تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : قلم حبر أحمر وفرنك واحد... كاتب قصص وروايات!



أ. عمر
6-12-2017, 08:05 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أحكي لكم اليوم عن سبب توجهي إلى الكتابة القصصية والروايات

تابعوا معنا.

1_ هل أنا بابا؟ (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190350&p=3564060&viewfull=1#post3564060)
2_ هل ستأتي ماما؟ (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190350&p=3564081&viewfull=1#post3564081)
3_ قصتي الأولى (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190350&p=3564082&viewfull=1#post3564082)
4_ قصتان (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190350&p=3564425&viewfull=1#post3564425)
5_ قصة العودة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190350&p=3564857&viewfull=1#post3564857)
6_ تعالوا نهرب! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190350&p=3565053&viewfull=1#post3565053)
7_ درس الحساب (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190350&p=3565215&viewfull=1#post3565215)
8_ قليلًا من المرح (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190350&p=3565285&viewfull=1#post3565285)
9_ كثيرًا من القهر (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190350&p=3565733&viewfull=1#post3565733)
10_ وحش المستحيل! (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190350&page=2&p=3565926&viewfull=1#post3565926)
11_ الأمل الذي يتهاوى (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190350&page=2&p=3566502&viewfull=1#post3566502)

أ. عمر
7-12-2017, 09:49 PM
1_ هل أنا بابا؟

أول قصة كتبتها كنتُ دون السابعة من عمري آنذاك

والأمر لا يتعلق بموهبتي الأدبية فحسب،
بل كان هناك سبب جوهري وأساسي

والسبب؛ بكل بساطة؛ قلم حبر أحمر
وفرنك لبناني واحد لا ثاني له!

كان ذلك في صف الثاني الابتدائي
وأيامها كنا نكتب بقلم الرصاص لا غير

ولم يكن أحد منا يمتلك قلم حبر
إلا ويفتخر بنفسه معتبرًا أنه يمتلك كنزًا ثمينًا نادرًا!

أما الفرنك اللبناني فكان في وقتنا عملة نادرة وقطعة أثرية
كنا نتعامل؛ آنذاك؛ بالليرة اللبنانية الواحدة، ونصف الليرة
بل وحتى ربع الليرة

ومع ذلك، كان الفرنك عملة منقرضة فعلًا
ومن يحمل الفرنك يُرِيه لرفاقه مزهوًا بنفسه
أنه يمتلك قطعة نقدية لا يتعامل بها أحد!

أما العلاقة ما بين الفرنك المنقرض وقلم الحبر الثمين،
فكانت ذلك اليوم في ثنايا الزمان السحيق

يوم وقف الناظر أمامنا، بعد انتهاء الاستراحة، وقبل أن نصعد إلى صفوفنا، هاتفًا بنا بأعلى صوته:
_ من أضاع فرنكًا منكم؟

لم يتلقَّ إجابة من أيٍّ من الطلاب، فأعاد سؤاله مرارًا وتكرارًا، ملوِّحًا بالفرنك في وجوهنا،
لكن من دون أن يحصل على إجابة

والطريف أنه لحق بنا إلى الصف من دون أن يتأخر في ذلك!
لقد مَرَّ حضرته بكل صفوف المدرسة سائلًا:
_ من أضاع الفرنك؟!


ولا أعلم لماذا خطر لي؛ آنذاك؛ أن ألعب على الناظر لعبة أختبر بها ذكاءه وقوة ذاكرته!
ولكن لعلها عقول الأطفال التي يخطر لها ما لا يخطر لأحد في المعتاد.

وهكذا اتجهتُ إلى غرفة الناظر؛ اليوم التالي صباحًا؛ لأعطيه قلم حبر أحمر أمتلكه وأعتزُّ به كثروة نادرة لا يحصل عليها إلا المحظوظون، قائلًا ببراءة الأطفال:
_ أستاذ، لقد وجدتُ هذا القلم!

ولدهشتي الشديدة، تناول الناظر القلم، هاتفًا بي بسعادة:
_ يسلمووو!

ثم وضع القلم في جيبه، بكل بساطة، وأنا أنظر إليه مغتاظًا!
كنزي الثمين قد طار من بين يديَّ!
آه يا للحسرة! يا للألم!
لقد وضع القلم في جيبه، كأني قد تحولت إلى (البابا) له، لأشتري له قلم حبر!!

تابعوا معنا

أ. عمر
8-12-2017, 10:16 PM
2_ هل ستأتي ماما؟

أخذتُ أنظر وقتها إلى الناظر بحسرة
وانتبه الأخير إلى نظراتي هذه، فسألني بلهفة:
_ هل وجدتَ شيئًا آخر كذلك؟

هتفتُ مستنكرًا:
_ أعوذ بالله!

وانصرفتُ من أمامه غاضبًا، مفكرًا بمعنى سؤاله هذا
ماذا لو قلتُ له إنني وجدتُ حقيبة مدرسية وناولتُه حقيبتي فماذا سيفعل؟
سيقول لي "يسلمووو" ويأخذها له!

وفي الصف جلستُ شاردًا أنظر إلى الباب، متوقعًا؛ أو متمنيًا؛ أن يدق الناظر الباب
في أي لحظة، ليسألنا (من أضاع قلم الحبر الأحمر)؟
فأجيبه بسعادة: (أنا) وأستعيد هذا الكنز النادر

ويبدو أن الأستاذ قد انتبه إلى نظراتي هذه ووجهي الشاحب
فظن أنني مريض، أنتظر قدوم أحد ليأخذني إلى البيت
فسألني في اهتمام: (أبوك أم أمك)؟

أجبتُه متحمسًا: (أمي)
ذلك لأنني أعرف الحديث الشريف (أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك)!

سألني الأستاذ: (متى)؟
فأجبتُه بالحماسة ذاتها: (دائمًا)!

الأستاذ (بشيء من الغيظ): (متى ستأتي)؟
أنا (بدهشة، لا أفهم عمن يتكلم): (من هذه)؟
الأستاذ (وقد كاد ينفجر): (أمك)!
أنا (بالأسلوب ذاته): (ما بها)؟!

الأستاذ (يصرخ في جنون): (متى ستأتي)؟
أنا (بدهشة شديدة): (إلى أين)؟

الأستاذ (يضرب نفسه): (إلى هنا بالطبع)!
أنا (مستنكرًا): (ولماذا تأتي أمي إلى هنا، وبالطبع)؟

الأستاذ (يحتقن وجهه): (لتأخذك إلى البيت)!
أنا (وقد ظننتُ أن الأستاذ يخرف): (ولماذا تأخذني إلى البيت)؟!

وثب الأستاذ من مكانه، صارخًا: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، يا ابني، يا أنت، يا أنا، يا هو، أمك ستأخذك إلى البيت لأنك مريض، مرييييض)!!
هتفتُ به، بدهشة عميقة: (أنا مريض؟؟ لم يخبرني أحد)!

كاد الأستاذ يقول شيئًا ما، أو يصرخ في وجهي، لكني تابعتُ، بدهشة أكبر:
(وستأتي أمي لتأخذني إلى البيت؟؟ متى ستأتي أمي يا أستاذ)!!

أخذ الأستاذ يضرب يديه ببعضهما، وهو يتمتم بمنتهى اليأس:
(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين)!!

وأعتقد بأن الأستاذ بطل بحق، لأنه تمالك أعصابه، حينما أخذت أتحسس جبهتي لأتأكد
إن كانت حرارتي مرتفعة أم لا، بعد ما (أخبرني) بأنني مريض من دون أن أعرف أنني مريض!
والحمد لله أن الأستاذ لم يُلْقِ بنفسه من النافذة وقتها!

طارت الآمال أدراج الرياح
لم يأتِ الناظر قط، وفكرتُ بأن أسأله هل سأل عن القلم الأحمر
لكني خفتُ أن يضربني لو سألتُه هذا السؤال

ولم أصدق نفسي حينما وجدتُ ورقة مالية (ليرة لبنانية كاملة) في أرض الملعب اليوم التالي
فأسرعتُ بها إلى الناظر لأناوله إياها، قائلًا بابتسامة سعيدة: (لقد وجدتُ هذه، مثلما وجدتُ القلـ...)
تناول الناظر الليرة مني، هاتفًا بحماسة: (يسلمووو)!!

