تشيزوكو
23-12-2015, 03:27 PM
عربة حكايات
مجرد حكاية عابرة!
جلس بجوار النافذة يحاول رؤية صورةٍ مغايرةٍ لتلك التي رافقته طيلة الساعات القليلة الماضية..
استطاعت عيناه تمييز بعض الأضواء البعيدة التي تتحرك ببطء كبير كما لو أنها تطفو على بساط ريحٍ خفي.. أهذا لأنها بعيدة أم لأن هذا القطار لم يكن حقًا بالسرعة التي اعتقدها؟
لم يرغب حتى في أن يندب حظه الذي جعل رحلته الأولى في القطار ليلية، ليُحرَم بذلك من الاستمتاع برؤية شيء غير انعكاس وجهه الكئيب بالرغم من أنه بذل جهدًا ليتمكن من الحصول على هذا المقعد المجاور للنافذة..
وأخيرًا عندما يئس من إبصار الملامح الخفية للعالم الخارجي مدّ يده مسدلاً غطاء النافذة، ومريحًا لعينيه من مهمتهما المستحيلة.. ولكنه ما كاد يفعل حتى سمع تمتمات تذمر قادمةً من المقعد الخلفي أعقبها ارتفاع غطاء النافذة مجددًا..
شعر بالحرج لأنه نسي أن هذه النافذة العريضة تمتد إلى المقعد الخلفي كذلك، ولكنه شعر أيضًا بالفضول اتجاه المشهد الذي يستمتع به الراكب الخلفي.. لعله وجد طريقةً معينةً تمكنه من رؤية العالم الخارجي الغارق في الظلمة! من المؤلم أن يكون هو السلبيَّ الوحيد في هذا القطار..
انتظر بضع ثوانٍ ثم استرق النظر نحو الخلف محاولاً أن يبدو عفويًا قدر الإمكان، ليرى الرجل يصلح هندامه متأملاً صورته المنعكسة في "المرآة"..!
لم يملك إلا أن يبتسم بسخرية ويشيح بوجهه بعيدًا عن مرآته نحو الطاولة الكبيرة أمامه.. لأجل هذه النافذة اضطر إلى الجلوس في هذا المقعد الرباعي حيث لا يقلق عليه راحته الراكبُ المجاور له فحسب، بل والمقابلان له أيضًا!
بطرف عينه تأمل الجالس أمامه مباشرة، كان يبدو شابًا صغيرًا في السن نوعًا ما، مسترخيًا في مقعده ومغمضًا عينيه المستترتين خلف زجاج نظارته الطبية الصغيرة، بينما تتدلى أسلاك سماعته من أذنيه متجهةً نحو الهاتف القابع بين يديه..
لقد شاهده وهو يصعد القطار لا يحمل سوى حقيبة ظهرٍ صغيرة.. على الأرجح هو طالبٌ جامعي يعود إلى مدينته ليقضي عطلة نهاية الأسبوع مع عائلته..
وإلى جوار هذا الشاب جلس رجلٌ وقور قد غزا الشيب لحيته الكثة، ومع ذلك اشترك مع زميل مقعده في حمله هاتفًا بين يديه يقلب فيه ببطءٍ وملل..
لا يكاد يرى يدين تخلوان من هذا الجهاز هنا!
لم يلتفت إلى جواره ليرى زميله في المقعد، فهو يحاول جاهدًا أن يتناسى أنه يجلس ملتصقًا بأكثر الأطفال الذين قابلهم إزعاجًا!
لعله يعتقد نفس الشيء بالنسبة لمعظم من يقابل من أطفال، ولكن هذا الفتى -ذا الأعوام الأربعةِ غالبًا- مزعجٌ بالفعل!
لم يكن يستقر في مكانه مطلقًا وكان يتقافز فوق المقاعد وعلى طول الممر مناديًا جده المنغمس في هاتفه بين الفينة والأخرى بأعلى صوتٍ لديه، حاكيًا له أكثر الأمور غرابةً وبعدًا عن المنطق، أو سائلاً إياه أسئلةً لا تتمكن مهما فكّرت من تخمين كيف خطرت له على بال!
كل ما كان يخشاه هو أن تلتقي عيناه بعيني هذا الصغير فتتحول أسطوانة الحكايات والأسئلة اتجاهه بدلاً من جده المتجاهل له.. لقد حدث هذا مع أحد الركاب على الطاولة المجاورة منذ قليل وهو حقًا لا يرغب في خوض التجربة المريرة ذاتها!
