تشيزوكو
25-11-2014, 01:16 AM
مخيم
أسمع ضحكاتٍ وأصوات خطواتٍ سريعة.. ترتفع ضجةٌ وأصواتٌ متداخلة.. أطفالٌ يلعبون وأحاديث مختلفة.. طرقٌ عالٍ وأزيزٌ مزعج.. فأفتح عيني وأعرف أن الصباح قد حل..!
كل الصباحات متشابهة في المخيم.. يبدأ الأطفال باللعب والجري في الأزقة الضيقة منذ ساعات الصباح الأولى.. يفتح أصحاب المحلات محلاتهم، ويشرّع أصحاب المنازل أبوابهم -إن كان لها أبواب-.. تبدأ تحيات الصباح من دواخل المنازل.. تنادي صاحبة البيت النسوة المارات بأن تفضلوا لتناول كوب من الشاي أو القهوة الصباحية.. يصرخ الخباز بالأطفال الذين أغلقوا بابه ضاحكين متوعداً ومنادياً إياهم بأسمائهم التي يعرفها واحداً واحداً.. وأنا.. أجلس في فراشي.. أسب في سري العالم الذي لم أعرف منه سوى حدود المخيم..!
لم أعرف يوماً غير المخيم سكناً.. ولدت وعشت وكبرت في أزقته وحواريه.. أعرف سكانه وعائلاتهم وتاريخ حياتهم! أعرف ما يملكون وما يصرفون وما يحدث معهم من أدق التفاصيل اليومية.. تماماً كما يعرفون هم أدق تفاصيلنا أيضاً.. بدا المخيم كعائلة كبيرة.. كبيرةٍ وكريهةٍ جداً.. ربط القدر مصير أفرادها معاً..!
لطالما رغبتُ بمغادرة المخيم وتجريب الحياة خارج حدوده.. كيف سيكون شكل منزلي لو عشت هناك؟ كيف ستكون ثيابي وماذا سيكون نوع طعامي؟ كان هذا هاجسي الدائم منذ طفولتي.. وكانت هذه هي تخيلاتي اليومية قبل خلودي إلى النوم.. لذلك شعرتُ بأنني أسعد إنسانة في العالم عندما انتقلتُ إلى مدرسةٍ خارج المخيم عندما كنت في الصف الرابع الابتدائي.. كنت أتحدث مع الأطفال هناك بعزة كبيرة رغم زيي المدرسي الرث والقصير والذي لم أبدله منذ عامين.. كنت أشعر أني قد صرت مختلفة.. أني تقدمت خطواتٍ كبيرةً في حياتي.. وعندما كنت أعود إلى المخيم بعد المدرسة كنت أندب حظي التعس دون أن يسرّي عني سوى تفاخري أمام أقراني بمدرستي الراقية..!
ولأكون صريحة لم أكن سعيدةً جداً في تلك المدرسة.. فنشأتي في المخيم تركت وسماً لا يُمحى في شخصيتي وسببت لي عقدة نقصٍ فظيعة.. كنت أتحسس من كل كلمة أسمعها وأتوهم أن الآخرين يسخرون وينتقصون من كوني ابنة مخيم سواء أكانوا يفعلون ذلك حقاً أم لا.. كنت أعرف هذا الخلل في نفسي ولأجله كرهتُ المخيم أكثر..
في أحد الأيام أحضرت المدرسة وجباتٍ غذائية لتوزعها على الطالبات "الفقيرات".. وقفت المعلمة المسئولة عن التوزيع أمام الباب تتلو أسماء الطالبات المستحقات لهذه الوجبات.. ورغم مرور السنوات لا زلت أذكر شكلها الكئيب بتفاصيله.. نظارتها السميكة وأنفها الدقيق وعينيها السوداوين الضيقتين.. كان قلبي قد انقبض خشية أن تذكر اسمي معهن.. ولكنها لم تبالِ بتوتري وارتجافي في مقعدي فألقت باسمي أمام الجميع كقنبلةٍ نزلت عليّ فهزت كياني تماماً.. انتظرتني لأذهب إليها فلم أتحرك.. نظرت نحوي باستغرابٍ وقالت: ما الأمر يا صغيرتي ألا تريدين وجبة؟
نظرت لها بكل حقد العالم وأجبت: لا شكراً لست بحاجةٍ إليها وأنا لستُ فقيرة!
