المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حكاية اللوح والطبشور والتابوت! بقلمي: عمر قزيحة



أ. عمر
9-11-2017, 07:50 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هذه حكاية مطولة بعض الشيء نتناول بها قليلًا من أحداث الطفولة في المدرسة
لنتوسع في التفاصيل مع ما حصل لنا خلال التعليم مما لا نتخيل من الأحداث

تابعوا معنا
البداية غدًا بإذن الله تعالى

ملحوظة:
كل الشكر والامتنان لمن يتابعني ويشرفني بِرُدوده
فهذا يغني الموضوع، ويعني لي أن ما أكتبه يثير الاهتمام
وبما أن خاصية وضع الفهرس موجودة فلا خوف من ضياع الحلقات
ما بين الردود والمشاركات
بارك الله بكم ولكم

(http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&p=3563280&viewfull=1#post3563280)أنا أستاذ! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&p=3563280&viewfull=1#post3563280)
لذلك أنا أستاذ! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&p=3563337&viewfull=1#post3563337)
نصف قلم وخشبة الرعب! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&p=3563398&viewfull=1#post3563398)
الهدف الدموي! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&p=3563441&viewfull=1#post3563441)
أفكار عبقرية! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&p=3563523&viewfull=1#post3563523)
إنه مسكين! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&p=3563701&viewfull=1#post3563701)
وليد... من جديد! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&p=3564027&viewfull=1#post3564027)
تصرفات مقلوبة! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&p=3564167&viewfull=1#post3564167)
اشعروا بالدهشة! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&p=3564426&viewfull=1#post3564426)
تعالوا نصرخ! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&p=3564852&viewfull=1#post3564852)
أشباح وذُرَة وصاروخ وصراخ! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&p=3565219&viewfull=1#post3565219)
فتاة مثل البيتزا! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&page=2&p=3565265&viewfull=1#post3565265)
احملها واحضنها... بل واركلها! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&page=2&p=3565476&viewfull=1#post3565476)
لحظات التكسير والدم! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&page=2&p=3565953&viewfull=1#post3565953)
ازدواجية المعايير! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&page=2&p=3567894&viewfull=1#post3567894)
لمحة جنون! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&page=2&p=3569477&viewfull=1#post3569477)
العلامة الفأرية! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&page=2&p=3570331&viewfull=1#post3570331)
الحوار الدامي! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&page=2&p=3570407&viewfull=1#post3570407)
المفاجأة الرقابية! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190307&page=2&p=3571726&viewfull=1#post3571726)

أ. عمر
10-11-2017, 10:15 PM
أنا أستاذ!

أنا أستاذ!
هذا ليس بمجرد تعريف
فأنا _ بالفعل _ أستاذ
لا أعلم السبب في ذلك
ولكن، هذه الكلمة باتت صفة لي بفضل الله
حتى لدى من لا يعرفني
صاحب المطعم في منطقتنا حينما أتصل به طالبًا وجبة طعام
يناديني بال(أستاذ)
وأسمع صوته عبر الهاتف يقول للعمال لديه إنه يريد وجبة طعام كذا وكذا للـ(أستاذ)
وإذ يأتي الديلفري إلى منزلي يسلمني كيس الطعام
أرى أن الكيس قد كُتِب عليه كلمة (الأستاذ عمر)
وحتى حينما أمر بسيارتي على أي حاجز يقول لي رجل الأمن (تفضل يا أستاذ)
مرة _ من فترة قريبة _ مررت بحاجز فجائي في طريق ليس فيها حواجز
وأول مرة، منذ سنين، يشير إليَّ رجل الأمن بصرامة لأقف جانب الطريق
وقد كان ذلك
ولكني فوجئتُ _ حقيقة لم أفهم سببها _ برجل أمن آخر يأتي نحوي مسرعًا
حتى ظننتُ أنني مطلوب للقوى الأمنية من دون أن أعلم!
ولكنني لم أتخيل أنه سيعتذر مني لأنهم أوقفوني!
(هل طلبوا إليك أن تقف هنا يا أستاذ؟ تفضل، لا تؤاخذنا)!!

أما في مجال عملي فقد كنتُ مميزًا
أشكر الله تعالى لذلك
بلغتُ مكانة كبرى، ولكن...
لا يعني هذا الهناء والرخاء
فلقد عانيتُ كثيرًا بدايةَ مشواري في التدريس
وحتى بعد أن بلغتُ ما بلغتُه حاليًا
وجدتُ أن مقولة السيد المسيح عليه السلام (لا كرامة لنبي في وطنه)
تصلح لكل زمان ومكان!

أما العنوان فهو يدل على المضمون
ولا تستغربوا كلمة (التابوت)!
فلقد مررتُ بمرحلة في التدريس
كنتُ أتوقع فيها وأنتظرُ طعنة خنجر أو رصاصة تأتيني
لتنهي حياتي
خاصة حينما تم تهديدي مرة بالقتل
آنذاك أتى جمع غاضب إلى المدرسة
وأسلحتهم جاهزة
كانوا يريدون قتلي!

ولكن
لن أفسد الحكاية الآن

سأبتدئ بها من بدايتها
متوقفًا عند محطات سريعة لنا حينما كنا طلابًا
ثم ندخل عمق التفاصيل في مرحلة التدريس إن شاء الله تعالى

تابعوا معنا
فحكايتنا طويلة وحلقاتها كثيرة
إن شاء الله

مع تحياتي
الأستاذ عمر_ القلمون/لبنان_ 10-11-2017
الساعة: 10:15 ليلًا

أ. عمر
12-11-2017, 02:08 AM
لذلك أنا أستاذ!

أنا أستاذ!
هذا ليس بمجرد تعريف
فأنا _ بالفعل _ أستاذ
ولكن!
لماذا اخترتُ هذه المهنة الصعبة؟!

يرجع السبب إلى عالم الطفولة
حينما كنتُ أنظر إلى الأستاذ بنظرة انبهار!

هذا الرجل _ أو تلك السيدة _ يعطينا الدرس حينما يريد
يعطينا الفروض المنزلية كما يشاء
يحدد لنا أوقات المسابقات والامتحانات
يصححها
يمنحنا العلامات أو يمنعنا
يا له من رجل _ أو امرأة _ من عالم الخيال والأساطير!!

ثم نضجت الأمنية أكثر وتبلورت
مع أساتذة خانوا ضميرهم وواجبهم المهني
وحوَّلوا حصصهم إلى مغامراتهم الخيالية وقصصهم الشخصية
التي لا يصدقها صانعو أفلام الكرتون عن العمالقة الخارقين أمثال جونكر ومازنجر وغرندايزر

وهل من أطرف وأسخف من أستاذ يذهب إلى الصيد مع ابنه
ينطلقان بسيارتهما في الجبال حيث كل صخرة في حجم الصف
وفجأة تمرق من بين أقدامهما حمامة فيتناول الأستاذ البندقية
وطاع طاع طاع
(وطلعنا ناسيين البندقية بالبيت)!

كيف أمسكت بالبندقية ومن أين؟
وكيف أطلقت النار؟
بل وسمعتَ صوت الدوي ثلاث مرات!
ثم إن البندقية كانت في البيت وقد نسيتَها هناك!

قررتُ أن أكون أستاذًا يومًا ما
أعطي من قلبي بواجبي المهني وبضميري تجاه التلاميذ

وتبلورت الأمنية وتألق محتواها
مع أستاذ لغة عربية درَّسنا في صف التاسع
وما زلتُ كلما رأيته، بعد مرور حوالي 23 سنة على تدريسه إيانا
أسارع نحوه لألقي عليه التحية بكل الود والاحترام

سأكون مثل هذا الأستاذ
أسلوبه يتوافق مع عقلي تمامًا
وإخلاصه في العمل لم نَرَ له مثيلًا من قبل

وهكذا كان الأمر
لقد اتجهتُ إلى التدريس

لأفاجأ بأن هذه العملية قد انقلبت رأسًا على عقب
وتحول التدريس إلى ما يشبه صراع إثبات الوجود بين الأساتذة والطلاب
وتعاملتُ مع عينات من الأهالي أكاد أَشُكُّ أنها تنتمي إلى عالم الإنسان والإنسانية

سأحكي لكم
وستطول حكايتي

لكني، وأخبرتكم قبل الآن، سأبتدئ من عالم الطفولة والمدرسة
لأقدِّم أطرف ما مررتُ به أيامها من المواقف والحكايات
ولن أطيلها عليكم
بل سيكون القسم الأكبر مخصصًا ليوميات التدريس


تابعوا معنا الحلقة الأولى
قريبًا إن شاء الله تعالى.

تروكي
12-11-2017, 07:42 AM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

موضوع جميل عن أشرف المهن وأجملها ^__^

وكما قال الشاعر أحمد شوقي :

قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا ** كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولاأعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي ** يبني وينشئُ أنفـسًا وعقولا
لك فائق احترامي وتقديري :)

Jomoon
12-11-2017, 08:28 AM
وعليكمـ السلامـ ورحمة الله وبركاته~

قهر والله لا أدري أين الخلل؟!،
هل في الطلاب أم في المعلمين؟!،
صراحة أن تكون أستاذاً هذا رائع ما شاء الله
هذا يعني مسئولية عظيمة تلقى على ظهرك ليست بالهينة أبداً
كنت يوماً ما أحب مهنة التدريس حتى كرهني بها المدرسات
ولا حول ولا قوة إلا بالله
كأن شيئاً يعود من ذاك الحب
أخشى على نهاية حلقاتك أن أعود لحبيxD,
>> مستتتتحيل بالطبع لأني تغيرت بالفعل،
الآن الطلاب والطالبات حدث ولا حرج
تغيرت المفاهيم
أني اتخيل فقط نفسي وأنا واقفة أمامهم
لآاء لاء لا أريد
استغفراللهxD,
باركك ربي
طريقة سردك رائعة ما شاء الله
أحسنت
متابعة بإذن الله
في حفظ المولى،،
~

أ. عمر
12-11-2017, 02:51 PM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

موضوع جميل عن أشرف المهن وأجملها ^__^

وكما قال الشاعر أحمد شوقي :

قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا ** كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا

أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي ** يبني وينشئُ أنفـسًا وعقولا


لك فائق احترامي وتقديري :)

نسأله تعالى الثبات على الإخلاص في مهنة التدريس
تحولت هذه المهنة لدينا إلى عمل شاق بسبب منهجية حديثة أدخلوها في التدريس من حوالي 18 سنة
حتى كادت هذه المهنة تفقد رونقها وتخسر مسؤوليتها للأسف
جزاك الله كل الخير أخي الكريم لهذه الكلمات الراقية
وإلى حضرتك كل الاحترام والتقدير
بارك الله بك ولك

أ. عمر
12-11-2017, 02:57 PM
وعليكمـ السلامـ ورحمة الله وبركاته~

قهر والله لا أدري أين الخلل؟!،
هل في الطلاب أم في المعلمين؟!،
صراحة أن تكون أستاذاً هذا رائع ما شاء الله
هذا يعني مسئولية عظيمة تلقى على ظهرك ليست بالهينة أبداً
كنت يوماً ما أحب مهنة التدريس حتى كرهني بها المدرسات
ولا حول ولا قوة إلا بالله
كأن شيئاً يعود من ذاك الحب
أخشى على نهاية حلقاتك أن أعود لحبيxD,
>> مستتتتحيل بالطبع لأني تغيرت بالفعل،
الآن الطلاب والطالبات حدث ولا حرج
تغيرت المفاهيم
أني اتخيل فقط نفسي وأنا واقفة أمامهم
لآاء لاء لا أريد
استغفراللهxD,
باركك ربي
طريقة سردك رائعة ما شاء الله
أحسنت
متابعة بإذن الله
في حفظ المولى،،
~


الخلل يشمل كل الاتجاهات، من طلاب ومعلمين
ولكن الخلل الأكبر كان في منهجية (حديثة) تحولنا إليها لتصبح المدرسة الرسمية في أسوأ حالاتها
وإن لم يكن المدرِّسون والمدرِّسات على قدر مسؤوليتهم فقد يتسببون في كراهية الطلاب المادة والتدريس، وربما المدرسة بأكملها
أتمنى أن تعيد إليكِ القصة حبَّ التدريس، مع أنها حملت بعض المواقف المرعبة إلى جانب ما فيها من الطرافة
والمفاهيم تغيرت بتغير الأجيال وبتغير النظرة إلى المدرسة وإلى التدريس، ونسأله تعالى صلاح الأحوال
شكرًا لكلامكِ الطيب أختي الفاضلة وبارك الله بكِ ولكِ

أ. عمر
13-11-2017, 10:52 PM
نصف قلم... وخشبة الرعب

أنا أستاذ مدرسة، ولا شكَّ!
أنا أستاذ مدرسة، ولا فخر!

حكايتي لا تبدأ من التدريس
فلم أولد مدرِّسًا طبعًا!

بل مررت بمراحل تعليم مختلفة بما فيها من الحلو والمر
وأولى المواقف التي أذكرها كانت في الصف الابتدائي الأول

موقف نادر ما زلتُ أحمل لصاحبه كل التقدير إلى الآن
آنذاك كان عمرنا ست سنوات وبضعة شهور

ومعلمة اللغة العربية تكتب لنا على اللوح وتشرح كل ما تكتبه
(بارك الله بها، وللأسف لا أذكر اسمها)

وبعد الشرح طلبت إلينا المعلمة أن نضع أمامنا أقلامنا الرصاص لنكتب بها
أما أقلام الحبر فهذه كانت محظورة علينا لأي سبب كان، ولا نعلم لماذا
ولكننا نعلم أننا؛ إن رأينا؛ مع أحدنا قلم حبر نعتبره محظوظًا في غاية الحظ!

لم أعرف ما أفعل، ليس معي قلم رصاص
ولن أكتب ما كتبته المعلمة
وقد تضربني لهذا السبب!

قررت إخبار المعلمة، فلم يخطر لي أن أسأل هل هناك أحد يملك قلمين
لآخذ منه أحدهما وأكتب به، ثم أردُّه إليه فيما بعد

وفوجئت بالمعلمة تصرخ في أذني:
_ لماذا لا تكتب؟ لمن أشرح أنا؟

تعمق في نفسي الشعور بأنها ستضربني
فأجبتُ بخوف شديد إنني لم أجد قلم الرصاص معي
قلتها متوقعًا أنها ستطلب مني أن أنتظرها قرب الحائط لتأتي
بالعصا المخيفة وتضربني لأنه ليس معي قلم رصاص لأكتب به

وهنا حصلت المفاجأة غير المحسوبة
رفيقي الذي يجلس بجانبي على المقعد
كسر قلمه الرصاص نصفين، وأعطاني النصف الأعلى لأكتب به
هامسًا لي:
_ اكتب الآن، كي لا تضربك المعلمة!

ولماذا تهمس يا صديقي؟
فهمنا أنك تظن أن المعلمة لن تسمعك، لكن هل ترى أنها عمياء مثلًا؟!

هذا التساؤل جال بخاطري لاحقًا
أما في وقتها فأسرعتُ أتناول القلم وأبدأ بالكتابة بنشاط

ورفيقي يسأل المعلمة ببراءة الأطفال:
_ هل أستطيع أن أبري قلمي جيدًا؟ الرصاصة غير واضحة لأكتب بها!

وأجابت المعلمة بصوت مختنق لا يكاد يُسمع بالموافقة
كان تأثرها عميقًا لهذا التصرف الشهم من طفل بهذا السن
رغم أن الطفل يكون شديد التعلق بأغراضه، وربما يقوم بإعارتها بمزاجه الشخصي لكن لا أظن أن كثيرًا من الأطفال يكسرون أقلامهم لأجل زملائهم!

ورغم مرور سنوات طوال في مجرى الزمان بنا
وأننا نقترب بخطى حثيثة من الأربعين من عمرنا
إلا أنني ما زلتُ أحمل لصديقي هذا الامتنان لشهامته وكرم أخلاقه
رغم أنني لا أراه إلا نادرًا وبالمصادفات فحسب.

ولكن، ليست كل المواقف تنتهي نهاية مثالية
أستاذة اللغة العربية، في صف الابتدائي الثاني
كان لديها عادة أنها لا تسمح لتلميذ بالاقتراب منها

لذا، إن أرادت هذه المعلمة أن تضرب تلميذًا
تبتعد بقدر المستطاع عنه، وتحمل خشبة في يدها لتمد جسمها
إلى الأمام وتهوي بها على يده

فتأتي الضربة قوية رنانة تنتزع من الطفل صرخة ألم هائلة
(هذه المعلمة هي عمتي بالمناسبة، لا تخبروا أحدًا) :)

وأنا كنتُ رائعًا باللغة العربية
تميزت بها من صغري، ربما سيرًا مني على خطى والدي
والذي يُعتَبر المرجع الأول والأعلى في اللغة العربية في منطقتنا

ويومًا ما عدتُ إلى المدرسة بعد غياب طويل بسبب المرض
لأفاجأ بأن عمتي تطلب منا أن نضع أمامنا أوراقًا بيضاء لإجراء المسابقة
فاعترضتُ هاتفًا: (عمـ... ست "..."، أنا كنتُ غائبًا)!

كنت أبتدئ دومًا بمناداتها بعمتي ثم أقطع الكلمة لأناديها ست فلانة
كما كانت تطلب، أسوة مني برفاقي، ولا أعلم لماذا!

كانت تقول لي (يا عمتي، أنا لست عمتك في الصف، بل عمتك في البيت، فهمت عليَّ يا عمتي)!
هل فهم أحدكم؛ الآن؛ هذه المعادلة، حتى أفهمها أنا وقتئذٍ!

المهم أن عمتي التي ليست عمتي في الصف بل عمتي في البيت
ومع ذلك تُصِرُّ على أنها عمتي في الصف
لم ترض باعتراضاتي وأنني كنت غائبًا بل ردَّت بأنني تلميذ رائع لا يمكن الخوف
عليه نهائيًا

ولكني لم أستطع السكوت رغم هذا المديح
فالمسابقة من أربع أسئلة، منها سؤالان لم أسمع بهما
وأوضحتُ لها ذلك، فقالت إنها لن تحتسبهما لي في التصحيح
وستمنح العلامة الكاملة للسؤالين اللذين لم أتغيب عن شرحهما

كتبت بحماسة شديدة لنيل العلامة الأعلى كعادتي آنذاك
وبعد أيام، حان وقت توزيع المسابقات

لتطلب المعلمة/عمتي من عدد من التلاميذ الوقوف بجانب الحائط
وانتظارها كي تعلمهم أن يدرسوا في البيت بدلًا من إضاعة الوقت في اللعب

ولنذكر أسماء وهمية ونقل:
_ أحمد، أمين، أيمن، أمجد...
وأنهت المعلمة ذكر أسماء التعساء بذكر اسمي أنا!

أخذتُ بالاعتراض لأذكرها بأني كنتُ غائبًا قبل المسابقة
مع أني أثق بأنني أجبتُ إجابات صحيحة عن السؤالين

ولكن، لم أستطع تذكيرها بذلك!
كل ما تفوهت بكلمة تصرخ بي أن أسكت!

ولما ضاق الأمر بها صرخت غاضبة:
_ لكل واحد من رفاقك ضربتين فحسب، مثل العادة، أما أنت، فسينالك مني
أربع ضربات لأنك لم تسكت حينما طلبتُ ذلك!

ويا للمصيبة الكبرى!
كانت ضربتها ترن على الأيادي والصراخ المرير يرتفع مع الضربة الأولى
ليترافق الصراخ مع البكاء بالضربة الثانية!

وهؤلاء، أعني رفاقي كلهم، أقوى مني جسديًا
كان جسدي ضعيفًا هزيلًا
إن لم يحتملوا ضربتين فكيف أحتمل أنا أربع ضربات!!

تمتمتُ مرتجفًا من الخوف:
_ لن أعيدها، ولن...
صاحت بي عمتي، بل المعلمة الجزارة:
_ هل ستواصل الكلام لأرفع عدد الضربات إلى ست؟!

سكتت نهائيًا هنا، ولا أدري كيف تحملت الضربات اللعينة
من دون صراخ أو بكاء!

ولكن الألم كان فظيعًا والإحساس بالظلم كان شنيعًا
فصرخت بها بعد انتهائها من عملية التعذيب:
_ سَتَرَين! سأشكوكِ إلى أبي كي يَشُدَّ لكِ أذنكِ!

لا أعرف كيف تلفظتُ بهذه الكلمات، وهي وخشبتها التعيسة ما تزالان أمامي!
ولكن لم يخطر في بالي أنها ستستخدمها مرة أخرى!

وأعتقد بأن كلماتي نزلت فوق رأسها مثل صواعق النيران
فلقد هتفت بوجه محتقن، وصوت متقطع من الغضب:
_ نعم نعم؟! ما الذي تُخَرِّف به؟!

لم أستطع إجابتها، لم تمنحني وقتًا لذلك
بل تابعت، وهي تكاد تغلي في أرضها:
_ ولعلمك، أنا أحب من يَشُدُّ لي أذنين لا واحدة، وقد أعطيتُكَ
ثمن شد الأذن الأولى، أربع ضربات، تفضل لتنال ثمن شد الأذن الثانية،
أربع ضربات ثانية!

صرختُ مرعوبًا:
_ لا أريد!
لِتَرُدَّ هي بسخرية:
_ وهل تظن أن الأمر وفق ذوقك؟!

حاولتُ (إفهامها) بأنه يكفيني ويأخذ بحقي أن يَشُدَّ لها أبي أذنًا واحدة
ولا داعي لِشَدِّ الأذنين سويًا!
ومرة أخرى لم تمنحني الفرصة لإتمام ما أريد قوله
فأمسكت بيدي لتفتحها رغمًا عني، وتهوي عليها بضربتين ناريتين

وتشير إليَّ أن أفتح لها يدي الثانية لتهوي عليها؛ كذلك؛ بضربتين!
ومع ذلك لم أبكِ، وإن صرختُ من الألم مع هذا الضرب
الذي لا أتوقع أن أحدًا يستطيع أن يتحمله

ثم نزلت دموعي بعد ذلك رغمًا عني
وأنا أنظر إلى يديَّ المسكينتين متحسِّرًا لما أصابهما
إذ إن المعلمة التي تحب من يَشُدُّ لها أذنيها الاثنتين معًا
كانت قد صححت لي السؤالين، ووضعت بجوارهما العلامة 8.5
وفي آخر المسابقة، أي على الصفحة التالية، وضعت ملحوظة
بأنني كنتُ غائبًا عن السؤالين الأخيرين

وبالتالي العلامة 8.5/10 أي 17/20
وحينما وزَّعت حضرتها المسابقات قرأت أن العلامة 8.5
ولم تذكر ملحوظتها الرائعة هذه أو حتى تفكر أن تقلب الصفحة
لتعلم لم انخفض مستوى أفضل تلميذ في الشعبتين إلى هذا الحد!

غير أن شراسة عمتي في الضرب لم تكن شيئًا يُذكر
إزاء معلمة لغة فرنسية درَّستنا الصف الابتدائي الثالث
وحكيتُ لكم عن طباعها في حكايتي مع اللغة الفرنسية

كانت تكتب على اللوح، وتمنعنا من الكتابة معها حتى تُنهي ما كتَبَتْه
ثم تتابع ما نكتب، ومن يخطئ؛ ولو في كلمة واحدة؛ تتركه ينتظرها قرب الحائط
وحين تنتهي الحصة ويرن الجرس تركض لتضرب بالتلاميذ يمينًا ويسارًا
صارخة بهم إنها مستعجلة!

مرة واحدة أوقَفَتْني مع المخطئين
شعرتُ بالقلق لما ينتظرني حين يرن الجرس
وبأسرع مما توقعت
ارتفع الرنين المرعب... رنين الجرس
وحملت المعلمة العصا المخيفة واتجهت نحونا...
مسرعة كعادتها!


تابعوا معنا

أ. عمر
15-11-2017, 10:46 PM
الهدف الدموي!

كان رنين الجرس؛ فيما مضى؛ بشرى سعيدة لنا
خاصة في حصة اللغة الفرنسية

أما الآن، فكان نذير رعب قادم
وبالفعل تتناول المعلمة العصا الرهيبة وتجري نحونا
وتتخطانا!

خرجت المعلمة من الصف، من دون أن تضرب المخطئين هذه المرة!
لم يحزننا هذا بالتأكيد!

وإن كانت نجاتنا هذه المرة بمصادفة لم نفهمها
فإنني اعتمدت الذكاء والدهاء لأنجو في مرة لاحقة ومن ضرب قاسٍ
كان سينالني منه الكثير حتمًا

ولكن ليس من حصة المعلمة المذكورة
بل من حصة أستاذ مادة الرياضيات

ويا لها من رياضيات غير طبيعية!
كلها جدول الضرب من أول السنة إلى آخرها

اليوم الأول يخبرنا الأستاذ أننا مسؤولون عن جدول الضرب بأكمله
واليوم التالي، وإلى آخر السنة، كل يوم نقوم إلى اللوح لنكتب

فلان جدول رقم 1 وفلان جدول رقم 7 وفلان جدول رقم 9
وفلان...

ومن يجد أمامه جدولًا صعبًا مثل ال 7 وما فوق يحسد من كانت حصته
أن يكتب الجدول رقم 1 أو 2 مثلًا

ومرة، نادانا الأستاذ
رفيقي الذي يجلس بجواري عليه أن يكتب الرقم 1
وأنا... يجب أن أكتب الرقم 8!!

يخرب بيتك وبيت بيتك إن شاء الله!!
الرقم ثمانية؟ وما أدراني بحاصل ضرب 8 ب 9؟!
ومن المؤكد أنني سأرتكب أخطاء أخرى كذلك

ظللتُ جالسًا مكاني فصاح الأستاذ بصوت مدوٍّ كالرعد (لماذا لم تقم إلى اللوح بعد)؟
خرج ذهني بفكرة عبقرية نادرة هنا، فهتفت به (لأنني أبحث عن القلم)!
ردَّد الأستاذ بغباء: (القلم؟ أي قلم)؟!
أجبتُه متحمسًا: (القلم الأزرق بالتأكيد)؟!
صاح الأستاذ، وهو لا يكاد يفهم شيئًا: (ولماذا التأكيد؟ وماذا ستفعل بالقلم الأزرق)؟!
تحركتُ من مقعدي بسرعة حاملًا قلمي مسرعًا به لأغرسه في منتصف اللوح
مدعيًا أنني أحاول الكتابة به، بدلًا من الطبشور، وأنا أهتف بسعادة مفتعلة: (لأكتب لك جدول الرقم ثمانية! تكرم عينك)!

جمد الأستاذ لحظات من المفاجأة غير المتوقعة
ثم انفجر كالمفرقعات النارية يصرخ ويسب ويشتم ويلعن
وأخيرًا تمكن الأستاذ من تمالك نفسه، ليصيح هادرًا: (اغرب عن وجهي، أسرع)!

ما شاء الله!
وهل هناك نتيجة أروع من هذه النتيجة؟!
عدتُ إلى مقعدي، كاتمًا ضحكاتي بصعوبة شديدة

كانت تلك أول سنة نحضر فيها معنا قلم حبر أو حتى نمتلكه شخصيًا
لكننا لم نكن نستعمله بعد في الكتابة على دفاترنا

ولعل هذا ما جعل الأستاذ يشعر بالصاعقة تهوي فوق رأسه مع تصرفي (الأحمق)
كما بدا له، و(الذكي العبقري) كما بدا لي!

والحكم لكم، المهم النتيجة، هل تعرضتُ للضرب لأني لا أعرف كيف أكتب هذا الجدول التعيس؟!
إذًا، خطتي العبقرية ناجحة!

ولنترك الصف قليلًا قبل أن نرجع إليكم بحكاية رعب دسمة
فخارج الصف، وفي حصص الرياضة، يُطِلُّ الرعب من بين أنياب السعادة
وهل يقتصر الرعب على الصفوف والمواد الدراسية فحسب؟!

في طفولتي كان جسدي ضعيفًا
وكنت قصير القامة بشكل واضح

وكل ألعاب الرياضة كرة سلة أو كرة طائرة
وفي الحالتين لا مكان لي

ويومًا ما
قرر الأستاذ أن نلعب كرة قدم

عفوًا
أقصد قرر أن يلعب رفاقي كرة قدم

وظللتُ واقفًا أتفرج عليهم بحسرة
لأنني أهوى هذه اللعبة وأحب أن أحترفها
(هكذا كنت أفكر تلك الأيام)

فجأة قرر الأستاذ أن أدخل للمشاركة في اللعب
كان ذلك في آخر دقيقة ومع الفريق الخاسر
وكان لا بد من أن أبرز نفسي وموهبتي

وهكذا انقضضت بسرعة خيالية فائقة على مهاجم الفريق الآخر
وهو يفوقني حجمًا وقوة ولكني انتزعت منه الكرة وهجمت بمفردي
متخطيًا ثلاثة أو أربعة من لاعبي الفريق الآخر
ثم كانت التسديدة

وبانفعال شديد أخذت أهتف: (كووووول، كووووووووول)!
لم أقصد هذا صدقًا!
ولكني توقعت أنني سأسجل بعد هذا (الإبداع) الخرافي مني!

أما (التخريف) في ما حصل آنذاك
فهو أن الكرة لم تلمس، بل لم تقترب من المرمى!

وبكل بساطة، كان المدير خارجًا من غرفته وراكضًا نحونا بحماسة
ليقول للأستاذ شيئًا ما

وما كاد يفتح فمه حتى هوت على أسنانه كرة كالصاعقة
جعلته يبصق الدم من بين أسنانه المسكينة!

وبكل ما أحس به المدير من الألم رآني أصرخ سعيدًا بالهدف!
وانقضَّ المدير عليَّ صارخًا بجنون: (كووول؟! آه؟! كووووول)؟!
أدهشني هذا التصرف منه، ألم يفهم أنني (ظننتُ) الكرة قد دخلت و(اعتقدتُ)
أنني سجلتُ هدفًا؟
أجبته بحماسة: (لا، ليس كوووول)!!

ولا أعلم لماذا جنَّ الرجل هنا نهائيًا!
هل كان يريدني أن أقول له (نعم، كوووول)؟!
وهل أنا قليل تهذيب حتى أعتبر كرتي في أسنانه هدفًا؟!

وانقض المدير عليَّ كالوحش الشرس
وإحم إحم!!

حينما رأيتُ بعد سنوات كيف يقطع الجزار اللحم ويشكله كيفما يريد
ظننت أن المدير يراني قطعًا من اللحم وهو يركل ويلكم يمينًا ويسارًا

وترافق ذلك كله مع شد الأذنين مرات لا حصر لها
ولا داعي لأن نذكر لكم ما انطلق من فم المدير من السباب، فهذا أمر بديهي!

وما كاد المدير ينصرف حتى أقبل نحوي أستاذ الرياضة
قائلًا بلهجة فيها من العتاب والشفقة:
(لماذا فعلتَ ذلك؟ هيا، "بوس" التوبة الحلوة، و)...

قاطعته صارخًا في وجهه متهكمًا من فرط الألم والعصبية: (لماذا؟ ما هي التوبة "الحلوة" هذه؟ هل تظن التوبة "بنتًا حلوة" وتريدنا أن نبوسها)؟!

لم تكن هذه قلة تربية مني لا سمح الله
ولكني لم أحتمل كلامه، وهو لم يتدخل حتى انتهى المدير من الضرب والسباب

ولكن، ما هذا؟!
يا ماما!!

احتقن وجه الأستاذ ورفع عصاه المخيفة التي يقتطعها من شجر الرمان
وأسرعت أجري هنا من دون مناقشة أحد

وألقى الأستاذ بالعصا نحو رأسي بكل قوته
كانت هذه عادته مع من يغضب عليه!

أما من يرضى عنهم فكلهم (بابا) و(ما في منهم اثنين)!

لم تصبني هذه التصويبة الغبية منه
لا لبراعتي في الهرب
بل لأني تعثرت ووقعت أرضًا بعنف

كانت ساقي تؤلمني فقد نالها من ركلات المدير ما نالها
ولم أعد أستطيع الركض

ولكن القصة لم تتوقف هنا
لقد انقض الأستاذ عليَّ ليساعدني على الوقوف
ثم... إحم إحم!
ماذا قرأتم في الأعلى؟
ها هو يتكرر الآن!

وقبل أن أرجع بكم إلى الصف
أرجو مجددًا ألا يلومني أحد على تلك الإجابة
كنت وقتها ما أزال طفلًا!

وإلى الصف مرة أخرى
وإلى معلمة (رائعة) بقراراتها العبقرية
كانت توزع لنا المسابقات وربما... نقول ربما يخطر لها بعد عشرة أيام
أن تسألنا عنها لترى هل وقعها لنا أهلنا أم لا!

ومن لا يكون معه مسابقته تمهله حتى اليوم الثاني أو الثالث
وفي إحدى المرات نادت المعلمة تطلب رؤية المسابقات

رفعت يدي لأخبرها بأنني نسيت المسابقة فقالت لي أن أحضرها غدًا
رفع رفيقي يده _وسنطلق عليه اسم عامر مجازًا _ وكان حالته مثل حالتي
وكذلك طلبت المعلمة إحضار المسابقة غدًا

وبعد أن استلمت المعلمة المسابقات أخذت تنظر إلينا ثم إلى الأوراق
قبل أن تسأل بعصبية (من لم يسلمني المسابقة؟ عمر وعامر نسياها، لكن هناك مسابقة ناقصة)!

لم يرد أحد رغم أن المعلمة كررت سؤالها أكثر من مرة
ففردت المعلمة مسابقاتنا أمامها وأخذت تقارن بينها وبين الجلوس

ثم هتفت بغضب: (محمد، أين مسابقتك)؟
رد محمد: (لقد، لقد، لقد نسيتها)!
هتفت المعلمة بغضب أشد: (ولماذا لم تخبرني حينما سألتكم)؟!
رد محمد بحركة مسرحية: (لقد، لقد، لقد نسيت)!

ومع ارتفاع أصوات الضحك فقدت المعلمة أعصابها
فهتفت بمحمد أن يخرج من الصف، و... و...
ويأخذ معه عمر وعامرًا!

حاولنا الاعتراض ولكنها صَمَّتْ أذنيها عن سماع حرف مما نقول
فخرجنا، ونظرنا غاضبين إلى محمد، لكنه هَزَّ بكتفه قائلًا بلامبالاة إنه سيخبر الناظر
بكل ما حصل فعلًا ويتحمل المسؤولية وحده.

لم نصدقه بادئ الأمر
ولكنه كان عند كلامه
واعترف للناظر بأنه المخطئ، ليصرخ الناظر في وجهه (انقلع إلى بيتكم بسرعة)!

عاد محمد إلى الصف ليحضر كتبه، وهو سعيد بهذه العقوبة!
ونظر الناظر إلينا متسائلًا (ماذا أفعل بكما)؟!

أجبناه بصوت واحد (وما شأننا نحن؟ لقد اعترف هو بأنه مخطئ، لأن...)
قاطعنا الناظر بملل: (أعرف أعرف، لم أصَب بالصمم بعد، لكن ربما لا تسمح لكما المعلمة بالدخول، أو بلى، من المؤكد أن أعصابها قد هدأت، اذهبا إلى الصف، وإن رفضت استقبالكما فأخبراني لأصعد معكما وأكلمها)

لم نصدق أن هذا الناظر (الوحش) كان حنونًا
فأخذنا نشكر عطفه وعدله وروعته و... وعدنا إلى صفنا بسعادة
ولكن...
سمعنا من خلفنا صوت أقدام تكاد تحطم الدرج!

نظرنا مرعوبين لنرى الناظر ينقض علينا ملوحًا بِيَده في تهديد تام
وهو يصرخ كأنه طرزان في الغابات (مع أننا لم نكن قد سمعنا بهذا الأخير بعد)!