يبدو أنه سيضعها في جيبه كذلك!
لا، لا، لقد ظلمتُه فعلًا!
فلدهشتي الشديدة، نادى الناظر تلميذًا آخر، وناوله الليرة طالبًا إليه أن يشتري له كعكة بجبنة وتنكة بيبسي!!
(كانت هذه أسعارهما تلك الأيام)!

هممتُ بالانصراف يائسًا، فاستوقفني الناظر قائلًا بابتسامة عريضة:
(قلتَ لي إنك وجدتَ شيئًا آخر، فما هو)؟
رددتُ مستنكرًا: (أعوذ بالله، لم أجد شيئًا ولا أريد أن أجد شيئًا)!

ومضيتُ من أمامه، وفي ذهني فكرة ما
وهكذا، تسللتُ إلى صفي، رغم أن ذلك كان ممنوعًا
لا يُسمَح لأي تلميذ بالذهاب إلى الصف خارج أوقات الحصص التعليمية

ولكني فعلتُ ذلك من دون مبالاة بالعواقب
وأخرجتُ دفتري من حقيبتي وأخذتُ أكتب قصة
كانت تلك أول قصة أكتبها في حياتي

ومع انهماكي في الكتابة نسيتُ الدنيا بما فيها
وما كدتُ أنظر إلى قصتي بفخر شديد، بعد ما انتهيتُ منها
حتى أحسستُ بشخص ما يقف قرب مقعدي وينظر من خلفي في دفتري

استدرتُ لأرى أن الناظر كان يقرأ ما أكتب
وأن وجهه محمر عن آخره
مثل الدجاج المشوي
تقريبًا

تابعوا معنا

أ. عمر
8-12-2017, 10:24 PM
3_ قصتي الأولى

أعتقد بأن النيران كانت تشتعل في عيني الناظر
سرى الرعب في نفسي، متوقعًا لحظات رهيبة قادمة
ولم يَخِبْ توقعي، فقد صرخ الناظر بصوت هادر:
_ الأستاذ حرامي؟! آه؟! حرامي؟! يا عيب الشوم!

كان الموقف مخيفًا فعلًا
صحيح أن دخول الصف كان ممنوعًا، بما أننا في وقت الاستراحة
لكن المخيف ليس هنا، بل في مضمون قصتي

طبعًا لا أذكر كيف قمتُ بصياغتها تلك الأيام
فقد ضاعت كما ضاع غيرها من القصص التي كتبتُها بأسلوبي الطفولي آنذاك

ولكني أعدتُ كتابتها، انطلاقًا من فكرتها بعد حوالي عشر سنوات من تلك الحادثة
وأستطيع تقدير مشاعر الناظر إذ يقرأ قصة (مضمونها) ما يأتي:

هذا قلمي

_ هذا قلمي.
قالها أحد التلاميذ_ بمعنى أدق صاح بها_ وهو يمسك بيد زميله بقوة، فخلص الأخير يده في عصبية، وهو يصيح بدوره:
_ كاذب، هذا قلمي.
هتف الأول:
_ هذا قلمي.
صرخ الثاني:
_ هذا قلمي، وليس قلمك.
ارتفع صراخهما، فصاح الأستاذ غاضبًا:
_ كفى.
صمت الاثنان_ وإن لم يتوقفا عن جذب القلم_ فتابع الأستاذ:
_ تعالا إلى هنا، وأحضرا القلم.
أطاعاه بسرعة، وأحضرا القلم، فأمسكه الأستاذ وهو يفكر:
_ إنه قلم ثمين حقًا، لا بد أن أحدهما رآه في يد الآخر، فعربد الشيطان في أعماقه، ولكن، لمن هذا القلم؟!
نقل السؤال مباشرة إلى لسانه، فصاح الاثنان في وقت واحد:
_ هذا قلمي.
وأخذ كل واحد منهما يؤكد بإصرار أن القلم قلمه، واستمع الأستاذ إليهما للحظات، ثم فتح فمه لينطق بالحكم، و.. ودق الباب في تلك اللحظة، فصاح غاضبًا:
_ ادخل.
دخل أحد زملائه، قائلًا:
_ معذرة لمقاطعتي الدرس، ولكن...
بتر عبارته، واستبدل بها شهقة ذهول، وهو يحدق في القلم، فسأله الأستاذ في اهتمام:
_ هل تعرف لمن هذا القلم؟! كل منهما يدعي أنه له.
قال غاضبًا:
_ إنه ليس لأيهما، هذا قلمي.
اتسعت عينا الأستاذ في ذهول، فيما بانت خيبة الأمل على وجه أحد التلميذين، وامتقع وجه الآخر على نحو أدانه بما لا يقبل الشك، فقال له الأستاذ غاضبًا:
_ أتسرق أستاذك يا لئيم؟! سأستدعي المدير الآن!
أسرع الأستاذ الآخر يقول في توتر:
_ لا، لا داعي للمدير، لا يجب أن نزعجه بموضوع بسيط كهذا.
ما كاد ينهي عبارته، حتى دخل المدير الصارم، وهو يهتف:
_ ما هذا الضجيج؟!
ثم اتسعت عيناه حينما رأى القلم، وأسرع يحمله، وهو يسأل في غضب:
_ من أين أتيتم بهذا القلم؟!
امتقع وجه الأستاذ (صاحب القلم) بدوره، فيما تساءل الأستاذ الذي كان في الصف منذ البداية، في حيرة:
_ هل تعرف هذا القلم؟!
أجابه المدير غاضبًا:
_ بالتأكيد، هذا قلمي الذي سرق من طاولتي منذ ثلاثة أيام، ما الذي أتى به إلى هنا؟!
أشار الأستاذ إلى زميله والتلميذين، قائلًا في ذهول:
_ كل منهم يدعي أنه له.
استدار المدير إليهم يسأل في غضب صارم:
_ لمن هذا القلم؟!
وعلى الفور، أشار كل منهم إلى الآخر، هاتفًا:
_ له، له، له.

أنبِّه مرة أخرى إلى أنني لم أكتبها بهذا الأسلوب، في تلك الآونة الزمنية
ولكن المضمون واحد، ولكم أن تتخيلوا وجه الناظر إذ يقرأ ما يقرأ!

ولكم بَدَتْ لي تلك اللحظات مرعبة، وأنا أرى احتقان وجه الناظر وأسمع صراخه
هذا الناظر ضرب؛ بقسوة شديدة؛ الكثير من التلاميذ المشاغبين
ولم أكن منهم من قبل، ولكن يبدو أنها ستكون المرة الأولى

وانطلقتُ أجري من دون مناقشة أو محاولة توضيح ما أكتب
وضعتُ كل قوتي في قدميَّ، لأهرب من المصير المخيف
لكنني لم أنجح في ذلك تمامًا، بل لم أنجح إطلاقًا :)
وإذ خرجتُ؛ أخيرًا؛ من تلك الملحمة، كنتُ أشعر بأن ظهري قد انكسر وتحوَّل فتاتًا متناثرة :(

ولكنها كانت البداية مع قلمي
تلك البداية، رغم آلامها، جعلتني أحبُّ القلم وأهوى الكتابة والتأليف
وأخذتُ أكتب في كل ما يخطر في بالي تلك السنوات

وكلها كانت قصصًا قصيرة، ومعظمها له عنوان (في ظلام الليل) لكن بمضامين متنوعة مختلفة
إضافة إلى عناوين أخرى متعددة متنوعة

وفي صف الابتدائي الخامس ابتدأتُ قصتي الطويلة الأولى
قصة لم أقم بإنهائها حتى اليوم
أي بعد مرور حوالي ثلاثين عامًا منذ بدأتُ أكتب كلماتها الأولى

ضاعت تلك القصة مع الأيام، ولم أجد منها سوى فصل واحد بسيط
وضعتُ له؛ كذلك؛ عنوان (في ظلام الليل)!
ولا أدري هل من المصادفة أن الفصل، الذي يحوي العنوان المفضل لي تلك الآونة، هو الوحيد الذي ظل محفوظًا من تلك القصة!

