم يُباع بها ، رأيتُه مع رجلٍ آخر لاحقاً ، كأنه قد اشترى علمَه بأكثر مما دفعت ، لم أعوِّل عليه كثيراً فقد أهداني ذلك الشيخُ الوقور خريطةً بأسماء المقابِر وأماكنها كنتُ أتنقلُ بينها تائهاً حتى وقعتُ على واحدةٍ لم تزل تعملُ على أسوارها قناديل الشمع !
ناديتُ الحارس يا مولاي . فلم يُجب . كان يغطي مقبرتَه بقماشٍ أبيضَ رقيق التفتُ ورائي فرأيتُ المقابرَ كلها قد اكتستْ بمثل ذلك القماش مضيتُ خطوات فلوح لي الكهلُ بيده من بعيد وأشار لي أن المقابر تقفلُ وقت الصلاة ، توجهتُ لبركةٍ فضية وتوضأت بها ثم انتظمتُ في صفوف المصلين ..
http://im26.gulfup.com/2012-03-13/1331657986254.jpg
"4"
انتهت الصلاة ولم أكد أسلم عن شمالي حتى انطلقَ الناسُ يعدون ويتسابقون إلى المقابر ، حتى لقد خشيتُ على موعدي التالي أن يسطو عليه أحدهم فانتعلتُ حذائي بسرعة وتوجهت إلى المقبرة التالية ، رفعتُ الخريطة إلى الأعلى متأملاً في مكانها ، ناداني أحدهم من بعيد . التفتُ إليه فإذا هو أحد أصدقائي ممن عشقوا تنبيش القبور صافحتُه وعانقتُه .. قال لي كيف هي لقاءاتك اليوم ؟ أجبتُه بأني لم أحظ إلا بلقائين اثنين وأخرجتُ له الرحال وفيها الشواخصُ المجندلة ؟ تأملها قليلاً ثم أخرجَ من جيبه ورقةً وبدأ يدونُ فيها أسماءَ الشواخص !
ظننتُه سيزورهم من جديد ، إن تلك القبور تملك خاصية التعدد فهي تحملُ من أنفسها ما يظفرُ به الجمعُ ولا يستأثرُ به الفرد . أخرج لي من رحاله أيضاً ما أخرجتُ له أوراقي ودونت بها أسماء شواخصه افترقنا وقد زاد في جدول كل واحد منا بضعُ لقاءات تملؤ عليه يومَه .
اتجهتُ إلى المقبرة التالية ، عرفتُ مكانها ولأن الزحام بدأ يقل فقد رأيتُ لوحة المقبرة من بعيد تقدمتُ إليها حتى وقفتُ على بوابها ، شابٌ صغير في مقتبل العمر لا أظنه جاوز السادسة عشرة ، أبهجني ببسمته فقابلتُه بمثلها ، قال لي : اطلب يا سيدي ؟ قلتُ له إني نباش قبور وأحبُ أن يطلعني على قبرٍ اسمُه طريقُ الحب ، ابتسم لي مرةً أخرى ثم قال إن مقبرتنا صغيرةٌ للغاية فهي لم تبنَ إلا منذ عامين اثنين وبطبيعة الحال فهي لا تحوي إلا بضعةً وخمسين قبراً ! سألتُه إن كان القبرُ موجوداً ؟ فأجاب بنعم ولكنُه آثرَ أن يُحضرَ ليَ الشاخصَ بدلاً من أن أقف عليه . أذنتُ له بذلك فضيقُ تلك المقبرة لا يسمحُ لك بالمشي على شواخصها لأنها لا تملكُ طرقا !
ناولني الشاخص رأيتُه فأعجبني شكله تصفحتُه فزدتُ إعجاباً به كنتُ أستغرب يوم قال لي إن صاحب القبر لم يدخلُه بعد ، دعوت له بطول العمر وبركة الأثر ، وأعجبتني فكرةُ رؤية الضريح وصاحبِه الحي في آن واحد ..
http://im26.gulfup.com/2012-03-13/1331657986495.jpg
"5"
تجولتُ كثيراً بين تلك القبور لم يكن الزمان حاجزاً بيننا فقد قابلتُ من مات قبل قرن ومن لم يولد بعد وقابلتُ من ملوك الغساسنة والإغريقين ما جعلني أذهلُ أني أقفُ حياً تحت سقفٍ تضيئُه الكهرباء ، حاورتُ ابن المقفع في بعض الأمور ، واستمعتُ إلى خطب واصل ابن عطاء ، وألهمتني فراسة آلان جريسبان عن نظرية انهيار الاقتصاد ،
كان جدولاً مليئاً بالفوائد عشتُ مع عمري الذي لم يجاوز أوائل العشرين آلاف السنين في ظرف ساعات يالها من فرصةٍ عظيمة ..
وطئت قدماي أرض المعرض صباحاً كان الجوُّ يوحي بنشوةٍ عظيمة ، لا يعرفها إلا من يشعرُ بها ، عندما يجتمعُ أناسٌ من كل مكان وتقرأ في عيونهم حيرة الحبَّ وفرحة اللقاء ، هذا ما أقرأه وأشعرُ به دائماً هذا الموسمَ من كل عام !
هَميمـْ
13.3.2012