ولكن تلك الشمطاء أصرّت على متابعة إلقاء قنابلها فقالت: لماذا؟ ألستِ من المخيم؟ لا بأس أبداً بإمكانك أخذها فلا تقلقي!
لا أعتقد أني كرهتُ أو سأكره أحداً في حياتي كما كرهت تلك المرأة البغيضة.. أصريتُ على رفضي، وفي المساء طلبتُ من عائلتي أن تنقلني إلى مدرسة المخيم.. لا يمكنني المغادرة الآن.. ليس ووصمة العار المدعوة بالمخيم لا تزال متعلقةً بي..!
لأكون صادقة فقد كنت أحلم بالحصول على تلك الوجبة.. فقد كانت شطيرةً من أحد مطاعم الوجبات السريعة التي لم أتذوق طعامها في حياتي قط.. كانت تصلنا معوناتٌ من الجمعيات الخيرية أحياناً هي عبارةٌ عن أكياسٍ من الأرز والطحين والسكر.. في الواقع لم نكن سعداء كثيراً بهذا فقد صرنا قادرين على فتح مخزنٍ من أكياس التموين هذه..! صحيحٌ أن منزلنا متواضع إلا أننا نعيش حياةً أراها طبيعية - لولا أنها في المخيم - .. فمنزلنا البسيط مكونٌ من طابقين.. الطابق الأول منه هو ورشة والدي الخاصة بالحدادة وفي الطابق الثاني غرفتان للنوم ومطبخ وحمام صغيران.. إحدى الغرفتين لوالديّ والأخرى لي أنا وإخوتي الستة.. عمل والدي يكفينا لنعيش دون حاجةٍ لأحد.. ولكن تلك الكماليات ووجبات المطاعم هي أمرٌ أشبه بالحلم بالنسبة لنا.. ولو سمعتنا إحدى تلك الجهات الخيرية نقول هذا لنعتتنا بالجاحدين والطماعين..! ولكن أحداً لن يفهم هذا يوماً.. لن يفهم أننا سنسعد بكعكةٍ ملونةٍ صغيرة أكثر من سعادتنا بعشرة أكياسٍ ضخمةٍ من الأرز..! على العموم هذا ليس مهماً فنحن لسنا حقاً بحاجة إلى أحد، كما أنني سأغادر هذا المكان العتيق يوماً وسأجرب الحياة المترفة خارجه..!
كبرتُ وحلمي يكبر معي.. درستُ بأقصى ما أستطيعه من جهد لكي أقترب من تحقيقه أكثر.. مرت سنوات وسنوات.. ووجدت نفسي أخيراً على أعتاب الحلم.. فقد تخرجتُ من الثانوية بمعدلٍ مرتفعٍ جداً أهّلني للحصول على منحةٍ جامعية.. احتفل المخيم كله معي بتلك المناسبة.. بدا الجميع فخوراً بابنتهم التي كبرت كثيراً ورفعت رأسهم! لا يعلمون أني أفعل كل هذا فقط لأتحرر منهم..!
لم تحمل سنوات الجامعة في طياتها سوى الدراسة الجادة والمكثفة.. لم أستطع أن أنقطع عن الدراسة أبداً.. لم أتوقف عندما مرضت أمي وأصبحت طريحة الفراش.. ولا عندما كسرت ذراع والدي ولم يستطع مزاولة عمله لفترة.. ولا حتى عندما توفيت الحاجة أم فراس كبيرة المخيم.. لم أكن أستطيع أن أسمح لمعدلي بأن يقل حتى قيد أنملة وإلا فإن المنحة ستُسحب مني وسأخسر كل آمالي وأحلامي معها.. في الواقع ورغم أني تمنيتُ أن أقضي وقتاً أطول مع والديّ في الظروف العصيبة التي مرت بهما إلا أنني كنتُ مطمئنةً عليهما.. فأنا وإخوتي لسنا عائلتهما الوحيدة بعد كل شيء..