وحاولتُ إعادة القصة أواخر التسعينات، لكني توقفتُ في منتصف جزئها الثالث ولم أتابعها بعد ذلك على الإطلاق.
وهكذا تنقضي ثلاثون سنة على قصة بدأت ولم تنتهِ بعد!

وبكل الأحوال، مع بداية المرحلة المتوسطة وصعوبات مواد اللغة الفرنسية
والعلوم باللغة الفرنسية، تراجعت هواية الكتابة حتى تلاشت نهائيًا

وخطر لي أكثر من مرة أن أرجع إلى الكتابة
ثم أتردد، وأعتبر أن ما قدمتُه لم يكن سوى محاولات طفولية
واتخذتُ قراري بألا أكتب من بعدها نهائيًا

حتى صف الأساسي التاسع
أخبرنا أستاذ اللغة العربية عن مسابقة قصصية

واستعاد ذهني إبداعه القديم
(إن صح أنه إبداع، لكنه كذلك بالنسبة لي) :)

وانطلقتُ أكتب رواية بأحداث اجتماعية
والغريب أنني الوحيد في الصف كنتُ أستطيع الكتابة القصصية
(لذا أقول إنه إبداع، واحد من بين كل التلاميذ يستطيع أن يؤلف قصصًا، فمن حقه
أن يرى نفسه مبدعًا)

ولكني كنتُ أدرك أن المنافسة ليست هينة
وأنني ربما أصطدم بقصص قوية من منافسين من مدارس أخرى
(لن أتخيل أنني الوحيد في الوطن الذي يستطيع الكتابة) :)

ولكنْ...
كل ذلك (طار) أدراج الرياح
لقد تَمَّ إلغاء المسابقة نهائيًا، ومن دون مبررات

ومن هنا أعلنتُ لنفسي اعتزال الكتابة مرة ثانية
ولكن...
حمل إليَّ صف الثانوي الأول شخصية أستاذ غريبة للغاية
تمتلئ بالمتناقضات الطريفة والمستفزة أحيانًا

ويومًا ما
(أتحفنا) الأستاذ بقصة غريبة دارت فصولها في الصف
جعلت الطلاب ينفجرون ضحكًا معظم تلك الحصة الدراسية

وأحسستُ بقلمي يدعوني مرة أخرى
لأكتب وأنتج وأستعيد الإحساس الأدبي والقصصي


تابعوا معنا.

Jomoon
11-12-2017, 01:51 PM
وعليكمـ السلامـ ورحمة الله وبركاته~



لقد وضع القلم في جيبه، كأني قد تحولت إلى (البابا) له، لأشتري له قلم حبر!!

يالله هذا المقطع مرااا جنان،
استغفراللهxD,
طيب ألم تأخذ قلمك؟!،
خلآاص بكل بساطة فرطت به،
ما شاء الله تبارك الرحمن
كالعادة السرد جميل
والقصص فيها بعض من الطرافة والألم،
أحسنت
باركك ربي،
في حفظ المولى،
~

أ. عمر
11-12-2017, 08:40 PM
وعليكمـ السلامـ ورحمة الله وبركاته~


يالله هذا المقطع مرااا جنان،
استغفراللهxD,
طيب ألم تأخذ قلمك؟!،
خلآاص بكل بساطة فرطت به،
ما شاء الله تبارك الرحمن
كالعادة السرد جميل
والقصص فيها بعض من الطرافة والألم،
أحسنت
باركك ربي،
في حفظ المولى،
~


وهل أجرؤ على ذلك، وأنا؛ بعدُ؛ طفل صغير!
والناظر وحش بشري لا يرحم أحدًا
لكني أقول الله يسامحه لما فعله وقتها
على الأقل أصبحتُ أكتب بفضل فعاله هذه :)
لو أخبرتُه وقتها بهذا المقلب لربما كان طردني من المدرسة بلا رجعة
وفي كل الأحوال لن أسترجع القلم بعد أن وضعه في جيبه!
غفر الله له، وأسأل الله تعالى أن يبارك بكِ ولكِ لمروركِ ورأيكِ المشرف أختي الكريمة

Lumi
12-12-2017, 03:04 PM
كنت آمل أن يعود القلم إلى أصحابه في نهاية المطاف ولكن قدر الله وما شاء فعل.
*أحزنني كثيرا ما حصل لوليد المسكين ولكنه أخطأ عندما وعدك وأخلف بوعده!
أخذتُ أنظر وقتها إلى الناظر بحسرة
وانتبه الأخير إلى نظراتي هذه، فسألني بلهفة:
_ هل وجدتَ شيئًا آخر كذلك؟
هتفتُ مستنكرًا:
_ أعوذ بالله!
أعجبني هذا المقطع وأضحكني كثيرا !
أعتقد والله أعلم أن الناظر أعتقد أن القلم يخصه
ولكنه على الأغلب لم يكن ليصدقك حتى لو شرحت له الوضع!
*(خربطت بين الموضوعين XD)
كنتُ سأعلقُ على موضوع حكاية اللوح والطبشور والتابوت وعلقتْ القصة بذهني ولكنني انشغلت ونسيتُ والآن خربت القصة كلها آسفة^^
تقبل مروري أستاذي الكريم ودمت في رعاية الله وحفظة

أ. عمر
14-12-2017, 04:39 AM
كنت آمل أن يعود القلم إلى أصحابه في نهاية المطاف ولكن قدر الله وما شاء فعل.
*أحزنني كثيرا ما حصل لوليد المسكين ولكنه أخطأ عندما وعدك وأخلف بوعده!
أخذتُ أنظر وقتها إلى الناظر بحسرة
وانتبه الأخير إلى نظراتي هذه، فسألني بلهفة:
_ هل وجدتَ شيئًا آخر كذلك؟
هتفتُ مستنكرًا:
_ أعوذ بالله!
أعجبني هذا المقطع وأضحكني كثيرا !
أعتقد والله أعلم أن الناظر أعتقد أن القلم يخصه
ولكنه على الأغلب لم يكن ليصدقك حتى لو شرحت له الوضع!
*(خربطت بين الموضوعين XD)
كنتُ سأعلقُ على موضوع حكاية اللوح والطبشور والتابوت وعلقتْ القصة بذهني ولكنني انشغلت ونسيتُ والآن خربت القصة كلها آسفة^^
تقبل مروري أستاذي الكريم ودمت في رعاية الله وحفظة


أدام الله لكِ الضحكة أختي الكريمة، وبارك بكِ ولكِ، ولم تخربي شيئًا، وأهلًا بحضرتكِ دومًا
في الحقيقة سجلت الحلقة الرابعة هنا، لكنها طارت مع انقطاع النت، ولم أستطع استرجاعها
وسأعود إلى المتابعة هنا، وفي موضوع حكاية اللوح والطبشور والتابوت، بإذن الله، حينما أنتهي من تصحيح الاختبارات التي بين يدي، حضوركم شرف لي، بارك الله بكم