ماذا نفعل يا ربي؟!
الناظر يكاد يصل إلينا، وها هو يَضُمُّ قبضته صارخًا كالوحش
والزبد يتساقط من بين شدقيه!


تابعوا معنا

أ. عمر
18-11-2017, 09:07 PM
أفكار عبقرية


يا للهول!
الناظر ينطلق نحونا مثل الدبابة، ويصرخ في توحش، واللعاب يتطاير من فمه!
صرخ بي رفيقي مرعوبًا (ماذا نفعل)؟
طلبتُ إليه، من دون خوف، أن يجري للفرار بحياته
وكيف أخاف، والرعب يسيطر على كياني كله؟!

أخذنا نجري في الممر بين الصفوف بأقصى ما تستطيعه أقدامنا الضعيفة
ولكن الناظر كان سريعًا جدًا، ومن دون أن أتوقع أنه قد وصل إلينا سمعتُ ذلك الصوت الرهيب
لقد أهوى الناظر بقبضة يده على رقبة رفيقي، بضربة غير منطقية، ليسقط الأخير أرضًا صارخًا بألم هائل
ويتابع رحلة الفرار زحفًا
ووصل المتوحش إليَّ... ها هو يرفع يده ويَهُمُّ بضربي
وها أنذا أثبِّتُ قدميَّ في الأرض، قبل أن أثب بعيدًا، سعيدًا بنجاتي
ولكن السعادة لم تكتمل على الإطلاق

بكل بساطة حوَّل الناظر هدفه من رقبتي لتهوي في منتصف ظهري، وأنا في الهواء!
سقطت على الأرض صارخًا بألم هادر، وجسمي يزحف رغمًا عني من قوة الضربة الصاعقة
ولا أعرف كيف تمالك رفيقي نفسه ليقف على رجليه؛ برقبة مائلة في اتجاه واحد؛ ويفتح باب الصف ويختفي داخله مغلقًا الباب خلفه، لا يتذكر أنه قد تركني في يدي وحش مخيف.
وارتفعت صرخة المعلمة المستنكرة: (ما هذا؟ هل تظن نفسك داخلًا في قن الدجاج أم في...)؟
فتحتُ الباب هنا، بحركة عنيفة جدًا، لأدخل راكلًا الباب خلفي بساقي مغلقًا إياه بوجه الناظر تمامًا، بل وتمنيتُ أن يكون الباب قد صدم أنفه وحطمه!
وشهقت المعلمة من المفاجأة، وصرخت: (كَـ...)
فتح الناظر الباب هنا، بل اقتحمه اقتحامًا، مثل دبابة بشرية، صارخًا في جنون (هااااااع)!!
كادت المعلمة تقع ميتة بالسكتة القلبية لفرط المفاجأة والرعب، بل إن كل التلاميذ قد صرخوا مرعوبين، ونظر الناظر نحونا بنظرات مخيفة، وفجأة لانت ملامحه، وابتسم لنا ابتسامة هادئة، قائلًا وهو يغمز بعينه، بصوت لطيف خفيف: (كما اتفقنا، لا تنسيا)!
لا ننسى؟! نرجو أن تبتلعك حية كبيرة وتنسى أن تلفظك من فمها!

خرج الناظر بأفعاله الذكية من الصف، لنباغت بدهاء المعلمة!
لقد طلبت إلينا أن ننتظرها قرب الحائط، واقفين على ساق واحدة، وذلك كي نتعلم
كي ندق الباب المرة المقبلة!
وماذا عن هذا الوحش الذي دقَّ عظامنا وكاد يصيبنا بالشلل؟!
حاولنا أن نخبرها بما حصل، لكنها رفضت أن تستمع المبررات، فرفضنا نحن ما تطلب،
لكنها أصرَّت، بل وقالت إنها ستضربنا ضربتين لكل واحد منا على يديه، فأخبرناها بأنها تحلم.

لكنها لم تكن تحلم!
إذ قالت لنا ببساطة تامة إنه إما أن نفعل ما تطلب أو أنها ستنادي الناظر ليتولى المهمة بدلًا منها!
وهكذا، أسرعنا نلبي طلبها بكل حماسة، ونقف قرب الحائط ونمد أيدينا، منتظرين الضرب!
بل إن رفيقي هتف بها بحماسة: (ضربتان وأربع، لا، بل ست ضربات، بأمرك مدام)!

ولم تخيب المعلمة هذا الطلب
لينال كل منا ست ضربات لعينة
والألعن... سبب المشكلة كلها محمد كان جالسًا مكانه!
لقد (حزنت) المعلمة لأنها علمت أنه مطرود، فسامحته بقلبها الحنون الذي لا يتحمل حزن الأطفال!

وفي اليوم التالي، أتى والد رفيقي ليسأل عن الذي حصل، ولماذا تعاني رقبة ابنه هذا الالتواء
فكان رد الناظر أنه لم يحب أن يعذبنا، فركض خلفنا ليصعد الصف معنا، ويخبر المعلمة بأننا أبرياء وذلك لتتركنا ندخل
ولكننا لم ننتبه إليه، فأخذ ينادينا! (إذًا، هذا سبب الجاعور الناعم يا رجل)!
(ثم ما الداعي لننتبه إليك، وسرعتك مثل سرعة الضوء)!
وإذ رآنا الناظر نركض، ظن بأننا اثنان غير الاثنين اللذين كلماه
وبالتالي لا بد أننا قد ارتكبنا خطأ ما، فأسرع خلفنا، ولكن حينما دخلنا الصف
دخل خلفنا فتأكد أننا الاثنان الأولان اللذان كلماه، ولسنا اثنين آخرين!
(لو أن هذا الأخ لم يتعلم جدول الضرب والجمع والقسمة والناقص في حياته، لكان أولى له)!

أعتقد أن هذه الأستاذة كانت أستاذة علوم
لكن أطرف مواقفنا مع أساتذة العلوم حصلت مع ثلاثة أساتذة
وتكاد هذه المواقف تشكل معظم طرافة قصص المرحلتين الابتدائية والمتوسطة

ولنبتدئ، أو لنتابع، مع المرحلة الابتدائية
وأول أستاذ علوم من هؤلاء الأساتذة

كان المسكين كل مرة يشرح لنا بطريقة مدهشة
ومن تلك الشروحات الدرس الآتي:
_ حين نفتح زجاجة المياه هل نرى لون المياه؟
_ نعم.
_ لااااااا
_ حين نفتح زجاجة المياه هل نشم رائحة المياه؟
_ نعم.
_ لااااااا
_ حين نفتح زجاجة المياه ونشرب من المياه هل نذوق طعم المياه؟
_ نعم.
_ لااااااااا!! ألا تعلمون أن الماء لا طعم له ولا لون ولا رائحة؟
_ كيف يا أستاذ؟! الماء له طعم ولون ورائحة!
ويحمل الأستاذ العصا صارخًا بغضب:
_ نعم نعم؟!
فنهتف نحن بحماسة نادرة:
_ لا لون ولا طعم ولا رائحة للماء، ولا ماء حتى للماء!
فيهتف الأستاذ مسرورًا:
_ أحسنتم! أحسنتم!
وذات يوم، كان الأستاذ يشرح لنا، من دون طريقة الأسئلة والإجابات الخاطئة هذه، لنفاجأ بأن رفيقًا لنا، سنسميه هنا باسم (وليد) شرد تمامًا، ثم سأل الأستاذ سؤالًا غريبًا جدًا:
_ نحن من أول ما وُلِدنا إلى الآن، نأكل ونشرب، كيف لم تنتفخ بطوننا وتتمزق أمعاؤنا إلى الآن)؟!

ولا داعي لذكر ما حصل آنذاك، لأني أظن ذلك سيتنافى مع الذوق العام
ولكن الختام كانت بضربة هائلة من الأستاذ إلى وجه وليد الذي خفض رأسه لتصيبني في أنفي
وتكاد تكسره قسمين!

غير أن قصص الطرافة عند هذا الأستاذ، والتي تجمعني ووليدًا سويًا كانت
قصة المسابقة التي لم أكن أعلم بها...
آنذاك، رأيتُ بمجرد دخولي المدرسة، صديقي هذا يحمل كتاب العلوم يدرس فيه بحماسة،
فسألته مستنكرًا:
_ لماذا تحمل كتاب العلوم؟ ليس عندنا علوم اليوم!
لِيَرُدَّ باستنكار أشد:
_ نعم؟ نعم؟ ومسابقة ماذا؛ إذًا؛ الحصة الأولى؟!

يا أمي! علوم ومسابقة؟
ليس عندي أدنى علم بهذا الأمر!
والأستاذ جزار لا يرحم أحدًا

_ وليد، حبيبي وليد، أنا...
_ من قال لك ألا تدرس؟
_ وليد! كنت أظنك صديقي الوحيد، والآن تتخلى عني، لتنال علامة مرتفعة، وأنا أنال صفرًا، ويضربني الأستاذ، وتفرح أنت!
_ ولكن...
_ وليد، حبيبي! أنت تحبني، أليس كذلك؟ أنا أعرف أنه لا أحد يحبني سواك في المدرسة كلها، الله يوفقك لا تنسني! الله يرضى عنك!

أظن أن وليدًا كان يمر بصراع عنيف ما بين (المبادئ) و(الحب)!
فهو كان (مثاليًا) في أمور الغش، لا يرضى بأن ينقل حرفًا، حتى لو كان سينال صفرًا

_ ولكن، يا عمر، أنا!
_ قل ذلك يا وليد، لا يهمك أن آخذ صفرًا، ويضربني الأستاذ! وأنا الذي كنتُ أعتبرك صديقي وأخي...
_ حسنًا حسنًا، أنا لستُ مستعدًا لأساعدك ولا بكلمة!
_ ولكن...
_ عليك أن تدرس جيدًا، ولا تنتظرني! ولكن، أنا لم أكمل كلامي، سأفتح مسابقتي أمامك،
اكتب معي كل ما تريد، لكن حينما أقلب الصفحة لأتابع الكتابة، فلن أرجع لأفتحها لك مرة أخرى، مفهوم؟

كان عرضًا رائعًا، فيه الأمل من النجاة من النتيجة المزدوجة المقبلة، الصفر والضرب، فأجبتُ متحمسًا بسعادة:
_ مفهوم، تسلم يا حبيـ...
قاطعني وليد بصرامة:
_ انتظر، أنا لم أكمل كلامي، عندي شرط!

شرط؟
هل يريد المال؟!
يا له من خسيس!!

_ أنا أريد...
(يبدو أنني على حق)!
_ ورقة مزدوجة أكتب عليها، لأن الأستاذ لا يرضى بورقة منفردة.
_ تكرم عيونك!

لم تكن حماستي نابعة من فراغ، بل من فكرة رائعة خطرت لي وقتها
فكرة ولا أروع منها، ولا أظن أحدًا من تلاميذ الكرة الأرضية قد فكر بها قبلي
على الإطلاق!


تابعوا معنا.

أ. عمر
23-11-2017, 10:46 PM
إنه مسكين!


مزقتُ أول ورقة، وكتبتُ عليها اسمي ورقمي في الصف، وأعطيتُها لوليد، أما الورقة الثانية التي تحمل اسم وليد ورقمه، فقد وضعتُها أمامي أنا!
وهكذا، سيكتب وليد لي، وأنا أكتب له (تبادل خبرات) :) بل إنني سأنقل عن وليد لأجله هو (يا لشهامتي النادرة)!
شعرتُ بالفخر لهذه الفكرة التي لا يمكن أن يكتشفها أحد، وابتسمتُ معجبًا بنفسي وبذكائي...

_ أيها المحتال!
صاح بها وليد، وهو يمزق الورقة ويقوم ليلقي بها في النفايات، ويرجع إليَّ بوجه محتقن من الغضب (ما شاء الله كم هو داهية)! وبسرعة أخذت أبرر له:
_ أنا متوتر بسبب المسابقة، (ربما) لأجل ذلك لم أنتبه إلى...
وهنا دخل الأستاذ، فمزقتُ ورقة جديدة وأعطيتُها لوليد، وكتب الأستاذ الأسئلة على اللوح، وبدأنا نحلُّ الأسئلة، لا؛ بل بدأ وليد بالحل والإجابة، وأنا أكتب خلفه كل كلمة وكل حرف، بل إن رجع وليد إلى سطر جديد فعلتُ مثله، ولو كان معي متسع للكتابة! وأين يضع وليد الفاصلة والنقطة أفعل مثله، بل إن شطب وليد كلمة شطبتُها مثله تمامًا... تقمصتُ دور آلة التصوير، مع أننا لم نكن قد سمعنا بوجودها تلك الأيام، ولكني سبقتُ زماني فيما يبدو!!

الغريب أن الأستاذ كان يراقب كل الصف بعين مثل الصقر، ولا أحد يستطيع الغش عنده، إلا نحن، أصحاب المقاعد الأمامية، لم يكن يلقي إلينا بالًا، ربما لثقته في أننا لا نجرؤ على الغش (لكم دعونا له بالخير لهذه الثقة)!
ولكن، كان للأستاذ عادة غريبة جدًا، كان يصحح المسابقات ويوزعها، ثم يسأل كل واحد ما نال من العلامة ليسجلها على دفتره، وإذا ما شَكَّ بأن أحدًا يذكر لنفسه علامة غير صحيحة يطلب رؤية مسابقته، وإن كان بالفعل كذابًا ضربه الأستاذ ووضع له صفرًا.
أما لماذا أخبركم بهذه العادة؟ فهذا ما ستعرفونه الآن!

إنه يوم آخر، وحصة علوم أخرى، والأستاذ يدخل وفي يده أوراقنا، لقد صححها! وهوت القلوب تحت الأقدام! وأخذتُ أدعو فيما بيني وبين نفسي (يا رب، يكون وليد كتب صح! يا رب يكون وليد درس جيدًا قبل المسابقة، يخرب بيتك يا وليد لا تعرف كيف تدرس؟! سترى شغلك معي إن شاء الله)!!
وبدأ الأستاذ يوزع المسابقات:
_ أيمن 12، حسن 8، حسين 11 (طبعًا الأسماء والعلامات وهمية، وأنى لي أن أذكرها بعد كل هذه السنوات)!
_ وليد 20
أسرع وليد يأخذ المسابقة، وأطلقتُ هتافًا سعيدًا بهذا الإنجاز الرائع، بما أن صديقي الرائع المجتهد قد نال العشرين، فهذا يعني أنني قد نلتُها كذلك!، ولكن...
_ فادي، فؤاد، حسان، أحمد... وليد 20!!
وجمد وليد مثل التمثال، لا يفهم شيئًا، أما أنا فتذكرتُ ما حصل في تلك اللحظة، هل أدركتم ما فعلتُه وقتها؟ لقد مزقتُ ورقتين من الدفتر، وكتبتُ اسم وليد على ورقتي أنا، ثم نسيتُ كل شيء مع اكتشاف وليد الخدعة ودخول الأستاذ الصف!

_ خذ الورقة يا وليد.
همستُ بها في توتر، فسألني وليد في غباء:
_ لماذا؟!
هتفتُ بها في نفاد صبر:
_ خذها!
عاد يسألني بنفس الغباء:
_ لماذا؟!
_ خذ الورقة...
_ ولكن، أنا
_ أغلق فمك! تضرب بهذا الرأس! هذه ورقتي أنا!
نظر إليَّ وليد في بلاهة، ثم في غضب هادر، إذ يبدو أنه قد فهم الموقف أخيرًا...

_ ماذا أصابك يا وليد؟ تحولت إلى صنم إن شاء الله؟؟ سأكسر يديك لأنك لم تأتِ لتأخذ مسابقتك بعد!
طبعًا هذا الكلام من الأستاذ، وخفتُ أن يتورط وليد في إجابة حمقاء، فأسرعتُ أهتف بالأستاذ:
_ مهلًا يا أستاذ، وليد لا يصدق أنه قد نال هذه العلامة! أنت تعلم كم هو كسول!
نظر إليَّ وليد بغضب، وردَّ الأستاذ بملل:
_ حسنًا، حسنًا، لن أضربك يا وليد، لكن تفضل، خلصني!
ما يزال وليد ينظر إليَّ غاضبًا! لماذا لا يقدِّر المعروف؟ لقد أنقذتُه بهذا الرد من الضرب! المهم أنه تخلص من حالة (الصنم) هذه أخيرًا، وقام ليأخذ مسابقته، أقصد مسابقتي، ويسلمني إياها، لأشطب اسمه ورقمه وأكتب اسمي ورقمي، داعيًا الله أن لا يطلب الأستاذ أن يرى مسابقتي، وإلا فسيسألني عن هذه الخربشة، ما لم يكن أعمى تمامًا، وهذا ما أشكُّ بحصوله!

انتهى الأستاذ من توزيع المسابقات، ونظر إلينا قائلًا بابتسامة انتصار، ولهجة تهديد:
_ والآن، سأسجل علاماتكم كالمعتاد!
وأخذ يسأل كل واحد، حتى وصل دورنا:
_ عمر؟
_ 20
_ وليد؟
_ 20
_ أغلق فمك! هل تفهم؟
_ لماذا؟
_ أنت تأخذ 20/20؟؟
_ نعم، والدليل أنه...
_ هات مسابقتك لأراها!
أطاع وليد الأمر، وما كاد الأستاذ ينظر في مسابقته، حتى نظر إليَّ قائلًا بغضب:
_ يا عيب عليك يا عمر!
ارتجفت بحق، فالطقس كان باردًا تلك الأيام، والنسمات العليلة كانت تجمد الأنفاس، رغم أن الشمس كانت ساطعة، ولكن لماذا أرتجف؟ يبدو أنها تمطر بغزارة ونحن لا ندرك ذلك!
_ لـــ... لماذا؟؟
صاح الأستاذ غاضبًا:
_ تسألني لماذا؟ أنا من يجب أن يسألك لماذا؟
شعرتُ بأنني مقبل على موقف رهيب فعلًا، لولا أن تابع الأستاذ:
_ لماذا تركتَ وليدًا ينقل عنك؟! لم تكن هذه نظرتي إليك!
نعم نعم؟؟ تركتُ وليدًا ينقل عني؟؟ ما هذا الهراء؟! يجب أن يعرف الأستاذ ذلك، ولذا هتفتُ بحماسة:
_ لقد غش عني، وأنا غير منتبه إليه، لأنني كنت مسرعًا بالكتابة، ولم أنتبه إن كان قد غش أم لم يفعل، أم أنه...
قاطعني الأستاذ بحماسة:
_ هاتِ مسابقتك لأثبت لك أنه غش عنك!
(قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق)! ما هذه المصيبة العوجاء؟؟ قرأتُ سورة الفلق في قلبي وبسرعة كبيرة، لأجيب الأستاذ بعدها:
_ لا داعي لذلك، أنا أصدقك!
صرخ الأستاذ غاضبًا:
_ ماذا؟؟
أجبتُه متحمسًا:
_ من الطبيعي أنه قد غش مني، كيف نال العشرين لو لم يفعل، وهو بهذا الكسل؟!
وافقني الأستاذ (ويا للعجب):
_ أحسنت القول! ويجب أن أضع لوليد صفرًا، ولكن إكرامًا لك سأكتفي بخصم خمس علامات فقط!
صاح وليد:
_ خمس علامات؟؟ الحقيقة، الحقيقة سأخبرك بها الوقت، إنه...
قاطعه الأستاذ:
_ الوقت أنت تسكت، قبِّل يدك وجهًا وظهرًا، 15 علامة وأنت لم تدرس ولا كلمة، مبارك لك!!
صدقوني لم أتحمل ذلك، ضميري أنَّبَني، لكني وجدتُ نفسي أهتف بوليد شامتًا:
_ لو أنني انتبهتُ إليك ما كنتُ سمحتُ لك بالنقل من ورقتي! في المرة المقبلة، ادرس جيدًا يا ولد!
ردد الأستاذ ورائي، مخاطبًا وليد:
_ صحيح، في المرة المقبلة ادرس جيدًا يا ولد، ولأجل أن أضمن حصول ذلك، سأقدم إليك هدية حلوة جدًا تعجب خاطرك.
وحمل العصا مبتسمًا، فصاح وليد في انهيار:
_ لكن، هو، هو...


قاطعه الأستاذ في تهكم:
- شكراً لهذه المعلومة! هذه أول مرة أعرف أن (هو) يكون (هو) مش (أنا)!!
وأمسك بيد وليد، وأهوى بالعصا عليها بضربة رنانة...
ومع دوي الضربة، دَوَّت ضحكتي الشامتة، وزاغت عينا وليد من الألم والغضب، فصاح في جنون تام:
- الله لا يعطيك العاااااااااافية!!
ارتفعت ضحكتي أكثر وأكثر، بينما صاح الأستاذ مصعوقًا:
- الله لا يعطيني العافية؟؟ سأُرِيكَ يا كلب!
هتف وليد في عصبية متهكمة:
- من يكلمك أنت الثاني؟ أنا أكلم عمر! اتسعت عينا الأستاذ في دهشة غير مصدقة..
وأخذ يحدق في وليد للحظات ثم...
- طراااااااااااااااااااااخ
وطار وليد من مكانه كالريشة ليسقط على الأرض، ووجهه محمر كالفروج المشوي تمامًا...
- هاهاههاهاااااااااااااااااااااااااا
طبعًا هذه الضحكة كانت مني، لا من وليد المسكين، وليد الذي صرخ وقد جُنَّ تمامًا:
_ سأريك! الله لا يعطيك العافية!
انتفض الأستاذ من الغضب وانقض على المسكين يمسكه من أذنيه، ويرفعهما إلى الأعلى، صارخًا:
- هل أنت مجنون أم ماذا؟! علامتك صفر يا حمار يا (بهيمة)!!
صرخ وليد بدوره وقد أفقدته الألم والصاعقة المدمرة صوابه:
- من يكلمك أنت الثاني؟! أنا أتكلم مع عمر!!
وجن جنون الأستاذ تمامًا، ليبتدئ بملحمة قاسية على جسم وليد المسكين، ليتوجه بالضرب إليه من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، ووليد كان أكثر جنونًا من الأستاذ، وهو يستمع مني المواعظ والحكم:
_ المرة المقبلة ادرس جيدًا يا ولد! إياك أن تغش عني مرة ثانية!
وانتهت ملحمة وليد على يدي الأستاذ، بعد أن خرج الأخير مثل الصوص الذي أكله القط تمامًا، لكنه ظل حيًا بشكل ما! (الصوص=الكتكوت).
وعاد وليد ليجلس في مكانه بجواري، وأسرعت أنا بكل (الشهامة) أسأله:
_ إن شاء الله لم تتألم يا وليد؟!
تمتم وليد في برود تام:
_ سأجيبك وقت الاستراحة.
وقت الاستراحة؟ لماذا؟ هل سينسى وليد الكلام الآن لا سمح الله، ويتذكره وقت الاستراحة؟! أم أنه قد جُنَّ تمامًا بعد ما ناله على يدي الأستاذ؟!
لا بد أنه قد جُنَّ، لأنه أمسك بيدي حينما حان وقت الاستراحة بعد حصتين، لينزل معي إلى الملعب، هامسًا:
_ عمر، ألستُ أنا صديقك، حبيب قلبك، أم ماذا؟!
هتفت في صدق تام:
- وأحب رفيق إلى قلبي في العالم.
رد وليد متهكمًا:
_ نعم نعم، أنا أشعر بهذا، والآن حان الوقت لأعبِّر لك عن حبي الشديد وعواطفي الحارة، و... عض!!
_ آآآآآي!!!
انطلقت صرختي الأليمة مع عضته الرهيبة..
وفي اللحظة التالية كانت اللكمة تخترق بطني..
والتي تليها بدأ وليد الرفس!!
كان يدير ظهره ويرفع قدمه ليرفسني..

- ماذا تفعل يا وليد؟!
_ ألم يقل الأستاذ عني: كلب وحمار؟! أأستطيع أن أكذب الأستاذ؟!
وتتابعت الملحمة على جسدي المسكين عضًا ورفسًا ولكمات وضربات وقرصات...
حتى كدت أفقد وعيي من الألم!!
وحينما رآى وليد أنني أحاول الاستنجاد بأحد، همس لي بصوت مخيف، إنه سيأخذ مسابقتي من محفظتي ليريها للناظر لو أنني أخبرتُ أحدًا بما يفعل، أو فلأصمت وأتحمل، وهذا الضرب بدل الصفر الذي ناله بسببي، والعشرين التي نلتُها بفضله، ولذا سَكَتُّ!
ومع ذلك، انتهى وليد من الثأر مني، ثم عاد إلى الصف، ليسرق مسابقتي من محفظتي، ويسرع بها إلى غرفة الناظر، يشكوني ويشكو أستاذ العلوم، ولقد كان الأخير جالسًا هناك! وما إن سمع كلمات وليد حتى انقضَّ عليه، وحاول الأخير الفرار، ولكنْ، كان الأستاذ أسرع بكثير، وما أجمل صوت الضربات التي تنهال على جسد وليد، ولا أروع من صراخه!

هذه القصة حصلت حينما كنا في السابعة وأشهر، لكنني من خمس سنوات تقريبًا، كتبتُ فيها الأبيات الآتية (بالعامية اللبنانية)، بتاريخ 18_12_2012، أقول فيها:

وهيني رجعت لكم من جديد
أحكي لكم شي صار بماضي بعيد
رح أحكي لكم شو صار بيني وبين رفيقي وليد
كان جاية ع مدرستنا تلميذ جديد

وأنا وقتها كنت طفل صغير
متل عصفور ما إلو جناح يطير
تعلقت بوليد وحبيتو كتير كتير

أول ما بجي ع المدرسة بسأل عنو
بطل بين هالتلاميذ لأشوف وينو

مرة شفتو عم يقرا بكتاب العلوم
خبرني عنا مسابقة بشارة متل وجه البوم

وأنا والله ما كان معي عن المسابقة أي خبر
ولا منتبه أننا صرنا بيوم الاربعا ووقت العلوم حضر

أستاذنا العلوم كان قاسي كان جزار
كأنو رفيقو لهتلر أو ضابط بجيش التتار

قلت لو يا وليد أنا بوبو مسكين
ولو ما نقلتني أنا أكيد حزين
لأنو الأستاذ رح يضربني
ويقسى عليي مش رح يرحمني

بس كان وليد إنسان نادر
مع أنو ما كان أبدًا شاطر

بس ما كان بيحب النقل ولا التنقيل
ولو مرض ما بيغيب بيكره التعطيل

قلت لو كنت فاكرك يا وليد رفيقي
كنت بحبك متل أخي وشقيقي
بس أنت عني هلأ عم تتخلى
أنا بنضرب وأنت بعلامتك بتتحلى

وليد هون زعل عليي وتأثر
قال يا حرام هالمسكين هالمعتر

وأنو ينقلني هالوليد رضي ووافق
وأنا انبسطت بعرفو إن قال صدق وما نافق

بس كان وليد مني بدو ليكتب ورقة
خطرت لي هون فكرة حلوة ما فيها سرقة

فكرة رح تورجيكم شو عندي من الذكاء
رح تعرفو أديش أنا عبقري بعلم الناس الدهاء

حطيت إدامي ورقة كتبت عليها اسمو
واسمي سجلتو ع ورقة حطيتها أدامو
بس وليد هالغليظ انتبه ع ورقتو

قام بالزبالة رماها وهو عم يولول
ورجع لعندي ليقاتلني عم يهرول

قلتو لو يا وليد هيدا بالغلط صار أد ما أنا خايف
لأن ممكن آخد صفر إن علييّ ما حنيت وأنت هالشي شايف

وهون الأستاذ ع الصف فات ودخل
أنا من الرعب كان رح يصير معي شلل

وبالمسابقة صرت آلة تصوير مع أني ما كنت عارفها
ما بحياتي كنت فيها سامع ولا حتى شايفها

والأستاذ كان عندو عادة غريبة
مش مفهومة أد ما هي عجيبة
ونتيجة الغش فيها كتير رهيبة

كان يوزع لنا المسابقة ويرجع يسأل أديش آخدين
وبعدها بيشوف مسابقات يللي ظنهم غشاشين
كنت رح أرقص لما الأستاذ قال وليد آخد عشرين
رح أنجى من الدق والخبط مش رح صير طحين

وفجأة الأستاذ نادى وعيط من جديد
تعال خود مسابقتك يا شاطر.. وينك يا وليد؟!

قلت لو طول بالك عليه وليد يا أستاذي انسطل
من الفرحة جمد بأرضو ما عاد فيه يتحرك لأنو انهبل

يا ترى عرفتوا يا جماعة وقتها شو صار
تركت اسم وليد ع ورقتي واسمي أنا طار
وليد بالأول ما فهم وكتير ارتبك واحتار

والغريب أنو الأستاذ بعدين قال لو ع راسك يا عيب الشوم
أنت يا وليد واحد غشاش ما فيك شرف من الفهم محروم
أنت نقلت المسابقة كلها عن رفيقك يللي حدك.. عن عمر
ووليد المسكين كان رح يوقع بالسكتة لما سمع هيك خبر
وراح يبكي لما الأستاذ قال لو إلك ناقص خمس علامات
وشهق شهقة قوية قلنا أكيد هالوليد ودعنا ومات

وأنا قلت لو تضرب بهالراس يا وليد
تاني مرة ادروس وعني ما تغش يا بليد

وهون بدي وليد يصرخ عليي وبالتركماني يُسبْ
والأستاذ ما بيطيق الكلام مش المنيح وما بيحبْ

راح قال لوليد صارت علامتك يا جدوبة صفر
روح نط من وشي تخيل حالك بيسة أو نمر

وليد صار مجنون بالمرة
وورجانا وش مش شايفينو ولا مرة

قام الأستاذ ضربو بالكفوف وبالقضيب
قال لو العمى بقلبك شو إنك ضريب

وقال لو علامتك صارت صفر يا غبي
مش شايف أتيس منك بحياتي صبي
نقصت لك خمسة بس قمت أنت ما رضيت
بديت تسب متل المجاديب وتنط متل العفاريت

رجع وليد لمحلو وشو وإيديه كلها ورم
ما فيه عم يحكي من قوة الألم

قلت لو خبرني يا وليد شو صابك
ما حدا هون أد مني حابك

وليد قال لي رح جاوبك يا عمر ع الفرصة
ولسا ما رن الجرس إلا وطعماني قرصة

وصرخ متل الوحوش وبدي فيني تلبيط
ونزل بإيديي عض وبجسمي خبيط

وراح ليرجع مني حقو يقول عليي للناظر
وعم يخبرو أديش أنا غشاش وهو شاطر
ما كان عارف هالمعتر مين هونيك ناطر

كان أستاذ العلوم قاعد يرتاح بغرفة النظارة
وسمع هالحكي وقام ع وليد يللي كرج متل الفارة

والأستاذ لاحقو ووليد عم يولول وينك يا ماما
أنقذوني يا رفقاتي وينكم يا نشامى

بس الأستاذ كمشو وبدي فيه بالدق
كان هالمرة بيستاهلها هيدا الحق

بس صريخ وليد كتير عالي ما عاد فيني أسمع
لهيك لازم خلص هالقصة ومنها يا حبايبي أطلع
ولهيك يا إخواني رح ألقي عليكم تحية السلام
وبشوفكم بخير وربنا يديم لكم الأخوة والمحبة والوئام

وإلى المرحلة المتوسطة، لنتوقف باختصار عند مواقف طريفة أخرى، وكلها أبطالها أساتذة مادة العلوم، لسبب لا أعرفه!

تابعوا معنا.

Jomoon
25-11-2017, 08:14 PM
السلامـ عليكمـ ورحمة الله وبركاته~

يالله كيف لأجسام صغيرة تتحمل كل هذا الضرب
لا إله إلا الله
سبحان الله كأنه كابوس مزعج
عمتك هل سامحتها؟!، هل نفذت تهديدك؟!،
ما توقعت ذلك صراحة
وفي الأخير رحمت وليد المسكين،
تصرفك معه كان صدمة!،
أما ذاك الذي ركض خلفكمـ
عجييييييييب!!!!!!،
والله أنها قصص مؤلمة والمشكلة حقيقية
كان في عون كل مؤمن وهدى ربي النفوس
أين الرحمة لا أدري
اللهم صلِّ وسلم وبارك على الرحيم محمد
بارك ربي بك
مازلنا نتابع فأكمل
في حفظ المولى،،
~

أ. عمر
25-11-2017, 10:33 PM
السلامـ عليكمـ ورحمة الله وبركاته~

يالله كيف لأجسام صغيرة تتحمل كل هذا الضرب
لا إله إلا الله
سبحان الله كأنه كابوس مزعج
عمتك هل سامحتها؟!، هل نفذت تهديدك؟!،
ما توقعت ذلك صراحة
وفي الأخير رحمت وليد المسكين،
تصرفك معه كان صدمة!،
أما ذاك الذي ركض خلفكمـ
عجييييييييب!!!!!!،
والله أنها قصص مؤلمة والمشكلة حقيقية
كان في عون كل مؤمن وهدى ربي النفوس
أين الرحمة لا أدري
اللهم صلَّ وسلم وبارك على الرحيم محمد
بارك ربي بك
مازلنا نتابع فأكمل
في حفظ المولى،،
~


وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
لم يكن أحد يسأل عنا تلك المرحلة الزمنية، والضرب كان شغالًا بلا حسيب ولا رقيب
أما عمتي فلم أسامحها وشكوتها لأبي، وأذكر أنه ذهب إلى منزلها غاضبًا (منزلها مقابل منزلنا تمامًا بنفس البناية)
لكني لا أعلم ما فعل معها، أتوقع أنه وجَّه إليها لومًا عنيفًا، لكني لا أتوقع أنه نفذ تهديدي بِشَدِّ أذنيها :)
وليد المسكين أخطأ حينما لم يسكت، طبعًا هو معذور في اعتراضاته لأنه درس واجتهد لينال العشرين
ولكن الأستاذ لو رأى مسابقتي لربما وضع لنا نحن الاثنين صفرًا وضربنا معًا
وفي كل الأحوال كنتُ سأنال الصفر وأتعرض للضرب العنيف
لذا لم أجرؤ إطلاقًا؛ وأنا مجرد طفل صغير؛ على إخبار الأستاذ بالحقيقة
أما ضحكي على وليد فليس بسبب ما تعرض له على يدي الأستاذ الذي ظن سباب وليد موجَّهًا إليه هو فزاد في ضربه
ولكني؛ من صغري؛ لا أستطيع رؤية أحد يصرخ في أحد إلا وأضحك، حتى لو كان يصرخ في وجهي أنا!
وذاك الذي ركض خلفنا كان من النظار المكروهين الذين أبغضناهم في المدرسة إذ لم يكن يفهم إلا بأسلوب الضرب وبخشبة سميكة
والحمد لله أنني لم أتعرض للضرب على يديه (إلا في هذه المرة، وبالظلم الواضح، وبقلة إدراكه وفهمه للأسف)
الرحمة كانت في ما يفعلون! هكذا كانوا يظنون، أنهم إن ضربوا التلاميذ جعلوهم يدرسون ويجتهدون وينجحون وحافظوا على مستقبلهم
صلى الله وسلم على سيدنا محمد دومًا وأبدًا، وبارك الله بكم وجزاكم خيرًا، وإن شاء الله أتابع في السرد بدءًا من يوم غد
حفظكم الله تعالى من كل سوء

أ. عمر
6-12-2017, 08:29 PM
وليد... من جديد!



إنها المرحلة المتوسطة، وكل مواقفنا الطريفة فيها، حصلت لنا مع أساتذة العلوم!
ونبتدئ بالصف السادس (في أيامنا كان اسمها العالي أول) وكان صف مرحلة متوسطة، أما الآن فيُعتَبر ضمن المرحلة الابتدائية نفسها!