تخرجتُ من الجامعة بمعدلٍ مرتفع.. وبدأتُ فوراً البحث عن عمل.. كنت أتعمد تقديم أوراقي إلى شركاتٍ بعيدة حتى أتخذها ذريعةً لمغادرة المخيم.. وفعلاً لم يطل الوقت حتى وصلني إشعار قبولي في إحدى الشركات الكبيرة.. لم أصدق بأن حلمي قد تحقق أخيراً.. بأن أيام شقائي وتعاستي هنا قد وصلت أخيراً إلى نهايتها.. استأجرتُ غرفةً قريبةً من مكان عملي وغادرتُ المخيم ونسوته يشيعنني بالزغاريد.. لن أعود إلى هنا مطلقاً..! هذه الفترة من حياتي.. أخيراً سأمحوها تماماً..!
لم أطق صبراً لأبدأ يوم عملي الأول.. حقيقة كوني من المخيم صارت أمراً من الماضي الآن.. أنا نفسي سأنسى هذا.. أنا الآن فتاةٌ راقية تملك وظيفةً محترمة.. وصمة المخيم لم تعد تمثل جزءاً مني.. ليس بعد الآن..
ارتديتُ أكثر ثيابي أناقةً ورسمتُ ابتسامةً كبيرةً على شفتيّ وغادرتُ إلى شركتي الجديدة.. مبنى كبير وأنيق.. مكاتب فاخرة.. وزجاجٌ لامعٌ في كل مكان.. طلب المدير مقابلتي للتحدث عن الوظيفة.. فجلستُ في الردهة أنتظره وأراقب عالمي الجديد.. فتاتان أنيقتان أخذتا تتحدثان عن تسوقهما ليلة أمس.. إحداهما لم تجد الحقيبة التي كانت تتمناها فكل الحقائب لا تملك شريطةً ذهبيةً كتلك التي تحلم بها.. حتى تلك الحقائب التي يتكون سعرها من ثلاثة أرقام لم تكن مرضيةً لها.. أما الأخرى فإن القميص الوحيد الذي حاز اهتمامها كان ذا طرازٍ قديمٍ وغير مواكبٍ للحداثة.. مجموعةٌ من الرجال جلسوا على مقاعد قريبة.. تحدث أحدهم عن والده ذو العقلية المتحجرة والذي يصر على ولده أن يزوره نهاية كل أسبوع.. أما الثاني فبدا كئيباً ومستاءً لأن زميله في المكتب قد اشترى أحدث إصدارٍ من الهواتف المحمولة قبل أن يفعل هو.. وتحدث آخران عن زميلهما المتغيب عن العمل منذ يومين دون أن يُخطِر أحداً بذلك.. يعيش وحيداً وهاتفه المحمول لا يجيب ولا أحد يعلم عنه شيئاً..
وهكذا قضيتُ ساعةً كاملةً أستمع إلى الأحاديث المختلفة وأنا أشعر ببردٍ غريبٍ يغزو أطرافي.. وبدفءٍ عميقٍ كان يسكن في داخلي بدأ يغادرني الآن ويلوح لي بعيداً جداً.. وصل المدير أخيراً واقترب مني محيياً ومعتذراً عن تأخره.. وقفتُ لأرد تحيته وأنصت الجميع لإشباع فضولهم حول زميلتهم الجديدة.. سألني المدير بابتسامةٍ كبيرة: إذاً.. من أين جاءت موظفتنا الجديدة..؟
ألقيتُ نظرةً إلى العيون المترقبة من حولي.. أخذتُ نفساً عميقاً وأجبته بابتسامةٍ واهنةٍ ودافئةٍ بشكلٍ غريب: أنا من المخيم..!
http://up.msoms.ae/do.php?img=1885
أسمع ضحكاتٍ وأصوات خطواتٍ سريعة.. ترتفع ضجةٌ وأصواتٌ متداخلة.. أطفالٌ يلعبون وأحاديث مختلفة.. طرقٌ عالٍ وأزيزٌ مزعج.. فأفتح عيني وأعرف أن الصباح قد حل..!