أ. عمر
18-12-2017, 10:57 PM
4_ قصتان

إنها أعباء الدراسة
توقفت تلقائيًا عن الكتابة القصصية، وربما أخذت القرار بألا أرجع إليها مرة أخرى
ولكن، اليوم الأول في الثانوية، حمل إليَّ موقفًا ظريفًا مع أحد الأساتذة
ما كاد يدخل الأخير حتى ناداني، ليعاتبني عتابًا شديدًا، وأنا لا أعرف ما يريد، فلم أَرَه في حياتي من قبل!
ولكن... ظن هذا الأستاذ أنني أعيد السنة مرة خامسة على التوالي، و(أليس في عقلك بعض الفهم حتى تنجح؟ هل من الضروري أن يبلوني الله بك كل سنة)!
مع العلم بأن ملامحي كانت تعطيني عمرًا أقل بكثير مما أنا عليه فعليًا، ولكن الأستاذ كان يُصِرُّ أنني أكبر مما (أدعي) بثماني سنوات على الأقل!
والطريف أكثر، أن حضرته أسمعني هذه (الأسطوانة) مرات عديدة، وكل يوم كان يستدعيني ليعاتبني لأنه (ليس في عقلي بعض الفهم) وأن الله (قد ابتلاه بي كل سنة)!
ولعل الأظرف من هذا، أنه كان يسألني عن أخي، مع العلم أنه يكون في صف أخي قبل أن يأتي إلى صفنا مباشرة!
ولكن كل هذا لم يدفع بي إلى قرار الرجوع إلى الكتابة القصصية، حتى كان ذلك الموقف الذي جعل الفكرة ترادوني مرة أخرى، من دون أن أحسم أمري بهذا الصدد.
يومذاك، دخل الأستاذ كالإعصار، ليطلب إلينا أن يضع كل واحد منا أمامه ورقة بيضاء وقلمًا، استعدادًا للمسابقة في الدروس الخمس الأولى!
ولا أعرف لماذا ارتفعت أصوات الاستنكار من الزملاء والزميلات، وهل كون الأستاذ لم يعطنا سوى درس واحد، ويريد أن يجري لنا مسابقة في خمسة دروس، أمر يدعو إلى الصراخ والاعتراض؟!
وبعد أخذ وَرَدٍّ، وجهد جهيد، فهم الأستاذ بأنه لم يخبرنا عن مسابقة على الإطلاق، بل فهمنا نحن أنه أخبر صفًا آخر، وأتى ليجري المسابقة لنا!
ولأن الوقت قد ضاع جزء منه، انطلق الأستاذ يتكلم بسرعة فائقة، لننقل نحن خلفه (هكذا كانت دروس مادته، يقرأ هو من دفتره، ونحن نكتب).
كانت سرعة الأستاذ غير منطقية، وحتى خبراء الطباعة لا يستطيعون مجاراتها، وخطرت لي فكرة رائعة، فهتفت بالأستاذ مقاطعًا إياه:
_ مهلًا يا أستاذ، ما معنى كلمة (الأسهم)؟
سألني الأستاذ باهتمام:
_ أين هي؟
سألته متغابيًا:
_ من هذه؟
صاح بغضب:
_ البلوط! البطيخ! الكلمة التي تريد أن تعرف معناها! الأسهم!
أخذت أردد متعمدًا البلاهة:
_ بلوط؟ بطيخ؟ كلمة؟ معناها؟
ونظرت إليه، كأنني لم أفهم ما يقول، ثم هتفت مبتسمًا:
_ آه!!
ونظرت إلى دفتري، متابعًا بحماسة:
_ هنا!
سألني بدهشة:
_ أين؟!
رددت مؤكدًا:
_ في الدفتر!
عاد يسألني، بغيظ:
_ أين؟!
نظرت إليه مجددًا كأنني لا أفهم ما يقول، ثم انطلقت أعد الأسطر بحماسة، قبل أن أهتف، بلهجة انتصار:
_ في السطر الثلاثين!
صاح الأستاذ، وهو يكاد ينفجر:
_ هل دفترك مثل دفتري؟!
رددت باستنكار:
_ ولم يختلفان؟ هذا دفتر، وهذا دفتر، بل وكلاهما مئة ورقة، تصور! وهذه أسطر، وهذه أسطر.

أعتقد بأن الأستاذ منع نفسه من الانفجار كالمفرقعات بمعجزة نادرة، وإن ظل يرمقني بنظرات نارية لبعض الوقت، قبل أن ينظر إلى دفتره، ويتابع قراءة الدرس،
فهتفت به معترضًا:
_ ما هذا؟ ألن تفسر لي الكلمة التي لم أفهمها؟!
رد الأستاذ مبتسمًا:
_ بلى.
وتلاشت ابتسامته، وصرخ بتوحش:
_ لكن، إياك أن تلعب معي!
نظرت إليه، قائلًا بلوم:
_ من يلعب معك؟ نريد أن نفهم يا أستاذ!
أجاب بنفاد صبر:
_ أخبرني أين هي الأسهم التي تريد أن تفهم معناها.
رددت محتارًا:
_ لكني لا أعرف كيف!
وتابعت متأثرًا:
_ ماذا أفعل؟
نفد صبر الأستاذ، وصرخ بصوت هادر:
_ اقرأ الجملة التي فيها الكلمة!
نظرت إليه بانبهار، وأنا أهتف:
_ يا لك من عبقري يا دكتور! لم تخطر ببالي مثل هذه الفكرة الرائعة!

لانت ملامحه مع لقب (دكتور)، واستمع إلى الجملة التي فيها الكلمة (الغامضة) بانتباه، ثم سألني:
_ أكنت واعيًا لمشروع الناعورة يا عمر؟
أجبته بصدق:
_ لا.
عاد يسأل:
_ الناعورة؟
رددت مرة أخرى:
_لا.
صاح بعصبية:
_ أقول الناعورة!
أجبته بصبر:
_ أقول لا!
سألني مستريبًا:
_ كم عمرك الآن؟
أجبته متفاخرًا:
_ خمس عشرة سنة.
نظر إليّ بعدم تصديق، وهو يقول:
_ غير ممكن!
قلت، بتفاخر أشد:
_ في أواخر السنة، يصبح ست عشرة سنة!
صرخ الأستاذ بي، مكذبًا:
_ قل الحقيقة! عمرك ثلاث وعشرون سنة على الأقل!
نظرت إليه، والجميع، باستنكار ما بعده استنكار، نظرًا إلى ملامحي الطفولية التي كانت تعطيني سنًا أقل مما أنا عليه فعليًا..
لكن الأستاذ لم ينتبه إلى نظراتنا المستنكرة، وهو يقول بعظمة:
_ حتى لو افترضنا، خياليًا، أن عمرك ست عشرة سنة، فمشروع الناعورة كان منذ ثماني سنوات، وهذا يعني أن عمرك كان وقتها
تسع سنين ونصف سنة، وهذا يعني أنك كنت واعيًا لمشروع الناعورة، وأنت تنكر ذلك!

نعم، سمعنا أننا سنأخذ، في المرحلة الثانوية، دروسًا جديدة، لكن ليس إلى هذا الحد..
يبدو بأن هذا الأستاذ سيكون ثورة حقيقية في عالم الرياضيات، لأن ست عشرة سنة إن حذفنا منها ثماني سنوات، يكون المجموع تسع سنين ونصف سنة!!
لكني تجاوزت هذا (الإبداع الرياضاتي) لأقول للأستاذ بضجر:
_ لم أكن واعيًا لمشروع الناعورة يا أستاذ.
انتفض الأستاذ من مقعده، ليلوح بذراعيه نحو نافذة الصف، وهو يصرخ كالمجانين:
_ الناعورة الناعورة الناعورة... التيييييييييييييييي هناااااااااااااااااااااااكككككككككككككككك.
طبعًا هو صرخها بالعامية (يلللييييييييي هوووووونييييييييكةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةة)

ولم أعد أستطيع تمالك نفسي هنا..
لا أستطيع أن أرى من يصرخ دون أن أضحك، خاصة إن كان يصرخ بوجهي أنا!!
وبصوت بذلت جهدًا جهيدًا لإخراجه من فمي، تمتمت:
_ ل...م... أ...ك...ن....وا...عيً...ا... ل...مش...رو...عن...نا...عو....رة!

ظل الأستاذ ينظر إلي بعض الوقت بوجه شديد الاحتقان، ثم لانت ملامحه، ليقول بهدوء:
_ ضع الناعورة جانبًا.
أجبته بصوت متحشرج من الضحك المكتوم:
_ حسنًا.
كرر الأستاذ:
_ ضع الناعورة جانبًا.
كررت خلفه:
_ حسنًا.
_ ضع الناعورة جانبًا.
_ تكرم!
_ ضع الناعورة جانبًا.
_ لقد فعلت!
_ ضع الناعورة جانبًا.
_ حصل هذا.
_ ضع الناعورة جانبًا.