كان ذلك الصف أول صف سندرس فيه العلوم باللغة الأجنبية، ويا لأستاذ العلوم من أستاذ مبدع! يعطينا الدرس بأكمله (عدة صفحات)، ولا نعرف كيف سنحفظ كل هذه الكمية الرهيبة
بل إن المسابقة يجب أن تكون من عشرين سؤالًا، ولكل سؤال علامة واحدة، والخطأ يذهب بالعلامة بأكملها، لأن الأستاذ لا يعترف بأنصاف العلامات

كانت تلك مشكلة كارثية كبيرة، جعلت شبح الرسوب يحوم فوق الكثيرين منا، وأتى تغيير أستاذ اللغة الفرنسية ليزيد الكارثة أضعافًا مضاعفة، إذ (شَرَّفَنا) أستاذ ألغى الكتاب، وكان يقرأ لنا من دفتر معه ويلدغ بمعظم الحروف، ثم يسألنا حول ما قرأ ويضع لنا صفرًا لأننا لا نعرف كيف نجيب، بل ويلعن ويشتم!

والشتائم واللعنات أمر هين أمام تدني العلامات! لذا، لم يجد أحد رفاقنا في الصف أي خطأ في دخوله غرفة الناظر المفتوحة في طابقنا، الخاوية على عروشها، قبل امتحان نصف السنة بيومين، ليحمل الأوراق التي على مكتبه ويقرأها باحثًا عن أسئلة أي مسابقة كانت،
ويا لفرحته الغامرة! إنها مسابقة العلوم في يده مباشرة!
لم يكن معنا هواتف محمولة أيامها، (بل ولا حتى هواتف عادية إلا للقليلين)، وبالتالي كان أمام رفيقنا مخاطرة أخرى، ولم يتردد، لقد أخذ قلمًا من طاولة الناظر وورقة بيضاء لينسخ أسئلة المسابقة بالكامل، وهو يرتجف خوفًا من أن يأتي الناظر في أي لحظة، ثم يدس الورقة في جيبه، ويعيد المسابقة والقلم إلى مكانهما ويمضي في طريقه كأنه لم يفعل شيئًا!
ولكنه، ويا للعجب! لم يستطع السكوت، فأخبر بعض من يعرف، متفاخرًا بفعلته المنكرة هذه، ليهددوه بأن يشتكوه إلى الناظر، أو فليتفضل بإعطائهم الأسئلة!
لا أعلم هل لم يتخيل أن رفاقه سيفضلون الصداقة على معرفة الأسئلة أم لا، ولكن الكلام تسرب منهم إلى تلاميذ آخرين، وتوسعت دائرة المسابقة، لكنها لم تشمل بعضنا، وأنا من هؤلاء الذين لم يعرفوا شيئًا من أسئلة المسابقة، ولكن غالبية الزملاء في الصف نسخوا الأسئلة من ورقة رفيقنا على دفاترهم، والأخير يتميز غضبًا، ويلعن اللحظة التي أخبرهم بها بأنه يمتلك الأسئلة.

لقد درستُ بجد كبير وحفظتُ كل الدروس، ونلتُ علامة مرتفعة، أعتقد أنني نلتُ 14/20 أو 15/20 ربما، بل إن الجميع في الصف نال علامة مرتفعة، خاصة من سرقوا الأسئلة قبل وقتها، ووصلت بعض علامات الغشاشين إلى 20/20
واحد فقط نال علامة منخفضة جدًا، وهو نفسه الذي سرق الأسئلة ونسخها في مكتب الناظر!

ولا أفهم، ولا غيري في الصف فهم، كيف ذهب هذا الزميل إلى الناظر ليخبره بأن أصحاب العلامات المرتفعة كانوا يعرفون الأسئلة مسبقًا، وقد سرقوها! ربما لأنه تصور أنه؛ بذلك؛ سيحمي نفسه ولن يصدق أحد أنه هو السارق طالما أنه هو من يعترف على رفاقه!
ولكني أعرف أن الناظر أجرى التحقيقات الموسعة المطولة، وأعرف أنه وصل للحقيقة، ونال رفيقَنا عقابٌ رهيبٌ، وأعرف ما هو أسوأ من ذلك، لقد تمت إعادة الاختبار لنا!

كان الاختبار الثاني يحتاج طلابًا من كوكب المريخ للإجابة عن أسئلته!
إذ إن معظم الأسئلة لم نسمع بها من قبل قط، وتدنت العلامات كثيرًا،
ووجدتُ أن علامتي 5/20، ويا للقهر بفقدان 9/10 علامات كاملة!

وإلى صف آخر، ومسابقة علوم أخرى، لكنها مسابقة عادية، وليست امتحان نصف السنة،
ولكن المميز؛ الآن؛ وجود صديقي العزيز وليد، الذي فارقني من ثلاث سنوات، وتحديدًا بعد انتهاء تلك السنة الدراسية التي مَرَّ بها بتلك الملحمة المؤلمة على يدي أستاذ العلوم بسببي!

مرة أخرى، نجتمع ووليدًا في صف واحد، لكنه لم يَعُد يجلس بجواري (يبدو أنه ما زال يذكر ما حصل وقتها) :)
وما لم أذكره لكم، أنه كان كلما يراني بعد تلك الحادثة، يبدأ بالنهيق استعدادًا للركل، مذكرًا إياي بأنه حمار كما قال الأستاذ عنه، فأهدده أن أشكوه للناظر إن فعل ذلك، لأنجو من الركلات التي يريد أن يوجهها إليَّ، وكل يوم، ولحوالي شهرين أو ثلاثة بعد تلك الحادثة، كان يتكرر هذا السيناريو الطريف المرعب!

نرجع إلى قصة مسابقة اليوم،
فجأة، ونحن لم نكد نبتدئ بحل الأسئلة والإجابة عنها، أخذ الأستاذ يرقص!
ما الأمر يا تُرى؟! أإلى هذا الحد الأستاذ فَرِح بـالعشرينات التي سيراها؛ أو يظن أنه سيراها؛ في مسابقاتنا؟!

_ اسمعوا يا شباب.
قالها الأستاذ بصوت مرتجف متقطع، فنظرنا إليه بدهشة، لم يبالِ بها، وهو يهتف بنا في لهفة:
_ من غش فليس منا، الله لا يحب الغشاش، ويغضب عليه....
وخرج الأستاذ من الصف مسرعًا، ففهمنا أنه يريد دخول الحمام.

وما كاد الأستاذ يغادر الصف، حتى فتح وليد الكتاب، لينسخ منه الإجابات!
وليد الذي لم يكن يغش ولو كان في أسوأ أحواله، ويضمن صفرًا، بات الآن؛ بعد ثلاث سنوات؛ غشاشًا محترفًا!

ورفيقي الذي يجلس بجواري تحمس لِيَغُشَّ هو الآخر، فَمَدَّ إصبعه يولجه في رأس وليد من دون رحمة، ليصرخ الأخير بغضب:
_ ما هذا؟ هل أنت مجنون؟!

هذا الصراخ وصل إلى مسامع شخص ما، نحن كنا نجلس بجوار النافذة تمامًا، أي حيث الممر الذي نمشي فيه حينما نخرج من الصف، أو نعود إليه...
وهكذا، ضربة ثانية في رأس رفيقنا، وجُنَّ وليد تمامًا، ليصرخ، وقد فقد اتزانه الأخلاقي:
_ ما حكايتك اليوم يا دب! يا بغل! يا حمار! يا...
وهناك كلمات أخرى في كلام وليد لا تصلح للنشر! ولكنْ، وللأمانة، رفيقي لم يفعل شيئًا ولا أنا كذلك!
ولكننا كنا نضحك بصوت عالٍ، فاستدار وليد نحونا، متابعًا صراخه في وجه رفيقي الذي ضربه من قبل:
_ سأريك أيها الحيوان أيها الكلـــ...
وابتلع وليد ريقه في رعب شديد، ووجه الأستاذ ينظر إليه من نافذة الصف، وانطلقت ضحكتي مدوية، خاصة حينما بدأ الأستاذ بالصراخ هو الآخر:
_ يخرب بيتك كم أنت حمار! (انقلع) اصبر لك كم ثانية حتى أخرج! أنا لم أخرج بعد، وحضرتك بدأت بالغش، وفوقها تَسُبُّ! ألا تعلم أن السباب (لا يجوز) يا (دب)؟ ألا تعلم أن السباب عمل (غير أخلاقي) يا (حمار)؟

تمتم وليد بارتباك شديد:
_ هذا لأنني ظننتُ أن رفيقي هو الذي...
صرخ الأستاذ مقاطعًا:
_ ولو كان! لا يجوز أن تسبَّ يا...
(لفظة غير قابلة للنشر كذلك)!
يا له من درس تربوي عميق يا أستاذ! كل هذا، ولا يجوز أن نسب؟! فكيف بنا إن كان يجوز لنا أن نسب إذًا؟!

حاولتُ أن أتمالك نفسي، لأتابع الكتابة، لكني لم أستطع ذلك، رغم أنني كنتُ محضرًا بشكل جيد للمسابقة، والأسئلة هينة، وأضمن أن أنال عشرين علامة كاملة، ولكن...
أحد التلاميذ نظر في وجه الأستاذ محتارًا، وهو يهتف به:
_ ولكن... ألم تكن تريد دخول الحمام يا أستاذ؟! فهل نسيتَ ذلك؟! كنتَ ترقص قبل قليل لهذا السبب!
وانفجر الأستاذ يصرخ كالمفرقعات النارية، وانطلقت ضحكاتي، كل ضحكة ألعن مما قبلها، وألقيت بالقلم من يدي عاجزًا عن متابعة الكتابة نهائيًا، لأنال صفرًا بعد كل هذا الدرس!

وأخذ الأستاذ يصرخ في وجهي، إذ يسلمني المسابقة:
_ ما هذا؟ آه!! صفر؟؟ لمن تركتَ الدرس؟ للكتاب؟! نعم نعم، سيدرس الكتاب نفسه، ونُجري نحن المسابقات للكتاب، ما لزومكم في الصف؟!
الأستاذ يصرخ، وأنا أضحك، على مرارة الصفر المؤلمة رغم ساعات الدرس الطوال، لكن عادتي في الضحك حينما أرى من يصرخ، عادة متأصلة في نفسي، ورغمًا عني...

وماذا أقول لك يا وليد؟! من ثلاث سنوات نلتُ العشرين بفضلك في مسابقة العلوم، ولم أكن قد درستُ حرفًا، واليوم، أنال الصفر بسببك في مسابقة العلوم، وقد درستُ كل حرف!
سأقول لك مثلما قلتُ لك من ثلاث سنوات: تضرب بهذا الرأس يا وليد!!

ربما كانت حلقة اليوم صغيرة
ولكن مواقفنا مع أساتذة العلوم لم تَنتَهِ بعد
بقي موقف واحد وأخير، موقف طويل بعض الشيء
يستحق أن نُفْرِدَ له حلقة خاصة به، لغناه بالأحداث والوصف والحوار

فإلى اللقاء إن شاء الله تعالى.

أ. عمر
11-12-2017, 08:33 PM
تصرفات مقلوبة!


تحية طيبة إلى جميع المتابعين
ونعود إليكم بآخر مذكرات المرحلة المتوسطة
وحكايتنا حصلت؛ كذلك؛ في حصة علوم
ومرة أخرى، نجتمع، بعد فراق سنتين هذه المرة، أنا ووليد
وهذه المرة كنا نجلس بجوار بعضنا، أي بعد ست سنوات كاملة لم نجلس فيها معًا، بل لم نجتمع
فيها في صف واحد معًا، سوى مرة واحدة، وقت أراد وليد النقل من الكتاب، والأستاذ ينظر إليه
من نافذة الصف!
المهم أن أستاذ العلوم في الصف الأخير في المرحلة المتوسطة كان في غاية التميز
أستاذ نادر بحق، لا يوجد سؤال واحد في مادته لا يستطيع الإجابة عنه
ومادة العلوم توسعت من البيولوجي إلى البيولوجي والفيزياء والكيمياء
وكلها كانت في يدي هذا الأستاذ العبقري
لم يكن الأستاذ ليرضى بإضاعة ثانية واحدة من الحصة، ومن أولها لآخرها يتكلم ويشرح
حتى أتى ذلك اليوم المعجزة، بقي حوالي خمس دقائق، والأستاذ لم يعد لديه ما يقوله!
وكالحلم نزلت كلمات الأستاذ علينا، كنسمات رقيقة، إذ يقول لنا إننا أحرار في فعل ما نشاء
خلال هذه الدقائق، بشرط ألا نصدر ضجيجًا!
سألتُه: (هل يمكنني أن آكل حبة من النـــ)؟ فقاطعني قائلًا: (إن شاء الله تأكل دجاجًا مشويًا! المهم ألا تصدر ضجيجًا)!
كان معي حبة من النوغا، حاولتُ أن أقشرها، لكنها كانت ذائبة (تقريبًا) وملتصقة بقشرتها على نحو مزعج، فأردتُ رميها في النفايات، إذ لا فائدة منها، ولن آكل القشرة طبعًا، فوقفتُ ليطلب إلي رفيقي الجالس خلفي أن أجلس!
جلستُ، لا أعرف ما يريد، ونظرتُ إليه منتظرًا أن (يتحفني) بطلباته، وهل لديه (خطة عبقرية) مثلًا لأكل هذه الحبة من دون تقشيرها، ومن دون ابتلاع قشرتها كذلك!
قال لي رفيقي هذا، ولنطلق عليه؛ مجازًا؛ اسم فريد: (هل تريد رميها؟ تستطيع أن تحول الأمر لمصلحتك)!
سألتُه بدهشة: (مصلحتي؟ حبة نوغا؟ كيف)؟
رد رفيقي بعظمة: (هذه الحبة ستأتي إليك بفطور مميز مشبع، أسبوعًا كاملًا)!
نظرتُ إلى الحبة التي في يدي، هامسًا بتهكم شديد، كأني أكلمها: (نعم نعم، سأفرككِ بقوة الآن، ليخرج منكِ جني البونبون والشوكولا، وأطلب إليه أن...).
قاطعني فريد متضايقًا: (هل تمزح؟ أنا أتكلم بِجِد)!
سألتُه ساخرًا: (نعم، إلى درجة أن الحبة تأثرت من جديتك هذه، وستستحي على دمها، وتذهب لتشتري لي...)
ارتفع صوت فريد، قائلًا بغضب: (اسمع، أنا لا أمزح، سأدعوك؛ يوميًا؛ إلى كعكة بجبنة وتنكة بيبسي، على حسابي، ولأسبوع كامل، لكن بشرط...).
صاح الأستاذ هنا، مطالبًا إيانا بالهدوء، فخفض فريد صوته متابعًا: (بشرط أن تمسح بحبة النوغا هذه وجه وليد)!
كان عرضًا مغريًا فعلًا، لولا أنني أعرف أن فريدًا هذا فريد حقيقي في بخله، ولا يجرؤ على شراء شيء لنفسه، إلا بعد أن يتأكد أن أحدًا لن يضيفه ليأكل معه، لا في صفنا، بل في الملعب بأكمله، ولولا أنني أعرف؛ وهذا الأكثر أهمية؛ أنني لا يمكن لي أن أقوم بمثل هذا الأمر نهائيًا.
وبمنتهى الحزم قلت لفريد: (لا تحلم بهذا، وليد صديقي من...)
قاطعني وليد، قائلًا باستهزاء: (قل الحقيقة، أنت جبان ولا تجرؤ على فعلها)!
جبان؟! أنا الذي لا أرضى بأن أفعل هذا مع أحد غريب، فكيف أفعله مع صديق عزيز مثلك يا وليد؟! وتقول إنني جبان؟ أنا أقول وليد صديقي، وهذه ردة فعلك؟! حسنًا، سترى!
ومن دون اعتراض على كلام وليد، حملت حبة النوغا، ولحستُها بلساني، ثم مسحتُ بها وجهه وأنفه ورقبته، خلال ثانية واحدة تقريبًا، قبل أن أضع الحبة في رقبته، قائلًا له: (هذا تذكار مني يا حبيبي)!
وجن وليد نهائيًا، احتقن وجهه، ومن دون أن أتوقع ما سيفعل لكمني في معدتي لكمة نارية، فصرختُ من الألم، ليستدير الأستاذ الذي كان يحدق في الفراغ خارج الصف، باحثًا عن مصدر الصوت، لكنه لم يَرَ سوى نظرات مبتسمة، فمسح عينيه دهشًا، وعاد ينظر خارج الصف، لتمتد يدي في قرصة معتبرة إلى ساق وليد، جعلته يعوي ألَمًا، لينظر الأستاذ مرة ثانية، ولا يرى سوى الابتسامات السعيدة، ويمسح عينيه متوقعًا أنه يهذي على الأرجح، وأنا أشعر فعلًا بأنني أخذتُ بثأري من هذا الأحمق وليد، ثم إن جسمي ضعيف جدًا لا أستطيع الملاكمة، ولكن...
_ آآآآآآآآآآووو!
كانت هذه الصرخة مني طبعًا، فلقد قرصني وليد قرصة ألعن مما فعلتُه به بدرجات، وفي الثانية التالية رفع ساقه ليركلني في ساقي، فركلتُه بدوري، لِيَرُدَّ بركلة ولكمة في آن واحد، فهتفتُ به مغتاظًا: (ألم تنسَ شيئًا؟ لقد نسيتَ أن تنهق كما كنتَ تفعل في صغرك، وأنت تركلني، لا تحزن مني، لم أحضر لك شعيرًا، ولم...)
_ آآآآآآآآآآوووو!!
ركلة ثانية جعلتني أشعر بأن ساقي قد تحطمت، مع لكمة في بطني جعلتني أشعر برغبة في التقيؤ، وما زال الأستاذ يحدق في الفراغ، فوقفتُ مكاني رافعًا قبضتي، ناويًا أن أنزل بها على رأس وليد، أو وجهه، وأنا أقول له: (نسيتَ؛ كذلك؛ أن تنبح مثلما فعلتَ أيام زمان)...
_ لقد رأيتك، رأيتك، رأيتك!
يا للهول! هذا الأستاذ! إنه ينظر إليَّ مباشرة، كنتُ أنوي أن أربِّي وليدًا بهذه الضربة، فرغم ضعفي، سأسبب له الأذى حينما أحطم أنفه، ولكن...
ارتفع رنين الجرس هنا، فهتف الأستاذ بي شامتًا: (لا تظن أنك نجوت، سأشكوك غدًا إلى والدك، أنت تعلم أين أراكما)!

حصلت هذه الحادثة يوم السبت، إذ إننا؛ أنا ووالدي؛ كنا نذهب كل يوم أحد إلى فرن الضيعة عندنا لنشتري الخبز والمناقيش للعائلة، وكل مرة كنا نرى الأستاذ هناك...
ولم أكن مخطئًا ولم أضع وقت الدرس حتى أخشى هذه الشكوى، لكني سأسمع؛ حتمًا؛ محاضرة روتينية عن الدرس وأهميته، وأنا لا أتحمل المحاضرات، فدعوتُ الله أن يفقد الأستاذ ذاكرته!

وفي اليوم التالي، كانت عيناي تنظران في كل الاتجاهات، وأنا أسير مع والدي، ولكم أفرحني أنني لم أر الأستاذ، ولكن... يا فرحة ما تمت! لقد خرج الأستاذ من الفرن، متجهًا نحونا، صارخًا بغضب هادر، بصوت أسمع فيه الحارة كلها: (مثل الكلب)!
نظر إليه والدي بدهشة، أما أنا فأردتُ أن أرد له بأسلوب عنيف، ولكنه تابع، وعيناه تزوغان في مكانهما: (نعم، مثل الكلب، تركتني صاحبة الفرن، ولم تعطني ولا رغيف خبز)!
الحمد لك يا رب! هذه أجمل خدمة تقدمها إلينا صاحبة الفرن، من دون أن تدري!
_ (لا، إنها لم تعتبرني كلبًا، بل اعتبرتني أقل منه، لو اعتبرتني كلبًا لكانت قالت لي هشت هشت على الأقل)!!
لم يَرُدَّ والدي، كان دهشًا بحق لهذا التصرف الغريب من الأستاذ أمام تلميذه، بل أمام جمع كبير من الناس، وكيف يصف نفسه بهذه الأوصاف، أما أنا فكنتُ أضحك بأعلى صوتي، ما زالت عادة الضحك حينما أرى من يصرخ موجودة عندي، وسار الأستاذ في دربه، متابعًا صراخه وشكواه عن (الكلب) وعن الـ(هشت هشت التي لم يسمعها من صاحبة الفرن)، وأنا أشكرها من كل قلبي!

وفي اليوم التالي، تذكر الأستاذ أنه يريد أن يشكوني إلى أبي لسبب ما لا يذكره!
(لو ظل فاقدًا ذاكرته كلها لكان خيرًا له ولنا) :)
ودخل والدي المنزل مساء، يهتف باسمي، فاتجهتُ نحوه، قائلًا: (خير يا بابا)؟
أجابني والدي غاضبًا: (خير؟ من أين يأتي الخير؟ من هذا الحمار الذي يجلس بجوارك؟ لقد أخبرني الأستاذ بكل شيء، قال لي إن حمارًا حقيقيًا يجلس بجانبك، يتسبب بإلهائك عن المذاكرة، ويضحك مثل المجانين، بل إنه سمعك تطلب منه أن ينهق)!
_ !!!!!
يا لك من مسكين يا وليد! ثم ما شاء الله حول هذا الأستاذ! الذي كان يضحك بجنون وشماتة هو رفيقنا الجالس خلفنا، لأنه حقق مراده بأن يجعلنا نتقاتل معًا، أما وليد... فالله يعينك، لكنك أنت المخطئ؛ كعادتك؛ لأنك لم تعرف كيف تجيب، لم تقدر مشاعري النبيلة تجاهك، لذا؛ سأقول لك: (تستحق ذلك، الله لا يَرُدُّك إن شاء الله)...

وإلى المرحلة الثانوية، وباختصار، لنتابع وإياكم إن شاء الله تعالى
فتابعوا معنا

Paavo
11-12-2017, 09:12 PM
بانتظار الجديد

أ. عمر
14-12-2017, 03:37 AM
بانتظار الجديد

بإذن الله، حينما يخف ضغط تصحيح الاختبارات الفصلية

أ. عمر
18-12-2017, 10:33 PM
اشعروا بالدهشة!


تلك كانت أبرز حكايا وذكريات المرحلتين الابتدائية والمتوسطة
وحكايا المرحلة الثانوية قد لا تكون حكايا مطولة، ولكن كان فيها الطرافة كذلك
إنها المرحلة الثانوية!
إنه اليوم الأول لنا في الثانوية!
وهذا يعني أن الشهادة المتوسطة، بكل وهجها وبريقها آنذاك، باتت في حوزتنا..
لقد أصبحنا "رجالًا" بحق!!
وعلوم الدنيا ومعارفها كلها صارت أمورًا نعرفها بالبديهة، كما نظن..
مزيج من بداية مرحلة المراهقة بما فيها من لعب الأولاد وتناقض الشباب العجيب بين الطيش والحكمة، والاغترار بأنفسنا لحصولنا على الشهادة المتوسطة..
إنها_ كما قلنا_ المرحلة الثانوية..
وهكذا، وبكل ما سبق ذكره، نزلتُ في اليوم الأول إلى الثانوية، بحماسة شديدة..
نزلتُ مع والدي بالسيارة، وأنا أشعر بالسعادة لأنه سيعلمنا..
ليس لأنه والدي، فهو لا يُحابي أحدًا والفضل لله تعالى..
ولكن لأن والدي اشتهر في ضيعتنا بأنه أفضل مدرِّس للغة العربية فيها، ولله الحمد أولًا وأخيرًا..
كنت أشعر بالحماسة، ولكنها لم تدم طويلًا، لقرب المسافة بين البيت والثانوية..
وهكذا، دخلت إليها، وأنا واثق بأنها ستكون مرحلة تعليمية مختلفة في حياتي..
ولم يكن ليخطر ببالي في ذلك اليوم، أنها ستكون حقًا مختلفة..
ولكن ليس لما تخيلته..
بل لما مررت به خلالها من مواقف وأحداث..
ولم تتأخر تلك المواقف والأحداث على الإطلاق..
فلقد بدأت..
ومنذ اليوم الأول..
لا، بل منذ الحصة الأولى..
مباشرة.
وما أزال أتذكر اليوم الأول، وأنا في الملعب قبل رنين الجرس، أستمع لضجيج التلاميذ، ومن يلتقي مع رفاقه ممن كان معه في صف الشهادة المتوسطة..
والغريب أنني كنت أقف وحدي ليس معي أي زميل ممن كانوا معي من قبل..
ويبدو أن عددًا كبيرًا منهم التحق بثانويات أخرى أو ترك المدرسة ليتوجه إلى المهنيات، وبقي قليل تسجلوا في الثانوية نفسها في الفرع العلمي،
بينما كان من الطبيعي بالنسبة إليّ، اختيار الفرع الأدبي..
لكن وقفتي لوحدي لم تستمر طيلة الوقت..
فلقد فوجئت بزميل كان معي في صف الثالث المتوسط، ثم افترقنا سنتين، إحداها كنت في الرابع المتوسط "صف الشهادة" في مدرسة خاصة،
ورسبت، والسنة الأخرى أعدت الصف في مدرستي الأولى..
أي أن هذا الزميل كان قد سبقني بسنة دراسية، ثم رسب بدوره في أول سنة له في المرحلة الثانوية، واضطر لإعادتها، فالتقينا مجددًا..
وكم شعرت بالسعادة حين التقيته، وكم شعرت بالأسف لذلك فيما بعد، لما تسبب لي به، سامحه الله..
ولا أنسى الإشارة أننا تصافينا في سنوات لاحقة، وأصبحنا رفاقًا بحق..
لم يكن ليخطر في بالي أنه يخطط للأذى من وقت أن رآني، لفكرة انتقام غبية تسيطر عليه، وتشكل كابوسًا في حياته..
كنت فقط سعيدًا لرؤيته وأنني لن أقف لوحدي في الملعب، لا أعرف أحدًا ولا أحد يعرفني..
إلا ما أشرت إليه من رفاق تسجلوا في الفرع العلمي، وكانوا معًا، ويبحثون عن رفاق لهم في الصف ذاته...
ومع ارتفاع رنين الجرس، شعرت بشعور غريب..
رغم أنني قضيت سنوات طوال في المدرسة فعليًا، إلا أن رنين الجرس بدا لي غريبًا..
وكأنه رنين لانطلاقة جديدة في المسيرة التعليمية..
بل وكأنه رنين لنذهب إلى صفوفنا، وما إن يدخل أي أستاذ ليخبرنا بأي معلومة، حتى نشير إليه باستهانة، قائلين: "هذه معلومة قديمة، نعرفها منذ سنوات"!!
وقفنا في الملعب من دون انتظام، ووقف أمامنا أحد النظار _للدقة، أحد الناظِرَين في الثانوية_ يخبرنا أين صفوفنا..
ولأن "النساء أولًا" حتى في الثانوية، كان على الشباب أن ينتظروا حتى تتفضل البنات بالتوجه إلى صفوفهن..
ونقطة الاعتراض أن عدد البنات كان أكثر من عدد الشباب بحوالي ثلاثة أضعاف..
أو ضعفين ونيّف على الأقل..
ثم إن مشيتهنَّ بطيئة للغاية، فأخذنا نتململ من الوقوف ومن الانتظار..
ولما حان دورنا، انطلقنا كالقذائف المدمرة نحو الصفوف..
ولا أتكلم عن نفسي، فصفي كان بفضل الله، يبعد بضعة أمتار عن مكان وقوفنا، وكان الصف الأرضي الوحيد..
ومع دخولي إلى الصف، مع رفيقي ذاك، شعرت بدهشة عميقة..
كنا في مدرستنا السابقة، يتراوح عددنا بين ال 26 وال 36 تلميذًا في الصف الواحد..
وحتى السنة التي كنت خلالها بالمدرسة الخاصة، كان عددنا 18..
لكن هنا، كانت هناك ثلاث بنات في الصف، وأنا ورفيقي..
أي أننا كنا خمسة فقط!!
والثانوية رسمية، أي أنه من الطبيعي أن تكون صفوفها ممتلئة عن آخرها بالتلاميذ..
وقبل أن أسأل رفيقي إن كان الحال هكذا معه في السنة الماضية، دخل شاب في مثل عمري الصف..
وسألنا "هل هذا هو صف الثانوي الأول الأدبي"؟ (أيامها كنا نسميه صف ال seconde رغم خطأ هذه التسمية)!
أدركت من لهجته أنه ليس من منطقتنا، بل من مدينة طرابلس نفسها..
أجابه رفيقي بالإيجاب، وعرّفنا بعضنا ببعض..
كان فعلًا من طرابلس، واسمه "محمد"..
ولم أكن أعرف وقتها، أن هذا الشاب سيكون يومًا ما أعز أصدقائي، وأكثر إنسان أثق به على الإطلاق..
لم يطل تعارفنا وقتها، بل لم يطل وقوفنا، فلقد دخلت الصف معلمة...
توقعنا أن تعرِّفنا نفسها، أن تخبرنا من تكون، أن تتعرَّفنا الأقل..
ولكنها انطلقت، من دون مقدِّمات، تتحدث باللغة الفرنسية، بسرعة كبيرة..
والحقيقة أنها حتى لو تحدثت ببطء، فلن يتغير شيء من الواقع..
وفي كآبة شديدة، ذهبت بحماستنا أدراج الرياح، أخذنا نستمع إليها دون أن نفهم شيئًا..
والحقيقة أنها كانت متحمسة للغاية في تدريسها..
والدليل قدوم شاب وفتاتين إلى الصف خلال الحصة، لم تفكر أن تسألهم من يكونون!!
أي أن عددنا في الصف الثانوي الأول، كان تسع تلاميذ، من بيننا ثلاثة يعيدون الصف!
ولن أستطرد في قصتها هنا، فقد سبق أن قدمتها في حكايتي مع اللغة الفرنسية، ولكن شعور الدهشة إثر اصطدامي بالمدير، بعدما طردتني المعلمة من الصف، وتبريره لي بأن (الإسهال قد أهلكه)، لم يكن شعورًا هينًا، ولم أفهم كيف يمكن للمدير أن يتكلم بهذا الكلام مع تلميذ!
لكن المهم هنا، أنه، وبعد الاستراحة رجعنا إلى الصف، ليدخل ذلك الأستاذ..
وما كاد يدخل، وقبل حتى أن يجلس، أشار إليّ بيده أن أقوم من مكاني وألحق به..
فعلت ذلك، وأنا لا أعرف ماذا يريد، ولا أستطيع التخمين...
لكني أجبتُ طلبه، واتجهتُ نحوه، وأنا أشعر بالدهشة الشديدة لمناداة أستاذ لي بأول حصة يدخل بها إلينا...
ومن المؤكد أنه لا يريد مني أن أحضر طبشورًا مثلًا، فاللوح ممتلئ بالطباشير البيضاء والملونة...
وما إن وصل الأستاذ إلى طاولته، وقبل حتى أن يجلس، ابتدرني بقول عجيب..

جعل عيناي تتسعان من الدهشة..
كل الدهشة..
ولن أدعي أن حيرتي هذه استمرت طويلًا، لكنها استمرت طويلًا!!
طبعًا هذا ليس بتناقض ولا من قبيل الألغاز..
فالأستاذ لم يتأخر في إخباري بما يريد، وقبل حتى أن يقعد في مكانه..
ولكن الحيرة لم تزل، بل تضاعفت أضعافًا عديدة..
فلقد قال الأستاذ لي بطريقة آمرة:
_ هيَّا!!
هيَّا؟ هيَّا ماذا؟ ما المفترض أن أفعل يا تُرى؟
تساءلت بحذر:
_ هيَّا ماذا؟!
صرخ الأستاذ في وجهي فجأة، وبلهجة تساؤلية:
_ هيباشوشا؟!
صحت بدهشة عارمة:
_ من؟
صرخ الأستاذ مجددًا، وبصوت رهيب، كمن يحاول أن يشق حنجرته:
_ زُحل!
خطر لي خاطر غريب، جعلني أسأل الأستاذ في حذر شديد:
_ هل سنبدأ بالتنجيم؟!
هذا لأنني كنت متأكدًا أن "هيباشوشا" هذا منجم لا محالة، وإلا لِمَ يذكر الأستاذ اسمه، ثم يذكر اسم أحد الكواكب؟!
طبعًا لا أؤمن بالتنجيم، وأعرف أنه عمل يؤدي بمن يستمع إليه مزاحًا إلى حرمانه من أجر الصلاة أربعين يومًا، ومن يستمع إليه تصديقًا فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم..
فما البال بمن يفعل ذلك إذًا؟!
انتبهت إلى أن الأستاذ ينظر إليَّ في ترقب لما سأقول، فأدركت أنه لم يستمع إلى ما قلته، فأعدت السؤال، لكن بسخرية هذه المرة:
_ هل سنبدأ بالتنجيم يا أستاذ؟!
صرخ الأستاذ في غضب:
_ اخرج من الصف، هيّا..
يا حبيبي يا حبيبي!!
إن شاء الله كل ما جاء أحدكم سيخرجني من الصف، ومن أول يوم؟
سألته باعتراض:
_ لماذا؟ أنت قلت لي "هيباشوشا" وقلت لي "زحل"، ما المفترض أن يعني لي هذا؟!
تمتم الأستاذ بتهكم:
_ ما شاء الله، ما شاء الله، ألم تدرس درسك؟ ستنال صفرًا، حتى تتربى أن تدرس!!
هتفت به مستنكرًا:
_ أدرس درسي؟ هذا أول يوم في الثانوية، فكيف سأدرس درسي هذا و...
قاطعني بلهجة حاسمة:
_ هذا لا يعنيني، كان بإمكانك أن تسأل رفاقك ماذا أخذتم، بدلًا من أن تنزل إلى الثانوية وتقف أمامي هكذا!
أشكر الله أن رفاقي تطوعوا هنا لإفهام الأستاذ المتحمس هذا، أننا في أول يوم في المرحلة الثانوية، وأنها أول حصة يأتي بها إلينا، واستغرق ذلك بعض الوقت حتى اقتنع الأستاذ وفهم، أو هكذا ظننت، لكني فوجئت به ينظر إليّ متسائلًا:
_ نعم؟!
رددت خلفه، لأسأله بدوري:
_ نعم نعم؟!
صرخ الأستاذ (كعادته حين ينفعل):
_ ماذا تفعل هنا؟ لماذا لست في مقعدك؟
أحسست بأنني سأنشق من فرط الغيظ، فاستدرت راجعًا إلى مقعدي بدلًا من الدخول في نقاش عقيم مع هذا الأستاذ غريب الأطوار، وما كدت أجلس، حتى فوجئت به يشير إليّ بإصبعه، فسألته:
_ أنا؟!
كنت متوقعًا أنه سيقول لي هذه المرة "ماذا تفعل هنا؟ لماذا لم تأتِ إليّ" مثلًا، لكنه اكتفى بهز رأسه إيجابًا، فأشرت بيدي متسائلًا، و...
وهنا انفجر الأستاذ صارخًا بغضب شديد:
_ ما لي أراك بليد الفهم اليوم؟! آه؟! هل تلزمك ساعة كي تفهم؟!
هتفت به بمزيج من الرجاء والتوسل والضيق والضجر والغضب، كلها مع بعضها:
_ أفهمني ماذا تريد يا أستاذ، وتكرم!
رد متهكمًا:
_ صعب عليك أن تفهم أني أسألك عن اسمك!
أطلقت تنهيدة غيظ، محاولًا السيطرة على نفسي، وأجبته بشيء من العصبية:
_ عمر قزيحة.
ردّ قائلًا:
_ يا عيب الشوم عليك، ألا تستحي على دمك؟
لا حول ولا قوة إلا بك يا رب.. يا رب ألهمنا الصبر على هذه البلوى!
سألته بعصبية أكبر:
_ لماذا؟!
رد بصوت يوحي بثقته في ما يقول:
_ أنت تعرف نفسك، ما من داعٍ لتظهر نفسك بمظهر الغشيم!!