ومع ذلك فقد كانت هنالك حسنةٌ واحدة في إزعاج هذا الصغير جعلته ممتنًا له ولو قليلاً! فقد كان صوته يطغى على صوت الرسائل التي يعلنها القطار بين وقتٍ وآخر مفتتحًا إياها بتلك العبارة النشاز التي تكاد تقتله كلما سمعها: "أعزاؤنا المسافرون"..!
حاول تجاهل الرسائل والطفل والمرآة المجاورة.. ولم يجد أمامه سوى التحديق بطاولته دون هدف.. كان يقاوم جاهدًا إغراء تناول هاتفه حتى لا يصبح مجرد مهووسٍ آخر بين حشد المهووسين المحيطين به..
أنقذه من وضعه البائس أخيرًا مرور عربة الطعام جوار طاولته..
العامل الذي يرتدي ثيابه بأناقة لا يسأم من تكرار ما تحتويه عربته من أصناف دون أن ينسى أن يبتسم خلال ذلك متحملاً طلبات واستفسارات وتعليقات زبائنه التي تكاد تصنف بأنها "حمقاء"..
كم مرةً يعيد فيها العامل المشهد ذاته؟ هل كان جميع الأشخاص بالنسبة له سواء؟ هل مر به شخصٌ مختلف أو مميز كسر جمود روتينه وترك انطباعًا خاصًا في ذاكرته؟ كم حكايةً يحمل في جعبته يا ترى؟
حان دوره فطلب كوبًا من الشاي.. شعر بالامتعاض قليلاً وهو يفكر بأنه مجرد شخصٍ آخر لا يكاد يبين من بين مئات الركاب الذين يراهم هذا العامل يوميًا.. لم يكن مهتمًا حقًا بترك انطباعٍ مميزٍ لدى عامل القطار ولكن فكرة جمعه مع هذا الحشد من الناس دون تمييز لم ترقه بتاتا..
لطالما رغب بأن يشعر بأنه مختلف ومميز، لطالما آمن بذلك.. لذا هو يكره حقًا المواقف التي تثبت له دائمًا أنه مجرد شخص آخر..
ربما كان مخطئًا منذ البداية لأنه جمع هؤلاء الأشخاص معًا كنسخٍ متكررة.. لعلَّ كلًا منهم مختلفٌ بطريقته الخاصة.. ليس واثقا إن كانت طريقة التفكير هذه صحيحةً أم لا ولكنها لا تزال تضايقه كونها لا تجعله مميزًا كذلك..
صرخ الشاب المقابل له فجأة قاطعًا قطار أفكاره: ماذا تريد؟
وبعد ارتباكٍ سبّبه بحثُ الجميع عمَّن كانت هذه العبارة موجهةً إليه، اكتشفوا أنه يتحدث عبر الهاتف..
خيّم الصمتُ مجددًا بينما بدا وجه الشاب متجهمًا وهو يستمع إلى محدثه عبر الهاتف، وخُيل إلى صاحبنا أنه يرى عروقًا تبرز في جانبي رأسه..
ثم انفجر صارخًا مجددًا: كل هذا الكلام لا يعنيني! أفلس أو اذهب إلى السجن، ما علاقتي أنا بهذا؟ انس أنك تعرفني وانس أن لديك أخًا! حتى لو طلبتَ عشرة ريالات فلن أقرضها لفاشلٍ مثلك!
ودون أن ينتظر سماع الرد ضغط زر الإغلاق شاتمًا ثم صرخ في العامل مفرغًا بقايا غضبه في وجهه وطالبًا شطيرةً وعلبة عصير..
اختفت ابتسامة العامل وهو يلبي له طلبه.. لم يستطع صاحبنا إخفاء ابتسامة التهكم التي ارتسمت على شفتيه وهو يفكر بأن زبونًا من النوع الذي يُحفر في الذاكرة قد ظهر أخيرًا!
حتى الطفل بدا مرتبكًا من المشهد وقبع في مقعده صامتًا وهادئًا فجأة يحدق بالشاب بفضول وفي عينيه ألف سؤال.. الله وحده يعلم ما كان يدور في ذهنه، فمهما كنت ماهرًا في سبر أغوار الأفكار، فإن دماغ طفل سيظل مستعصيًا عليك!
العجوز فقط لم يبد مباليًا بما حصل وكأنه يرى مشهدًا كهذا كل يوم واستمر في تقليب شاشة هاتفه بمللٍ وانسجامٍ غريبين!
نزع الشاب السماعات من أذنيه بضجر وبدا راغبًا في الحديث فجأة، ولم يجد أمامه سوى صاحبنا الذي وجد نفسه مضطرًا لمبادلته الحديث..