شعرت بغيظ شديد، كوني لا أطيق التكرار بهذه الصورة المزعجة، فأمسكت بالمقلمة ورفعتها أمام عيني الأستاذ، لأصرخ، مقلدًا لهجته:
_ ها هي الناعورة!
وألقيت بالمقلمة في طبقة المقعد الذي أجلس به، متابعًا بحماسة:
_ ها قد ألقيتها جانبًا.

عاد الأستاذ ينظر إليّ بصمت، ومرت حوالي دقيقة، قبل أن ينتفض الأستاذ ليبدأ بالشرح..
وكلمة (الشرح) هنا كلمة مجازية بكل تأكيد..
فلقد انطلق الأستاذ يتحدث عن الفولت والأمبير، ذاكرًا عشرات الأرقام، مثل 50 فولت و23 أمبير، يساوي 15 فولت و7 أمبير، لأن الفولت يساوي أمبير وجزءًا من الأمبير الذي هو جزء من الفولت الذي...
ومرت دقائق طويلة من هذا (الشرح) الرهيب..
وأعتقد، بل أجزم، بأن الأستاذ نفسه لم يكن يفهم ما يتفوه به وقتها..
خاصة بأن الضجر بدا على ملامحه، وهو يتابع التفسير الخيالي هذا..
وبتململ وقف الأستاذ لينقل كرسيه من خلف طاولته ليبعده قليلًا، وجلس عليه مجددًا، وأخذ يتأرجح به، وتفسيره الإعجازي لم ينتهِ بعد..
ثم، وفجأة، مال الأستاذ بمقعده إلى الخلف أكثر مما ينبغي، ليفقد توازنه، ويضرب بظهره الحائط واللوح سويًا، ويطلق صرخة ألم عنيفة..
وتفجرت الضحكات الشامتة..
لكن ضحكتي كانت مميزة..
مدوية..
مجلجلة..
وهبّ الأستاذ واقفًا، ليصرخ بتوحش:
_ ما لي أراك بليد الفهم اليوم يا قزيحة؟؟؟
هتفت به، باستهزاء:
_ من قال هذا؟ لقد فهمت عليك.. الأسهم تعني الحصص، أليس كذلك؟
وتابعت بشماتة واضحة:
_ هكذا ترى أنني أفهم جيدًا وأتابع شرحك كما ينبغي!

أخذ الأستاذ ينظر إليّ نظرات نارية وكأنه يريد أن يلتهمني لفرط غيظه، ثم أعاد كرسيه إلى مكانه وقعد عليه من دون أن يقوى على إسناد ظهره المتألم، وأخذ يتابع الدرس، وهو يتأوه بين لحظة وأخرى..

وهكذا أمضى الأستاذ باقي الحصة، بينما أمضيتها أنا في الضحك والقهقهة..
ومع رنين الجرس، أخبرنا الأستاذ بأن تسميع الدرس المرة المقبلة سيكون مميزًا وفريدًا، وبطريقة لا تخطر ببال العفاريت..
وإن كنت أعتقد، أن هذا الأستاذ، لو درس العفاريت، لاستجارت منه، ولولت فرارًا بلا رجوع!!

ولكن، القصة الحقيقية التي حصلت لنا مع هذا الأستاذ، وكان هو بطلها الأول ومخرج السيناريو فيها، كانت بوابة الرجوع إلى عالم القصص والروايات، تلك قصة تستحق عنوانها، وكلمتها وفكرتها الرئيسة، وبمنتهى الامتياز...


تابعوا معنا.