لا إله إلا الله!!
يا ربي ما هذا المصاب؟!

بذلت جهدًا خرافيًا للسيطرة على نفسي، وأنا أتساءل:
_ لماذا يا عيب الشوم عليّ يا أستاذ؟ أنا لا أعرف!
أجابني هازئًا:
_ خمس سنوات وأنت بالصف ذاته؟ أليس في عقلك بعض الفهم حتى تعرف كيف تنجح؟ هل من الضروري أن يبلوني الله بك كل سنة؟!

نظرت إليه غير مصدق لهذا التخريف الذي يقول..
كنت وقتها في الخامسة عشرة من عمري، ولو صدق الأستاذ فيما يقول، لكان معنى قوله إنني كنت بأول صف في الثانوية وعمري عشر سنين!!
ثم إنني كنت في تلك السنوات، قصير القامة كثيرًا، بملامح طفولية أكثر من اللازم، وأي شخص يسألني في أي صف، وأقول له إنني في أول صف في الثانوية، كان
يضحك بسخرية، ويطلب مني ألا أمزح معه..
وعبثًا حاولت إفهام بعضهم أنني، ولولا رسوبي سنة دراسية، لكنت في ثاني صف في الثانوية..
وكيف يقتنعون بهذا، وكان أفضلهم يخبرني بأنني في الثاني المتوسط؟!
ولكم كان هذا يضايقني آنذاك، لكنه بدا لي مثل "اللبن" كما نقول، أمام ادعاء هذا الأستاذ الأحمق..
ومرة أخرى حاولت عبثًا أن أفهمه بأنها السنة الأولى لي في الثانوية..
ثم سألني الأستاذ عن اسم أبي، فأجبته، ومع أنهما زميلان في الثانوية نفسها، إلا أنه بدا وكأنه لم يسمع باسمه في حياته كلها..
ولم يقتنع الأستاذ قط بأنني لا أكذب عليه في ما أقول!!
والعجيب الغريب أنه سألني عن أخي، والأعجب الأغرب أنه سألني في أي صف أصبح أخي الآن في الجامعة، الثالثة أو الرابعة؟ وأخي يكبرني بسنتين في المرحلة الثانوية فقط!!
(وما عرفته فيما بعد، أنه كان في الحصة الثالثة في صف أخي، ثم أتى ليسألني في أي صف أخي الآن)!!
والأسخف أن الأستاذ أصرّ على البدء بالدرس، لكنه أخبرنا بأنه يعتبر الكتاب المدرسي تخريفًا وهراء لا حدّ لهما، وأن "الجغرافيا" التي سوف "يتحفنا" بها ستجعلنا أعظم من علماء الجغرافيا في العالم..
مع العلم بأن هذه "الجغرافيا" التي أخذ الأستاذ يتلوها على مسامعنا كالصاروخ، ونحن نكتب بسرعة خيالية لنلحق به، هي نفسها الدروس المسجلة في الكتاب، وقد نقلها الأستاذ إلى دفتره
لسبب ما..
كان درسنا الأول عن الكواكب، ولكم ابتسمت متهكمًا حين عرفت من هو "هيباشوشا" هذا!!
انتهت حصة الجغرافيا هذه، ونحن نلهث من التعب والإرهاق..
وبصراحة لم أعرف كيف مرت الحصتان اللاحقتان، وقد بدا لي النهار مثل الكابوس بسبب هذه البلاوي التي شاهدتها..
ولكنّي، عمليًا، لم أكن قد شهدت شيئًا منها بعد..
ففي اليوم التالي، دخل أستاذ الجغرافيا إلى الصف..
وفي سيناريو بدا لي نسخة طبق الأصل من أحداث الأمس..
أشار إليّ الأستاذ لألحق به..
فعلت ذلك بمزيج من الدهشة والغيظ..
لِتَتِمَّ إعادة مشهد الأمس بدقة متناهية، ابتدرني الأستاذ بالكلام قبل حتى أن يجلس..
لم يسألني عن "هيباشوشا" هذه المرة..
لكنه قال لي ما جعلني أشعر بدهشة شديدة..
وأنظر إليه غير مصدق ما تسمعه أذناي..

تابعوا معنا

أ. عمر
30-12-2017, 12:00 AM
تعالوا نصرخ!


وقبل أن أخبركم ماذا قال لي الأستاذ، ولم اتسعت عيناي دهشة، وجب أن أخبركم؛ أولًا؛ من يكون (هيباشوشا) الذي سألني عنه المرة الماضية!
إنه، وبكل بساطة، ويليام فريدريش هرتشل، مكتشف كوكب (زحل)!
ولا أعلم، إلى الآن، بعد كل هذه السنوات الطوال، ولا أظنني سأعلم يومًا، ما الرابط بين ويليام فريدريش هرتشل، وهيباشوشا هذا!!
فلنرجع إلى حكايتنا، ما أزال أذكر الدهشة التي أصابتني، مع نظرة الأستاذ اللائمة لي، وكلامه المعاتِب:
_ يا عيب الشوم عليك، ألا تستحي على دمك؟
إنه سيناريو اليوم الماضي بالضبط! المسرحية تتكرر! يا لسعادتي!
ومع أنني أعرف الإجابة، وجدت نفسي أسأله بحذر: (لعله يقصد شيئًا آخر):
_ لماذا يا عيب الشوم عليَّ يا أستاذ؟
رد الأستاذ بصوت يمتلئ حماسة وثقة:
_ أنت تعرف نفسك، ما من داعٍ لتظهر نفسك بمظهر الغشيم!!
ما شاء الله! يبدو أن الأستاذ هو الذي يظن أننا ما نزال أمس، لا أنا!!
سألته، متوقعًا الإجابة، وموقنًا بها:
_ لماذا؟
أجاب ممتعضًا:
_ خمس سنوات وأنت بالصف ذاته؟ أليس في عقلك بعض الفهم حتى تعرف كيف تنجح؟ هل من الضروري أن يبلوني الله بك كل سنة؟!
ما أجمل هذا الفاصل الهزلي! لكن مشكلتي أنني لا أطيق الروتين، لذا كان لا بد من تغيير درامي في نص الحوار، ومن هنا، أجبتُ بحزن شديد:
_ وماذا بيدي لأفعله يا أستاذ؟ عقلي لا يستطيع استيعاب الدروس، وأكره المدرسة، لكن الوالد يرفض أن يتركني أخرج منها، ولو أعدت كل صف عشر مرات لا خمسًا!
رد الأستاذ بغضب:
_ لا يجوز هذا! هذا يسبب تعبًا للأساتذة في التعامل مع من هم مثلك!! على والدك أن يخرجك من المدرسة لتتعلم لك مصلحة!
هتفت بحماسة مفتعلة:
_ ليتك تقنعه بهذا!
نظر إليّ بعض الوقت بصمت، ثم سألني صارخًا:
_ ما اسم والدك وماذا يشتغل؟
أجبتُه عن سؤاله، لينظر إليَّ في ارتياب شديد، وكأنه لم يسمع باسم والدي من قبل، مع أنهما زميلان في الثانوية نفسها، ومنذ سنوات طوال...
والغريب العجيب أن الأستاذ سألني في اللحظة التالية عن أخي، ذاكرًا إياه بالاسم وفي أي سنة جامعية الآن!
ولإضفاء بعض الحيوية على هذا المشهد المسرحي، غيرت إجابة أمس بالكامل، لأقول بحماسة:
_ أخي لم يدخل الجامعة، بل سافر ليشتغل مهندسًا في إيطاليا!
وكيف ذلك؟ أنا نفسي لا أعلم! هل هناك شخص لا يدخل الجامعة، ويشتغل مهندسًا بعد ذلك، وفي إيطاليا نفسها؟!
ولكن الأستاذ اقتنع بما قلته له، فهتف مستبشرًا:
_ برافو عليه! وعقبى لك تضع عقلك في رأسك لتدرس وتشتغل مهندسًا في إيطاليا أنت الآخر!
صحت برعب لهذا الافتراض المخيف:
_ لا، أعوذ بالله، لا أريد أن أشتغل مهندسًا، بل صحافيًا، لأن...
قاطعني بصرامة:
_ اشتغل مهندسًا، صحافيًا، بطيخًا... المهم أن تشتغل!!
أشتغل بطيخًا؟! هل يمكن لبني آدم أن يشتغل بطيخًا؟! يبدو أننا في زمن العجائب المنقرضة مع هذا الأستاذ، والله أعلم!
ظننتُ، واهمًا، أن الفصل المسرحي قد انتهى هنا، مع إشارة الأستاذ لي لأرجع إلى مكاني، ففعلتُ ذلك، لكني؛ وما كدتُ أستقر في مقعدي؛ حتى أشار الأستاذ نحوي، كما فعل أمس تمامًا، فقلتُ له بسرعة:
_ عمر قزيحة.
لينفجر بي صارخًا بغضب:
_ من سألك؟!
هتفت بدهشة:
_ ماذا إذًا؟!
رد الأستاذ متضايقًا:
_ أسألك عن اسمك!
هتفت به متهكمًا:
_ بِجَد؟!
صاح الأستاذ غاضبًا:
_ هل هناك من يسألك عن اسمك مزاحًا؟! ما لي أراك بليد الفهم اليوم؟!
لا، لا، لا! هذا فاصل مسرحي مميز! لم يسبق له مثيل فيما يبدو!
ذكرتُ اسمي مجددًا للأستاذ، ليهتف بي متوسلًا:
_ ارحمني أرجوك! وافهم ما أقول! دعك من عمر هذا وأخبرني عن اسمك!
كيف سألتَني عن أخي إذًا ما دمتَ لا تعرف من أنا؟! أجبتُ مبتسمًا:
_ أنا لا أكلمك عن عمر، أنا هو عمر، شخصيًا ومباشرة على الهواء إن أحببتَ!
لم يَبْدُ على الأستاذ أنه قد صدقني، بل رمقني بنظرة استخفاف، ثم أعلن أنه سيبدأ بتسميع الدرس، وفتح دفتره مناديًا إحدى البنات في الصف، ولكم كان تسميعها متقنًا! لم تخطئ في شيء، ويا لها من صاعقة مدمرة هوت على رأسها، حينما صرخ الأستاذ بوجهها:
_ ثلاث علامات!
اعترضت المسكينة على هذه العلامة الجائرة، لكنها لم تلق أذنًا صاغية، فعادت إلى مكانها باكية، لينادي الأستاذ زميلة أخرى، كان تسميعها متقنًا مثل رفيقتها، لتنال علامتين فحسب!
ويبدو أن الأستاذ ظن نفسه في مباراة للعد التنازلي، لكنه نسي الرقم واحد، إذ إنه سمَّع لتلميذة ثالثة، ومنحها صفرًا، رغم أنها لم تخطئ على الإطلاق!
إلا أن الزميلة الرابعة قررت اختصار المأساة، وألا تعذب نفسها، فما كاد الأستاذ يذكر اسمها، حتى قالت بكبرياء:
_ لم أدرس الدرس.
فكان رد الأستاذ أنه سيمنحها فرصة أخرى، لترتفع أصوات المعترضات من صديقاتها اللواتي نِلْنَ علامات متدنية، ولكن من دون جدوى، فالأستاذ وضع علاماته هذه، ولن يمحوها ما لم تقم القيامة (وذلك وفق تعبيره الشخصي، والمتكرر).
ونادى الأستاذ زميلتنا الخامسة (مع أنها متغيبة)، لكنه لم يقتنع بأنها متغيبة، لأن دفتره مسجل فيه اسم خمس بنات لا أربع، ويبدو أن دفتر الأستاذ يفهم أكثر من عينيه! فلقد اعتبر أنها (لا تريد التسميع)، ومنحها صفرًا!
وبغتة، صرخ الأستاذ:
_ أشرف، قم سمِّع!
أمر جميل، لولا أنه لا يوجد أشرف واحد في الصف، ولكن الأستاذ أصرَّ على أنه موجود، وظل يناديه ويهدده بالصفر إن لم يستجب للطلب، ونحن في دهشة شديدة نتساءل عن أشرف الوهمي هذا، ولكننا عرفناه بالفعل، فلقد نطق الأستاذ باسمه الثنائي، ولكن الدهشة تضاعفت، فالأخ أشرف هذا كان قد ترك الثانوية كلها من ثلاث سنين مضت!
ونال أشرف؛ الذي لم يكن موجودًا في الثانوية كلها؛ صفرًا على درس الجغرافيا!
وبعد ذلك، طلب الأستاذ من سامح أن يتفضل للتسميع... سامح الذي كان يحفظ حرفيًا، مهما بلغ عدد الدروس، ولا يخطئ في حرف واحد، بل يستطيع أن يذكر أين علامات الوقف في تسميعه، لقوة ذاكرته الفوتوغرافية...
ولكن زميلنا تردد، لقد رأى بعينيه وسمع بأذنيه ما حلَّ بزميلاتنا، رغم التسميع المميز، لذا أراد سامح النجاة بنفسه، فَرَدَّ ببساطة، مدعيًا أنه لم يدرس شيئًا، ليقول الأستاذ من دون مبالاة بذلك:
_ وأحلى صفر، لعيونك!
صرخ سامح بمنتهى الرعب:
_ لاااااا، سأسمِّع، تكرم عيونك!
وانطلق سامح في تسميع الدرس، بسلاسة مدهشة، والأستاذ ينظر إليه مبهورًا، ما جعلنا نعتقد أن الغيبوبة العقلية التي أصابته مع تسميع زميلاتنا قد انتهت، ولكن...
هبَّ الأستاذ كالإعصار، على حين غرة، ليصرخ صرخة رهيبة...
كاد يشيب لها شعر رأس رفيقنا رعبًا!

تابعوا معنا

أ. عمر
5-1-2018, 08:32 PM
أشباح وذُرَة وصاروخ وصراخ!


كانت صرخة الأستاذ مخيفة بحق، كاد سامح يودِّع الحياة بسببها، خاصة أن الأستاذ وثب بغتة من مقعده، ليتراجع سامح مطلقًا شهقة عنيفة، ظننا معها أنه سيموت بسكتة قلبية حتمًا!
والحقيقة أن زميلاتنا أصبنَ بحالة رعب فادحة مع هذه الصرخة، ونحن؛ الشباب؛ لم نكن أفضل حالًا منهنَّ :)

ولكني أركز على سامح المسكين، سامح الذي جمد مكانه يرتجف رعبًا، والأستاذ يتقدم منه، بغضب شديد، وتواجه الاثنان لحظات بصمت، ثم هتف الأستاذ بسامح: (أين هي)؟!

لم نفهم ما هذه ال(هي) التي يتحدث الأستاذ عنها، سامح كان يُسمِّع درس الكواكب، فهل يسأله الأستاذ عن (الزهرة) مثلًا؟! ولكن الأستاذ نظر إلى المقعد الأول، إلى مكان جلوس الطالبة الغائبة، هاتفًا بسامح: (أين هي؟ أين خبأتها)؟!

ارتفعت ضحكاتنا، واحتقن وجه سامح إحراجًا، ولم يستطع الإجابة، رغم حضور بديهته، لكن هذا السؤال كفيل بإصابة البلغاء بالخرس!
وبعد أن تمالك سامح نفسه وتجاوز المفاجأة، هتف مستنكرًا: (أنا خبأتها)؟ ولكن الأستاذ لم يبالِ بالاستنكار، بل قال بلهجة خبيثة: (لا تدعي البلاهة يا ولد)! وقبل أن يعترض سامح مجددًا، صرخ الأستاذ في وجهه، بصرامة: (اخرج بها من حيث خبأتها)! لترتفع الضحكات مجددًا، ويحتقن وجه سامح مرة أخرى!

أشفقنا صراحة على سامح الذي كان يقف كالأبله لا يدري ما يقول، أو يفعل، والأستاذ ينظر إليه مترقبًا أن (يخرج بها من حيث خبأها)، ونحن نظن بعقل الأستاذ الظنون، فهل يُعقَل أن زميلنا قد (خبأ) إحدى الطالبات؟!

وأخيرًا فهمنا مقصد الأستاذ! لقد عاد ينظر إلى المقعد الأول، صارخًا: (الطبقة، الطبقة، أين هي؟ لقد أدركتَ؛ يا سامح؛ بأنني أدركتُ، أنك تنقل من الطبقة، لقد وضعتَ الدفتر فيها، وأخذتَ تنقل منه، وحينما كشفتُك، خبأتَ الطبقة، أين هي)؟!
ولكننا لا نُلام على سوء الظن بالأستاذ، فكل مقعد تجلس عليه طالبتان، والأستاذ نظر تحديدًا في مكان جلوس الطالبة الغائبة، ولم ينظر نحو زميلتها على الإطلاق، ثم إن المقعد لم يكن له طبقة خشبية أصلًا، وبالتالي أنَّى لنا أن نفهم أن الأستاذ يقصد الطبقة باتهامه سامحًا بتخبئتها، لا زميلتنا الغائبة عن الثانوية؟! بل حتى لو كان هناك طبقة، فنحن نقف فوق طاولة خشبية طويلة حينما نريد التسميع أو الكتابة على اللوح، وبالتالي يستحيل القراءة من أي طبقة كانت!

ولقد عَبَّر سامح عن ذلك خير تعبير، لكنه لم يفوِّت على نفسه فرصة التهكم في هذا الموقف، فسأل الأستاذ بصوت يقطر سخرية: (لماذا تسأل عن الطبقة؟ هل تريد أن تبيع الطبقات يا أستاذ، أم تؤجرها لأحد)؟!
ظل الأستاذ ينظر إليه بصرامة، فهتف سامح بتهكم شديد: (أنا أدعى سامح يا أستاذ، وشغلي تلميذ في الثانوية، تلميذ، لا جني لا سمح الله! هل تظنني جنيًا يا أستاذ؟ أو يعقل أن تسمِّع لي الدرس، ثم تكتشف أنني أقرأ من الدفتر في الطبقة الخشبية، فأمد يدي؛ أمامك؛ خمسة أمتار من دون أن تراني، وأنتزع الطبقة الخشبية من مكانها من دون أن تراني، بل وأخبئها كذلك من دون أن تراني، كل هذا وأنا واقف أمامك؟! هذا إذا افترضنا أن لي ذراعي أخطبوط لا ذراعي بني آدم)!

توقعنا أن الأستاذ قد أدرك خطأه هنا، ولكنه ابتسم قائلًا بهدوء: (أتظن أنني غشيم يا ولد؟ أنا أفهم ألعابكم هذه جيدًا، وعلامتك صفر لأنك غشاش)!

ورغم أن الصديقين الباقيين في الصف قد سمَّعا تسميعًا جيدًا، إلا أنهما نالا علامة منخفضة جدًا، ولم يبق سواي في الصف لم يسمِّع له الأستاذ، ويا للروعة! لقد أعلن الأستاذ خبرًا سعيدًا، مفاده أن درس الكواكب قد انتهى، ولن يرجع إليه بعد ذلك، لا درسًا ولا تسميعًا، ومن الحصة المقبلة لدينا درس جديد.

كانت بشارة رائعة لي فعلًا، رغم أنني أحفظ الدرس، لكن مع ما أراه من الحالة المزاجية عند هذا الأستاذ، فأنا لا أضمن لنفسي شيئًا، بل إنني سأنال علامة منخفضة حتمًا، لم أبالِ بنظرات الحسد التي يوجهها إليَّ رفاقي، ولا بتعليقاتهم الحزينة عن أصحاب الحظ الرائع أمثالي، ولماذا لم يكن حظهم مثل حظي أنا!

ولقد لمسنا صدق الأستاذ في ما قاله، مع حصته التالية، فما كاد يشرفنا بدخوله الصف، حتى أشار إليَّ، لآتي إليه (وهذا هو السيناريو المعتاد) :) وأخذتُ أجهز في ذهني إجابات جديدة حول سؤاله لي عن (البلوى التي يبلوه الله تعالى بها بوجودي كل سنة في الصف، ورسوبي خمس سنين، وسؤاله عن أبي وأخي...)، وقد نفَّذه الأستاذ بالفعل، وأنا أوافقه في كل ما يقول، ولكن (السيناريو غير المعتاد) أن الأستاذ طلب إليَّ أن أسمِّع درس الكواكب!

هتفتُ باعتراض: (ولكن...)، ولم أتابع اعتراضي، فقد لحظت أن الأستاذ قد شرد بغتة، وعيناه تحدقان في المجهول، ولكني كنتُ قد نسيتُ كل شيء عن الدرس! فماذا أفعل يا ترى؟ سينتبه الأستاذ حتمًا، لن يبقى شاردًا إلى الأبد، وسيرى أنني جامد لا أنطق بشيء، وسأنال صفرًا، ولكن لا، لكل مشكلة حل، وأنا لا ينقصني الذكاء!

ومن هذا المنطلق، أخذتُ (أخترع) جغرافيا لم يسمع بها أحد في هذا العالم، فالمريخ يمكن أن نسافر إليه بالطائرات والصواريخ! وأورانوس يظهر كلما أكلنا من الذُّرة كم عرنوس! وإذ نظرتُ إلى خيال الزهرة في الشفق، قلبي تعب وبقوة خفق!
ولم أنسَ قطعًا أن أتجه بالجغرافيا التي أخترعها وجهة احترافية، فعطارد حجمه نصف حجم الشمس، ونبتون يبلغ حجمه ربع حجم عطارد، أي ربع نصف حجم الشمس، ونبتون يفوق الشمس بثلاثة أضعاف، لكنه أصغر منها (لا تسألوني كيف يمكن ذلك! أما تكراري لميزات نبتون، فلأن أسماء سائر الكواكب قد تلاشت من ذهني فجأة)!

ومع هذا (الهراء) وثب الأستاذ صارخًا بصرخة رهيبة، جمدت الدم في جسمي، ولم أفهم منها سوى (زااااااااا)، ووجدتُ نفسي أهتف بالأستاذ: (من)؟! ليخبرني بما يقصد، مازجًا عددًا من الكلمات والأحرف ببعضها (هيبازوزا)... نعم لقد قالها الأستاذ من قبل (هيباشوشا) بالشين لا بالزاي، وكان يقصد مكتشف كوكب زحل، والآن ينطقها (هيبازوزا)، وإذًا هو يقصد مكتشف كوكب (شحل)!

هتفت بالأستاذ واثقًا (شُحَل، أعني زُحَل، اكتشفه هيبازوزا عام...) قاطعني الأستاذ قائلًا بصرامة شديدة: (تسعة)! لأنظر إليه مذهولًا، لا أصدق أن كوكب زُحَل قد تم اكتشافه عام (تسعة)، لا قبل الميلاد، ولا بعده، ولا في التقويم الهجري!

لكن هذه ال(تسعة) لم تكن رقم العام الذي تم اكتشاف زحل به، بل كانت علامتي على التسميع، هذه (الحماقات) التي اخترعتُها نالت تسع علامات كاملة! أم أن الأستاذ يهزأ بي؟! انتبه الأستاذ إلى أنني أقف مكاني لا أتحرك، فسألني مستنكرًا: (ألا تعجبك تسع علامات من أصل عشر علامات ممكنة)؟ رددتُ بحذر، خائفًا أن يكون الأستاذ يقودني إلى فخ ما، قبل أن يعاتبني على هذا التسميع الخرافي: (الجغرافيا لها عشرون علامة يا أستاذ)، وهكذا نلتُ 18/20 على هذه المعلومات (العالمية) التي لا يعرفها أحد في العالم سواي!

ولولا أنني ظننتُ سوءًا بالأستاذ وأنه يهزأ بي، واتجهتُ صوبه لألومه، مشيرًا إلى الصفر الذي أتوقع أنه وضعه لي، لما صدقتُ! لقد رأيت العلامة بعيني، 18 بجوار اسمي في خانة العلامات، والغريب أن الأستاذ صرخ في وجهي: (ألا يعجبك شيء؟ أنت لم تسمع كل الدرس، ولو فعلت لوضعت لك العشرين كاملة، لكنك لا تستحق أكثر من ثمانية عشرة علامة، رُدَّ عليَّ، لماذا لا تَرُدُّ)؟!

ولم يكن الأستاذ ينتظر ردي حقيقة، فنظر إلى رفاقي قائلًا: (انظروا إليه، علامته ثمانية عشرة ولا يرضى، لا يرضى بأقل من العشرين كاملة، ليتكم تكونون مثله، لا تقبلون إلا بالكمال، بل ليتكم جميعًا مثله، تعرفون كيف تسمِّعون الدرس بأسلوب جميل، كان تسميعكم جافًا جامدًا ناشفًا، أما أسلوبه فما أروعه! ليتكم تتعلمون منه)!

صاح سامح متهكمًا: (نعم، نعم، يجب أن ترقصوا وتدبكوا وأنتم تسمِّعون الدرس، هكذا تكونون تعرفون كيف تسمِّعون)!
لم يَرُدَّ الأستاذ بشيء، بل ربما لم يسمع هذا الاعتراض الساخر، أما أنا فكنتُ في شبه غيبوبة عقلية، لا أفهم ما يحصل، ولا أستوعب كلمات الأستاذ، ولا أصدق أنه يتكلم عني، ولكن، كل الحق على رفاقي، فلماذا ينظرون إليَّ بهذا الغضب؟! ما ذنبي أنا إن كانوا لا يعرفون كيف يسمِّعون مثلي؟ إنها مسؤوليتهم أن خيالهم محدود ولا يعرفون كيف يخرِّفون الجغرافيا، أقصد يؤلفون الجغرافيا مثلما فعلتُ أنا!

ولكنْ، لم تكن هذه نهاية الحكاية السعيدة، فإحدى البنات في الصف وَشَتْ بي إلى الأستاذ بوشاية كاذبة، وكان لذلك موقف طريف آخر، تفجرت له الضحكات بعنف من رفاقي، خاصة حينما طلب مني الأستاذ أن (أحملها) فورًا، وأتجه بها إليها!

تابعوا معنا.

Lumi
5-1-2018, 09:32 PM
في الجامعة كنا في أحايينَ كثيرة نُباغتُ بأسئلة لا علاقة لها بما درسناه البتة
وكنا في كل مرة نؤلف كتبا جديدة مصطحبين معنا معلومة من الجغرافيا وشيئا من التاريخ أو اللغة العربية
في حين أن المادة قد تكون رياضيات ! لكنني قطعا لم أصل إلى تلك المرحلة من الخيال XD
سعيدةٌ لأن تلك المرحلة مرت بحلوها ومُرها ، متابعة لكتاباتكم المشوقة أستاذي
تقبل مروري ودمتَ في حفظ الله ورعايته

أ. عمر
5-1-2018, 10:31 PM
في الجامعة كنا في أحايينَ كثيرة نُباغتُ بأسئلة لا علاقة لها بما درسناه البتة
وكنا في كل مرة نؤلف كتبا جديدة مصطحبين معنا معلومة من الجغرافيا وشيئا من التاريخ أو اللغة العربية
في حين أن المادة قد تكون رياضيات ! لكنني قطعا لم أصل إلى تلك المرحلة من الخيال XD
سعيدةٌ لأن تلك المرحلة مرت بحلوها ومُرها ، متابعة لكتاباتكم المشوقة أستاذي
تقبل مروري ودمتَ في حفظ الله ورعايته




رأينا مثل ذلك في دراستنا الجامعية، وكنا نلجأ أحيانًا إلى الخيال، ولكن...
لم أحقق في حياتي من الخيال في التأليف ضمن المواد والاختبارات ما حققتُه في هذا التسميع الخرافي هنا :)
الحمد لله أن تلك المرحلة مرت بما فيها من الحلو والمر، متابعتكِ ومروركِ شرف لي
حفظكِ الله تعالى من كل سوء.

Jomoon
6-1-2018, 02:31 PM
أهلاً أستاذ^^,
لا تقف هكذا عند مقطع مذهل ومن ثم لا تكمل،
خلآاص معد أقدر أتحمل،
هات التكملة سريعاً،
ماهي ردة الأستاذ حين وشت بك؟!،
وكيف كان شعورك؟!،
هل خرجت منها سالماً؟!،
هل أثر الحدث فيك سلباً؟!،
كيف تصرفت معها؟!،
كلها أسئلة أتمنى أن تجيب بها علينا،
متشوقة جداً للباقي
أسلوب كالعادة جميل ومشوق
بارك ربي بك وبقلمك
في حفظ المولى،،
~

أ. عمر
6-1-2018, 04:56 PM
أهلاً أستاذ^^,
لا تقف هكذا عند مقطع مذهل ومن ثم لا تكمل،
خلآاص معد أقدر أتحمل،
هات التكملة سريعاً،
ماهي ردة الأستاذ حين وشت بك؟!،
وكيف كان شعورك؟!،
هل خرجت منها سالماً؟!،
هل أثر الحدث فيك سلباً؟!،
كيف تصرفت معها؟!،
كلها أسئلة أتمنى أن تجيب بها علينا،
متشوقة جداً للباقي
أسلوب كالعادة جميل ومشوق
بارك ربي بك وبقلمك
في حفظ المولى،،
~


أهلًا بكِ أختي الكريمة
حاضر، سأتابع ولن أتأخر في المتابعة إن شاء الله
بل سأبتدئ بكتابة الحلقة من الآن
وسأجيب عن كل هذه الأسئلة، تكرمي
بارك الله بكِ ولكِ وحفظكِ الله بكل الخير

أ. عمر
6-1-2018, 06:38 PM
فتاة مثل البيتزا!


كنتُ سعيدًا بـ(إنجازي) في التسميع! فلقد سمعنا؛ من قبل؛ عن هذا الأستاذ، أنه يحتفظ بالانطباع الأولي عن الطالب، وبعدها لو تحدث الطالب عن قصة حياته بدلًا من درس الجغرافيا، فإنه سينال علامة مرتفعة.
ولكني كنت مخطئًا في تقديري هذا، فحتى تلك اللحظة لم يكن الأستاذ يعرف من أنا! ولنقل إنه لا بأس بأنه لم يحفظ اسمي، فإنه يعرفني بالشكل ويعرف أنني صاحب التسميع التخريفـ... العالمي :)
ولكن... في حصة هذا الأستاذ اللاحقة، وقبل أن يدخل، غادرت إحدى الزميلات الصف، ثم عادت، وبعدها بثوان معدودات فوجئنا جميعًا بالأستاذ يدخل الصف، صارخًا: (يا قزيحة، قيييييييييف)!
وقفتُ متوقعًا ما حصل، هاتفًا بسخرية: (لماذا؟ هل سنعزف النشيد الوطني)؟!
أخذ الأستاذ ينظر يمينًا وشمالًا، والحيرة تعلن عن نفسها بوضوح في ملامحه، ثم هتف متسائلًا: (هل هو غائب)؟

ابتسمتُ لطرافة الموقف، فلقد رددتُ على الأستاذ، ووقفتُ كذلك، ثم إنني في المقعد الأول مقابل عينيه، ومع ذلك لم يَرَنِي بعد! ولا أعرف حقيقة ما كنتُ أريد قوله وقتها، وأي تعليق ساخر كان سيسمعه الأستاذ مني، وفي كل الأحوال لم يمنحني الفرصة للإجابة عن سؤاله هذا، بل استطرد بشماتة: (أرأيتم؟ لقد علم أنه مخطئ، فهرب قبل أن أصل، لئلا يواجهني)!

يا عزيزي! عددنا تسعة طلاب فقط، وبما أنك تسأل عن طالب لا طالبة، فأمامك أربعة شباب، وأحدهم يقف أمامك تمامًا، فكيف لم تَرَه بعد؟!
رفعتُ صوتي متسائلًا بسخرية: (من هذا الذي هرب يا أستاذ)؟ قلتُ لنفسي لعلي ألفتُ انتباهه إليَّ الآن، لكنه فاجأني بصياحه الغاضب: (وما شأنك أنت)؟
اتسعت ابتسامتي الساخرة، وملأ التهكم صوتي، إذ أجيب: (لا شأن لي! أنت طلبتَ مني أن أقف، صحيح، ما شأني أنا إذًا)؟!
لم يؤثر كل هذا في الأستاذ، ولكم كنتُ مخطئًا حينما ظننتُ أنه قد أدرك من أكون، وهو يحدق بي باهتمام شديد، فلقد هتف بعدها: (اجلس، لا وقت عندي للعب معك)!

اللعب معي؟ حسنًا، لقد استمتعنا بهذه الفقرة الكوميدية، ويجب الانتقال إلى المسرحية الحقيقية الآن! قلتُ للأستاذ بهدوء: (أستاذ، أنا عمر قزيحة، لم يهرب عمر قزيحة من مواجهتك، لأنه أنا)!
صرخ الأستاذ كالمجانين: (هل صحيح ما سمعته عنك)؟! سألتُه بالهدوء ذاته: (وماذا سمعتَ يا أستاذ)؟ فكان ردُّه المدهش: (اعترف أولًا أنه صحيح، ثم سأخبرك)!

كنا نسمع أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، لكن الأستاذ (اخترع) قانونًا جديدًا، مفاده أن البريء متهم ومُدان ويجب أن يعترف، حتى تثبت براءته!
حافظتُ على ابتسامتي، مجيبًا: (أخبرني ماذا سمعت يا أستاذ؟ لأخبرك بعدها هل ما سمعتَه صحيح أم لا)؟!

وانفجر الأستاذ بغيظ شديد: (أنت تقول للتلاميذ؛ في ملعب المدرسة؛ إنك لم تسمِّع الدرس جيدًا، لكن الأستاذ كان شارد الذهن، فوضع لك علامة مرتفعة أنت تستحق أقل منها بقليل)!
انتبهتُ إلى احمرار وجه زميلتي التي غادرت الصف قبل أن تأتي وخلفها الأستاذ، وأنها على وشك الاعتراض (ربما تريد أن تذكره بأنني أستحق صفرًا، لا علامة أقل من العشرين بقليل أو حتى بكثير)، وكدتُ أعترض بدوري لأنفي حصول هذا الأمر، وهو لم يحصل حقيقة، فأنا لم أقل شيئًا، ولكن الأستاذ تقدم إليَّ بعرض رائع: (اعترف، وسأرحمك، نعم سأرحمك، وأمنحك صفرًا فقط)!

يا للرحمة الخيالية التي تفطر القلوب تأثرًا! لقد تأثرتُ فعلًا، خاصة مع عرضه (الكريم) بأن يمنحني صفرًا (فقط)، كنتُ أتوقع أنه سيهديني حبلًا أشنق به نفسي! فوضعتُ يدي على قلبي، قائلًا بتهكـ... أقصد بتأثر :): (الله يعزك)!
أكمل الأستاذ تهديده الصارم: (وإن لم تعترف كتبتُ بحقك تقريرًا أطلب فيه طردك ثلاثة أيام من الثانوية، استفد من "فرصة" الرحمة، وبسرعة)!

انتبهتُ إلى نظرات تلك الزميلة الشامتة، وحركات أصابعها التي تحاول أن ترسم لي بها رقم الصفر، فغمزتُ لها بعيني، كأنني متفق معها على نذالتها بحقي، ثم ابتسمت ابتسامة عريضة، وأنا أقول للأستاذ متهكمًا: (هل يعقل هذا؟! أي مسطول يقول هذا الكلام؟! دكتور عظيم مثلك يخطئ هذا الخطأ؟ دكتور عظيم مثلك يسمِّع له تلميذ تسميعًا سيئًا فيمنحه علامة مرتفعة؟ من الحمقاء التي يخطر ببالها هذا الكلام الأجوف، إلا صاحبة العقل الأجوف)؟!

احتقن وجه زميلتي، بسبب الإهانات التي أوجهها إليها، وأراد الأستاذ الكلام، لكني تابعتُ بسرعة: (افعل ما يحلو لك يا دكتور، المهم أن تكون راضيًا، ولا يهم بعد ذلك أي شيء)!
هتف الأستاذ بحماسة سعيدة: (أنا لم أصدق ... حين قالت لي هذا الكلام، يا لها من غبية لا تفهم شيئًا)!