قال الشاب متضجرًا: يطلب مني إقراضه مجددًا! لا أدري لمَ تزوجتُ واستقليتُ إن كان بعض الفاشلين سيتعلقون بنجاحي لمجرد أنني ولدتُ كأخٍ لهم! لستُ ممن يبدد أمواله على التفاهات..!
هزّ صاحبنا رأسه مُظهرًا تفهّمه، بينما تضايق في داخله من خطأ تخمينه، فلم يكن محدثه الشاب طالبًا جامعيًا كما اعتقد، ولا يبدو أنه في زيارةٍ عائليةٍ كذلك!
ولم يدم فضوله طويلًا إذ تابع الشاب مغيرًا دفة الحديث: هل أنت هنا من أجل المباراة أيضًا؟
أجاب صاحبنا متفاجئًا: عفوًا؟
انفرجت أساسير الشاب عن ابتسامةٍ توحي بمدى استمتاعه بهذا الموضوع وأكمل قائلاً: المباراة النهائية الليلة كما تعلم! آهٍ لو تعلم كم تعبتُ حتى تمكنتُ من الحصول على تذكرة المباراة..
وبدت نواجذه مع اتساع ابتسامته وهو يتابع: دفعتُ مبلغًا محترمًا لأحصل على مقعدٍ مميزٍ في المنصة، ولكن الأمر يستحق.. أعدُّها صفقةً رابحة! لا أستطيع الانتظار حتى تبدأ المباراة! أيَّ فريقٍ تشجع؟
- لستُ هنا من أجل المباراة للأسف.. قد تعدُّني ممن ينفقون أموالهم على التفاهات ولكنني ابتعتُ تذكرة القطار من أجل تجربة أمرٍ جديدٍ فقط، وربما الحصول على فكرة مناسبة لقصةٍ جديدة..
- هل تكتب؟
- نوعًا ما..
بدت ابتسامة اهتمامٍ واستخفافٍ في آنٍ واحدٍ على وجه الشاب، ثم سأل: وهل وجدتَ فكرةً مناسبة؟
التفت إلى النافذة متأملاً الانعكاس الكئيب لوجهه على زجاجها ولمح شبح ابتسامةٍ لم يكن يدرك أنها تتراقص على شفتيه وأجاب: أعتقد ذلك!
~ تمت ~
http://i.imgur.com/mT8p0Fp.gif
مجرد حكاية عابرة!
جلس بجوار النافذة يحاول رؤية صورةٍ مغايرةٍ لتلك التي رافقته طيلة الساعات القليلة الماضية..
استطاعت عيناه تمييز بعض الأضواء البعيدة التي تتحرك ببطء كبير كما لو أنها تطفو على بساط ريحٍ خفي.. أهذا لأنها بعيدة أم لأن هذا القطار لم يكن حقًا بالسرعة التي اعتقدها؟
لم يرغب حتى في أن يندب حظه الذي جعل رحلته الأولى في القطار ليلية، ليُحرَم بذلك من الاستمتاع برؤية شيء غير انعكاس وجهه الكئيب بالرغم من أنه بذل جهدًا ليتمكن من الحصول على هذا المقعد المجاور للنافذة..
وأخيرًا عندما يئس من إبصار الملامح الخفية للعالم الخارجي مدّ يده مسدلاً غطاء النافذة، ومريحًا لعينيه من مهمتهما المستحيلة.. ولكنه ما كاد يفعل حتى سمع تمتمات تذمر قادمةً من المقعد الخلفي أعقبها ارتفاع غطاء النافذة مجددًا..
شعر بالحرج لأنه نسي أن هذه النافذة العريضة تمتد إلى المقعد الخلفي كذلك، ولكنه شعر أيضًا بالفضول اتجاه المشهد الذي يستمتع به الراكب الخلفي.. لعله وجد طريقةً معينةً تمكنه من رؤية العالم الخارجي الغارق في الظلمة! من المؤلم أن يكون هو السلبيَّ الوحيد في هذا القطار..
انتظر بضع ثوانٍ ثم استرق النظر نحو الخلف محاولاً أن يبدو عفويًا قدر الإمكان، ليرى الرجل يصلح هندامه متأملاً صورته المنعكسة في "المرآة"..!
لم يملك إلا أن يبتسم بسخرية ويشيح بوجهه بعيدًا عن مرآته نحو الطاولة الكبيرة أمامه.. لأجل هذه النافذة اضطر إلى الجلوس في هذا المقعد الرباعي حيث لا يقلق عليه راحته الراكبُ المجاور له فحسب، بل والمقابلان له أيضًا!