كل الصباحات متشابهة في المخيم.. يبدأ الأطفال باللعب والجري في الأزقة الضيقة منذ ساعات الصباح الأولى.. يفتح أصحاب المحلات محلاتهم، ويشرّع أصحاب المنازل أبوابهم -إن كان لها أبواب-.. تبدأ تحيات الصباح من دواخل المنازل.. تنادي صاحبة البيت النسوة المارات بأن تفضلوا لتناول كوب من الشاي أو القهوة الصباحية.. يصرخ الخباز بالأطفال الذين أغلقوا بابه ضاحكين متوعداً ومنادياً إياهم بأسمائهم التي يعرفها واحداً واحداً.. وأنا.. أجلس في فراشي.. أسب في سري العالم الذي لم أعرف منه سوى حدود المخيم..!
لم أعرف يوماً غير المخيم سكناً.. ولدت وعشت وكبرت في أزقته وحواريه.. أعرف سكانه وعائلاتهم وتاريخ حياتهم! أعرف ما يملكون وما يصرفون وما يحدث معهم من أدق التفاصيل اليومية.. تماماً كما يعرفون هم أدق تفاصيلنا أيضاً.. بدا المخيم كعائلة كبيرة.. كبيرةٍ وكريهةٍ جداً.. ربط القدر مصير أفرادها معاً..!
لطالما رغبتُ بمغادرة المخيم وتجريب الحياة خارج حدوده.. كيف سيكون شكل منزلي لو عشت هناك؟ كيف ستكون ثيابي وماذا سيكون نوع طعامي؟ كان هذا هاجسي الدائم منذ طفولتي.. وكانت هذه هي تخيلاتي اليومية قبل خلودي إلى النوم.. لذلك شعرتُ بأنني أسعد إنسانة في العالم عندما انتقلتُ إلى مدرسةٍ خارج المخيم عندما كنت في الصف الرابع الابتدائي.. كنت أتحدث مع الأطفال هناك بعزة كبيرة رغم زيي المدرسي الرث والقصير والذي لم أبدله منذ عامين.. كنت أشعر أني قد صرت مختلفة.. أني تقدمت خطواتٍ كبيرةً في حياتي.. وعندما كنت أعود إلى المخيم بعد المدرسة كنت أندب حظي التعس دون أن يسرّي عني سوى تفاخري أمام أقراني بمدرستي الراقية..!
ولأكون صريحة لم أكن سعيدةً جداً في تلك المدرسة.. فنشأتي في المخيم تركت وسماً لا يُمحى في شخصيتي وسببت لي عقدة نقصٍ فظيعة.. كنت أتحسس من كل كلمة أسمعها وأتوهم أن الآخرين يسخرون وينتقصون من كوني ابنة مخيم سواء أكانوا يفعلون ذلك حقاً أم لا.. كنت أعرف هذا الخلل في نفسي ولأجله كرهتُ المخيم أكثر..
في أحد الأيام أحضرت المدرسة وجباتٍ غذائية لتوزعها على الطالبات "الفقيرات".. وقفت المعلمة المسئولة عن التوزيع أمام الباب تتلو أسماء الطالبات المستحقات لهذه الوجبات.. ورغم مرور السنوات لا زلت أذكر شكلها الكئيب بتفاصيله.. نظارتها السميكة وأنفها الدقيق وعينيها السوداوين الضيقتين.. كان قلبي قد انقبض خشية أن تذكر اسمي معهن.. ولكنها لم تبالِ بتوتري وارتجافي في مقعدي فألقت باسمي أمام الجميع كقنبلةٍ نزلت عليّ فهزت كياني تماماً.. انتظرتني لأذهب إليها فلم أتحرك.. نظرت نحوي باستغرابٍ وقالت: ما الأمر يا صغيرتي ألا تريدين وجبة؟
نظرت لها بكل حقد العالم وأجبت: لا شكراً لست بحاجةٍ إليها وأنا لستُ فقيرة!