لقد ذكر الأستاذ اسم الزميلة علنًا، وأظن بأن عينيها دمعتا بسبب إهانته لها، وضحك الرفاق عليها، وابتسمت أنا بارتياح تام، لقد تذكرتُ أن هذا الأستاذ (يذوب) أمام لقب (دكتور) في الوقت المناسب، وبدا لي أنني نجوتُ من هذا الفخ، ولكن الأستاذ تابع بقلق واضح: (ولكن... إياك أن تعيدها! هل تفهم)؟!
لم أتمالك نفسي من الابتسام بسخرية، ولكني منعتُ نفسي بصعوبة من الرد، فكيف (لم يصدق) الأستاذ هذا الادعاء الفارغ بحقي، وكيف يطلب مني (ألا أعيدها) في الوقت نفسه؟! ولكن الرد عليه فيه مجازفة كبيرة، فلا أضمن لنفسي استمرار نجاح خطتي الرائعة هذه، مع عقل غريب عجيب يحمله هذا الأستاذ في رأسه!

الأستاذ نفسه لم يهتم بالحصول على إجابة مني، بل أشار إلى زميلنا سامح ليأتي إليه، ففعل سامح ذلك، ومشى بكل هدوء إلى أن وصل إلى الأستاذ، فنظر إليه ثانية أو اثنتين، ثم صرخ في وجهه بصوت هادر، مقلدًا أسلوبه ولهجته: (قيييييييييييف)!
جفل الأستاذ، ووقف فعلًا، فارتفعت الضحكات الشامتة، وسامح يستطر في مسكنة: (من بعد أمرك يا أستاذ، وتأكد أنه لا يوجد طبقة خشبية أنقل منها الدرس خلال التسميع، وأنني لن أتحول إلى جني مرة أخرى، الله يرضى عنك)!
صاح الأستاذ بغضب هادر: (يا لك من أحمق! غبي! هل هناك طبقة يا دب؟ هناك طبقات، لا طبقة واحدة للغلاف الجوي يا أحمق)!

نظرنا جميعنا إلى الأستاذ بدهشة، وجمد سامح قليلًا لا يجد الرد على هذا الإبداع من قبل الأستاذ، ولم يكن الأخير مستعدًا ليترك له أي فرصة للكلام، بل تابع قائلًا: (سمِّع يا سامح)!
حُلَّت عقدة لسان سامح المتهكم، وهو يقول: (تكرم عينك أستاذ، أقصد دكتور! ماذا تحب أن أسمِّع لك؟ المريخ أبو صواريخ؟ أم أورانوس أبو عرنوس؟ أم شفق خفق أحلى)؟!

تجددت الضحكات إلا من اثنين، أنا الذي لم أصدق كيف نجوت من الأستاذ، ولا أحب أن يتذكر الأمر مجددًا، وزميلتي الواشية التي ظنت كلام سامح تجريحًا بها وبمحاولتها الفاشلة...
ولم يسأل الأستاذ عن سبب ضحكات الرفاق، بل قال معترضًا: (ما هذا الكلام الفارغ؟! لا تسمِّع عن الكواكب، هيا سمِّع)!

تردد سامح أمام التناقض في أوامر الأستاذ، ولم يعد يدري ما يفعل، وأي القرارين يتخذ، فأخذ يحدق في الأستاذ فحسب، ويبدو أن الأخير أراد (مساعدته) فقال: (الأرض)!
أخذ سامح يغني: (الأرض، بالطول والعرض! الأرض، بالطول والعرض)! ليهتف به الأستاذ باهتمام: (أكمل)!

ومرة أخرى تخون سامحًا بديهتُه، فلا يوجد درس جغرافيا؛ وفق علمه وعلمنا؛ عنوانه (الأرض، بالطول والعرض)! ولكن زميلة لنا أنقذت الموقف، بأن قالت للأستاذ: (لم تعطِنا سوى درس واحد يا أستاذ، وهو درس الكواكب)!
صرخ الأستاذ: (أحضرها معك يا عمر)! لأنظر إليه بدهشة واستنكار، هو يسمِّع لسامح، فما شأني أنا؟ حينما يناديني باسمي يسألني ما شأني بالموضوع، وحينما يسمِّع لغيري يصبح لي الشأن كله؟ ثم ماذا يقصد بقوله (أحضرها)؟ من هذه؟! أو ما هذه؟!

ألقيتُ عليه السؤال: (من تقصد)؟ فأشار نحو طبقة البنات، قائلًا: (أنت تعرف)! هممتُ بنفي هذه المعلومة، فصوابها (أنا لا أعرف)، ولكن الأستاذ غمز بعينه، قائلًا بابتسامة: (من في بالي وبالك! التي عملت المشكلة)!
نظرتُ؛ تلقائيًا؛ إلى زميلتي، هاتفًا بذهول تام: (مستحيل)! وسط دوي الضحك العالي من قبل زميلاتنا، فكيف يطلب إليَّ الأستاذ أن (أحضرها) معي؟ وهل هي معاقة لا تستطيع المشي لا سمح الله؟ وحتى لو كانت كذلك فكيف (أحضرها) إليه؟!

وقف الأستاذ صارخًا: (مستحيل؟ ولماذا مستحيل؟ هيا احملها، احملها بين ذراعيك، واحضنها بكل قوتك، كي لا تقع)!
شعرتُ؛ آنذاك؛ بأنني أهذي بالفعل، وأن هذا الموقف غير حقيقي، رغم أن الضحكات تكاد تمزق أذني، لفرط (رقتها)! وحاولتُ أن ألتمس مخرجًا لهذا الأستاذ، هل يقصد الطبقة الخشبية؟

ولكني لا أسمِّع الدرس أولًا، ثم ما معنى أن (أحملها) و(أحضنها)؟ مستحيل أن يطلب مني احتضان الطبقة الخشبية! أم أنني قد فقدتُ القدرة على السمع بشكل صحيح؟!

لا، بل إنني أسمع بشكل صحيح، وهذا صوت الأستاذ المزعج يدوي صارخًا: (ماذا تنتظر)؟! وزميلتي (استيقظت)؛ أخيرًا؛ من هول المفاجأة، لتصرخ في الأستاذ بدورها: (ماذا تقصد؟ لن أسمح له أن يلمسـ...) ويقاطعها الأستاذ باشمئزاز: (اسكتي! من طلب رأيكِ)؟!

وأخذ الأستاذ ينظر إليَّ مرتقبًا، فحاولتُ أن أكسب بعض الوقت، فسألتُه بغباء مصطنع: (هل لك أن تخبرني باسمها)؟ ليسألني بغباء حقيقي: (من تقصد)؟!
من أقصد؟! لا حول ولا قوة إلا بالله! من الذي يقصد؟ أنا أم أنت؟ أجبتُه متضايقًا: (التي تريدني أن أحضرها)! وغمزتُ له بعيني، متابعًا بأسلوبه هو: (من في بالي وبالك! التي عملت المشكلة)!


أجاب الأستاذ بحزم وجدية: (البطيخة)! لتستبين؛ بإجابته؛ الحقائق الرهيبة، وينجلي ليل الغموض الأسود، ولكن، من افترى عليَّ أمام الأستاذ أنني أبيع البطيخ؟ بل ربما أكون أبيع البطيخ، من دون أن أشعر بهذا؟!



و(يبدو) أن الأستاذ (فهم) أنني أنظر إليه من (دون فهم)، فصرخ غاضبًا: (هل تلزمك ساعة كي تحضرها)؟ صاحت زميلتي هنا، وقد (استيقظت) أخيرًا بعد إهانة الأستاذ لها: (لو لمس يدي، لا بل حتى لو لمس مريولي المدرسي مجرد لمس من الكُم، من دون أن يلمسني أنا، فسوف...) صرخ بها الأستاذ مرة أخرى: (هس، ولا كلمة! لم يسألكِ أحد، فاسكتي! ومغامراتكِ الغبية السخيفة هذه نسمعها فيما بعد إن شاء الله)! ولأهمس أنا من دون أن أتمالك نفسي: (يا غبية! هل تصدقين أنني سأحملكِ أو ألمسكِ)؟!

يجب أن تنتهي هذه المهزلة، لستُ حزينًا لدموع زميلتي، بعد ما بدر منها، ولكن الكلام الذي يتفوه به الأستاذ معيب فعلًا، وسأوقفه عند حدِّه، فلقد تمادى، ابتسمتُ في وجهه بطريقة مستفزة، قائلًا ببرود شديد: (لن أحضرها، لا أستطيع أن أحملها)!

صرخ الأستاذ (كعادته) حينما يغضب، وهو؛ في معظم أحواله؛ غاضب: (لماذا؟ هل تضع فيها البراد؟ أم فرن الغاز)؟!
هتفتُ مذهولًا: (كيف)؟!

لم أستطع أن أتخيل أنني (أضع) في (زميلتي) البراد أو فرن الغاز! بل هل يمكن وضع البراد أو فرن الغاز في أي فتاة كانت؟ بل في أي بني آدم كان؟!
نسمع عن بيتزا بخضار، بيتزا بجبنة، لكننا لم نسمع عن فتاة ببراد، ولا فتاة بفرن غاز،
ترى ألا يوجد فتاة بغسالة؟ وأخرى بغرفة جلوس؟ وأخيرة بصالون؟
(وذلك؛ طبعًا؛ وفق آراء أستاذنا العالمية هذه)!

ما يحصل غريب جدًا، ولا أجد له أدنى تفسير، حتى الآن!

تابعوا معنا.

Jomoon
8-1-2018, 07:23 AM
يالله برضو توقفت ولم تكمل تلك الفقرة
أهذا هو التشويق؟!!،
مالحكاية مع هذا الأستاذ بودي أن أعرف مالذي يرمي له بالضبط؟!!،
استغفرالله أحس أنها تستاهل ما جرى لها
استغفرك ربي بس لأنو لم يعجبني ما فعلت
اللهم لا شماتة عفوك يا رحمن
لا تكتبها علي
يعني لو كنت مكانك كان برد قلبي
لأنها أخذت جزاءها
أكمل أرجوك فأنا أريد أن أعرف
ما الذي يقصده الأستاذ
هل جن فعلاً؟!!،
باركك ربي،
أسلوب في غاية الروعة
زادك ربي من فضله
هذه الفقرة فعلاً مثيرة للغاية
في حفظ المولى،،
~

أ. عمر
8-1-2018, 09:56 PM
يالله برضو توقفت ولم تكمل تلك الفقرة
أهذا هو التشويق؟!!،
مالحكاية مع هذا الأستاذ بودي أن أعرف مالذي يرمي له بالضبط؟!!،
استغفرالله أحس أنها تستاهل ما جرى لها
استغفرك ربي بس لأنو لم يعجبني ما فعلت
اللهم لا شماتة عفوك يا رحمن
لا تكتبها علي
يعني لو كنت مكانك كان برد قلبي
لأنها أخذت جزاءها
أكمل أرجوك فأنا أريد أن أعرف
ما الذي يقصده الأستاذ
هل جن فعلاً؟!!،
باركك ربي،
أسلوب في غاية الروعة
زادك ربي من فضله
هذه الفقرة فعلاً مثيرة للغاية
في حفظ المولى،،
~



حياكم الله أختي الكريمة
ذلك الأستاذ كان (تحفة) ندر مثيلها في هذا العالم، والحمد لله
وتلك الزميلة تستحق ذلك لأنها كانت واشية، ثم إن فعالها التعيسة لم تتوقف هنا للأسف
رأيكِ يشرفني، وشكرًا جزيلًا لكِ للدعاء الطيب
اليوم كان عليَّ ضغط العمل بشكل كبير فلم أستطع طباعة حلقة جديدة
ولكن إن شاء الله تعالى سأقوم بذلك في الغد
حفظكم الله ووفقكم وبارك بكم ولكم

أ. عمر
9-1-2018, 08:06 PM
احملها واحضنها... بل واركلها!


أخذتُ أحدِّق في زميلتي من دون وعي، مستنكرًا كيف أضع فيها (البراد) أو (فرن الغاز)، وكيف يطلب مني الأستاذ أن أحملها وأحضنها، وهل جُنَّ جُنونه أم ماذا؟
هتفتُ بالأستاذ متسائلًا بدهشة عارمة: (ما... ما هذه)؟ ليجيبني، وقد نفد صبره: (الحقيبة... حقيبة ابن الجيران... حقيبتك)!
وصاح الأستاذ بعدها بهتافه الشهير: (ما لي أراك بليد الفهم اليوم)؟ لا بأس، فليعتبرني بليد الفهم إن أراد ذلك، ولكنْ، هل حقيبتي _ التي لم أحملها من عامين _ هي التي في بالي وبال الأستاذ، وتسبَّبَت بالمشكلة بيننا؟!

أردتُ أن أفهمه بأنني آتي بكتبي معي من دون حقيبة، ولكن سامحًا أصرَّ على التدخل؛ كعادته؛ ليتساءل متهكمًا: (ولكن يا أستاذ، طالما حقيبة ابن الجيران هي حقيبة عمر، فهل يعني هذا أن ابن الجيران هو عمر؟ أم أن عمر هو ابن الجيران؟ أم أن ابن الجيران هو ابن الجيران، وعمر هو عمر، ولكنهما شخص واحد؟ أم أنهما شخصان مختلفان، ولكل واحد حقيبة مختلفة، ولكن الحقيبتين حقيبة واحدة؟ أم أنهما...)؟
صرخ الأستاذ بي هنا، من دون أدنى اهتمام بسامح وأسئلته (المهمة) هذه: (هيا يا عمر، ماذا تنتظر؟ أنا أنتظرها)!

أجبتُه، من دون مبالاة: (أي حقيبة تقصد)؟ احتقن وجهه حتى خِلْنَا أنه سينفجر، فأضفتُ موضحًا له: (كتبي أحملها بِيَدِي، ليس معي حقيبة).
كرَّر الأستاذ ببلادة: (أحضر حقيبتك)، فحملتُ كتبي، واتجهتُ بها نحوه، وإذ هممتُ بوضعها على طاولته، خطفها من يدي خطفًا، وأخذ ينقِّب فيها بهمجية كأنه يبحث عن البترول، مردِّدًا بين لحظة وأخرى: (أين هو؟ أين هو؟ لا بد أن يكون هنا! مؤكد أنه هنا)!

تابعتُ ما يفعل، مفكرًا في المعجزة التي تحمي أوراق كتبي من التمزق بين أصابع الأستاذ، مفِّكرًا بمن يكون (هو) هذا، ولا أستغرب أن يكون يقصد ابن الجيران نفسه! ولكني لم أستطع التفكير باحتمالات أخرى، فقد تجمد عقلي تمامًا مع طلباته السابقة (احملها، احضنها)، والإحراج الذي أوقعني وأوقع زميلتي به، ويبدو أنني قد شردتُ بذهني فترة ما، فلم أنتبه إلا وصديقي محمد يتناول كتبه من الأستاذ، لأفاجأ بأن كتبي قد صارت على الأرض! ببساطة أنهى الأستاذ التفتيش، وقال: (ليأخذها صاحبها)، وحينما لم يستجب له أحد، دفعها بيديه ليلقي بها من طاولته أرضًا!
لم أعترض على هذا التصرف الهمجي، وقد كان للكتب متسع على طاولة الأستاذ، فقد كان (اللغز) يشغل بالي بِشِدَّة، من يقصد الأستاذ بكلامه؟ فها هو يفتش كتب زميلنا الثالث، متسائلًا: (أين هو؟ أين؟ لا بد أن يكون هنا! مؤكد أنه هنا)!

والغريب أن الأستاذ لم يكتفِ بتفتيش الحقائب المدرسية للبنات، بل طلب تفتيش حقائبهن اليدوية الصغيرة كذلك، لأنه يريد أن يجد (هو)، ولكنهن رفضن ذلك رفضًا باتًا، غير مباليات بالتهديد بالصفر، ولا بالطرد.
واستدار الأستاذ؛ بغتة؛ نحو سامح، صارخًا بلهجة مخيفة: (أين هو؟ اعترف)! أجابه سامح، متظاهرًا بالبكاء: (كان في جيبي يا أستاذ، لكنه وقع منها، ولا أعرف أين)!
سأله الأستاذ، مصعوقًا: (من هذا)؟ لِيَرُدَّ سامح بملل: (ومن هذا الذي تبحث عنه أنت أولًا يا أستاذ)؟ أبشروا يا شباب، أبشروا، لقد حلَّ الأستاذ (اللغز) أخيرًا، بصياحه الغاضب: ("من" هذا؟ هل تظنني أبحث عن ابن آدم حتى تسألني "من" هذا؟! قل "ما" هذا، لأنني أبحث عن "الأرض")!!
سبحانك يا رب! الخطأ اللغوي يرتكبه الأستاذ، ويعترض على الخطأ نفسه إذا ما وقع به غيره! ثم ما (هذا)، وهو يبحث عن (الأرض)؟ هل تحولت (الأرض) إلى (مذكر)، ونحن لا نعلم بهذا؟ ولكن...!

ليس هذا هو التساؤل الحقيقي، ولا المسألة المهمة، لتكن الأرض مؤنثًا أو مذكرًا، لا بأس، لكننا أمام لغز جديد، انقطع نظيره فعلًا، كيف يبحث الأستاذ عن (الأرض) بين كتبنا ودفاترنا؟ بل كيف ظن أن (الأرض) موجودة في حقائب البنات اليدوية؟!
سنفترض، مجرد افتراض من باب حسن النوايا، وإن كانت النوايا الحسنة لا تنفع مع هذا الأستاذ الدولي، أنه كان يقصد (مجسمًا) للكرة الأرضية، فكيف يمكن وضع المجسم هذا، مهما بلغ صغر حجمه بين أوراق الكتب والدفاتر؟!

ولكم شعرنا بالامتنان لسامح، إذ يصرخ في وجه الأستاذ مستنكرًا: (كيف)؟! لـــ(يتكرم) الأستاذ علينا؛ أخيرًا والحمد لله؛ بِحَلِّ اللغز العويص: (أنا أعلم أنني أعطيتُكم درس "الأرض"، لا بد أنكم مزقتم الورقة، وخبأتموها بين الكتب، لكني لم أجدها، لكن استعدوا للتفتيش في المرة المقبلة، لا بد أنني سأجدها)!
ولكن لم يحصل ذلك الحصة اللاحقة، بل دخل الأستاذ يريد أن يُجري لنا مسابقة في أول (خمسة دروس) فحسب، ونحن لم نأخذ سوى درس (واحد)! وبعد أن فهم أنه لم يخبرنا بهذا، بل أخبر صفًا آخر، انطلق يعطينا درسًا جديدًا لا علاقة له بالأرض نهائيًا، وحصل لي معه موقف طريف يومها، لقد سألني عن اسمي واسم أبي وأين أخي الآن، وكأنه يراني أول مرة! والأكثر طرافة من ذلك أنني ادعيتُ الغباء، إذ أسأله عن معنى كلمة (الأسهم)، وقد ذكرتُ ذلك في حكاية أخرى (قلم حبر أحمر وفرنك واحد، في الحلقة الرابعة: وعنوانها قصتان).

ولكن، لنرجع إلى (إبداعات) الأستاذ (العالمية)، فلقد أتانا في الحصة التي بعدها مباشرة، يريد أن يسمِّع لنا درس (الأرض)! والدليل (الدامغ) أنه أعطانا إياه، أنه أخذ يبحث في كتبنا ودفاترنا عنه (أمس)! وأننا كنا (خائفين مرعوبين نتصبب عرقًا من التفتيش)!
صحيح أن (أمس) هذه حصلت (الأسبوع الماضي)، ولكن لا بأس، سنعتبره أمس، وتكرم عيون الأستاذ! ولقد تكرر البحث (الراقي) في كتبنا ودفاترنا مرة أخرى، ثم توقف الأستاذ عن ذلك، لينظر في زميلة لنا نظرات مباشرة، وعيناه متسعتان عن آخرهما، كأنها أول مرة يرى فيها فتاة في حياته! ثم هتف الأستاذ، بعد أن استعاد القدرة على الكلام: (من... من أنتِ)؟!

هتف به سامح مقلدًا لهجته تمامًا: (أكيد هذه سندريللا، يبدو أنك وجدتَ حذاءها المفقود)! لتنظر الزميلة إلى سامح في امتعاض لهذا المزاح الجلف، ولكنها لم تعاتبه بشيء، ولا نعلم إن كانت تنوي معاتبته أم لا، فلقد تابع الأستاذ بخبث: (هل نستطيع أن نتعارف)؟!
احمرَّ وجه زميلتنا إحراجًا، والأستاذ يُكمِل بلهجته نفسها: (أنا اسمي فلان الفلاني، وأنتِ)؟
ومرة أخرى، لا نعلم هل كانت الزميلة تنوي الرد أم لا، فلقد تغير الموقف كليًا، هكذا فجأة، مع صراخ الأستاذ المباغت في وجهها: (تفو عليكِ... قولي آمين)!

يبدو أن الأستاذ واثق بنفسه كثيرًا! هل يظن فعلًا أن الزميلة ستقول (آمين) لهذا الكلام المؤذي بحقها، والحمد لله أنها خرجت من حالة الصمت التي مرَّت بها، لتصرخ بدورها في وجه الأستاذ: (لا أسمح لك)، من دون أن يؤثر صراخها في المذكور، إذ تابع مستطردًا بغضب: (الآن، الآن تأتين إلى المدرسة؟ ألا تستحين على دمكِ)؟!
أخذنا؛ هنا؛ ننظر جميعًا إلى الأستاذ بدهشة تامة، زميلتنا هذه التحقت بالثانوية من اليوم الأول، ولم تتغيَّب يومًا واحدًا، بل لم تتأخر ولا مرة، ولنفترض أنها تغيبت وتأخرت، اليوم نحن في الحصة الخامسة لا الأولى، فكيف يصح أن زميلتنا قد أتت (الآن) إلى المدرسة؟! هل خَرِفنا جميعًا لنظن أنها معنا في الصف من الصباح، بينما هي قد أتت الآن؟!

حاولنا أن نُفْهِم الأستاذ هذه المعلومات، لكنه لم يفهم، بل سألها عن اسمها، وإذ أخبرته به، هتف بنا إنه لم يسمع باسمها في حياته من قبل، وهذا دليل أنها أتت الآن إلى المدرسة، أما كيف رأى اسمها مسجلًا في دفتره، وبجواره علامتها في التسميع، وهي قد أتت (الآن) فهذا الأمر لم يعرفه أحد فينا على الإطلاق!
قرر الأستاذ أن يحوِّل الحصة إلى حصة (ذكاء)! وطبعًا هذا حقه بعد ما أبداه لنا من العبقرية الفذة، وبالتالي هو متواضع لأنه سيحول الحصة إلى حصة (ذكاء) لا إلى حصة (دهاء)!
وألقى علينا بسؤال ما، لم أعد أذكره حقيقة، ولكن كل أسئلته؛ مما أدركناه هذه الحصة وحصص لاحقة؛ على غرار: (لماذا نرى بخار الماء حينما نغلي الماء في الإبريق، ولا نرى بخار الماء المتصاعد من البحر؟ لماذا تمطر السماء حينما تكون الغيوم سوداء، ولا تمطر حينما تكون بيضاء)؟ وطبعًا هو يتكلم ببعض الكلمات بالعامية وببعضها الآخر بالفصحى في سؤاله، ويرفض كل الإجابات التي يسمعها منا، ثم يطلب من أحدنا أن يعيد إجابته، ويهتف به مجددًا أنه (مخطئ)، ليكرر الأستاذ الإجابة من خلفه، دامجًا بين العامية والفصحى، وإذا اعترض التلميذ بأن إجابته صحيحة، والأستاذ يعيدها نفسها، يصرخ به الأستاذ بأنه أحمق، لأنه قال كذا وكذا (يعيدها كلها بالعامية)، بينما هي كذا وكذا (وينطقها باللغة الهجينة، كلمات بالعامية وأخرى بالفصحى)!

لنرجع إلى موضوع هذه الحصة، كل ما يسمع الأستاذ إجابة يرفضها، حتى حان دوري، فأجبتُ إجابة أتوقع أنها صحيحة، ليهتف بي الأستاذ متحمسًا: (أحسنت! أنت لم تسجل الهدف)!
نظرتُ يمينًا وشمالًا، باحثًا عن (المرمى) في الصف، وكيف يتم (تسجيل الأهداف) من خلال الإجابة عن السؤال، فلم أستطع معرفة ذلك، خانني ذكائي وواقعيتي وخيالي تمامًا!
(طبعًا الأستاذ قالها "كول" كما ننطقها، لا بالفصحى، وإلا لظننتُه يتحدث عن "الهدف" من السؤال مثلًا).
وإذ أجاب رفيقنا محمد عن السؤال، هتف به الأستاذ متحمسًا: (لقد اقتربت كثيرًا من المرمى، ولكن لولا تمريرة عمر إليك، لما تمكنتَ من ذلك)! فسألتُه هنا: (بما أنني الوحيد الذي اقترب من الهدف، ومرَّر الإجابة الصحيحة لرفيقه، ألا أستحق إضافة علامة لي)؟!

انتفض الأستاذ صارخًا بغتة بكلمة لم نفهمها، ثم وقف، وجسمه يرتعد غضبًا، وأشار بِيَدِه مباشرة نحو إحدى الزميلات، وهي التي تجلس في المقعد الأخير هذه المرة، صارخًا: (أحضرها معك حالًا، احملها بين ذراعيك، واحضنها جيدًا كي لا تقع منك)!
لو كنا هذا الأستاذ يدرِّسنا التاريخ، لقلنا إن التاريخ يعيد نفسه! لكنه يدرِّسنا الجغرافيا، وبالتالي يجب اختراع مقولة (الجغرافيا تعيد نفسها) وتسجيلها حصريًا لهذا الأستاذ، والآن، ماذا يقصد؟ حقيبتي؟ أم ماذا؟ حملتُ كتبي، قائلًا بجدية: (تكرم عينك)!

صرخ الأستاذ مرة أخرى: (ما هذا؟ هل تمزح معي؟ ماذا سأفعل بكتبك؟ أنت تعلم جيدًا من أقصد! انظر إلى أين أشير بِيَدِي، انظر إليها جيدًا، رأسها يبدو مثل كرة القدم)!
دوَّت ضحكات الشماتة بزميلتنا، ولقد هَبَّتِ الأخيرة صارخة بدورها: (لستُ أسمح لك)! ليصرخ الأستاذ متحمسًا: (ولا أنا أسمح لعمر بذلك)! كأنني أنا من طلب إليه أن يحملها، أو شبَّه رأسها بكرة القدم، لا هو! وقبل أن تهدأ خواطر الزميلة، أشار إليها الأستاذ مرة أخرى، قائلًا بمنتهى الصرامة: (هيا، احملها يا عمر، وتعال بها حالًا، وإلا ستنال صفرًا من الآن، وحتى آخر السنة)!

نظرتُ إلى تلك الزميلة في رعب :) صحيح أنني لستُ بصدد أن ألمس يدها حتى، ولكن الطلب؛ بِحَدِّ ذاته؛ كان مستحيلًا فعلًا، فتلك الزميلة كانت ضخمة إلى درجة أنها لو ضَرَبتَ بيديها معًا لأطاحت بنا؛ نحن الشباب الأربعة؛ أرضًا لا نستطيع الحراك، ما لم تكسر ظهورنا فيما لو فعلت ذلك، وباختصار كانت تحتاج ونشًا حقيقيًا ليرفعها من مكانها!
انتبهتُ إلى أن الأستاذ ينظر إليَّ نظرات مباشرة، فقلتُ له، محاولًا صبغ صوتي بنبرة اللامبالاة: (لا أستطيع أن أحملها يا أستاذ)! متوقعًا أنه سيجيبني (هل تضع فيها البراد أم فرن الغاز)؟ لنرجع إلى الحل السابق، ويطلب حقيبتي أو حقيبة ابن الجيران، لا بأس...

ولكن الأستاذ تفوق على نفسه كوميديًا وتراجيديًا، فلقد ابتسم بظفر شديد، مجيبًا بمنتهى الهدوء: (أنا أعلم أنك لا تستطيع أن تحملها، بل لا يمكن لأحد منكم أن يحملها، ولكن لا بأس)، ظننتُ أن المشكلة انتهت، وأن الأستاذ تراجع عن طلبه المدهش هذا، ولكنه صرخ بغتة: (قم واركلها بقدمك حالًا، وبأقصى قوتك)!
وجُنَّت زميلتنا تمامًا، ووقفت مكانها، تحاول السيطرة على يدها التي ترتجف، ثم نظرت إلى الأستاذ كأنها لبؤة تَهُمُّ بافتراس ضحيتها، و...
وغادرت زميلتنا مقعدها، متجهة نحو الأستاذ، وقد ضَمَّت قبضتها!
(الله يرحمك يا أستاذ)!

تابعوا معنا

أ. عمر
18-1-2018, 09:18 PM
لحظات التكسير والدم!

كان منظر زميلتنا مرعبًا فعلًا، وهي ترتجف بغضب شديد، وتتَّجه نحو الأستاذ، بوجه محتقن لفرط شعورها بالإهانة، مغمغمة بكلمات لم نفهمها، وإن وقر في أنفسنا أنها سباب وشتائم بحق الأستاذ، وقد ضَمَّت الزميلة قبضتها، والأستاذ ينظر إليها بجمود تام، وكأنه غير معني بالموضوع كله، ونحن نترقب بإثارة اللحظات المقبلة، ونسأل أنفسنا: هل حقًا ستضرب زميلتنا أستاذها في الصف؟ وهل سيتحمل الضربة من قبضة يدها؟