بطرف عينه تأمل الجالس أمامه مباشرة، كان يبدو شابًا صغيرًا في السن نوعًا ما، مسترخيًا في مقعده ومغمضًا عينيه المستترتين خلف زجاج نظارته الطبية الصغيرة، بينما تتدلى أسلاك سماعته من أذنيه متجهةً نحو الهاتف القابع بين يديه..
لقد شاهده وهو يصعد القطار لا يحمل سوى حقيبة ظهرٍ صغيرة.. على الأرجح هو طالبٌ جامعي يعود إلى مدينته ليقضي عطلة نهاية الأسبوع مع عائلته..
وإلى جوار هذا الشاب جلس رجلٌ وقور قد غزا الشيب لحيته الكثة، ومع ذلك اشترك مع زميل مقعده في حمله هاتفًا بين يديه يقلب فيه ببطءٍ وملل..
لا يكاد يرى يدين تخلوان من هذا الجهاز هنا!
لم يلتفت إلى جواره ليرى زميله في المقعد، فهو يحاول جاهدًا أن يتناسى أنه يجلس ملتصقًا بأكثر الأطفال الذين قابلهم إزعاجًا!
لعله يعتقد نفس الشيء بالنسبة لمعظم من يقابل من أطفال، ولكن هذا الفتى -ذا الأعوام الأربعةِ غالبًا- مزعجٌ بالفعل!
لم يكن يستقر في مكانه مطلقًا وكان يتقافز فوق المقاعد وعلى طول الممر مناديًا جده المنغمس في هاتفه بين الفينة والأخرى بأعلى صوتٍ لديه، حاكيًا له أكثر الأمور غرابةً وبعدًا عن المنطق، أو سائلاً إياه أسئلةً لا تتمكن مهما فكّرت من تخمين كيف خطرت له على بال!
كل ما كان يخشاه هو أن تلتقي عيناه بعيني هذا الصغير فتتحول أسطوانة الحكايات والأسئلة اتجاهه بدلاً من جده المتجاهل له.. لقد حدث هذا مع أحد الركاب على الطاولة المجاورة منذ قليل وهو حقًا لا يرغب في خوض التجربة المريرة ذاتها!
ومع ذلك فقد كانت هنالك حسنةٌ واحدة في إزعاج هذا الصغير جعلته ممتنًا له ولو قليلاً! فقد كان صوته يطغى على صوت الرسائل التي يعلنها القطار بين وقتٍ وآخر مفتتحًا إياها بتلك العبارة النشاز التي تكاد تقتله كلما سمعها: "أعزاؤنا المسافرون"..!
حاول تجاهل الرسائل والطفل والمرآة المجاورة.. ولم يجد أمامه سوى التحديق بطاولته دون هدف.. كان يقاوم جاهدًا إغراء تناول هاتفه حتى لا يصبح مجرد مهووسٍ آخر بين حشد المهووسين المحيطين به..
أنقذه من وضعه البائس أخيرًا مرور عربة الطعام جوار طاولته..
العامل الذي يرتدي ثيابه بأناقة لا يسأم من تكرار ما تحتويه عربته من أصناف دون أن ينسى أن يبتسم خلال ذلك متحملاً طلبات واستفسارات وتعليقات زبائنه التي تكاد تصنف بأنها "حمقاء"..
كم مرةً يعيد فيها العامل المشهد ذاته؟ هل كان جميع الأشخاص بالنسبة له سواء؟ هل مر به شخصٌ مختلف أو مميز كسر جمود روتينه وترك انطباعًا خاصًا في ذاكرته؟ كم حكايةً يحمل في جعبته يا ترى؟
حان دوره فطلب كوبًا من الشاي.. شعر بالامتعاض قليلاً وهو يفكر بأنه مجرد شخصٍ آخر لا يكاد يبين من بين مئات الركاب الذين يراهم هذا العامل يوميًا.. لم يكن مهتمًا حقًا بترك انطباعٍ مميزٍ لدى عامل القطار ولكن فكرة جمعه مع هذا الحشد من الناس دون تمييز لم ترقه بتاتا..
لطالما رغب بأن يشعر بأنه مختلف ومميز، لطالما آمن بذلك.. لذا هو يكره حقًا المواقف التي تثبت له دائمًا أنه مجرد شخص آخر..
ربما كان مخطئًا منذ البداية لأنه جمع هؤلاء الأشخاص معًا كنسخٍ متكررة.. لعلَّ كلًا منهم مختلفٌ بطريقته الخاصة.. ليس واثقا إن كانت طريقة التفكير هذه صحيحةً أم لا ولكنها لا تزال تضايقه كونها لا تجعله مميزًا كذلك..