ولكن تلك الشمطاء أصرّت على متابعة إلقاء قنابلها فقالت: لماذا؟ ألستِ من المخيم؟ لا بأس أبداً بإمكانك أخذها فلا تقلقي!
لا أعتقد أني كرهتُ أو سأكره أحداً في حياتي كما كرهت تلك المرأة البغيضة.. أصريتُ على رفضي، وفي المساء طلبتُ من عائلتي أن تنقلني إلى مدرسة المخيم.. لا يمكنني المغادرة الآن.. ليس ووصمة العار المدعوة بالمخيم لا تزال متعلقةً بي..!
لأكون صادقة فقد كنت أحلم بالحصول على تلك الوجبة.. فقد كانت شطيرةً من أحد مطاعم الوجبات السريعة التي لم أتذوق طعامها في حياتي قط.. كانت تصلنا معوناتٌ من الجمعيات الخيرية أحياناً هي عبارةٌ عن أكياسٍ من الأرز والطحين والسكر.. في الواقع لم نكن سعداء كثيراً بهذا فقد صرنا قادرين على فتح مخزنٍ من أكياس التموين هذه..! صحيحٌ أن منزلنا متواضع إلا أننا نعيش حياةً أراها طبيعية - لولا أنها في المخيم - .. فمنزلنا البسيط مكونٌ من طابقين.. الطابق الأول منه هو ورشة والدي الخاصة بالحدادة وفي الطابق الثاني غرفتان للنوم ومطبخ وحمام صغيران.. إحدى الغرفتين لوالديّ والأخرى لي أنا وإخوتي الستة.. عمل والدي يكفينا لنعيش دون حاجةٍ لأحد.. ولكن تلك الكماليات ووجبات المطاعم هي أمرٌ أشبه بالحلم بالنسبة لنا.. ولو سمعتنا إحدى تلك الجهات الخيرية نقول هذا لنعتتنا بالجاحدين والطماعين..! ولكن أحداً لن يفهم هذا يوماً.. لن يفهم أننا سنسعد بكعكةٍ ملونةٍ صغيرة أكثر من سعادتنا بعشرة أكياسٍ ضخمةٍ من الأرز..! على العموم هذا ليس مهماً فنحن لسنا حقاً بحاجة إلى أحد، كما أنني سأغادر هذا المكان العتيق يوماً وسأجرب الحياة المترفة خارجه..!
كبرتُ وحلمي يكبر معي.. درستُ بأقصى ما أستطيعه من جهد لكي أقترب من تحقيقه أكثر.. مرت سنوات وسنوات.. ووجدت نفسي أخيراً على أعتاب الحلم.. فقد تخرجتُ من الثانوية بمعدلٍ مرتفعٍ جداً أهّلني للحصول على منحةٍ جامعية.. احتفل المخيم كله معي بتلك المناسبة.. بدا الجميع فخوراً بابنتهم التي كبرت كثيراً ورفعت رأسهم! لا يعلمون أني أفعل كل هذا فقط لأتحرر منهم..!
لم تحمل سنوات الجامعة في طياتها سوى الدراسة الجادة والمكثفة.. لم أستطع أن أنقطع عن الدراسة أبداً.. لم أتوقف عندما مرضت أمي وأصبحت طريحة الفراش.. ولا عندما كسرت ذراع والدي ولم يستطع مزاولة عمله لفترة.. ولا حتى عندما توفيت الحاجة أم فراس كبيرة المخيم.. لم أكن أستطيع أن أسمح لمعدلي بأن يقل حتى قيد أنملة وإلا فإن المنحة ستُسحب مني وسأخسر كل آمالي وأحلامي معها.. في الواقع ورغم أني تمنيتُ أن أقضي وقتاً أطول مع والديّ في الظروف العصيبة التي مرت بهما إلا أنني كنتُ مطمئنةً عليهما.. فأنا وإخوتي لسنا عائلتهما الوحيدة بعد كل شيء..