وتوقفت زميلتنا فجأة، حينما صرخ الأستاذ في وجهها من دون سابق إنذار: (نعم، أحسنتِ الإجابة)!
أخذنا ننظر في الهواء حائرين، أي إجابة خفية هذه! بل أي سؤال خفي سبق هذه الإجابة الخفية! وفوجئنا كلنا بالأستاذ يشير إلى زميلتنا، هاتفًا بانبهار: (انظروا إليها انظروا، هل رأيتم حياء أشد من هذا)؟
حياء؟! يبدو أن غمغمتها غير المفهومة كانت قصائد في المديح، ونحن لا نعرف! هل يُعقَل أن تشبه رأسها بكرة القدم، وتطلب إليَّ أن أركلها بقدمي، ثم تمدحك؟ شعرنا بأن زميلتنا أصيبت بارتباك شديد، ولم تَعُدْ تعرف ماذا ستفعل مع الأستاذ، وتمتم سامح بانبهار: (الأستاذ داهية فعلًا)!
إذ ظن الأخير، وظننا مع كلماته، أن الأستاذ يفعل ذلك عامدًا ليُنْسِيَ زميلتنا إهاناته بحقها، ولكن الأستاذ كان داهية فعلًا، رغم أن ظننا هذا كان خطأ بخطأ! وتجلى لنا (دهاء) الأستاذ الدولي، بمتابعته، وكلماته ترتجف انبهارًا: (إن وجهها محتقن، ويدها ترتجف، هل تعرفون معنى هذا؟ معناه أنها تستحي من إخباري بأنها تريد دخول الحمام)!
جمدنا جميعًا لحظات، ثم أخذنا بالضحك، فيما تجمدت زميلتنا المسكينة تمامًا، ونظر إليها الأستاذ هامسًا بمنتهى التقدير: (أنتِ رائعة فعلًا، اذهبي إلى الحمَّام، اذهبي حالًا، ولا تضايقي نفسكِ أكثر من ذلك)!
وقع سامح أرضًا مع ارتفاع نبرة الضحك، وكلنا أغرقنا في الضحك الشديد حقيقة، وبدأت دموع زميلتنا تسيل على خديها، ثم أخذت تصرخ وتبكي، وتضرب وجهها، قبل أن تغادر الصف فعلًا، والأستاذ يهتف من خلفها: (أرأيتم! لقد بكت متأثرة حينما طلبتُ إليها دخول الحمَّام، ربما لو لم أطلب إليها ذلك، لما تجرأت؛ لشدة حيائها؛ على الطلب، ولـ...)
لم نعرف ماذا كان يريد الأستاذ هنا، ولا مغزاه، فلقد صمت مبهوتًا، لأن ضحكاتنا كادت تَرُجُّ الثانوية كلها... ولم يبق الأستاذ صامتًا سوى لحظات، ثم أشار إليَّ صارخًا بكلمات لم أفهمها مع صوت الضحك، فاضطر إلى إعادة صراخه عدة مرات، وبعد ذلك اتَّجه نحوي، ومد فمه ليهمس في أذني، أقصد (ليجعر) في أذني، حتى ظننتُ أنها أصيبت بمس كهربائي: (أين هي؟ آه)؟ قربتُ فمي من أذنه، لأصرخ بأعلى صوتي: (في الحمَّام)!
صرخ الأستاذ في أذني، دهشًا: (كيف)؟ شعرتُ بأن أذني أصيبت بالصمم فعلًا، فصرختُ في أذنه، دهشًا أنا الآخر: (لقد خرجت أمامك)، ليصرخ في أذني المسكينة مرة ثالثة، متشككًا: (لم أرها)!
جمد الصف كله هنا، مع هذا الإعلان الرهيب! كيف لم يرها، وفوجئت بالأستاذ ينظر إليَّ كأنه يريد أن يلتهمني! والحمد لله أنه لم يصرخ هذه المرة، بل سألني بصوت هادئ (هو صرخ، لكن صراخه كان هادئًا نسبة إلى ما كان من قبل): (أين ركلتها)؟ وصلني صوته كأنه صدى بعيد، لشدة الألم في أذني، ولكن عقلي انطلق هنا يستعيد كل المشاهد والكلمات والحروف التي حصلت وقيلت قبل طلبه إليَّ أن (أحملها وأحضنها)... فمن المستحيل فعلًا أن يكون الأستاذ يقصد زميلتنا، لا بد أنه يقصد أمرًا آخر، أها! هذا هو! لقد حللتُ اللغز فعلًا، وفهمتُ عمَّ يتكلم الأستاذ، ولكني لم أفصح عن ذلك، بل سألتُه بحذر، محاولًا تأكيد استنتاجي: (هل تظنها كرة قدم لأركلها)؟ فصاح بي غاضبًا، ليؤكد لي استنتاجي بما لا يدع مجالًا للشك: (نعم، إنها كرة قدم)...
نظر إليه رفاقي دَهِشِين، ونظرتُ إليه محتارًا من أي كوكب قد أتى! وتابع هو ليزيل غموض الأحداث من أذهان الرفاق: (تلك الكرة التي مررتَها لمحمد، لقد رأيتُك وأنت تفعل ذلك، لا تنكر)!
سألتُه متهكمًا: (وماذا بعد؟ هل اختفت الكرة وحدها)؟ فصرخ غاضبًا: (أتعتقد أنني فقدتُ ذاكرتي؟ لقد أخبرتَني بنفسك أنها في الحمَّام، لقد ركلتَها إلى هناك، كي لا أراها)!
يا سلام يا سلام! كيف أستطيع، أن أركل الكرة من الصف إلى الحمام؟ سنفترض أن الكرة اخترقت الباب، ستصطدم؛ إذًا؛ بالجدار المقابل بين صفنا وغرفة الإدارة، ولنفترض أنها اصطدمت وانحرفت بزاوية مستحيلة، فربما تصدم البوابة الداخلية، ولنفترض أنها لم تصدمها، فستتابع بخط مستقيم نحو البوابة الخارجية، كيف ستغيِّر اتجاهها لتذهب إلى الحمَّام؟!
نظرتُ إلى الأستاذ، وأنا أشعر بالشفقة تجاهه، هو من تكلم عن الكرة! وقال لي إنني أحسنت، ومررتُ الكرة إلى محمد ليسجل هدفًا، ثم ظن أنني أمرر كرة حقيقية إلى محمد؟! والكرة، رأسها يشبه كرة القدم؟ وهل لكرة القدم رأس يشبهها؟ ماذا عن جسمها إذًا؟!
صرخ الأستاذ بي: (ما ردك)؟ أجبتُه مبتسمًا: (كنتُ أقصد زميلتي)، ليضرب طاولتي بقبضته، صارخًا بتوحش: (هل تقول إن زميلتك كرة قدم)؟! وقبل أن أحاول الرد على هذا الاتهام الجديد، فوجئتُ بزميلتي، وقد دخلت الصف، لتنظر إليَّ بجنون، صارخة بدورها: (أنا كرة قدم يا عمر)!
هممتُ أن أوضح لها الأمر، ولكنها لم تمهلني لحظة واحدة، بل رفعت قبضتها وأهوت بها على طاولتي، لترتجف الطاولة حتى ظنناها ستتشقق قطعًا متناثرة، ورفعت زميلتي قبضتها ثانية، لأجد نفسي أثب من المقعد، دافعًا الأستاذ بيدي، هاربًا بأقصى ما أستطيعه، لأخرج إلى الحرية وأنجو بروحي المسكينة، ولكم كنتُ مخطئًا!
أخذتُ ألتقط أنفاسي في الملعب، لأشعر بأن شيئًا ما يأتي خلفي، ويحجب الهواء كله، نظرتُ بدهشة، ثم اتسعت عيناي رعبًا! كانت زميلتي قد لحقت بي! لا داعي أن أذكركم بقوتها الرهيبة، ماذا سأفعل؟ هل ستتكسر عظامي الآن؟ رفعتُ يديَّ مستسلمًا، قائلًا بتوسل: :( (تمهلي لحظة، أمهليني دقيقة لأشرح لكِ) كانت نظراتها مرعبة فعلًا، وتَشِي بحب الانتقام، وخرج صوتها غليظًا جدًا، وهي تصرخ: (لقد أخبرني الأستاذ بأنك تقول إن رأسي مثل كرة القدم)! هتفتُ برعب: (هو من قال ذلك، لا أنا، وقد سمعتِه بنفسك).
كانت تلك اللحظات رهيبة فعلًا :( وما تزال زميلتي تنظر إليَّ بمقت شديد، وها هي تضم قبضتها، قائلة بغلظة: (وأنت ما دورك إذًا)؟ هتفتُ مجددًا بمنتهى الشجاعة (الارتجاف كان بسبب البرد، رغم سطوع الشمس)!! (أمهليني أرجوكِ، سأخبركِ بكل شيء، وبعدها أنا هنا بأمركِ)!
تجمد الموقف، وقلبي معه، وزميلتي تقف أمامي كأنها حد المقصلة الذي سيهوي فوق عنقي، وأنا أحاول ابتلاع ريقي بمنتهى التوتر... عفوًا أقصد بمنتهى الشجاعة، أستطيع أن أبادر بضربها، هنا الضرورات تبيح المحظورات، لكني لن أفعل ذلك أبدًا، لا لشهامتي، ولكن لأن ضربتي لن تزحزحها من مكانها لأنجو بنفسي، وستردها حتمًا بأقصى قوتها، لأقضي ما تبقى من السنة الدراسية في قسم الكسور بالمستشفى حتمًا.
أخذتُ أدعو على الأستاذ، فيما بيني وبين نفسي بادئ الأمر، ثم ارتفع صوتي قليلًا، وأنا أقول كلمات (رقيقة) على غرار: (تضرب، يخرب بيتك، العمى بقلبك، الله لا يوفقك، يخرب بيتك وبيت بيتك، العمى شو تيس يللي عَيَّنَك أستاذ)... وشعرتُ بسعادة غامرة كأنني سجين تَمَّ الإفراج عنه، بعد سجن طويل، مع كلمات زميلتي بنبرتها الجافة: (هيا، تكلم، سأستمع إليك قبل أن...) قاطعتُها قبل أن تخبرني ما تنوي أن تفعل، لأخبرها بسرعة بالحقيقة كلها، وأن الأستاذ كان يتحدث من البداية عن كرة القدم حقيقة لا عنها، وأعدتُ لها الحوار بيني وبين الأستاذ، وجمدت زميلتي قليلًا، ثم ابتسمَت بخجل، ومدَّت يدها قائلة لي: (اعذرني، لم أكن أعرف، فهمتُ من كلامك مع الأستاذ أمرًا آخر)...
انصرفتُ في طريقي إلى الحرية، وعدنا إلى الصف أخيرًا، لنفاجأ بأن الأستاذ يتكلم بسرعة خيالية، والتلاميذ يكتبون خلفه، لقد انتهت حصص (الذكاء) بالنسبة إليه، أو (العبقرية والألمعية) بالنسبة إلينا، كيف لا، وقد كدتَ تذهب بنا إلى المستشفى يا رجل، بعبقريتك ودهائك النادرين!
كان الأستاذ يعطينا درس (الأرض)، وقد نسي كل شيء عن التفتيش عنه بين حقائبنا ودفاترنا المرة المقبلة! ولم أكتب شيئًا وقتَها، كنتُ ما أزال ألتقط أنفاسي، وأحاول السيطرة على دقات قلبي العنيفة، من موقف الرعب هذا، ولكني؛ ويا للعجب؛ حفظتُ كل كلمة قالها الأستاذ بوقتها!
وبعد ذلك بأسبوع واحد، دخل الأستاذ ليسمِّع لنا الدرس، طالبًا بل صارخًا فور دخوله: (قزيحة! إلى التسميع، هيا)!
قمتُ إلى التسميع واثقًا بنفسي كل الثقة، ونظر إليَّ الأستاذ قائلًا: (الأرض)، وجدتُ نفسي أعيد كل ما قاله من أول دخولي الصف في حصته الماضية، ليهتف بي أنني أحسنت، ولم أخطئ بحرف واحد، و(علامتان) من (عشرين علامة)، و(تكرم عينك)!
هتفتُ به مغتاظًا: (لا أريد لعيني أن تكرم، كل هذا التسميع وعلامتان فحسب)! لِيَرُدَّ الأستاذ، بل ليغرقنا بكرمه الحاتمي في الردود: (المرة الماضية 18، واليوم 2، أصبحت العلامة 20)! شعرتُ بأن الشعب يجب أن يخرج في (مظاهرة) عارمة، للمطالبة بتغيير علم الرياضيات بأكمله، وهتفتُ بالأستاذ مرة أخرى: (يا حبيبي! 18 و2 يساوي 20، وهذه ال 20 سيتم قسمتها على 2، أي أن العلامة ستصبح 10)، فصرخ الأستاذ متحمسًا: (ألف مبروك يا عمر! 10! المعدل تمامًا)! وشعرتُ بإرهاق شديد، وأنا أحاول إفهامه، ولكن عبثًا!
ثم حان دور سامح المشاغب، ليسأله الأستاذ باهتمام: (الأرض)؟ انطلق سامح يسمِّع مثلما فعلتُ أنا، فاستوقفه الأستاذ قائلًا بازدراء: (هس، اسكت، صفر)! صاح سامح في ذهول تام: (صفر؟ كيف؟ أنا المرة الماضية أخذتُ...) قاطعه الأستاذ، قائلًا بجدية: (يا أحمق! لقد وردت كلمة الأرض خمس مرات في الدرس، وأنا حينما أقول لك كلمة الأرض، ربما أقصد أن تتابع من المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة أو السادسة أو السابعة... وإن لم تتابع من حيث أقصد، تنال صفرًا، هل فهمت)؟
صرخ سامح كالمصعوق: (لا، لم أفهم)، فقال له الأستاذ بازدراء: (عمرك وزمانك لا تفهم)! ونادى باسم إحدى الزميلات، ليتكرر لها ما حصل لسامح، لقد قال الأستاذ كلمة (الأرض)، وأتت إجابتها وفق ما لا يريده، وكأنه يجب أن يشتغل الطلاب بالتنجيم ليعرفوا ما في عقل الأستاذ!
وقت الاستراحة هرب سامح، وهرب رفيقنا الرابع، وبقيتُ أنا ومحمد وحدنا من ضمن الشباب، وكانت الحصة الرابعة حصة رياضة، وذهبت البنات للعب مع أستاذتهن، أما أستاذ الرياضة الخاص بالشباب فلم يعرف ما يفعل، فطلب إلينا أن نفعل ما نشاء، وأحضر لنا كرة قدم، وانصرف.
قررنا أن نلعب ضربات الجزاء الترجيحية، وللعلم، كنتُ حارسًا بارعًا فعلًا أيامها، وابتدأ محمد بالتسديد، وتعثرتُ أنا بحجر صغير، لتأتي تسديدته هدفًا، وحان دوري، فهتفتُ بمحمد فجأة: (إلى اليمييييييين)، تحرك محمد إلى الجهة اليمنى، فسددتُ الكرة في الجهة اليسرى مسجلًا التعادل، سددتُها كأنها تمريرة ضعيفة إلى لاعب وهمي يقف هناك، مفتخرًا بذكائي الشديد هنا.
طبعًا كان المرمى أحد جدران الملعب، واخترنا أن يكون المرمى خمسة أمتار تقريبًا (خمس خطوات كبيرة)، لأن ارتفاعه لا يكاد يبلغ مترًا ونصف، ووضعنا خشبتين كبيرتين على سبيل القوائم، وحاول محمد من بعدها التسجيل، ولكن عبثًا، كل كراته صددتُها ببراعتي، وحاولتُ بعدها التسجيل، ولكن عبثًا، كل كراتي صدها، بضربة حظ!
وحان دور الكرة الأخيرة، وانطلق محمد كالعاصفة، يسدد الكرة، صارخًا: (كوووووول)، لكني صددتُها بِيَدٍ واحدة، على قوتها، وقررتُ أن أحسم ركلات الجزاء لمصلحتي الآن، فهتفتُ به مقلدًا خدعتي في الركلة الأولى: (إلى الشمااااااااااال)، وسددتُ الكرة بمنتهى البساطة، مثل التمريرة الأرضية الضعيفة إلى يمينه، ولكنه لم يُخدَع هنا، بل مشى بتمهل شديد، وانحنى ليلتقط الكرة من خط المرمى تمامًا، ولكن... يا للهول! يا للهول! لقد اصطدمت الكرة بالعارضة الخشبية الهزيلة، وتحركت الخشبة، وهوت فوق أم رأس محمد، وعلى منتصف ظهره، وسقط الأخير أرضًا، و... هناك دم! دم يسيل من محمد! وهو ساكن تمامًا على الأرض، هل انكسر ظهره؟ بل... ترى هل فارق الحياة؟!
تابعوا معنا

أ. عمر
10-3-2018, 03:00 AM
ازدواجية المعايير!


سقط محمد أرضًا، وخُيِّل إليَّ أن عظامه قد تكسرت حتمًا، مع صوت السقوط الرهيب، الصوت المزدوج، مع تحطم العارضة الخشبية فوق جسمه، وسكن جسد محمد نهائيًا، والدم يغرق رأسه ووجهه ويسيل على الأرض، حتى لم أعد أعرف من أين جُرِح المسكين بالضبط، وهل من رأسه فحسب، أم أن وجهه قد تمزق كذلك؟
وكل ذلك قد يهون ويعالَج، لكن المهم ألا يكون الفتى قد مات مع هذه الضربة الرهيبة، وهناك ما هو أكثر أهمية من ذلك حتمًا، ومن هنا، ولتبيان الحق طبعًا، اتجهت نحو محمد، وانحنيتُ أهزُّه قائلًا بحماسة: (محمد، محمد، محمد، محمد، محمد)...
بادئ الأمر لم يكن هناك استجابة نهائيًا، حتى خطر لي أنه مات فعلًا، وشعرت بالحزن والأسى، ولكن صوتًا خافتًا صدر منه فجأة، استطعتُ بصعوبة تامة أن أميِّز منه همهمة لا تكاد تُفهَم: (إِه... إِه... إِه...)، لأستعيد حماستي، وأنحني نحوه أكثر، أهزُّه بعنف هذه المرة، قائلًا له بصوت مرتفع: (انظر خلفك يا هذا، هيا بسرعة، انظر لتتأكد بنفسك أن الكرة قد ارتطمت بالحائط! أي أنها دخلت هدفًا! أي أنني سجلت الركلة الأخيرة! أي أنني قد فزتُ بضربات الجزاء الترجيحية! أي أنه لا يحق لك أن تطالبني؛ لاحقًا؛ هذا إن ظللتَ حيًا طبعًا، بإعادة الركلات الترجيحية! وذلك لأنني هزمتُك، و)... وانتفض محمد صارخًا بتوحش: (آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه ه ه ه ه)!!
ما شاء الله حولي! يا لذكائي ودهائي! لقد تحرك محمد! بل وارتفع صوته كذلك! يبدو أنه يجب أن أمارس مهنة الطب، لأسلوبي المميز في معالجة المصابين! وقفتُ لحظات أفكر بانبهار تام بمدى عبقريتي النادرة، قبل أن أنتبه إلى أمر ما، فأسرعتُ أبحث عن أستاذ الرياضة لإخباره بما حصل لمحمد، وأسرع الأخير يُسنِد زميلنا ويساعده على النهوض ويتجه به نحو المغسلة ليغسل له الدم، ثم أخذه إلى الإدارة ليجري له الإسعافات الأولية، ومع ذلك كنتُ أجد نفسي أشد ذكاء، وطريقتي أكثر فعالية، والدليل أن محمدًا لم يستطع إجابة الأستاذ وأسئلته الملهوفة، بأكثر من همهماته الخافتة التي لا يُفهَم منها شيء، بينما بطريقتي جعلته يصرخ صرخة مدوية، ولكني لا أجد من يقدر إبداعاتي هذه للأسف!
مرَّت بنا الأيام، وهدأ أستاذ الجغرافيا ليريحنا من إبداعاته قليلًا، والحمد لله، لكنه لم يستطع الاستمرار بذلك، فلقد أجرى لنا مسابقة، ويا لها من مسابقة! تشبه سباق الماراتون فقط، رغم أننا لم نكن قد سمعنا بهذا السباق في حياتنا، ولكن مدة الحصة الدراسية خمسون دقيقة _ في تلك الأيام _ بل حتى لو أخذناها بالأيام الحالية، فالمدة خمس وخمسون دقيقة، أما مسابقة الأستاذ فتحتاج إلى ساعتين، باعتبار أنك تكتب بالسرعة الصاروخية، أو ثلاث ساعات على أقل تقدير، وهكذا بقينا في المدرسة، والأستاذ يتأفف يريد إلينا أن ننصرف ونرجع إلى بيوتنا ليرتاح منا، ونحن نكتب ونكتب، حتى أذن العصر، وما زلنا نكتب، واقترب وقت المغيب، ومنا من سلم المسابقة وانصرف، قبل أن يظن أهله أنه مخطوف مثلًا!
وإذ أردنا الانصراف، فوجئتُ بالأستاذ يلحق بي، ويمسك بيدي بعنف، قائلًا: (إياك)! نظرتُ إليه بدهشة لا أفهم مِمَّ يحذرني! لكنه أشار إلى الطريق هاتفًا: (إياك أن تعبر الطريق، كي لا تدهسك السيارات).
كان موقفًا نبيلًا، يشعر القلوب بالتأثر والرغبة في البكاء، لولا أن الطريق لم يكن فيها أي سيارة! ولولا؛ وهذا الأسوأ؛ أن الأستاذ إذ لمح سيارة قادمة نحونا، قام بدفعي إلى الطريق، هاتفًا: (أسرع بالعبور قبل أن تصل السيارة)!
بصراحة، شعرتُ بأنني أرى الموت، وأنا أقف جامدًا أمام السيارة التي تقترب بسرعة خيالية، وأنا لا أعرف ما أفعل، هل أحاول العبور بسرعة، وهل يمكنني أن أسبق السيارة؟ أم أبقى واقفًا لتصطدمني؟ أم؟... ثم عاد إليَّ وعيي بغتة، لأثب إلى الخلف بأقصى قوة، والسيارة تمر قرب ساقيَّ، وصاحبها يضغط بوق التنبيه بها، وأنا أتصبب عرقًا، وقلبي يخفق بقوة، سعادةً بالنجاة، ولكن لا... لم أنجح بعد! فهذه قبضة الأستاذ الفولاذية تمسك بيدي بغتة، والأخير يهتف بي بصوت هادر: (إياك أن تعبر، كي لا تصطدمك أي سيارة)!
كدتُ أصرخ بوجهه هنا، ولكنه دفعني، بل قذف بي بكل قوته في عرض الطريق، لأجد نفسي أمام إطارات سيارة تنطلق بسرعة فائقة، ولم أكن قادرًا على تكرار ما فعلتُه في المرة السابقة، فأنا بالكاد أحاول موازنة جسمي، فوضعتُ يديَّ على الأرض، قاذفًا بكتبي في كل اتجاه، ووثبتُ هاتفًا: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله)، وبالطبع كنتُ قد عبرتُ أمام السيارة قبل انتهائي من هذه الكلمات، وأحمد الله أن ألهمني نطقها، وكنتُ قد شعرتُ بلفح من الهواء الساخن، بل وأحسستُ بأن السيارة ضربت طرف حذائي، وأطاحت به من قدمي!
لثوانٍ بقيتُ نائمًا على الأرض، أشعر بأن قلبي يكاد يتمزق، لا من الخوف طبعًا، فلم تسمح لي الأحداث المتتالية بترف الشعور بالخوف! ولكن هذه الحركات العنيفة، وأنا أعاني بعض الضيق في التنفس، جعلتني لا أكاد أقوى على الوقوف، ثم دفعتُ بجسمي قليلًا لأنهض بسرعة، قبل أن تأتي سيارة ثالثة، يكون فيها طحن عظامي، وأخذت ألملم كتبي، والأستاذ يصرخ من الجهة الأخرى: (أسرع، أسرع، قبل أن تصطدمك السيارة)، حتى تمنيتُ لو تصطدمه سيارة وتريحنا منه ومن نصائحه الغبية هذه، خاصة أنه لا توجد أي سيارة في هذه اللحظات!!
لا أعرف كيف تمكنتُ من النهوض، والمشكلة أن آخر كتبي بعدًا، كان قريبًا من الجهة التي يقف فيها الأستاذ ولا أعرف كيف وصل إلى هناك! وهكذا وجدتُ نفسي في قبضته مرة أخرى، وعاد (ينصحني) متمسكًا بي بعنف: (إياك أن تتحرك كي لا تصطدمك السيارة)، وإذ مرت سيارة أخرى، ألقى بي أمامها، في سيناريو بدا لي مكررًا، وسخيفًا، ودمويًا، بل وسألتُ نفسي بدهشة إن كان الأستاذ قد تحول إلى قاتل مأجور، نال أجرته، ليتخلص مني!!
ولكن الحظ كان معي هذه المرة بفضل الله تعالى، ولم أضطر إلى حركات جنونية، فقائد تلك السيارة كان يقود بهدوء وتمهل، وقد لمح ما حصل، فخفف سرعته أكثر، وابتعد بها عن جسمي، ليحميني من القيام بأي حركة خاطئة، لأهرب من السيارة، قبل أن يوقفها تمامًا بفرملة عنيفة، وينزل منها ناظرًا إلى الأستاذ بنظرات نارية، وأنا؛ بدوري؛ أنظر إلى السائق بانبهار ودهشة وفرح، فهذا السائق كان أحد أعمامي!
ونال الأستاذ بهدلة معتبرة من عمي، وصراخًا عنيفًا في وجهه، ولم ينقذه منه سوى قدوم سيارة أخرى، لم يستطع صاحبها العبور بها مع توقف عمي وسط الطريق، وهنا اتجهتُ وعمي إلى سيارته لنذهب بعيدًا عن هذا الأستاذ، لأنجو من محاولات الاغتيال الحمقاء هذه، والتي لم أفهم سببها بعد، وقد مرَّ حوالي أربع وعشرون سنة (فقط) على تلك الذكريات البهيجة!

وفي إحدى المرات أصابني مرض حاد، واضطررتُ إلى التغيب سبعة أيام دراسية، وقد برَّر لي والدي الغياب في الإدارة، كونه أستاذًا في المدرسة نفسها، ومع أول يوم أنزل فيه إلى المدرسة بعد تلك المدة الطويلة، دخل أستاذ الجغرافيا، صارخًا: (يا قزيحة، قِيييييييييييييييفففف)!
ابتسمتُ ساخرًا لعودة الكوميديا هذه، ولكن يبدو أن الكوميديا قد اتجهت اتجاهًا آخر، فالأستاذ لم ينتظر ردًا مني، بل ولم ينتظر وقوفي الذي دخل يصرخ به، بل تابع بصرامة: (هيا، هيا، سمِّع الدرس الذي أخذتموه أمس، لقد سألتَني فيه عشرة أسئلة على الأقل، وهذا يعني أنك قد فهمتَ الدرس تمامًا، هيا استفد من هذه الفرصة العظيمة، وقم للتسميع)!
أنا؟ أنا سألتُك أمس عشرة أسئلة حول الدرس؟ كيف ذلك، وأنا أرقد من تسعة أيام في فراش المرض، مر منها سبعة أيام تعليم فعلية، لم أرك فيها! ولم أتردد في إخباره بهذه المعلومة، لكني فوجئتُ به يسألني بريبة وشك: (ماذا تعني؟ عشرة أسئلة بسبعة أيام؟ وماذا تعني بسبعة أيام من تسعة أيام)؟
هتف سامح متهكمًا: (إنه يعني أن عشرة ضرب سبعة، وسبعة ضرب تسعة، كل عملية ضرب تعطينا مجموعًا، ثم نجمع المجموعين معًا، ونقسمهما على اثنين، فنحصل على المجموع النهائي)!
سأله الأستاذ محتارًا: (مجموع ماذا)؟ فأجابه سامح ساخرًا: (مجموع الذكاء والعبقرية طبعًا)! ليردِّد الأستاذ بمنتهى الحكمة: (طبعًا! طبعًا)!
كنتُ أتمنى لو أن الأستاذ قد انصرف عني، لحواره مع سامح، وأنه قد نسيني، ولكن هذا كان أمنية أجمل من أن تتحقق، إذ عاد الأستاذ يطلب إليَّ أن أقوم لتسميع الدرس، فأخبرتُه بأنني لن أستطيع ذلك لأنني كنتُ متغيبًا، فنظر إليَّ لحظاتٍ جامدًا صامتًا مثل التماثيل، ثم هتف فجأة:
(اسمعني جيدًا، كنتَ مريضًا، كنتَ ميتًا ودفنوك ثم خرجتَ من القبر ورجعتَ إلى بيتك، أنت الآن في الصف، وبالتالي يجب أن تسمِّع الدرس، وإلا ستنال صفرًا، ولا أحد يعفيك من التسميع إلا أن تقوم القيامة)!
لم يعجبني كلامه كله، ولم يعجبني ما استخدمه من العبارات، خاصة الحديث عن القبر والقيامة، في هذا الموضع، وبهذا الأسلوب، وأخبرتُه بحزم أن غيابي مبرر في الإدارة، لكنه أخبرني بأنه لا يهتم لا بالإدارة ولا بسواها! ومنحني صفرًا، هكذا بكل بساطة!

ولن أظن أن الأستاذ يحاول إزعاجي لا سمح الله! فلم أكن وحدي في هدف الكوميديا الممتعة هذه، فها هو ينادي: (حسن، قم سمِّع)، فأجاب حسن: (لا أستطيع، كنتُ مصابًا بإنفلونزا حادة)!
صاح الأستاذ ساخرًا: (نعم، نعم، كنتَ مصابًا بها، وأنفك يسيل، لكني لا أظنك تدرس من أنفك، أليس كذلك)؟
رد حسن متضايقًا: (لا أحد يدرس من أنفه طبعًا، ولكن الإنفلونزا سقطت على رجلَيَّ، فـ...)
قاطعه الأستاذ بتهكم لاذع: (أحسنتَ أحسنتَ! أنت تدرس من رجليك لا من أنفك، برافو يا بطل)!
كاد حسن ينفجر غيظًا، وتجلى ذلك في صوته، وهو يصرخ: (يا أستاذ، افهم قليلًا! لقد سقطت الإنفلونزا على رجليَّ، فلم أستطع المشي، لأنني...)
قاطعه الأستاذ متظاهرًا بالجدية: (برافو، برافو! أنت لا تستطيع الدرس، وأنت في الفراش، بل لا بد لك أن تمشي، وأنت تقرأ، ولا ينقص الأمر إلا أن تأتي أمك لتغني لك ددة شطة بطة، ددة شطة بطة، يللا نطي يا قطة)!
(طبعًا ددة شطة بطة، أغنية تغنيها الأمهات للأطفال لتشجيعهم على المشي، أما يللا نطي يا قطة، فهذه لم يسمع بها أحد منا من قبل)!

كاد الصف يتزلزل بالضحكات العنيفة، واحتقن وجه حسن، ووقف صارخًا بجنون: (ألا تفهم؟ ألا تستوعب؟ هل ينزل عليَّ الوحي من السماء في رأيك، حتى أعرف الدروس العظيمة التي تفضلتَ بها على رؤوسنا؟ قلتُ لك لم أكن أستطيع المشي لشدة الحرارة ولآلام رجليَّ، لأذهب إلى أحد من رفاقي وأسأله عن الدروس، فكيف أعرف الدرس حتى أدرسه)!

نظر إليه الأستاذ بجمود، قبل أن يقول بحزم: (اسمع يا حسن، سأقول كلامًا لم أقله قبل الآن على الإطلاق، لكني آمل أن يكون درسًا لك، فاسمع كل كلمة وكل حرف).
وتابع الأستاذ بحماسة، ملوحًا بذراعيه: (اسمعني جيدًا، كنتَ مريضًا، كنتَ ميتًا ودفنوك ثم خرجتَ من القبر ورجعتَ إلى بيتك، أنت الآن في الصف، وبالتالي يجب أن تسمِّع الدرس، وإلا ستنال صفرًا، ولا أحد يعفيك من التسميع إلا أن تقوم القيامة)!

نعم؟ نعم؟ هذا الكلام لم تقله قبل الآن؟ على الإطلاق؟ وما الذي سمعتُه منك قبل قليل إذًا؟ لا نعلم كيف مضت تلك الحصة التعيسة، والأستاذ قرر أنه لن يسمع لأحد في هذه الحصة سوى لعمر وحسن، وإلا فليتحمل الباقون مسؤولياتهم! وكيف سيتحملونها؟ هذا ما لم يعرفه أحد فينا، وأمضى الأستاذ وقته في أسئلة (الذكاء) التي يطرحها كل فترة وأخرى، ولكن، لي تجربة سابقة مريرة مع هذا الأستاذ، كدتُ أضرَب فيها من زميلتي الضخمة، وبالتالي لم أحاول المشاركة حتى، سواء أكنتُ أعرف الإجابة أم أحاول توقعها أم لا أعرفها، الأمور كلها سيان، والتزام الصمت مع هذا الأستاذ هو قمة الحكمة فعلًا.

تطوع سامح لإخبار والدي بأن الأستاذ لم يقدر ظرف غيابي، ومنحني صفرًا، واتجه أبي إلى الإدارة ليستوقف الأستاذ خلال الفسحة، ويعاتبه لفعلته، وتعهد الأستاذ بشطب الصفر لي نهائيًا، وأكد لأبي أن كلامه وتصرفه كان هفوة لن تتكرر، وكانت تأكيداته مطمئِنَة فعلًا، دخل حضرته اليوم التالي، والحصة ليست حصته، ليطلب إليَّ أن أقوم للتسميع! ولم أخيب ظنه هذه المرة، كنتُ قد نقلتُ الدرس عن رفاقي اليوم السابق، خلال الفسحة، وقمتُ أسمع الدرس حرفيًا، وجن جنون الأستاذ، فقاطعني عدة مرات، ليطلب إليَّ أن أكمل هذه الجملة، وتلك المعلومة، وأن أذكر الجملة السابقة للكلام الذي يقوله، ولم يستطع إحراجي إطلاقًا، لقد أجبتُ إجابات صحيحة عن كل ما سألني إياه، وجمد الأستاذ منبهرًا فيما يبدو، ثم صرخ في وجهي: (برافو، علامتك صفر)!

نظرتُ إليه غير مصدق، لكنه رفع القلم وكتب الصفر أمام عيني في دفتره، إلى جانب الصفر السابق، فسألتُه إن كان يظن نفسه (مهضومًا) مثلًا، فأجابني مقهقهًا، إعجابًا منه بعبقريته: (أخبرتُك أن الصفر لا يمحى إلا إن قامت القيامة! وقد محوتُه، نلتَ الصفر لأنك لم تسمِّع، واليوم نلتَ الصفر لأنك سمَّعت! وصار عندك صفران)!
قهقهتُ مثله، معجبًا بعبقريته، هاتفًا به: (ما شاء الله! ما شاء الله! الله يحميك ويحمي لك هذا الذكاء الفذ)!
تجاهلني الأستاذ، صارخًا بحسن: (قم، سمِّع يا حسن)! فأجابه حسن بلا مبالاة: (لن أفعل)!
ولم يتحمل الأستاذ هذا الرد، فصرخ متحديًا: (ستسمِّع، ورجلك فوق رقبتك)!
وقف حسن في غضب شديد، واتجه نحو باب الصف ليخرج، وإذ برجل يدخل مسرعًا، ليصطدم بحسن بعنف، رجل له شعر منفوش بطريقة غريبة، ووجهه محمر كأنه خارج من عملية سلق! ونظر الرجل إلى حسن لحظة، ثم فتح فمه صارخًا في وجهه: (ههههههااااا هياااااااااااااا هاااااااااا)!!
وملأتنا الدهشة جميعًا...
ترى، ما الذي يحصل؟
وما شأن هذا الرجل؟
وكيف يقتحم الصف بهذا الشكل؟
ترى، هل هو مجنون فار من مستشفى المجانين مثلًا؟ وكيف وصل إلينا؟!

تابعوا معنا!

Jomoon
11-3-2018, 08:37 AM
الإستاذ يقهرر جداً ويرفع الضغط فعلاً،
ربي يجزيكم على صبركم،
هذا منه يطق عرق،
رفع ضغطي وأنا مالي دخل،
فكيف لو كنت بس تعايشت معه،
ماراح أقول ياليت السيارة دهسته هو،
استغفرالله بس،
بس أحس يالله بس،
اقرأ وأنا أغلي،
كان الله في عونكمـ،
وسؤال في بالي لماذا يفعل هكذا؟!،
هل لديه عقل فعلاً؟!،
هل يفكر؟!،
هل يعاني من مشكلة ما؟!،
دماغه سليم؟!!!،
ياااااه بــس
لو كانت هناك رقابة على المعلمين لما كان هذا الحال! :"(.
باركك ربي،
كعادتكم السرد مذهل
ما شاء الله،
وننتظر التكملة بإذن الله
أما تلك الضخمة الحمدلله أنها استوعبت
ولا تلام على فقدانها رشدها
فهو السبب في ذلك
مع أني ضد أن تثار بتلك الطريقة
ولا حول ولا قوة إلا بالله،
لكن حسبنا الله على من يظلم ويتعدى ويؤذي
والحمدلله على نجاتكمـ
وفقتم،
في حفظ المولى،
~

أ. عمر
15-3-2018, 10:11 PM
الإستاذ يقهرر جداً ويرفع الضغط فعلاً،
ربي يجزيكم على صبركم،
هذا منه يطق عرق،
رفع ضغطي وأنا مالي دخل،
فكيف لو كنت بس تعايشت معه،
ماراح أقول ياليت السيارة دهسته هو،
استغفرالله بس،
بس أحس يالله بس،
اقرأ وأنا أغلي،
كان الله في عونكمـ،
وسؤال في بالي لماذا يفعل هكذا؟!،
هل لديه عقل فعلاً؟!،
هل يفكر؟!،
هل يعاني من مشكلة ما؟!،
دماغه سليم؟!!!،
ياااااه بــس
لو كانت هناك رقابة على المعلمين لما كان هذا الحال! :"(.
باركك ربي،
كعادتكم السرد مذهل
ما شاء الله،
وننتظر التكملة بإذن الله
أما تلك الضخمة الحمدلله أنها استوعبت
ولا تلام على فقدانها رشدها
فهو السبب في ذلك
مع أني ضد أن تثار بتلك الطريقة
ولا حول ولا قوة إلا بالله،
لكن حسبنا الله على من يظلم ويتعدى ويؤذي
والحمدلله على نجاتكمـ
وفقتم،
في حفظ المولى،
~



الحمد لله أننا نجونا منه، من دون أن يَطِقَّ لنا هذا العرق
وبعض رفاقنا كادوا يصابون بالجنون بسببه، وقد عرضتُ ما حصل لبعضهم في حكاية أخرى
وأنا؛ بصراحة؛ تمنيت لو تدهسه سيارة وقتها وتريحني مما يفعله بي ومن إلقائه إياي أمام السيارات
لا نعلم حقيقة سبب أفعاله تلك، ومن أفعاله وكلماته وتصرفاته ما أستحي من مجرد كتابته هنا
الرقابة موجودة وقوية؛ لكن حاليًا؛ أما في أيامها فلم يكن هناك أي رقابة، وحتى في أيامنا الآن، رغم الرقابة تحصل
بعض التجاوزات غير المبررة
تلك الضخمة... الحمد لله أنها لم تتهور :) وإلا لكسرت عظامنا :) وطبعًا هي لا تُلام لفقدانها رشدها، وقد ظنَّت؛ وظننا جميعًا؛ أن الأستاذ يشبهها بكرة القدم، ويطلب إليَّ ركلها، قبل أن تظن أنني أنا من يشبهها بذلك!
فالحمد لله أن حماقة الأستاذ لم تتسبب لي بتحطيم ضلوعي!
بارك الله بكم ولكم أختي الكريمة، وإلى التكملة قريبًا جدًا إن شاء الله تعالى.

أ. عمر
9-5-2018, 11:20 AM
لمحة جنون!