صرخ الشاب المقابل له فجأة قاطعًا قطار أفكاره: ماذا تريد؟
وبعد ارتباكٍ سبّبه بحثُ الجميع عمَّن كانت هذه العبارة موجهةً إليه، اكتشفوا أنه يتحدث عبر الهاتف..
خيّم الصمتُ مجددًا بينما بدا وجه الشاب متجهمًا وهو يستمع إلى محدثه عبر الهاتف، وخُيل إلى صاحبنا أنه يرى عروقًا تبرز في جانبي رأسه..
ثم انفجر صارخًا مجددًا: كل هذا الكلام لا يعنيني! أفلس أو اذهب إلى السجن، ما علاقتي أنا بهذا؟ انس أنك تعرفني وانس أن لديك أخًا! حتى لو طلبتَ عشرة ريالات فلن أقرضها لفاشلٍ مثلك!
ودون أن ينتظر سماع الرد ضغط زر الإغلاق شاتمًا ثم صرخ في العامل مفرغًا بقايا غضبه في وجهه وطالبًا شطيرةً وعلبة عصير..
اختفت ابتسامة العامل وهو يلبي له طلبه.. لم يستطع صاحبنا إخفاء ابتسامة التهكم التي ارتسمت على شفتيه وهو يفكر بأن زبونًا من النوع الذي يُحفر في الذاكرة قد ظهر أخيرًا!
حتى الطفل بدا مرتبكًا من المشهد وقبع في مقعده صامتًا وهادئًا فجأة يحدق بالشاب بفضول وفي عينيه ألف سؤال.. الله وحده يعلم ما كان يدور في ذهنه، فمهما كنت ماهرًا في سبر أغوار الأفكار، فإن دماغ طفل سيظل مستعصيًا عليك!
العجوز فقط لم يبد مباليًا بما حصل وكأنه يرى مشهدًا كهذا كل يوم واستمر في تقليب شاشة هاتفه بمللٍ وانسجامٍ غريبين!
نزع الشاب السماعات من أذنيه بضجر وبدا راغبًا في الحديث فجأة، ولم يجد أمامه سوى صاحبنا الذي وجد نفسه مضطرًا لمبادلته الحديث..
قال الشاب متضجرًا: يطلب مني إقراضه مجددًا! لا أدري لمَ تزوجتُ واستقليتُ إن كان بعض الفاشلين سيتعلقون بنجاحي لمجرد أنني ولدتُ كأخٍ لهم! لستُ ممن يبدد أمواله على التفاهات..!
هزّ صاحبنا رأسه مُظهرًا تفهّمه، بينما تضايق في داخله من خطأ تخمينه، فلم يكن محدثه الشاب طالبًا جامعيًا كما اعتقد، ولا يبدو أنه في زيارةٍ عائليةٍ كذلك!
ولم يدم فضوله طويلًا إذ تابع الشاب مغيرًا دفة الحديث: هل أنت هنا من أجل المباراة أيضًا؟
أجاب صاحبنا متفاجئًا: عفوًا؟
انفرجت أساسير الشاب عن ابتسامةٍ توحي بمدى استمتاعه بهذا الموضوع وأكمل قائلاً: المباراة النهائية الليلة كما تعلم! آهٍ لو تعلم كم تعبتُ حتى تمكنتُ من الحصول على تذكرة المباراة..
وبدت نواجذه مع اتساع ابتسامته وهو يتابع: دفعتُ مبلغًا محترمًا لأحصل على مقعدٍ مميزٍ في المنصة، ولكن الأمر يستحق.. أعدُّها صفقةً رابحة! لا أستطيع الانتظار حتى تبدأ المباراة! أيَّ فريقٍ تشجع؟
- لستُ هنا من أجل المباراة للأسف.. قد تعدُّني ممن ينفقون أموالهم على التفاهات ولكنني ابتعتُ تذكرة القطار من أجل تجربة أمرٍ جديدٍ فقط، وربما الحصول على فكرة مناسبة لقصةٍ جديدة..
- هل تكتب؟
- نوعًا ما..
بدت ابتسامة اهتمامٍ واستخفافٍ في آنٍ واحدٍ على وجه الشاب، ثم سأل: وهل وجدتَ فكرةً مناسبة؟
التفت إلى النافذة متأملاً الانعكاس الكئيب لوجهه على زجاجها ولمح شبح ابتسامةٍ لم يكن يدرك أنها تتراقص على شفتيه وأجاب: أعتقد ذلك!
~ تمت ~
http://i.imgur.com/mT8p0Fp.gif