تخرجتُ من الجامعة بمعدلٍ مرتفع.. وبدأتُ فوراً البحث عن عمل.. كنت أتعمد تقديم أوراقي إلى شركاتٍ بعيدة حتى أتخذها ذريعةً لمغادرة المخيم.. وفعلاً لم يطل الوقت حتى وصلني إشعار قبولي في إحدى الشركات الكبيرة.. لم أصدق بأن حلمي قد تحقق أخيراً.. بأن أيام شقائي وتعاستي هنا قد وصلت أخيراً إلى نهايتها.. استأجرتُ غرفةً قريبةً من مكان عملي وغادرتُ المخيم ونسوته يشيعنني بالزغاريد.. لن أعود إلى هنا مطلقاً..! هذه الفترة من حياتي.. أخيراً سأمحوها تماماً..!
لم أطق صبراً لأبدأ يوم عملي الأول.. حقيقة كوني من المخيم صارت أمراً من الماضي الآن.. أنا نفسي سأنسى هذا.. أنا الآن فتاةٌ راقية تملك وظيفةً محترمة.. وصمة المخيم لم تعد تمثل جزءاً مني.. ليس بعد الآن..
ارتديتُ أكثر ثيابي أناقةً ورسمتُ ابتسامةً كبيرةً على شفتيّ وغادرتُ إلى شركتي الجديدة.. مبنى كبير وأنيق.. مكاتب فاخرة.. وزجاجٌ لامعٌ في كل مكان.. طلب المدير مقابلتي للتحدث عن الوظيفة.. فجلستُ في الردهة أنتظره وأراقب عالمي الجديد.. فتاتان أنيقتان أخذتا تتحدثان عن تسوقهما ليلة أمس.. إحداهما لم تجد الحقيبة التي كانت تتمناها فكل الحقائب لا تملك شريطةً ذهبيةً كتلك التي تحلم بها.. حتى تلك الحقائب التي يتكون سعرها من ثلاثة أرقام لم تكن مرضيةً لها.. أما الأخرى فإن القميص الوحيد الذي حاز اهتمامها كان ذا طرازٍ قديمٍ وغير مواكبٍ للحداثة.. مجموعةٌ من الرجال جلسوا على مقاعد قريبة.. تحدث أحدهم عن والده ذو العقلية المتحجرة والذي يصر على ولده أن يزوره نهاية كل أسبوع.. أما الثاني فبدا كئيباً ومستاءً لأن زميله في المكتب قد اشترى أحدث إصدارٍ من الهواتف المحمولة قبل أن يفعل هو.. وتحدث آخران عن زميلهما المتغيب عن العمل منذ يومين دون أن يُخطِر أحداً بذلك.. يعيش وحيداً وهاتفه المحمول لا يجيب ولا أحد يعلم عنه شيئاً..
وهكذا قضيتُ ساعةً كاملةً أستمع إلى الأحاديث المختلفة وأنا أشعر ببردٍ غريبٍ يغزو أطرافي.. وبدفءٍ عميقٍ كان يسكن في داخلي بدأ يغادرني الآن ويلوح لي بعيداً جداً.. وصل المدير أخيراً واقترب مني محيياً ومعتذراً عن تأخره.. وقفتُ لأرد تحيته وأنصت الجميع لإشباع فضولهم حول زميلتهم الجديدة.. سألني المدير بابتسامةٍ كبيرة: إذاً.. من أين جاءت موظفتنا الجديدة..؟
ألقيتُ نظرةً إلى العيون المترقبة من حولي.. أخذتُ نفساً عميقاً وأجبته بابتسامةٍ واهنةٍ ودافئةٍ بشكلٍ غريب: أنا من المخيم..!
http://up.msoms.ae/do.php?img=1885