_ ههههههاااا هياااااااااااااااااا هااااااااااااااا!!
شعرنا بأن رفيقنا يشتغل غيظًا، كانت إهانات أستاذ الجغرافيا حادة، لم يستطع تحملها، حتى يتمكن من تحمل لمحة الجنون هذه!
والغريب المستنكر فعلًا، أن هذا الرجل الذي اقتحم الصف، هتف بوجه حسن معترضًا: (شيء لا يُحتَمَل)!
صاح حسن، وقد انفجر كالديناميت: (نعم؟ نعم؟ من الذي اصطدم بالآخر و"جعر" في وجهه؟ أنا أم أنت؟ من الذي سيحتمل الآخر إذًا)؟
ردَّ الرجل ببرود تام: (اسكت، أنت لا تفهم شيئًا! أنا لم أَنَمْ كل الليل، تِضْرَب بهذا الرأس اليابس)!
انطلقت ضحكاتنا مجددًا، وقد بدا لنا الأمر كوميديا مجنونة فعلًا، بينما ظل أستاذ الجغرافيا صامتًا، ربما لأنه لا يعرف ما يحصل، وربما لسبب آخر لا نعرفه نحن، أما حسن فقد انتفض جسمه مع هذه الكلمات الجارحة، وكاد يرفع يده على الرجل الغريب، لولا أن الأخير تابع غاضبًا: (يخرب بيتها! لم تتركني أذهب حتى بعد أذان الفجر! تِضْرَب بهذا الرأس اليابس الذي فوق أكتافها)!
هدأ حسن قليلًا، وقد أدرك أن الرجل يقصد بكلامه ضمير الغائب المؤنث (هي) لا ضمير المخاطَب المذكر (أنتَ)، وبالتالي الرجل لا يهينه، وهنا (أفاق) أستاذ الجغرافيا فجأة، ليصرخ بوجه الرجل الغريب هذا: (من أنت؟ وماذا تريد)؟
نظر إليه الرجل لحظة، و... (هيهههههاااااااااااهااااااااهااااااااا) ليَجْفَل الأستاذ، وتدوي ضحكاتنا مرة ثالثة، أما حسن فقد تراجع مشمئزًا، بعد أن كاد الرجل يقضم أنفه بفتح فمه بهذا الشكل، على أننا قد حللنا لغزًا واحدًا مما يحصل أمامنا، الأخ كان يتثاءب!
وبعد انتهاء هذه النغمة الموسيقية، صرخ الرجل بدوره بوجه أستاذ الجغرافيا: (بل ماذا تفعل أنت هنا يا أستاذ...؟ هذه ليست حصتك، بل حصتي أنا)!
وكانت المفاجأة الساحقة للجميع! هذا المهرج يعرف أستاذ الجغرافيا! بل ويناديه باسمه! والأغرب أنه يعرف أن هذه ليست حصته! لكن، ماذا يقصد بأنها حصته هو؟ نحن لم نَرَ مثل هذا الرجل من قبل، ولم يُدَرِّسنا أستاذ يأتي إلى المدرسة بقميص متجعد وشعر منفوش، و...
_ ماذا تنتظرون؟ هيا، ضعوا دفاتر الفيزياء أمامكم!
صاح بها الرجل الغريب، وأتبع صيحته بـــ(هيهااااهااااهوهاااااا) ليهتف به حسن ساخرًا: (ما رأيك، لو تذهب إلى بيتك وتنام؟ أليس هذا أفضل لك)؟
صرخ الرجل الغريب هذا: (ماذا أصابكم؟ أنا الذي لم أَنَمْ كل الليل أحتفظ بتركيزي كاملًا، وأنتم كأنكم قادمون من كوكب المريخ؟ أنا أستاذ الفيزياء، أنا الأستاذ... هل نسيتم من أكون)؟
أخذنا نحدق به جميعًا، نحن وأستاذ الجغرافيا، ولقد أخذ الأخير بالمبادرة، ليهتف بزميله مستنكرًا: (وهل هذا منظر تأتي به إلى المدرسة يا رجل؟؟ هل مَرَّت سيارة فوق جسمك؟ مثل السيارة التي ألقى عمر بنفسه أمامها من أيام قليلة، وكادت تصدمه)؟
نظرتُ إليه مستنكرًا هذه (المعلومات القيمة) التي يتحفني بها! أنا من ألقى بنفسي أمام السيارة؟ أنا الذي فقدتُ فردة من الحذاء ولم أعرف أين أصبحت، بسبب إلقائك إياي أمام السيارة يا...، ولكن الموقف كان يحمل اهتمامًا أكبر مني ومن مشاعري هذه، فأستاذ الفيزياء رَدَّ صارخًا بغضب شديد: (وماذا أفعل لمخطوبتي هذه؟ إنها لا تتركني أنام، لقد تركت السهرة تمتد إلى بعد الفجر، هي وأمها وأختها وأخوها وأبوها، كلهم لا ينامون)!
تمتم أستاذ الجغرافيا ساخرًا، وهو يغادر مقعده متجهًا نحوه: (نعم صحيح، يجب أن تسهر "القبيلة" كلها لأجل سعادتكم)!
نظر إليه أستاذ الفيزياء غاضبًا، وفتح فمه لِيَرد، وقد أصبح زميله أمامه تمامًا، و... (هيهاااااااا هااااااا هااااااااااا هاااااااااااااااااااااااااااا) ليتراجع أستاذ الجغرافيا باشمئزاز كبير، صارخًا بغضب هادر: (ما رأيك أن أضع أنفي داخل فمك لتأكله؟ هل أَرُشُّ لك فوقه بعض الزيت والملح ليكون أطيب وأَلَذ)؟!
سأله أستاذ الفيزياء بدهشة: (ما هذا؟ منقوشة بزعتر)؟!
تحسس أستاذ الجغرافيا أنفه بحركة غريزية، ولم يستطع ملك الكوميديا سامح منع نفسه من التدخل هنا، فهتف متهكمًا كعادته: (طبعًا طبعًا، أنف الأستاذ صار منقوشة بزعتر، ورأسه بيتزا من الحجم الوسط، وأذناه سندويش شيش طاووق، كُلْ يا أستاذ الفيزياء كما يحلو لك)!
هتف به أستاذ الفيزياء متحمسًا: (وأين أجد هذه الكافيتريا)؟
صرخ أستاذ الجغرافيا مستنكرًا: (كافيتريا؟ أنا)؟
رَدَّ أستاذ الفيزياء متحسرًا: (أنت تعلم أنه لا يوجد في منطقتنا كلها سوى محل واحد لبيع الفلافل، ولا يفتح إلا مساء، وأفران المناقيش، لكنك لا تجد سندويشة واحدة من الشيش طاووق، لا ليلًا ولا نهارًا)!
لا نعلم هل أراد أستاذ الجغرافيا الرد هنا أم لا، لكننا نعلم أن الحصة انتهت، إذ ارتفع رنين الجرس، لنفرح بانتهاء الحصة من دون درس، ونحزن لأننا لم نشهد مزيدًا من الحوار الطريف في ما بين الزميلين، الأستاذين العزيزين، وإن كنا نرثي لأستاذ الفيزياء أنه كان يمتلك عقلًا مدهشًا، حتى خطب! ومن كان يتصور أن أستاذًا رصينًا مثله يأتي إلى الصف بهذا المنظر الفج؟ بل إننا ظللنا غير مصدقين أن هذا الرجل هو نفسه أستاذ الفيزياء، ظننا أنه شخص آخر يدعي ذلك، حتى تكرر هذا الموقف منه في حصة لاحقة، لا؛ بل في حصص كثيرة لاحقة، كل مرة يصل آخر الحصة متأخرًا يتثاءب، بوجهه المحمر وشعره المنفوش وملابسه المتجعدة هذه، حتى أن بعض البنات في الصف كُنَّ يَدْعِينَ له بأن يتخانق ومخطوبته، وتحزن الأخيرة، وتمنعه من زيارتها حتى آخر السنة، وليس هذا حبًا بالفيزياء لا سمح الله! بل لأن حضرته شَرَّفَنا مرة، قبل انتهاء وقت الحصة بعشر دقائق تقريبًا، ليوزع لنا أوراقًا مملوءة بتمارين وأسئلة لم نسمع بها من قبل قط، ليعلن أن هذه هي مسابقة الفصل الأول!
ولم نعترض لأن الأسئلة تحتاج حصة كاملة لحلها، فما كنا لنحل منها شيئًا، ونحن لا نعرف ما تكون، لم ندرك سوى شيء بسيط من هذه الأسئلة، مما كان يشرحه حضرته خلال الدقائق القليلة التي يُشَرِّف بها، ولقد أخبرنا؛ بكل حزم؛ أنه يُحضِّر حصة كاملة من خمسين دقيقة لا من عشر دقائق، وما شرحه فيها نحن مسؤولون عنه، وما لم يشرحه فيها نحن مسؤولون عنه كذلك! وكأنه يجب أن نتحمل سماجته وسماجة مخطوبته مثلًا!
ونرجع إلى أستاذ الجغرافيا، ملك المواقف الكوميدية والتراجيدية، لقد أخذ يُبَشِّرنا أنه حذف الصفر لكل من نال صفرًا، وحذف كل علامة تحت المعدل لكل من نالها، وهذا في السعي الأول فحسب، ولن يكرر ذلك في السعي الثاني إطلاقًا، والحق علينا أننا صدقناه! فما كاد يُنهِي هذه البشارة الرائعة، حتى أخذ يخبرنا بعلاماتنا:
(رولا: 3 _ 11 _ 15 _ 6): اجمعي علاماتكِ، واقسميها على أربع!
(سمر: 2 _ 12 _ 22 _ 7): اجمعي... هيهااااااااا
(هذه الـ... هيهاااااا منا نحن الطلاب طبعًا، فالأخت سمر نالت 22 علامة في تسميع ما، والمادة علامتها القصوى 20، لكن يبدو أن سمر سبقت عصرها لتنال علامتين أعلى مما هو فوق المعدل النهائي)!
المهم أن الدور وصل إليَّ أنا: (18 _ 2 _ 13 _ 7 _ صفر _ صفر)، وأخذ الأستاذ يعطيني حِكْمَتَه في الحياة: (اجمع علاماتك واقسمها على ثمانية)! لأهتف به متهكمًا: (هذه ست علامات، فكيف أقسمها على ثمانية يا أستاذ)؟ لينطلق الأستاذ بحكمة أخرى لا تقل أهمية عن حِكَمِه السابقة: (إن لم تستطع ذلك بأصابعك، استخدم الآلة الحاسبة)!
وضعتُ يدي على قلبي هاتفًا بامتنان: (شكرًا لك، معلومات رائعة، لم يخطر لي؛ إطلاقًا وأبدًا؛ أن الآلة الحاسبة تُستَخدَم لإجراء عمليات القسمة يا أستاذ)!
وتدخل سامح متهكمًا: (الأستاذ ألغى الصفر الأول لعمر لأنه كان مريضًا، وبَرَّر والده الغياب للإدارة، ثم سمَّع له ومنحه صفرًا ثانيًا، ليصبح المجموع صفرًا ملغى لعملية تسميع لم تَتِم، وصفرًا محتسبًا لعملية تسميع، لم يخطئ بها عمر إطلاقًا، والصفر المحتسب والصفر الملغى يساويان صفرين اثنين، والصفرين الاثنين يساويان أربعة أصفار، وذلك لأنه...)
قاطعه الأستاذ مستغربًا: (ما هذا؟ هل تأكل البيض المسلوق في الصف)؟
ودَوَّت الضحكات الحادة، وسامح فقد القدرة على الرد! لقد فهم الأستاذ أن (الأصفار) لها علاقة بالبيض المسلوق، إذ إننا نسمي الأبيض به (البَيَاض) والأصفر (الصَفَار)، ولم يفهم أن زميلنا يسخر منه ومن علاماته الدولية هذه!
وهنا، أردتُ التدخل بحزم، فقد آن أوانه، وقفتُ قائلًا للأستاذ: (أنا خارج من الصف، لأرى أين أبي الآن، وفي أي صف، أنت تمنحني صفرًا وأنا كنت متغيبًا عدة أيام، ووالدي أخبرك بذلك، والمدير أخبرك بذلك، فوضعت لي صفرًا ثانيًا بتسميع لم أخطئ به بحرف، وأنا أستحق العشرين علامة، سأذهب إلى والدي وأخبره، ولتتفاهما معًا)!
صرخ الأستاذ بي: (اهدأ، اهدأ، ألا تتقبل المزاح؟ أنا أمزح يا أخي! وهذا الدفتر ليس الدفتر الحقيقي، بل هو دفتر احتياط، الدفتر الحقيقي في البيت، وعلاماتك: 18 _12_ 13_7 اجمعها واقسمها على أربع)!
ترددتُ هنا، هل أصدقه أم لا؟ وحسمتُ أمري، لأجلس قائلًا: (نعم، لن أخرج الآن، لكني سأخبر والدي ليتابع الموضوع معك، ويتأكد من كل شيء)!
هتف سامح هنا، وقد انتبه إلى أمر ما: (أستاذ، من قليل قلتَ لعمر إن علامته هي 2، والآن 12، كيف ذلك)؟
صرخ الأستاذ بوجهه، بصوت هادر: (اخرس، قبل أن أضعك في السجن)!
رَدَّ سامح متهكمًا: (وتحكم عليَّ بالشنق، أليس كذلك)؟!
رَدَّ الأستاذ مؤكدًا: (نعم، نعم)!
مرت الأيام سريعة، وحان وقت امتحان نصف السنة، وما أجمل هذا الامتحان! خاصة بمادة الجغرافيا، أسئلة تحتاج إلى خمس ساعات متلاحقة، والمدة ساعة واحدة يتيمة، وارتفعت الصرخات المستنكرة، لِيَتِمَّ استدعاء الأستاذ، الذي دخل صارخًا بوجوهنا: (اسكتوا! يا للدلال! الإجابات تستغرق 12 صفحة فحسب! وكل صفحة يلزمها 5 دقائق لكتابتها فحسب! وهذا للتلميذ المجتهد الذي درس دروسه، أما الذي لم يدرس، فليتحمل مسؤوليته)!
لم نعرف عن أي سرعة صاروخية يتحدث هذا الرجل! أولًا هذه الأسئلة تحتاج أكثر من عشرين صفحة لكتابتها، وحتى لو كنا نكتب عن الحاضر، لا من الذاكرة، فلا يمكن نسخ 12 صفحة خلال ستين دقيقة، ولكن الأستاذ لم يبالِ بنا وباعتراضاتنا، وكاد يخرج من الصف، لولا أن استوقفه تلميذ من صف آخر، هاتفًا به: (أستاذ، هناك خطأ بمجموع علامات مسابقتنا، لقد جمعتُ علامات الأسئلة ووجدتُها 21 علامة لا 20، و...)
قاطعه الأستاذ ساخرًا: (هناك علامة للخط والسلوك يا ذكي)!
ردَّ التلميذ بلهجة أشد سخرية: (في هذه الحالة يجب أن يكون مجموع العلامات 19، لا 21)!
صرخ الأستاذ بوجه محتقن: (يا للحماقة! كيف وصلتم إلى المرحلة الثانوية وأنتم لا تجيدون الحساب؟ 20 علامة للمسابقة، و1علامة للخط، المجموع 19)؟؟
ارتفعت ضحكاتنا جميعًا، والأساتذة المراقبون قبلنا، وخرج الأستاذ من الصف، لنسرع نحن بالكتابة نسابق الوقت، ثم انتبهنا إلى أمر غريب جدًا، هناك سؤال: (عَرِّف الرياح: ثلاث علامات)، وسؤال آخر: (عَرِّف الرياح، واذكر أنواعها واتجاهاتها، وقوة كلٍّ منها: نصف علامة)! لذا؛ قام معظم الزملاء، بكتابة إجابة السؤال (عَرِّف الرياح) ثلاث مرات، وتجاهلنا جميعًا: (عَرِّف الرياح، واذكر أنواعها واتجاهاتها، وقوة كلٍّ منها) بالتأكيد، فلا مصلحة لنا بمثل هذا السؤال (الناعم)!
كان الامتحان أيامها، موزعًا في أيامه، أحيانًا صباحًا، وأخرى ظهرًا، بمعنى أن عددًا من الصفوف تجري الامتحان يوم الاثنين من التاسعة للحادية عشرة صباحًا، وصفوف أخرى من الحادية عشرة والربع إلى الواحدة والربع، واليوم الثاني بالعكس، وهكذا... لذا؛ حصل ذلك اللقاء الغريب!
ركبتُ أنا وأختي مع والدي في السيارة بعد ما أنهينا الامتحان الساعة الحادية عشرة، ليصل أستاذ الجغرافيا، وقد كان دوره بالمراقبة بعد الظهر، ولقد أوقف الأخير سيارته، وغادرها مسرعًا، لِيَمُدَّ رأسه من نافذة سيارتنا، حيث أجلس، محدقًا بي، كأنه يراني أول مرة في حياته، وتضايق والدي من هذا التصرف، لكنه تمالك أعصابه، ليسأل الأستاذ: (خير يا أستاذ، ماذا تريد)؟
هَزَّ الأستاذ برأسه، قائلًا: (تؤ... تؤ... تؤ)!
لم أتمالك نفسي، فقلتُ بسخرية لاذعة: (تريد تؤ...تؤ...تؤ يا أستاذ)!
سأله أبي السؤال ذاته مرة ثانية، ليكرر الأستاذ إجابته ذاتها مرة ثانية، ثم ثالثة ورابعة وخامسة، حتى أصابنا الضجر والضيق، غدًا لدينا امتحان آخر، ونريد الذهاب إلى البيت لندرس، وأخيرًا (تَكَرَّم) الأستاذ لينطلق بالثناء بحقي، ما أصابني بدهشة كبيرة، إذ إن الأستاذ ليس متعودًا ذلك من جهة، إضافة إلى طريقته هذه بهز الرأس وال(تؤ، تؤ، تؤ)!
ولكن الحقيقة أن ما سمعته من هذا الأستاذ من كلمات الثناء لم يسبق لي أن سمعته من أحد من قبل: (عمر تلميذ مدهش، رائع، ذكي، عبقري، داهية، يدرك ما بين السطور، يجمع الأمور ببراعة، إن تعمق بدراسة الجغرافيا سيكتشف نظريات جديدة فيها، سيكون عالِمًا كبيرًا لا مثيل له، عمر رائع، عبقري، ذكي، داهية، مدهش)...
التكرار ليس من عندي، بل من الأستاذ، ولقد كَرَّر الصفات عددًا كبيرًا من المرات، ثم ختم كل ذلك بقوله: (ولكن، هناك شيء بسيط جدًا جدًا جدًا، أمر تافه، لا يستحق الحديث عنه، جعلني أحزن منه، وسأخبرك به يا أستاذ في ما بعد)!
قالها، وانصرف مباشرة، تاركًا إيانا خلفه ننظر إليه بدهشة، الأمر تافه ولا يستحق الحديث عنه، لماذا استوقفنا إذًا؟ إما أنه يريد الكلام فليتكلم الآن، وإما أنه لا يريد ذلك، ويرى تأجيله ل"ما بعد"، فليتكلم إذًا في "ما بعد"!
وسألني والدي عن هذا الأمر التافه كما يصفه الأستاذ، لكني حقيقة لم أكن أعلم، ولم أستطع التخيل، وحاول والدي وضع أكثر من افتراض: (هل سخرتَ منه في الصف؟ هل أخطأ وضحكت؟ هل جادلته بشيء؟ هل...) وكل الإجابات كانت مني: (لا، أبدًا).
غير أن الأمر (التافه) الذي (لا يستحق الحديث عنه) لم يكن كذلك، بل كان خراب بيوت! رغم أن والدي التقى بالأستاذ يومين آخرين بعدها، وسأله ما الذي يغضبه مني، فكان رد الأستاذ المرة الأولى أن الأمر تافه، ولا يستحق الحديث عنه، ورده المرة الثانية أنه لا يوجد شيء إطلاقًا، بل وبدا كأنه لم يَرَ والدي في حياته، ولم يسمع باسمي إطلاقًا!
ومن هنا، كان أثر المفاجأة (السعيدة) فوق رأسي! كنت أمشي أنا وسامح بعد العصر، حتى اقترب المغرب، وإذ بأستاذ الجغرافيا يظهر لنا فجأة بسيارته، وما كاد يرانا حتى أشار إليَّ بِيَدِه لأتبعه، مشيتُ وسامح خلف سيارته، ولقد أوقفها الأستاذ قرب دكانه (لم تكن المسافة بعيدة، حوالي نصف دقيقة مشي فقط، والحمد لله)، اتجهنا نحو الأستاذ نسأله ماذا يأمر؟ فنظر إلينا صارخًا: (سامح، اغرب عن وجهي، أريد عمر وحده).
ذهب سامح، وأدخلني الأستاذ دكانه الذي لا يوجد فيه أحد، أما كيف ترك الأستاذ دكانه مفتوحًا ومشى، فذلك لأن الدكان لم يكن له زبون واحد، أو حتى لص واحد يشتهي أن يجد فيه ما يُسرَق، بل أعتقد أنه حتى لو أتينا بلص، ودفعنا له ليسرق، لرفض عرضنا السخي هذا!
فالأستاذ كان يأتي بصناديق كبيرة من الخضار والفاكهة، ويضعها داخل الدكان قرب دفوف الشوكولا، والحق على حشرات زاحفة وطائرة بعد ذلك! لذا؛ كان بإمكانه ترك الدكان مفتوحًا، وقلبه مرتاح!
وبعيدًا عن تحليل دكان الأستاذ ومحتوياته، لقد كان الموقف رهيبًا فعلًا، الإضاءة خافتة بلمبة تعيسة جدًا، وأنا والأستاذ نحدق ببعضنا، والأستاذ يبدو مثل وحش هائج يتأهب لافتراس فريسته الضعيفة، وقررت أنني لن أكون ضعيفًا، وسأواجهه بحزم، لكن ليتكلم أولًا، ولقد فعل، وليته ما فعل! صرخ بوجهي، كعادته المعتادة التي لا يستطيع تغييرها: (لقد قمتَ بعمل رهيب، عمل شنيع، عمل فظيع، عمل خطير، عمل رهيب، عمل فظيع، عمل خطير، عمل شنيع، عمل خطير، عمل رهيب، عمل فظيع)...
لقد كرَّر الأستاذ هذه الصفات عدة مرات، ثم وضع يده على خصره، ليرفع قميصه قليلًا، مادًا يده نحو حزامه، صارخًا بجنون: (وتستحق أن أطلق الرصاص عليك، لأقتلك بأرضك)!
اتَّسَعَت عيناي عن آخرهما، وقد بدا لي أنها نهاية حياتي من دون سبب واضح...
تمنَّيْتُ لو أن الأستاذ يُفْهِمُني لماذا يريد قتلي!
وأخذتُ أنظر في كل اتجاهات الدكان باحثًا عما أدافع به عن نفسي، ولكن لا يوجد شيء إطلاقًا!
صناديق الفاكهة والخضار خلف الأستاذ، وحتى لو كانت أمامي مباشرة، فلن أسبق الرصاصة حتمًا، عدا عن أنني لا أستطيع حمل أي صندوق لأضرب به الأستاذ، ولن أضربه بدفوف الشوكولا مثلًا!
توترت أعصابي فعلًا، ويد الأستاذ تغوص في حزامه أكثر...
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله!!

تابعوا معنا!!

أ. عمر
24-5-2018, 02:00 AM
وصلنا بقصتنا إلى محطاتها الأخيرة، بفضل الله

أ. عمر
24-5-2018, 02:02 AM
طبعًا أقصد ختام الجزء الأول
ومن بعدها ننتقل إلى الجزء الثاني من هذه الحكاية بأحداث مختلفة نتناول بها سيرتنا
في التدريس...
والله الموفق والمستعان

أ. عمر
29-5-2018, 11:46 PM
نقوم بطباعة حلقة جديدة
منذ بعض الوقت
دعاؤكم لنا بالتوفيق

أ. عمر
30-5-2018, 12:20 AM
العلامة الفأرية!


وترجع بي الذاكرة إلى تلك الأيام، بل إلى تلك الأمسية تحديدًا...
الأستاذ يصرخ مثل المجانين يخبرني أنني أستحق القتل بالرصاص، ويده تغوص في حزامه...
ليرفع الأستاذ قميصه قليلًا، وهو يتمتم بمنتهى الضيق:
_ أف من التعب! جسمي كله عَرَق!
نظرتُ إليه بمزيج فريد من اللهفة والاشمئزاز، أولًا لأطمئن أنه لا يوجد مسدس، وثانيًا لأنني لا أتقبل فكرة أن يكشف أحد ما بطنه أمامي، ولكن الأستاذ لم يكن بانتظار مشاعري تجاهه، لا الإيجابية ولا السلبية، بل سألني بهدوء يتنافى وثورته العارمة قبل ثوان:
_ أخبرني الآن إن كنتَ تستطيع، ما هي علاماتك في السعي؟
لم أُجِبْ مباشرة، فما زلتُ أشعر بالتوتر لما يحصل، ولا أفهم سبب تقلب مزاج الأستاذ، ولكنني تمالكتُ نفسي، وحاولتُ السيطرة على أنفاسي المضطربة، لأجيب بمنتهى الثقة:
_ 18، ...
صرخ الأستاذ بغتة:
_ يخرب بيتها!
سألته بدهشة:
_ ما هذه؟ ال 18 علامة؟ كيف سـ(يُخْرَب بيت ال 18 علامة)؟
أجاب الأستاذ بهدوء:
_ بل الفأرة، كل ما (أقتلها) ترجع إلى الدكان مرة ثانية!
هتفت باشمئزاز:
_ فأرة!!
صرخ الأستاذ:
_ كم علاماتك في السعي؟
هتفتُ من دون وعي:
_ فأرة، فأرة، فأرة!
تمتم الأستاذ، وهو يُصِرُّ على أسنانه:
_ علاماتك فأرة!
أجبتُه بمنتهى القرف:
_ بل الفأرة هنا، في الدكان!
وثب الأستاذ من مكانه، صارخًا برعب:
_ فأرة؟؟ أين؟؟ أخبرني أين هي؟! أين ذهبَت؟؟ أين...
لم أنتظره ليتابع صراخه، بل أسرعت أولي فرارًا من دكانه التعيس، وقد فتح لي الأستاذ بحركاته هذه باب النجاة، والقرف يملأ كياني من الفأرة، رغم أنني لم أرها والحمد لله، ولكن الأستاذ لحق بي في ثوان معدودات، ليمسك بي هاتفًا:
_ إلى أين؟! لم تخبرني بعد، كم فأرة معك في السعي؟
سألتُه بسخرية لاذعة:
_ لماذا؟ هل يوزعون علينا الفئران في المدرسة؟؟
سألني بريبة:
_ من... من هؤلاء؟!
بدا لي أننا في حوار حقيقي للطرشان هنا، ولم يكن ينقصني التوتر، فهتفت بالأستاذ بحزم:
_ علاماتي: 18، 12، 13، 7...
صاح الأستاذ:
_ خطأ... خطأ شنيع، خطأ فظيع، خطأ...
قاطعتُه بضجر:
_ خطأ رهيب، خطأ شنيع، خطأ رهيب، خطأ فظيع، وماذا بعد؟
رد الأستاذ، كأنه اكتشف علوم الكون:
_ علاماتك 18، 12، 3، 7... أنت نلتَ 3 علامات، وهذه ال 3 تحولت 13 فجأة، وأمامك فرصة، إما أن تعترف وتنال صفرًا، وطردًا لمدة ثلاثة أيام من الثانوية، وإما أن تُنكِر وتنال صفرًا، وطردًا لمدة ثلاثة أيام من الثانوية!
كان عرضًا مغريًا فعلًا، لكن (الخيارات) فيه تدهش العقول وترهق الأذهان، وكدتُ أدخل بجدال عقيم مع الأستاذ، لولا أنني رأيتُها... أقصد الفأرة طبعًا، تخرج من الدكان بسرعة، فوجدتُ نفسي أجري، وأنا أهتف:
_ لم أفعل شيئًا، افعل ما بدا لك.
وقد كان ذلك! لقد فعل الأستاذ ما بدا له، رغم أن والدي والإدارة كلها قد تدخلوا بالموضوع، إلا أن الأستاذ كان قد استبق الأمر بتقرير مطول من خمس صفحات، يكرر من خلاله أن عملي (فظيع شنيع رهيب) مرات لا حصر لها، ويعتبر أن سكوت الإدارة عن (جريمتي) جريمة كبرى، ويطالب بطردي طردًا نهائيًا... ورغم أن والدي قد أفحمه أمام الإدارة كلها، بمراجعته دفتر علاماته، فوالدي خطاط كبير، وخط الأستاذ كان واضحًا للجميع، هو من كتب كل العلامات بخطه، والأستاذ نفسه أقرَّ بذلك، لكنه قال إن لديه دفترَي علامات آخرين للاحتياط، حتى سأله أحد النظار متهكمًا إن كان دفتر علاماته منتخب لبنان الوطني لكرة القدم!!
وإذ طالب والدي الأستاذ بهذه الدفاتر، أجاب الأستاذ إنها غير موجودة! ثم اعتذر لخطئه بحقي، وأكد أنه كانت (غمامة صيف عابرة)، ولكن... حينما وزعوا لنا العلامات بعد ذلك، وجدتُ أنه قد وضع لي صفرًا في السعي، وغضب والدي غضبًا شديدًا، واستوقف الأستاذ قرب الإدارة ليخبره بأنه إنسان جبان غدار يطعن في الظهر، وهنا اعترف الأستاذ بالحقيقة أخيرًا! لقد فعل كل ما فعله بناء على طلب سامح! سامح ذهب مع الأستاذ إلى المنطقة المجاورة ذات مرة، وحمل له كل صناديق الخضار والفاكهة على كتفيه، مقابل أن يمنحني صفرًا، وقد استجاب له الأستاذ، لكنه؛ بدايةً؛ لم يكن يعرف ما عليه أن يفعل؛ ثم خطر له هذا المخطط، أن يتهمني بتغيير العلامة!
وهنا قال والدي إنه سيطلب إلى التفتيش التربوي التدخل بالأمر، وانهار الأستاذ يعتذر ويطلب السماح، ويتعهد بأنه لن يعيدها في حياته مرة أخرى!
ومن بعدها تحولت إلى (بطل) ندر مثيله! كل يوم يعرض الأستاذ به أمام الإدارة بطولاتي وإنجازاتي الفذة بمادة الجغرافيا، سواء أكان خارجًا من صفنا أم صف آخر، سواء أكان لدينا مادته ذلك اليوم أم لا، علمًا بأنني كنت قد أهملته وتوقفت عن الكتابة خلفه، بل وأتيت بكتاب الجغرافيا إلى الصف، أفتحه أمامي، لأرى مدى التطابق الحرفي بين الجغرافيا التي يقرأها الأستاذ عن دفتره، وتلك المكتوبة في الكتاب المدرسي... وإذ سمَّع لي الأستاذ ذات مرة بعدها، أجبتُه بقرف ومن دون اهتمام، ليمنحني 14 علامة كاملة، وبتسميع آخر لم يكن أفضل من سابقه منحني 20 علامة!
وأدرك الكل من بداية هذا التحول في شخصية الأستاذ معي، أنه يخافني، خاصة أن (بهدلة) والدي لهذا الأستاذ بلغت الكل، وهكذا استجار بي محمد! لقد سمَّع له الأستاذ، وأبدع محمد، فمنحه الأستاذ 8 علامات فحسب، وسمَّع بعدها مباشرة لزميلة أخرى، زميلة لم تدرس، وهي تقول كلمتين، والأستاذ يتابع بسطرين، ومنحها 14 علامة، واعترض محمد، وأراد الأستاذ أن يضع له صفرًا، لكني قلتُ له إن هذا ممنوع! فنجا محمد من الصفر! بل ومرة أخرى، بانتهاء الوقت ورنين الجرس، طلبت بنفسي من محمد أن يقوم للتسميع، بل وحملت دفتره وفتحتُه له ليقرأ عن الحاضر، أمام عيني الأستاذ المغتاظ، ولم يكد محمد يقرأ عدة أسطر، حتى أخذت الدفتر منه، مباركًا له بال 20 علامة، فمنحه إياها الأستاذ، وهو يكاد ينفجر غضبًا!
لا نعرف كيف انتهت تلك السنة التعيسة، لكننا تابعنا، أنا ومحمد وسامح، إلى الصف الثانوي الثاني (كنا نسميه القسم الأول في أيامنا)، وترك حسن المدرسة، ليكون لنا زميل رابع، يعيد صفه ويفكر بترك الثانوية... وأول يوم في تلك السنة وقفت في الملعب أنتظر قدومه... أتكلم عن محمد، رفيقي العزيز، ورن الجرس، ومحمد لم يأتِ بعد، ولا أعرف السبب ب(اللعنة) ببرنامج الدروس في الثانوية، أول يوم، أول حصة، لغة فرنسية!
ولكم كان هذا الأستاذ مسكينًا! فوجئ بأننا، وكان عددنا 14 تلميذًا هذه المرة، لا نعرف شيئًا من أبجديات اللغة الفرنسية، وبينما الأستاذ محتار في ما يمكنه فعله إزاء هذا الجهل والضعف، فوجئنا برفيقنا محمد، وقد وصل إلى الصف، إذًا فقد تسجل في ثانويتنا مرة أخرى، الحمد لله، ويبدو أن هذا الفتى لم ينتبه إلى نظرات الأستاذ النارية التي يصوبها إليه، لقد كان الأستاذ يكره التأخر كرهًا كبيرًا، ولكنه تمالك أعصابه، ليدور بينه وبين محمد حوار طريف:
_ الأستاذ: ما اسمك؟
_ محمد: اسمي محمد.
_ الأستاذ: هل كنتَ هنا السنة الماضية؟
_ محمد: لا.
_ الأستاذ: أين كنت؟
_ محمد: في الثانوية!
_ الأستاذ: أي ثانوية؟
_ محمد: هذه!
ارتفعت الضحكات، وبدا الغضب واضحًا في صوت الأستاذ، وهو يقول:
_ إذًا، فقد كنتَ هنا؟
_ محمد (بتوكيد): لا، أبدًا.
_ الأستاذ: (يكاد يقفز من النافذة): أين كنت إذًا؟
_ محمد: في صف ال seconde!
_ الأستاذ (يضرب نفسه): أين؟
_ محمد (مذهولًا لغباء الأستاذ): في صف ال seconde!
_ الأستاذ (بجنون تام): أين؟ أين؟ أين؟
_ محمد (بتوكيد): في الثانوية!
_ الأستاذ (يشد شعره): أي ثانوية!
_ محمد (مذهولًا لغباء الأستاذ وبلادة تفكيره): هنا، هذه الثانوية!
ووثب الأستاذ من مكانه، صارخًا مثل الوحوش الضارية:
_ Mon Ami Mon Ami!!
ويوم الخميس تحديدًا، كان لدينا حصتان متتاليتان، الرابعة والخامسة، أما السادسة فكانت حصة رياضيات، ومرة أراد أستاذ الرياضيات أن يُجْرِي لنا مسابقة فصلية، وجلس محمد بجواري الحصة الرابعة، يسألني عن أمور لم يفهمها بالمادة، وشرحتها له (رغم اهتماماتي الأدبية، أيامها كنتُ متميزًا بمادة الرياضيات، ولا أقصد علم الجيومتري طبعًا)، وبعد ذلك أخذت أكتب ما يقوله الأستاذ، لنفاجأ به، بعد أن توقفنا عن تحليل تمارين الرياضيات، بحوالي عشر دقائق، يسألنا ماذا نفعل، لأرد أنا بلامبالاة تامة:
_ نحن نكتب ما تقول!
لم يصدقنا الأستاذ، وترك مقعده ليرى ما نكتب، وكم كانت دهشته كبيرة، حينما رأى أننا كتبنا معظم ما قاله بالفعل، وبعدها؛ بعد أن اطمأننا إلى أن هذا الأستاذ قد أعطانا الثقة؛ عدتُ أمرن صديقي محمد على تمرين إضافي، وبعدما انتهينا، ومَرَّ وقت لا بأس به، سألنا الأستاذ ماذا نفعل، لأكرر إجابتي السابقة:
_ نحن نكتب ما تقول!
ومرة أخرى يأتي الأستاذ ليرى ما كتبنا، ومرة أخرى يقف مصعوقًا، لقد كتبنا معظم ما قاله، ولكن الأستاذ لم يرضَ بالهزيمة هنا، فأخذ يقلب صفحات دفتري، ولم يجد شيئًا سوى مادته، أما محمد، فكان دفتره مثل محطة تلفزيونية، يحتوي كل شيء تقريبًا! نشرات الأخبار، أحوال الطقس، مباريات كرة القدم المحلية، والعالمية، والنتائج ما بين الذهاب والإياب في كل دوري، والهدافون في كل فريق محلي، وفي كل منتخب، و... ليصرخ بنا الأستاذ مطالبًا إيانا بمغادرة الصف، فهتف سامح باستنكار:
_ وحدهما؟!
هتف به الأستاذ مغتاظًا:
_ رافقهما!
فخرج سامح معنا، ولسانه يلهج بالشكر والثناء للأستاذ الرائع، صاحب القلب الحنون، الذي لم يكسر نفسيته، والأستاذ يصرخ:
_ Mon Ami Mon Ami
نزلنا الدرج إلى الطابق الأرضي، وإذ بالناظر الصارم في وجهنا، يسأل بنتًا من صف آخر بلهجة تشكك:
_ إلى أين يا دموازيل؟
ردت البنت بهدوء:
_ ذاهبة لأشرب!
قال لها الناظر بصرامة:
_ اذهبي، لكن لا تتأخري عن صفك.
وما إن انتبه الناظر إلينا حتى هتف مستنكرًا:
_ نعم، نعم؟ ثلاثتكم أصابكم العطش فجأة، وخرجتم من الصف لتشربوا؟!
صرخ سامح من دون أدنى داعٍ للصراخ:
_ لِهْ!
(المقصود لا، لكنه صرخ بها بالعامية المحلية، وحتى نحن بالعامية نقولها بطريقة أرقى، نقول لأْ، بالهمزة الساكنة، أما "لِهْ" هذه، فنادرة الاستعمال لدينا، ومن هنا ارتفعت ضحكاتنا).
وأضفتُ أنا، محاولًا تمالك نفسي من الضحك:
_ ومن يحب أن يشرب من مياه كلها ميكروبات مثل هذه؟
وصرخ محمد، بشكل غريب جدًا، ليخبر الناظر بأننا مطرودون، لكنه أخبره بذلك بصرخة كفيلة بإسماع كل تلاميذ الثانوية... هذا من جهة، ومن جهة أخرى صرخ بها محمد، كما ننطقها بالعامية، وبلغتنا المحلية التي نعتز بها، مع أنه ليس من منطقتنا...
وجُنَّ الناظر نهائيًا!