أ. عمر
30-12-2017, 01:44 AM
5_ قصة العودة


رغم كل الدراميات التي مررنا بها مع أستاذ الجغرافيا آنذاك، والتي مررتُ بها شخصيًا معه، في ما أحكيه هنا، أو في حكايتي الثانية (حكاية اللوح والطبشور والتابوت)، لم أتخذ قرار الرجوع إلى عالم الكتابة القصصية، إلا في حصة معينة، حصل فيها حدث غريب بعض الشيء، أضحكنا جميعًا، باستثناء شخص واحد فحسب.
ولا يعني هذا أن القصة قد تكون أكثر تشويقًا مما سواها، أو أن الدراما المضحكة فيها أكثر، ولكن ما فيها من الغموض، الذي لم يستطع أحد منا، نحن الطلاب الذين شاهدناها، أن نفك رموزه، أو نفهم سبب حصوله، كان السبب الأول والأساسي، في تفجر موهبة الكتابة القصصية عندي مرة أخرى.
ولنضعكم في جو الأحداث بشكل كامل، نقول إن النظام في المرحلة الثانوية أيام كنا طلابًا، أن نخضع لثلاثة اختبارات فصلية، وعلامة الاختبار يتم تثقيلها بضعفين، وزيادة علامة السعي إليها، ليقسم المجموع على ثلاثة، وننال العلامة الفصلية النهائية.
وإذ كنا قد نزلنا إلى الثانوية، بعد نجاحنا في الشهادة المتوسطة، فإن لمحة من الاستهتار كانت ترافقنا، باعتبار أننا نعرف كل المعلومات، وإلا كيف حصلنا على الشهادة المتوسطة لو لم نكن عباقرة إلى هذا الحد!
ومن هنا، لم يوفق بعضنا كثيرًا في نتيجة الفصل الأول، ومن ضمن هؤلاء أحد رفاقنا، ولنطلق عليه اسم (محمد) هنا، سواء أكان الاسم حقيقيًا أم مجازيًا، فالمهم الحدث.
لم يوفق محمد في الفصل الأول، رغم نجاحه، إلا أن النجاح كان متواضعًا، لذا سعى جاهدًا للتعويض في الفصل الثاني، خاصة في الامتحان، وأخذ ينتظر علاماته في كل مادة، ويحاول أن يتوقع مجموعه النهائي، وفي ذلك اليوم السعيد، دخل أستاذ الجغرافيا حاملًا مسابقاتنا في يده، لقد صححها! سنعرف درجة أخرى قد نلناها، وهنيئًا لمن حالفه الحظ، خاصة مع مثل هذا الأستاذ، متقلب المزاج في التصحيح!
أخذنا ندعو ألا يبتدئ الأستاذ بمحاضراته التقليدية حول كل تلميذ باسمه، والعلامة التي نالها، ويتركنا نصف ساعة قبل أن يسلمنا المسابقات، ولكن الأستاذ افتتح (الجلسة) هاتفًا بحماسة:
_ أعجبتني كثيرًا يا محمد.
ارتسمت ابتسامة سعيدة على وجه رفيقنا، وتعلقت عيناه بالمسابقات في لهفة شديدة، والأستاذ يتابع بلهجة فخور:
_ كنتَ رائعًا بالفعل يا محمد، أعجبتني كثيرًا حتى أنك تستحق أن أطلق عليك لقب (بطل الصف)!
نظرنا إلى محمد في حسد، والأستاذ يكمل كلامه الحماسي، متوجهًا به إلينا هذه المرة:
_ زميلكم أعجبني كثيرًا، كان يكتب ما حفظ حرفيًا في بعض الأحيان، أما في أحيانٍ أخرى، فكان يكتب بطريقة (تَنِمُّ عن الفهم العميق)!
وعاد الأستاذ يتوجَّه بكلامه إلى محمد، هاتفًا متحمسًا:
_ لقد أعجبتني كثيرًا يا محمد!
والتقط الأستاذ أنفاسه، قبل أن يستطرد، ملوحًا بذراعيه، لشدة انفعاله:
_ أعجبتني كثيرًا يا محمد، علامتك مرتفعة كثيرًا عن علامة امتحان أول السنة، نلتَ؛ آنذاك؛ عشر علامات من عشرين، لقد تقدمت؛ الآن؛ كثيرًا، وعلامتك من أعلى العلامات، إنها تقارب العشرين، بل إنك، بل إنك...
وصرخ الأستاذ بغتة:
_ لو لم يشرد ذهنك قليلًا، لنلتَ العشرين كاملة يا رجل!
اتسعت ابتسامة محمد الظافرة، وكاد بعض الزميلات يبكين! كونهن يتنافسن على المركز الأول، والعلامات الأعلى، ولم ينتبه الأستاذ إلى شيء من ذلك، بل عاد يتوجَّه بكلامه إلينا:
_ لولا أن شرد ذهن محمد قليلًا، لوضع العشرين علامة (في جيبه) بكل سهولة، لذا؛ وضعتُ ورقته أول ورقة، فوق مسابقاتكم جميعًا، مسابقاتكم التعيسة هذه!
اتسعت أعيننا استنكارًا، ولم يهتمَّ الأستاذ بنا، وهو يتابع بازدراء:
_ لم أجد بينكم من يكتب ما حفظ حرفيًا أحيانًا، وأحيانًا بطريقة تَنِمُّ عن الفهم العميق، كما فعل محمد! مسابقته فوق مسابقاتكم، هذا لأنه أعجبني كثيرًا، لقد أعجبتني كثيرًا يا محمد!
تكرار هذا الكلام كان من الأستاذ، وجملة (أعجبتني كثيرًا يا محمد)، و(تَنِمُّ عن الفهم العميق)،
و(لولا أن شرد ذهنه لوضع العشرين في جيبه بكل سهولة) كررها الأستاذ مرات لا حصر لها، وأعجزنا عدُّها، ومحمد سعيد بهذا الثناء، فرح بالعلامة المرتفعة والتي تقرِّبه من نجاح جيد طيب، سعى بكل جهده إليه...
_ قبل أن أوزع عليكم المسابقات، سؤالنا التقليدي لكلِّ شخص فيكم: (كم تقدِّر علامتك)؟ والبداية مع بطل الصف، مع الزعيم الرائع، مع محمد!
اتَّجه محمد نحو الأستاذ، قائلًا بتواضع مصطنع:
_ 17/20
أجاب الأستاذ بسرعة:
_ خطأ!
ابتسم محمد بسعادة شديدة، قائلًا بثقة تامة:
_ 18/20
أجاب الأستاذ مبتسمًا:
_ أقل بقليل!
_ 17.5/20
_ خطأ
_ 16.5/20
_ تؤ...تؤ...تؤ...
جمد محمد محتارًا في أمره، وسكت قليلًا يفكر في العلامة الخيالية هذه، ثم قال مترددًا:
_ 15.5/20
صرخ الأستاذ في وجهه غاضبًا:
_ ما قصتك اليوم يا محمد؟ لماذا تبالغ؟! علامتك هي 11/20!!
جمد محمد مكانه مبهوتًا لا يصدق، وارتفعت ضحكات الشامتين (ولم أكن من بينهم، محمد صديق عزيز جدًا)، وصرخ الأستاذ برفاقي:
_ اسكتوا، اسكتوا، وإلا منحتكم صفرًا.
ورغم التهديد، لم أتمالك نفسي، فهتفت بمحمد ساخرًا (بالأستاذ طبعًا):
_ أعجبته كثيرًا يا محمد، أعجبته كثيرًا يا محمد!
انتزع محمد نفسه من حالة الجمود التي أصابته، وتقدم من الأستاذ لينتزع مسابقته من يده، هاتفًا بغضب متهكم:
_ أعجبتك كثيرًا، أعجبتك كثيرًا، آه؟ ليتني لم أعجبك كثيرًا، ولا حتى قليلًا!
صاح الزملاء جميعًا:
_ أعجبته كثيرًا يا محمد! أعجبته كثيرًا يا محمد!
انفجر الأستاذ يصرخ في وجوهنا، وبالتالي لم يقم أحدنا بِعَدِّ علاماته، ولا بمراجعة الأستاذ، لانشغالنا بالضحك، رفاقي يضحكون على محمد المسكين، وأنا أضحك لأن الأستاذ يصرخ (تلك العادة المتجذرة في نفسي، ولا أجد فكاكًا منها حتى الآن)، والزملاء يتغامزون على محمد، وتهتف به إحدى البنات:
_ كنتَ تكتب بشكل يَنِمُّ عن الفهم العميق؟ أإلى هذا الحد لا تستطيع تقدير الأمور؟ خَرِّف لك قليلًا، لتنال علامة مرتفعة!
وتتابع الثانية:
_ لولا أن شردتَ قليلًا لوضعت العشرين في جيبك بكل سهولة، ماذا لو شردت كثيرًا؟! من المؤكد أنك كنتَ ستنال العشرين من دون تعب!
والطريف لنا، والمستفز لمحمد، ليس أن علامته ثاني أدنى علامة في الصف! بل أن الأستاذ؛ رغم كل ما حصل؛ عاد يخبر محمدًا ويخبرنا، ويذكره ويذكرنا:
_ ألم أقل لكم؟! علامة محمد أعلى علامة (تقريبًا) في الصف! لولا أن شرد ذهنه قليلًا لوضع العشرين في جيبه بكل سهولة! ذلك لأنه بطل! بطل حقيقي! لقد أعجبتني كثيرًا يا محمد، تقدمت عن الامتحان الأول كثيرًا، تقدمت بـ...
قاطعه محمد، بصوت يقطر حقدًا:
_ بعلامة واحدة فقط!
هتف الأستاذ متحمسًا:
_ أرأيتم؟! محمد بطل بالفعل، لقد تقدم علامة كاملة كما هي، علاااااامة كاااااااااااملة كماااااا هي! أحسنتَ يا محمد يا بطل! ألا تعجبك العلامة؟!
صرخ محمد بجفاء شديد:
_ لا، لا تعجبني!
ومن حسن حظ الأستاذ أن صديقنا محمدًا لم يمسك بزمام رقبته ويخنقه، حينما سأله محتارًا:
_ ولماذا؟!

شعرتُ بالأدب ينسال في أحرفي، وبأن قلمي سيعاود الانطلاق حتمًا، لم أحدد موعدًا لذلك وقتها، ولكني أخذتُ القرار، فمواقف السخرية والتهكم، مع هذا الأستاذ، ومع أساتذة لغة فرنسية سابقين وحاليين، (ولاحقين فيما بعد)، كانت حافزًا شديدًا لي للرجوع إلى هذا العالم الساحر، والذي يقتضي الجمع بين الفكرة الواقعية، وبين المجاز والخيال...
ولكن خيالي، مهما بلغ من السعة والانطلاق، لم يبلغ مرحلة أن يتوقع أن (أعجبتني كثيرًا) ستتكرر بعد سنوات قليلة، وفي بيئة أخرى وظروف أخرى، وضحية أخرى... والضحية الأخرى كانت؛ تلك المرة؛ حضرتي المتواضعة!

تابعوا معنا

أ. عمر
2-1-2018, 07:48 PM
6_ تعالوا نهرب!



أعتقد أنني أدين بفضل كبير لهذا الأستاذ
ولكنه لم يكن صاحب الفضل الوحيد طبعًا

أكثر من حادثة فيها بعض الطرافة أرجعتني إلى عالم الكتابة والتأليف
وبعض تلك الحوادث كتبتُه بعد ذلك بسنتين تقريبًا

ومن ذلك حينما أراد اثنان الهرب في صف ما
وإذ أعطتِ المعلمة بضع دقائق للاستراحة كونها ستدرِّس الصف ثلاث حصص متتالية
طلب أحدهما الذهاب إلى الحمَّام

وكان الطلب وهميًا طبعًا، فالمهم أن يخرج من الصف
ليجمع الثاني كتبه وكتب رفيقه مع بعضها، ويحاول تتمة خطة الفرار

ولقد كتبتُ أحداثها بعنوان (هروب):



هروب

تنهد سميح في ملل واضح، وهو يتابع درس علم النفس باللغة الأجنبية التي لا يفهم منها شيئًا، وأسوأ من هذا أن ثلاث حصص متتالية ستكون لنفس المعلمة، وكلها عن ال pshycologie وال morale، وبكل ضجر، اختلس النظر إلى زميله نادر، كان من الواضح أن هذا الأخير يعاني الشعور ذاته، وفجأة خطرت ببال سميح فكرة، فمال على أذن نادر هامسًا:
_ اسمع، سنهــ...

_ سميح!
انطلقت صيحة المعلمة تخترق أذني سميح كالرصاص، فالتفت إليها متضايقًا، فتابعت في صرامة تمتزج بالغضب:
_ إن كنت كسولًا، فزميلك لا يريد أن يكون كذلك، لا تُلهه عن الدرس!
تمتم سميح:
_ حسنًا، لن أفتح فمي بكلمة.
قالت المعلمة بغرور:
_ هذا أفضل.

احتقن وجه سميح، ولكنه لم يفتح فمه بكلمة واحدة بالفعل، حتى انتهت الحصة الأولى، وأعطت المعلمة التلاميذ مهلة خمس دقائق كاستراحة، فأسرع يهمس لنادر:
_ خذ إذنًا بسرعة، وغادر الصف، سألقي إليك بالكتب من النافذة، وألحق بك.
نفذ نادر اقتراح زميله، فأسرع يطلب الإذن بالذهاب إلى دورة المياه، وكاد سميح يصرخ من السعادة حين سمحت له المعلمة بذلك، وما إن غادر نادر حتى أسرع سميح يفتح النافذة، و...
_ أغلق النافذة ياسميح.
قالتها المعلمة بصرامة، فهتف سميح معترضًا:
_ ولكني أشعر بالحر.
كررت في ضجر:
_ أغلق النافذة يا سميح.
أطاعها سميح، ولكنه عاد يفتح النافذة بعد ثانية واحدة، فأغلقتها المعلمة بنفسها، وقبل أن تصل إلى مقعدها كان سميح يفتح النافذة للمرة الثالثة.

تثاءب نادر في ضجر، وهو ينتظر زميله والكتب التي سيلقيها، ومن العدل أن نقول إنه شعر بالخوف من اكتشاف الأمر، خصوصًا حين رأى النافذة تُفتح وتُغلق مراتٍ عديدةً، وفي أعماقه، تمنى أن تنجح الخطة، ويفلح وسميحًا في الهروب.
مع إصرار سميح على فتح النافذة، أدركت المعلمة أنه يخطط لأمر ما، وقررت أن تكتشفه، فتظاهرت بأنها لم تنتبه إليه وهي تعود إلى مقعدها للمرة العاشرة، وهنا اغتنم سميح الفرصة فأمسك بحزمة كتبه وكتب سميح التي ربطها معًا، وألقاها من النافذة بكل قوته وحماسته، فاستدارت إليه المعلمة وهمت بقول شيء ما، ولكن الكلمات انحبست في حلقها...
انحبست مع تلك الصرخة الرهيبة التي سمعتها.

بعد ثوانٍ عادت الحركة إلىالمعلمة، فأسرعت والتلاميذ إلى النافذة، وألقوا نظرة على الملعب، ثم ارتدوا كالمصعوقين، فنادر الذي غلبه الضجر شرد بذهنه بعيدًا، فلم ينتبه إلى الكتب التي ألقاها إليه زميله، وهي تهوي على أم رأسه مباشرة، فأطلق الصرخة السالف ذكرها، قبل أن يسقط أرضًا فاقد الوعي، والدماء تنزف من رأسه بعد اصطدامها العنيف بالأرض...
ورغم كل شيء ابتسم سميح...
فمع اهتمام الجميع ب (نادر)...
سينجح هو في ... الهروب !!

وحادثة أخرى حصلت لاثنين آخرين، لكني، ووفق المزاج الأدبي، قدمتُها قصصيًا كأنها لأصحاب القصة الأولى هذه، وكتبتُ أحداثها بعنوان (خطة الفرار):

خطة الفرار
_ سنهرب اليوم يا نادر.
قالها سميح وهو يبتسم، ولكن نادرًا ابتعد عنه، قائلًا:
_ إليك عني.
لحق به سميح، وهو يسأله:
_ أتخاف أن يراك المدير مثلًا؟!
لم يرد نادر، فتابع سميح:
_ اطمئن، لدي خطة لا تقبل الفشل، ثق بي.
ظل نادر صامتًا دون أن يبدو عليه أنه قد اقتنع، فسأله سميح بابتسامة خبيثة:
_ أم أنك تفضل أن تبقى في الصف ثلاث ساعات كالأبله، تستمع إلى المعلمة تشرح ال pshycologie وال morale؟
بان التردد على وجه نادر، فاستطرد سميح بلهفة:
_ سنهرب معًا، ولن يكتشفنا أحد أبدًا، هل خذلتك من قبل؟!
اشتعل الغضب في نفس نادر، ومد يده يتحسس رأسه بحركة غريزية...
وأدرك سميح ما يشعر به نادر...
وأدرك أنه على حق في عدم ثقته به...
لقد كانت آخر محاولة منذ ثلاثة أسابيع...
ولقد نجحت جزئيًا...
سميح هرب إلى البيت...
ونادر إلى المستوصف!!
نادر الذي وقف في الملعب مدة طويلة، منتظرًا أن يلقي إليه سميح بالكتب من النافذة..
ولقد ألقاها الأخير...
ألقاها على أم رأس نادر...
وما زال الأخير يذكر ذلك...
يذكره جيدًا...

_ إلى أين ذهبت بأفكارك يا نادر؟!
انتزعه سؤال سميح من شروده، فهمَّ بقول شيء ما، ولكن سميحًا سبقه بقوله:
_ اسمعني جيدًا، ما حدث وقتها كان خطأ لن يتكرر أبدًا، لدي الآن خطة لن تقبل الفشل، سنهرب خلال الفرصة، ولن نصعد إلى الصف على الإطلاق، ما رأيك؟
تردد نادر للحظات، ثم وافق، فابتسم سميح ابتسامة نصر، وأعماقه تشعر بالسعادة...
ثم اندفع يروي لنادر الخطة...
خطة الفرار.

كان التوتر يملأ نفس نادر، وهو يخبئ كتبه خلف ظهره، ويمشي بطريقة عكسية، متجهًا إلى باب الخروج، وبحثت عيناه عن سميح حتى وجده قرب الحمامات، فأحس بشيء من الاطمئنان، وفي جرأة، مد يده يتحسس مقبض البوابة، ثم فتحها، واستدار، و...
واصطدم بشخص كان يهم بالدخول، بقوة، واندفع جسم نادر إلى الخلف ليسقط أرضًا، وتتبعثر كتبه، وأسرع سميح يدخل الحمام، وهو يقهقه ضاحكًا في الوقت الذي انقض فيه ذلك الشخص على نادر، وجذبه نحو غرفة الإدارة من أذنيه وسط ضحكات التلاميذ...
واتسعت عينا نادر في ألم وذهول...
فذلك الشخص الذي اصطدم به كان قادمًا من أجله هو بالذات...
كان والده.

وحوادث الفرار كان ما فيها ما هو أكثر طرافة
لكني لم أسجلها كقصص ساخرة، ربما لأن أحداثها لا تستدعي ذلك
أو ربما لأن المزاج الأدبي لم يجد لها التوسع اللازم بعد :)

وحادثة فرار أخرى
كانت طريفة نسبيًا
زميل لنا في صف آخر كان يهرب كل يوم وقت الاستراحة ولا يرجع إلى المدرسة
ولقد اكتشف المدير ذلك، لكنه لم يخبره، بل أرادها له مفاجأة مدوية
ووقت الاستراحة؛ ذلك اليوم؛ يتصل المدير بوالد الفتى ليخبره بأن ابنه قد فَرَّ من المدرسة
ولم يكن المدير مخطئًا في تقديره، فالفتى فَرَّ مثل عادته

ولكن لم يحسب المدير حساب الصداقة الحقيقية التي تجمع بين الطلاب أحيانًا
فأحد رفاق التلميذ الهارب هرب بدوره (حائط المدرسة كان يصعب على الأطفال دون السابعة من عمرهم تقريبًا، وما عدا ذلك الكل يستطيع تسلقه)...
المهم أن الفتى الهارب علم أن والده في الثانوية، فعاد إليها، لكنه لم يتجه نحو الإدارة!