أ. عمر
30-5-2018, 12:23 AM
تابعوا معنا الحلقات الأخيرة
إن شاء الله تعالى

أ. عمر
31-5-2018, 01:42 AM
الحوار الدامي!



صعقت صرخة محمد زميليه، أنا وسامح، بكل فخر!
لا نعلم حقيقة لِمَ فعل ذلك، ولَمْ يوضح لنا سبب هذه الصرخة الهادرة
والأغرب من ذلك استخدامه لغتنا العامية المحكية التي تختلف كل الاختلاف عن لغة منطقته
وهذه السنة الثانية لمحمد في الثانوية معنا، ولم يتكلم يومًا واحدًا من قبل بلغتنا
وتجاوز الناظر الصارم مرحلة الجمود التي أصابته، ليستدير قائلًا:
_ الحقوا بي إلى الإدارة.
وكانت غرفة الإدارة تشبه الباص الممتلئ بالركاب! المدير والناظر الثاني وعدد من الأساتذة والمعلمات، والغريب أن الناظر الصارم جلس بمواجهتنا، في موضع المدير، ولم نعرف لماذا كان الأخير يجلس بين الأساتذة، ولكن ربما يكون ذلك لأن هذا الناظر أشد صرامة وحزمًا.
المهم أن الناظر قال لنا بغضب:
_ لا يتكلم أحدكم ما لم أسأله، السؤال لك يا عمر، لماذا أنتم مطرودون؟
أجبتُه بهدوء:
_ سألني محمد سؤالًا، ولم أَرُدَّ عليه.
اتجه الناظر ببصره إلى محمد، متسائلًا:
_ لماذا أنتم مطرودون؟
أجابه محمد متحمسًا:
_ وهل بعد كلام عمر من كلام؟!
تمتمت بفخر:
_ شكرًا محمد، شكرًا!
صاح الناظر:
_ ما هذا؟ توجَّها بكلامكما إليَّ أنا، لماذا أنتم مطرودون يا محمد؟ أريد أن أسمع إجابتك أنت.
أجابه محمد متحمسًا:
_ لقد سألتُ عمر سؤالَ رياضيات، ولم يَرُدَّ عليَّ!
ارتسمت على شفتي الناظر ابتسامة الانتصار، وهو يقول لي متشككًا، كأنما اكتشف كنزًا:
_ لم تخبرني أنه سألك سؤالًا في الرياضيات، لماذا؟
أجبتُه بلا مبالاة:
_ المهم أنه سأل ولم أرد! ماذا يعنيني طبيعة السؤال؟ سواء سألني عن الرياضيات أم عن غرندايزر شخصيًا!
احتقن وجه الناظر لهذه الإجابة، وأخذ ينظر إلينا بمنتهى الغضب، ثم تمالك نفسه بعد بعض الوقت، ليسأل صديقنا الثالث:
_ لماذا أنتم مطرودون يا سامح؟
فاجأنا سامح بصياحه، كأنه يريد البكاء:
_ والله العظيم لم أقصد هذا!
نظرنا إليه؛ أنا ومحمد؛ بدهشة عميقة، ونظر إليه جمع الأساتذة بما فيهم المدير بترقب، فيما سأله الناظر دهشًا:
_ ماذا؟ ماذا فعلت؟
ردَّ سامح بصوته المتباكي:
_ الله وكيلك، الله وكيلك، لم يكن ذلك مقصودًا مني!
سأله الناظر باهتمام:
_ هل أضعتَ وقت الأستاذ؟
صاح سامح متحمسًا:
_ لِهْ!
_ هل تكلمتَ بكلام سيء مع الأستاذ؟
_ لِهْ!
_ هل سَبَبْتَ أحدًا من رفاقك؟
_ لِهْ!
_ هل...
_ لِهْ!
صاح بها سامح، قبل أن يلقي الناظر بسؤاله، فارتفعت ضحكات الجميع، وقد كانوا يحاولون كبتها قبل ذلك، أما ضحكتي فكانت مميزة، إذ تحركت تلك العادة القديمة عندي، لا أستطيع أن أرى من يصرخ من دون أن أضحك، وزاد الطين بلة أن وقف الناظر صارخًا:
_ ما هذا؟ هل تهرج؟ تفضل تكلم حالًا وفورًا، وإلا فلن تلوم إلا نفسك!
عاد سامح إلى لهجته المتباكية، وهو يجيب:
_ حينما سأل محمد عمر سؤالًا، وحينما لم يَرُدَّ عليه عمر، وحينما اكتشفنا أن هذا السؤال كان سؤالًا في الرياضيات، وحينما لم يَرُدَّ عليه عمر، إذًا، حينما سأل محمد عمر سؤالًا، وحينما لم يَرُدَّ عليه عمر، وحينما سأل محمد عمر سؤالًا في الرياضيات، لا عن غرندايزر ولا بلاكي ولا فيغا ولا هيغارو ولا ماريا، وحينما لم يَرُدَّ عليه عمر، قال لهما الأستاذ اخرجا من الصف، وهنا، هنا أنا، والله ومن دون قصد مني، ولم أعرف كيف خرجت تلك الكلمة من فمي، لكنها خرجت، فطردني الأستاذ معهما، وأنا بريء، لم أسأل عمر أي سؤال لِيَرُدَّ عليَّ أو لا يَرُد!
يا لها من كوميديا هزلية جعلتنا نغرق جميعًا في الضحك بأعلى أصواتنا، ولكن الناظر تمالك أعصابه بطريقة غريبة، ليتساءل باهتمام:
_ أية كلمة هذه؟
صرخ سامح، ملوحًا بذراعيه:
_ لماذا لا تصدقني أنني لم أقصدها؟
وقف الناظر مرة أخرى، صارخًا بدوره:
_ سأطردك طردًا نهائيًا من الثـ...
أسرع سامح يقاطعه قائلًا:
_ لقد قلت للأستاذ (وحدهما)؟ فأخرجني معهما، هكذا ظلمًا وعدوانًا!
بدا الناظر هنا كأنما أصيب بصاعقة! ولن نقول إن الضحكات عادت ترتفع، فهي لم تتوقف أصلًا، وأنا كنتُ في معاناة مضاعفة هنا، وذلك لسببين، الأول أنني كلما حاولت تمالك نفسي، نظر سامح في عيني مباشرة، ليواصل مسرحيته، أو ليضحك معنا بعد انتهائه من هذا الفاصل الكوميدي، والثاني يتمثل بمحمد نفسه! لا أعرف أية موهبة يمتلك هذا الفتى! يضحك وهو ساكت من دون صوت! ولا يمكنك معرفة أنه يضحك ما لم يكن يقف بجوارك تمامًا، وهذا ما كان! فم محمد في أذني تقريبًا، وأصوات ضحكه المكتومة كأنك في قعر البحار العميقة... وانفجر الناظر فجأة في وجوهنا:
_ اغربوا عن وجهي بسرعة، هيا، لن تصعدوا إلى الصف، لا اليوم ولا أي يوم آخر، هيا اذهبوا...
هتف سامح متحمسًا:
_ إلى الصف؟ بارك الله بك يا أستاذ!
ولن أبالغ لو قلت لكم إن المدير وقع عن كرسيه من فرط الضحك، وإنني انهرتُ تقريبًا حتى كدتُ أجلس على ركبتيَّ لشدة ما أضحك أنا كذلك، خاصة أن الأحمق سامحًا وضع عينه في عيني مباشرة مرة أخرى، وهو يضحك مثل المجانين، فهتف به الناظر:
_ اذهب إلى الصف حالًا، لا لتجلس، بل لتأتي بكتبك و(تنقلع) إلى بيتك!
ردَّ سامح بلامبالاة:
_ لا يا أستاذ، عندنا مسابقة فصلية الحصة الأخيرة.
أجابه الناظر بحزم:
_ إذًا، ممنوع أن تدخل في الغد إلى الثانوية من دون والدك!
ردَّ سامح متظاهرًا بالحيرة:
_ ولكن... ولكن... الغد هو الجمعة، هل ستفتح الثانوية الجمعة خصيصًا لاستقبال والدي!
صرخ الناظر:
_ أقصد السبت يا أحمق! إلى الملعب، هيا.
غادر سامح أخيرًا، وأخذ الناظر ينظر إليَّ، وأنا ما ما زلتُ لا أستطيع الوقوف بشكل متوازن، ليسألني، وهو يضغط على أسنانه:
_ وأنت، ماذا ستفعل؟
أجبتُه، من بين ضحكاتي ودموع الضحكات:
_ سأخبر والدي!
سألني باهتمام:
_ ليكلمني، أليس كذلك؟
لا أدري كيف وجدتُ نفسي أصرخ بوجهه، مقلدًا سامحًا ولهجته:
_ لِهْ!
وأتبعتُها؛ إذ انتبهتُ إلى نفسي وما أحدثته صرختي هذه من الجفول لدى الناظر؛ بضحكة مدوية استمرت فترة لا بأس بها، حتى اختنق تنفسي تمامًا، وأخذتُ أحاول الإجابة، ولا أستطيع أكثر من التلويح بيدي، ومحمد يكاد ينفجر ليفقد موهبته الخرافية بالضحك الصامت، وصوت فقاقيع ضحكاته تدوي في أذني المسكينة، حتى تمكنتُ من الإجابة أخيرًا:
_ بل ليكلم الأستاذ الذي أخرجني ظلمًا من الصف، وهو قد رأى بعينيه أنني كتبتُ كل كلمة قد قالها لنا.
صرخ الناظر، وقد بدا كأنه شعر بإهانة ما:
_ الحق بسامح إلى الملعب.
ولم أفعل ذلك مباشرة، إذ إن الناظر سأل صديقنا محمدًا:
_ وأنت، ماذا تريد أن تفعل؟
لم يُجِب محمد، فالضحك كان يمنعه من فتح فمه! لكن عينيه دمعتا هنا، وهو يحاول فاشلًا تمالك نفسه، ولكم فوجئتُ بكلام الناظر (الحنون):
_ أنت لم تضحك في وجهي، هذا يعني أنك متأثر بالطرد، لذا سأعفو عنك، ولن أطلب أهلك، اذهب إلى الملعب الآن.
وانطلق محمد مغادرًا ليبتعد بأقل من ثانية واحدة عن وجه الناظر، مطلقًا ضحكة دوَّت في المدرسة بأكملها، ولا أبالغ لو قلت إن ضحكنا استمر ما تبقى من الحصة الرابعة، واستغرق الحصة الخامسة حتى آخرها تقريبًا! ولكم آلمتنا خواصرنا من الضحك، ثم استيقظ سامح أخيرًا من غفلته! لقد أقسم والده؛ من قبل؛ ألا يأتي إلى الثانوية، وأن يسلخ جلد ابنه إذا ما قام بأي فعل يتسبب بطرده، لذا؛ تطوعتُ لأخذ سامح إلى الناظر، رغم ما وضعني به من موقف جعلني أضحك بتلك الطريقة المستفزة، ولقد فوجئ بي الناظر أتقدم نحوه، قائلًا:
_ محمد عفوتَ عنه، وأنا لا تستطيع أن تفعل شيئًا معي، وسيتولى أبي المسألة، لكن ماذا عن سامح؟
ارتبك الناظر بادئ الأمر، ثم تمالك نفسه، ليقول بغيظ:
_ سامح يجب أن...
قاطعتُه قائلًا:
_ ربما فعل ذلك لأنه كان خائفًا أن تطرده!
ولم يفهم الناظر هذا المنطق! فنظر إليَّ متسائلًا بريبة شديدة:
_ أخذ يهرج وينكت، كي لا أطرده؟
هتف سامح هنا، متظاهرًا بالتأثر:
_ هذا لأنني كنت متأثرًا لأن الأستاذ طردني ظلمًا، صحيح أنني قلت له (وحدهما) لكني لم أكن أقصدها، بل أنا كنت أقصد كلمة (لماذا)، لكن كلمة (وحدهما) خرجت (وحدها) من فمي، بدلًا من كلمة (لماذا) و(لماذا)؟ لا أدري (لماذا)، وذلك لأنه...
قاطعه الناظر، صارخًا بضجر تام:
_ اغرب عن وجهي! هذا ما أريده فقط!
هتف سامح سعيدًا:
_ الله يبارك فيك!
ومع رنين الجرس، اتجهنا إلى الصف، ليستقبلنا أستاذ اللغة الفرنسية متسائلًا بشماتة:
_ كم يومًا ستُطرَدون؟
ردَّ سامح بشماتة مماثلة:
_ ولا يومًا سنُطْرَد! كل ما في الأمر أن الناظر منحنا هذا الوقت لنراجع للمسابقة في الملعب!
وانفجر أستاذ اللغة الفرنسية يولول فوق رؤوسنا! وانفجر يسب الناظر متهمًا إياه بالغباء وقلة الفهم، وغياب المنطق لانعدام العقل! وما بين كلمة وأخرى، يصيح كعادته حينما ينفعل:
_ Mon Ami Mon Ami!!
وبعيدًا عن أستاذ اللغة الفرنسية هذه السنة، كان أستاذ الجغرافيا الذي درَّسنا السنة الماضية حاضرًا هذه السنة كذلك، لكن لِيُدَرِّسنا الجغرافيا والتاريخ معًا! وتزداد المعاناة، مع أنه لم يعتمد طريقة الكلام والنسخ خلفه، بل كان يعطي من الكتاب وبكميات هائلة، وسامح يحاول كعادته مقاطعته وإضاعة الوقت كيفما استطاع، ولكن لم يحصل أدنى احتكاك في ما بيني وبينه، إذ يبدو أنه كان ما يزال يتذكر ما حصل السنة الماضية، رغم تقلب مزاجه وذاكرته، لكن مع ذلك كاد يمزق لي بطني ويخلع كتفي ذات مرة، خارج الصف!
كنا قبل شهر رمضان بيوم واحد، هذا اليوم الذي تعود الطلاب الغياب فيه، وذلك لتناول ما يسمى طعام (السيران)، أي غداء ما قبل رمضان بيوم، وبِغَضِّ النظر عن هذه العادة، فإننا كنا نغيب، وإذ كان الشك هل رمضان الأربعاء أم الخميس، كنا نغيب الثلاثاء، وإذا اتضح أن الأربعاء يكمل عدة شعبان، نغيب الأربعاء كذلك، لنكسب يومَي غياب بدلًا من يوم واحد!
لكن ذلك اليوم، تطوع بعض الأساتذة لتعيين مسابقات فيه، وذلك لإجبارنا على الحضور، ثم أخبروا زميلاتنا البنات بأن المسابقات تأجلت! وأتينا؛ نحن الشباب؛ لنفاجأ بالبنات يتناولن الدجاج المشوي في الصف، وجواره البطاطا المقلية، والتبولة... وبعض قوالب الكاتوه تنتظر دورها لِيَتِمَّ التهامها بعد انتهاء الطعام... غادرنا نحن الشباب، وأخذتُ طريقي لنتمشى أنا ومحمد، متخذين طريقًا وسط التراب، بين الأشجار، وفجأة تندفع دبابة بشرية من بين بعض الأشجار في طريقنا، لأجد شخصًا يرتطم بي وتغوص قبضته في بطني، حتى سمعتُ صوت أمعاء بطني نفسها تصرخ ألَمًا، وقبل أن أصرخ بوجه هذا الأحمق، متهمًا إياه بالعمى، سمعتُ هتاف محمد الدهش:
_ أستاذ التاريخ والجغرافيا؟
وسمعتُ صوت الأستاذ البغيض لأذني، بعد كل ما مررتُ به معه:
_ ماذا تفعل هنا يا محمد؟ هل أنت هارب من الثانوية؟
أجاب محمد مستنكرًا:
_ لا، ولكن اليوم عطلة، ولكن البنات فقط في الصف، يتناولن الدجاج المشوي، وهناك كاتـ...
لم يكمل محمد كلامه! فلقد تحمس الأستاذ، ليصرخ دافعًا صديقي بِيَدِه بمنتهى العنف:
_ دجاج!!
وارتطم محمد بي بعنف، فمه وأسنانه كلها هوت فوق كتفي، لأصرخ بألم شديد، ولم يكن محمد أقل ألَمًا، والأستاذ يركض بسرعة شديدة، نحو المدرسة، ليشارك الطالبات الأكل!
وفي اليوم التالي، زارنا في حصة أستاذ الجغرافيا الرائع هذا المفتش التربوي، دخل صفنا ومعه المدير، ليلقي المفتش التحية، متسائلًا:
_ ماذا تُدَرِّس يا أستاذ؟
أجابه الأستاذ متحمسًا:
_ الدرس طبعًا!
أخذنا نضحك بشماتة، لهذه الإجابة، وأسرع المدير يهتف:
_ يقصد درس الجغرافيا أو التاريخ حضرة المفتش، لأنه يدرِّس كلا المادتين، وذلك لخبرته...
قاطعه المفتش، ليسألنا:
_ هل هناك أحد فيكم لديه أي شكوى؟!
فوجئتُ بالمدير هنا، يرفع قدمه ليهوي بها على قدمي أنا بعنف، ثم يضغط بشدة، حتى كدْتُ أفقد تنفسي لشدة الألم، وأخذتُ أدفعه بقدمي الأخرى، والمدير يغمز لي بعينيه كي لا أتكلم وأشكو الأستاذ، ويبدو أن المفتش انتبه إلى أنني أنتفض بألم شديد، فسألني بدهشة:
_ ماذا؟ ماذا أصابك؟
أجبتُه، وأنا أكاد أفقد أنفاسي ألَمًا:
_ لا أستطيع أن أتنفس!
هتف المفتش بالمدير متلهفًا:
_ حاولوا معالجته فورًا.
أجاب المدير متحمسًا:
_ أجل، أجل، سنفعل ذلك فورًا.
وغادر المفتش، لِيُفْرِج المدير عن أصابع قدمي أخيرًا، فخرجتُ من الصف إلى الحمام، لأفحص الأضرار، وكانت قدمي متورمة، حيث أهوى عليها المدير بحذائه، أما أصابع قدمي فكان لونها أزرق تقريبًا، والحمد لله أنها لم تتحطم...
انتهت تلك السنة الدراسية بنجاح جيد بالنسبة لي، وبنجاح ضعيف لسامح ومحمد... ولكن، أيامنا، كان هناك شهادة رسمية لصف الثانوي الثاني، وبمادَّتَي اللغة العربية واللغة الفرنسية فحسب، وعلامة هذه الشهادة لا تفيدنا شيئًا في الرسوب أو النجاح، ولكنها تفيدنا في السنة المقبلة، لأن نتيجتها تُضَاف إلى الشهادة الثانوية الرسمية، و...
ولا علينا من هذا...
فصف الشهادة الثانوية الرسمية، ختام المرحلة الثانوية، ثم ما حصل لنا من موقف مزعج في الجامعة، وآخر في دار المعلمين... قبل أن نبتدئ بالتدريس الرسمي، هو الأساس في حكايتنا...
وإن كنا سنتوقف مع موقف بسيط في صف الشهادة غير المؤثر هذا...
فإلى الحلقة الأخيرة بإذن الله...

أ. عمر
4-7-2018, 06:52 AM
المفاجأة الرقابية!

ما بين إلقائه إياي أمام السيارات، ثم موقف الرعب الذي جعلني أقفه في دكانه، إذ يَمُدُّ يده نحو حزامه، متحدثًا عن إطلاق النار، إلى قبضته التي غاصت في معدتي، وأسنان زميلي التي غاصت في كتفي، وسحق المدير أصابع قدمي بسببه، بدا لي فعلًا أن هذا الأستاذ كابوس حقيقي، ابتلاني الله تعالى به ثلاث سنوات متتالية.

وإن كانت السنة الثالثة هينة (نسبيًا)، فالأستاذ بات يدرِّسنا التاريخ فحسب، ويدمج به الفيزياء والكيمياء، وعلم طبقات الأرض، ما لم يسمع به أحد من قبل قط، حتى الأستاذ نفسه، ولكن موضع السهولة هنا أننا لم نَعُدْ نهتم، لا له ولا لمادته، فنحن طلاب صف شهادة رسمية، ولا يعني هذا إهمالنا أية مادة، ولكن علاماته (الدولية) لا تقدم شيئًا؛ هذه السنة؛ ولا تؤخر، وبالتالي رفضنا جميعًا؛ شبابًا وبناتٍ؛ تسميع أي درس خلال السنة كلها، ولا نعلم من أين كانت تأتينا العلامات من قبل هذا الأستاذ، ووفق أي أساس كان (يخترعها) لنا!

ومرة أتانا هذا الأستاذ، صارخًا بصوته (الناعم) الكفيل بإقلاق راحة الثانوية كلها، ومحيطها داخليًا وخارجيًا (فقط):
_ ضعوا أمامكم أوراقًا بيضاء، وأقلامًا زرقاء، و...
قاطعه سامح متهكمًا:
_ ولا تنسوا المراويل الحمراء، واجعلوا أعينكم سوداء، و...
(ذلك أن المريول المدرسي المفروض على البنات لونه أحمر)

صرخ به الأستاذ، داعيًا إياه إلى الصمت، ليخبرنا بأنه سيجري لنا مسابقة، وفق أسس الشهادة الرسمية، وأخذ يقرأ الأسئلة التي يريد لنا أن نجيب عنها، ولكن... سكت الأستاذ دهشًا، وأخذ ينظر إلينا بحيرة، قبل أن يتساءل:
_ هل أصيبوا بالصمم جميعًا؟!
المفترض أنه يتحدث (معنا)، لكنه استخدم ضمير الغائب!

أجابته إحدى الزميلات:
_ لا، والحمد لله، لكننا لا نريد أن نجري أية مسابقة، هكذا! من دون سبب!
صرخ الأستاذ مهددًا:
_ ستنالون صفرًا جميعًا، ولن أرحمكم أبدًا!
هتفنا به معًا:
_ لا ترحمنا! بالعكس، نحن نحب الصفر!
رد الأستاذ بازدراء:
_ كلكم تقولون هذا، وعند أول اختبار حقيقي لشجاعتكم لا نرى منكم أحدًا! سَتَرَون! كل من لا يريد إجراء المسابقة فليخرج من الصف فورًا، حاملًا كتبه معه!
واتسعت عينا المسكين، يا لعرضه الرائع! لم يتخيل أننا سنحمل كتبنا، ونقف، فهتف بنا بغباء حقيقي:
_ إلى أين؟

أجبناه بأننا ننفذ أوامره فحسب، فطلب إلينا أن نجلس، ونتوقف عن اللعب معه، ومن هذا الذي أخبره؛ كاذبًا؛ بأننا نلعب معه أساسًا؟! ولم يَعِي الأستاذ الدرس، بل عاد يكرر (تهديده) لنا بالطرد مع كتبنا، وما كاد ينتهي من كلامه، حتى حملنا كتبنا ووقفنا، فهتف بنا متسائلًا (إلى أين) بمشهد بدا أشبه بإعادة حرفية لما حصل قبل لحظات، والمصيبة أنه ما زال بعيدًا عن الوعي، فلقد عاد يكرر الطلب أربع مرات إضافية أو خمسًا، ليقابل بِرَدَّة الفعل هذه ذاتها، حتى (فهم) أخيرًا، أو ربما تعب وأصابه اليأس، والحمد لله تعالى أيًا كان السبب!

وذات يوم، دخل حضرته صفنا، صارخًا بصوته الهدار:
_ أيها التلاميذ، اسمعوا.
وتحول صوته إلى الخشونة التامة، ربما لإضفاء التأثير المطلوب، لكلماته (المهمة):
_ اسمعوا وعوووووووا
صرخ بعض الطلاب:
_ عوووووووووووووووا!!
وانفجر الأستاذ في وجوهنا:
_ (عوا) تعني (عوا) ولا تعني (عوا)!!
ليسأله سامح بتهكم لاذع:
_ وما الفارق بين (عوا) الأولى و(عوا) الثانية يا ترى؟؟

أخبرنا الأستاذ أن (عوا) من الوعي لا من العواء، أقول لكم هذا ببساطة، لكن الأستاذ لم يَقُلْه ببساطة، بل أمطرنا بوابل من الشتائم واللعنات، أعتقد أن ذكرها ينافي الذوق العام، وأبسطها، وأخف شيء فيها، نعوت الحيوانات التي أنزلها على رؤوس من أصدروا أصوات العواء في الصف!
انتهت تلك السنة بصعوبتها ومرارة أحداثها، وحانت أيام الشهادة الرسمية، وكان كل شيء يسير على ما يرام، حتى اليوم الأخير، إذ بات أحد أساتذتنا القدامى المسؤول عن بعض الغرف، من بينها غرفتنا، هل علمتم أي أستاذ هذا؟ إنه صاحب الــ(هيهاهاهاهاهوها)! الذي لا ينام بسبب مخطوبته...
ويا للحظ التعيس! ظن الأخ أنه ضابط في معتقل، وهكذا وجدناه يقتحم الصف بغتة، صارخًا مثل الوحوش الضارية، يطلب مني أن أنظر أمامي، مخاطبًا إياي باسم أخي، وهو لم يعلم أخي يومًا واحدًا، وضقتُ ذرعًا به، كنت أمام مادة الفيزياء أولًا (في أيامنا لم يكونوا يسمحون بالآلة الحاسبة، وبالتالي أي تشتت ذهني يذهب بعملية عقلية استغرقت دقائق)، وأمام مادة علم النفس ثانيًا (في أيامنا كانت المادة باللغة الفرنسية، والموضوع الذي حفظته بصعوبة شديدة، أتى في المسابقة)، وفقدت تركيزي كله، وطارت المعلومات كلها مع صراخه، خاصة في اللغة الفرنسية التي أحفظها بمنتهى الصعوبة، فما كان مني إلا أن صرخت بوجهه داعيًا إياه إلى السكوت، وأن يريحنا من سماجة دمه، ولكن عبثًا... رغم أنه انصرف عني، لكنه حول سماجته إلى محمد، وتطور الأمر حتى كادا يتضاربان في الصف، وألقى محمد بمسابقته أرضًا، واضطررت إلى التدخل، بل وطردت المراقب العام الأخرق من الصف، رغم أنه يستطيع فعل ذلك بي لو أراد، لكني عكستُ الأدوار كلها!

ولم نصل؛ بعد؛ إلى الخواتيم السعيدة، فالأستاذ المراقب العام عاد يدخل الصف، بهدوء، لكنه لا يستطيع إلا أن يكون مزعجًا، فحضرته يحمل تنكة بيبسي (العلبة المعدنية) ويحاول فتحها جاهدًا، ولا يستطيع ذلك، فتطوعت إحدى البنات في قاعة الاختبارات لمساعدته، وقامت تفتحها له، ولكن يبدو أنه خضها قبل ذلك، فارتفع الأسيد من العلبة، ليقفز الأستاذ صارخًا برعب شديد:
_ يا أمي!
أغرقنا بالضحك الشديد جميعًا، واحتقن وجه الأستاذ غضبًا، وبلؤم غير منطقي، نظر إلى البنت التي فتحت له علبة البيبسي، قائلًا لها:
_ (انقبري) إلى مكانكِ!
صرخت البنت (ووجهها يكاد يتفطر احتقانًا):
_ (انقبر) أنت وقل (يسلمو)!
أخذ حضرته يهددها؛ وهو يشرب البيبسي؛ بأنه سيحرمها متابعة الاختبار، وسيكتب بحقها تقريرًا يحرمها أربع دورات شهادة متتالية، فأخبرته؛ بكل بساطة؛ أنها مستعدة لكسر يديه إن فعل ذلك، وارتفعت أصواتهما يهددان ويتوعدان، وحاول بعض الطلاب إسكاتهما، لكن عبثًا، لا؛ بل زاد الصراخ، من الأستاذ والفتاة هذه، ومن سائر تلاميذ القاعة!

نجحتُ؛ بفضل الله؛ ورسب محمد، والسبب برسوبه هو هذا الأستاذ المراقب، وحتى أنا لم أسامحه وقتها، وللدقة لم أسامحه من وقتها إلى الآن، رغم أننا تخطينا هذه الحادثة من اثنين وعشرين عامًا، لكني كنت أستطيع الحصول على تقدير جيد جدًا، لولا حماقاته، لأنجح على تسع عشرة علامة فحسب، والحمد لله دومًا.

أما أيام الجامعة فَمَرَّت، من دون مشاكل تُذكَر، خفيفة هادئة، في معظمها، رغم أنني أخفقت السنة الأولى، والسبب أن (الداهية) المسؤول في قسم اللغة العربية أعطاني موعدًا خاطئًا، اخترعه هو بنفسه، لإجراء امتحانات الدخول، وحينما توجهت الوقت المحدد إلى الجامعة لإجراء الامتحان، فوجئت بأنني وحدي في الجامعة كلها، وهنا اعترف بأن ما أخبرني به كان (تقديراته الشخصية)، أما (فعليًا) فالامتحان تم إجراؤه بالأمس، وهذا ما دفع بي إلى كلية الحقوق التي لا أهواها ولا أريدها نهائيًا، والسنة التالية رجعتُ إلى عالم الأدب العربي بفضل الله تعالى.

انتهت السنة الجامعية الثانية، وبدأت الثالثة، وبدأنا معها رحلة أخرى، رحلة مزدوجة فعلًا، دار المعلمين والمعلمات للإعداد لنكون أساتذة في ملاك الدولة، إذ نجحنا بالاختبار الذي أجرته الدولة لنا، وكان علينا أن نوازن بين دار المعلمين والجامعة، وإذا ما وفِّقنا، فسنحصل على شهادة الكفاءة في دار المعلمين، والإجازة الجامعية (الليسانس) في سنة واحدة.
بذلنا قصارى جهدنا، وكان لنا في الدار مواقف طريفة، ذكرتُها في حكايا أخرى مما كتبتُه هنا قبل الآن، ولكن لعل أطرف موقف رأيناه فعليًا، إذ حان الفصل الثاني، وقت التطبيق العملي، كان علينا أن نشاهد بعض الدروس في التكميلية بجوار دار المعلمين، وصلنا يوم المشاهدة الأول قرب انتهاء الحصة الثالثة، وبقينا في الملعب، إذ إن علينا حضور الحصتين الرابعة والخامسة، ثم النقاش حول طريقة الأساتذة بالإعطاء، وتفاعل التلاميذ، وما إلى ذلك...

سمعنا رنين الجرس معلنًا بداية الفسحة، وبعده بثوان قليلة، ارتفعت الأصوات السعيدة، وتعالى وقع الأقدام الهادر، لنفاجأ بمشهد لم نتخيل أننا سنراه في حياتنا إطلاقًا! الشباب والبنات يركضون بجوار بعضهم يتدافعون من سينزل الدرج إلى الملعب قبل سواه، وكلهم؛ الشباب والبنات؛ يرتدون المريول المدرسي الموحد، علمًا بأن المدرسة ليست ابتدائية فحسب، بل هي تكميلية، تحتوي الصفوف من الابتدائي الأول وحتى الأساسي التاسع، وبعض الطلاب؛ أعني الشباب؛ أكبر من أعمارهم بشكل واضح، وبعضهم له شاربان ولحية، ولم نَعُدْ نستطيع استيعاب كيف يرتضون على أنفسهم هذا اللباس!

لا علينا من هذا! مرَّت تلك الأيام القاسية، وأنهيناها بنجاح بفضل الله تعالى، كما أنهينا الجامعة معها، لنحمل الشهادتين سويًا، ولكن، تم تأخير تعييننا سنة كاملة، كان علينا فيها أن نتعاقد على حساب صندوق المدرسة، والتعاقد ضروري، وذلك لسبب جوهري، فإن لم نجد مدرسة قريبة الآن _ كل المدارس بعيدة في محافظة أخرى _ فسنجد أنفسنا بعد ذلك في أبعد المدارس، ما يلزمه أضعافًا مضاعفة من الوقت للوصول إليها، عدا عن بردها الشديد الذي لا يُحتَمل.

وجدت مدرسة بصعوبة، لكن من دون برنامج، أي كان عليَّ أن أعطي التلاميذ بدل الأساتذة المتغيبين، وذلك إلى حين إعداد برنامج لي، جلستُ عدة أيام من دون أن أدخل الصف مرة واحدة، ثم حان اليوم الموعود أخيرًا... أتى الناظر آخر الحصة الثانية ليطلب إليَّ تأمين حصة في صف الأساسي السادس، الشعبة أ، الحصة الثالثة، وقبل أن يرتفع رنين الجرس بدقيقتين أو أكثر، تركت مقعدي، ليسألني الناظر بدهشة إلى أين أذهب؟ أجبتُه بحزم إن الأستاذ الناجح لا ينتظر رنين الجرس ليذهب إلى صفه، فهذه الثواني من حق التلاميذ، وتجاهلتُ هتافه المذهول (ماذا) الذي كاد يخترق أذني، وأنا أتجه إلى الصف، وحصل ما جعلني أتأخر رغمًا عني، ولكن، المهم هنا، أنني ما كدتُ أدخل الصف، حتى وقفتُ مكاني بدهشة وحيرة، فلقد واجهتني مفاجأة لم أكن أتوقعها... على الإطلاق!!


نهاية الجزء الأول
4/7/2018
الساعة: 6:50 صباحًا

Jomoon
9-7-2018, 09:59 PM
السلامـ عليكمـ ورحمة الله وبركاته~


وانتهت السلسلة كانت مليئة بالغرابة
صراحة كانوا وقحين بزيادة
رفعوا ضغطي لأقصى حد
آجرك ربي وجزاك خيراته بما صبرت
بشر انسلخوا من إنسانيتهم
وظلموا وجاروا
ما نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل
أحسنت أستاذ بما قدمت
كانت ماتعة برغم المرارة التي فيها
فجزاك ربي خيراته
وزادك من فضله
استمر
وننتظر الجزء الثاني
ويارب يعدي تعبي قبل أن تشرع به
ما شاء الله نشاط ومثابرة
ربي يبارك بك ولك وفيك
في حفظ المولى،،
~

أ. عمر
10-7-2018, 07:54 PM
السلامـ عليكمـ ورحمة الله وبركاته~


وانتهت السلسلة كانت مليئة بالغرابة
صراحة كانوا وقحين بزيادة
رفعوا ضغطي لأقصى حد
آجرك ربي وجزاك خيراته بما صبرت
بشر انسلخوا من إنسانيتهم
وظلموا وجاروا
ما نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل
أحسنت أستاذ بما قدمت
كانت ماتعة برغم المرارة التي فيها
فجزاك ربي خيراته
وزادك من فضله
استمر
وننتظر الجزء الثاني
ويارب يعدي تعبي قبل أن تشرع به
ما شاء الله نشاط ومثابرة
ربي يبارك بك ولك وفيك
في حفظ المولى،،
~



وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
شفاكم الله تعالى وعافاكم من كل سوء
حسبنا الله ونعم الوكيل فيهم، والحمد لله دائمًا وأبدًا
حفظكم الله وجزاكم كل الخير