ووالده الذي أتى بأقصى سرعة تسمح بها سيارته أرعد وأزبد
ووعد المدير وابنَه توعد بالويل الشديد والضرب الرهيب و...
وغادر غاضبًا ليفاجأ المدير بالابن يجري نحوه مسرعًا، متسائلًا أين والده
(ويخرب بيت هالإسهال، ما خلاني شوف أبي)!

صُعِقَ المدير هنا، و(أدرك) بأنه ظلم التلميذ، فعاد يتصل بوالده حتى ردَّ الأخير مع وصوله إلى البيت،
ليخبره المدير بأنه كان مخطئًا، وابنه في الثانوية، ولا يهرب أبدًا أبدًا،
وما إن أنهى المدير الاتصال من هنا، حتى عاد ذلك المشاغب ليتسلق حائط المدرسة ويذهب
في طريقه يتنزَّه كما يحلو له!

وأذكر شخصين في صف آخر
كانا دائمي الفرار من حصص مادة الفلسفة

وذات يوم، رآهما مدير المدرسة جالسين أمام محل ما في ضيعتنا، يتناولان الكوكتيل!
فأشار إليهما بِيَده من نافذة سيارته مهددًا، وتابع طريقه، لتبدأ رحلة الركض السريع
من قبلهما

والعجيب الغريب أنهما وصلا قبل المدير إلى المدرسة!
ليس لأنهما أسرع من السيارة قطعًا، ولكن لأن طريقهما كانت أقصر بكثير
إذ يكفيهما أن ينزلا من مفرق قريب من المحل ليكونا قرب الثانوية

ثم إن المدير كان عليه أن يدور بسيارته دورة لا بأس بها، ويبدو بأنه توقف ليشتري فنجان قهوة
من مكان ما
ثم ليذهب بسيارته إلى الموقف المخصص لذلك قرب الثانوية، ويتابع طريقه من هناك مشيًا،
رغم أن ذلك لا يستغرق دقيقة إضافية، إلا أنها كانت كافية لرفيقينا ليصلا الصف ويرجوان المعلمة أن تستر عليهما!

ولم تَرُدَّ المعلمة بأي كلمة، فقد فتح المدير باب الصف في تلك اللحظة، ليدخل قائلًا بصرامة:
(أخبروا فلانًا وفلانًا أنهما لن يدخلا غدًا من دون أن يحضر كل واحد منهما والده معه).
هتف به الصديقان معًا:
(لماذا؟ ماذا فعلنا)؟

وإذ نظر إليها المدير شهق شهقة قوية، وأفلت فنجان القهوة من يده، والحمد لله أنه لم يُصَب بسكتة قلبية إزاء هذه المفاجأة، بل إن المسكين أخذ يتمتم:
(بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله، قل أعوذ برب الفلق، من... من هما؟ لقد رأيتُهما، يبدو أن القرين حقيقة، قل أعوذ برب الفلق)!

وخرج المدير من الصف مصعوقًا وسط ضحكاتنا المدوية،
ووسط بريق في ذهني يؤكد أنني قد رجعتُ إلى الكتابة القصصية،
وإن لم يكن اليوم فغدًا...
لكني رجعتُ إليها، ولن أتركها حتى ينضب معين القلم نهائيًا
وأدعو الله تعالى ألا ينضب أبدًا...

فهذه الحوادث الطريفة تثير شهية (إن صح التعبير) أي مؤلف قصصي يهوى الكتابة الساخرة
ولكنها لم تكن الوحيدة ولا الأخيرة هنا

فلقد عاد أستاذ الجغرافيا إلى الإبداع معنا في صف آخر
وبعد امتحان نصف السنة تحديدًا
ومع تلميذ يحاول التعويض والنجاح كذلك

لنعيش قصة هزلية أخرى لا مثيل لها
أعطتنا درسًا (خياليًا) في الحساب الجديد

وكل هذا حصل قبل أن أَمُرَّ أنا بحادثة (أعجبتني كثيرًا) لأكون ضحيتها
تلك الحادثة وجَّهَت مساري القصصي نحو اتجاه آخر مختلف

وللحديث تتمته إن شاء الله
وللقصتين، قصة أستاذ الجغرافيا، وقصتي الشخصية مع معلمة علم النفس، مكانهما
في الحلقة المقبلة بإذن الله

فتابعوا معنا

تووت2017
3-1-2018, 11:10 PM
استمر وفقك الله

أ. عمر
3-1-2018, 11:41 PM
استمر وفقك الله

بإذن الله تعالى سأستمر، بارك الله بك للدعاء الطيب

أ. عمر
5-1-2018, 08:30 PM
7_ درس الحساب


سنة ثانية لنا في المرحلة الثانوية، وها هو أستاذ الجغرافيا يشرفنا مرة ثانية، بعد امتحان نصف السنة، حاملًا مسابقاتنا، وما كاد الأستاذ يدخل، حتى هتف بنا بصوت مُدَوٍّ: (يا لك من بطل)!
نظرنا؛ نحن الشباب الأربعة في الصف؛ إلى بعضنا، متسائلين من يقصد الأستاذ يا ترى بكلامه، ومحمد يهتف مستنكرًا: (أعوذ بالله أن يقصدني أنا! الله يستر)!

ظل الأستاذ ينظر إلينا للحظات، قبل أن يعاود الهتاف: (بطل، بطل بحق وحقيق، احزروا من يكون هذا البطل، إنه زياد)!
كان زياد قد رسب في السعي الأول، ويحاول جاهدًا التعويض للنجاح في السعي الثاني، خاصة أنه يعيد السنة الدراسية، ولقد ابتسم زياد (وهو معذور في ذلك، لأنه لا يعلم ما حصل السنة السابقة لنا مع صديقنا محمد، حينما أعجب الأستاذ كثيرًا)!

لكن، لم تتكرر الكوميديا نفسها، بل إن الأستاذ (حسم الأمور) مباشرة، وهو يهتف بزياد: (لم أصدق عينيَّ، وأنا أرى علامتك، 15.5/20، يا لك من بطل)!
شعر زياد بالفخر، وقام من مكانه يستلم مسابقته وينظر فيها بلهفة، ويَعُدُّ علاماته، قبل أن يهتف معترضًا: (أستاذ، أستاذ، لقد غفلتَ عن تصحيح سؤال، ودرجته ثلاث علامات).

ولم ينتظر زياد رد الأستاذ، بل قام إليه ليعطيه مسابقته، مشيرًا إلى السؤال الذي لم يَتِمَّ تصحيحه، ولكن الأستاذ خَيَّب أمله تمامًا، إذ طلب منه ترك مسابقته، والرجوع إلى مقعده فورًا، واتسعت عينا زياد استنكارًا، ولكن الأستاذ أفهمه بمنتهى الحسم أنه يعيد التصحيح، لمن يرغب، في البيت، لا في الصف، وغدًا يعيد إليه مسابقته، وقد صحح له السؤال الذي لم ينتبه إليه.

اطمأن قلب زياد، وأمسك بالورقة والقلم، يسجل ما علمه من علاماته ودرجاته، ويجمع ويطرح، ليتبين له أنه سينجح على المعدل تمامًا (هذا باعتبار علامته في الجغرافيا 18.5)، وأنا عن نفسي كنت مستغربًا، أن قصة (أعجبتني كثيرًا) التي تحولت إلى قصة (بطل بحق وحقيق) انتهت بهذه النهاية السعيدة!

وفي اليوم التالي، دخل الأستاذ قائلًا: (صدقتَ يا زياد، لقد صححتُ لك السؤال، وأنتَ كتبتَه بشكل صحيح، ونلتَ عليه ثلاث علامات كاملة)!
وقف زياد مبتسمًا بسعادة، وتابع الأستاذ بمنتهى الجدية: (كانت علامتك 15.5، ونزيد 3 علامات، فتصبح علامتك...)
وصاح الأستاذ في وجه زياد بغتة، بل في وجوهنا جميعًا، وبلغ من قوة صوته أني اعتقدت أنه يصيح في وجوه أهل ضيعتنا كافة: (11/20)!!

ها قد عادت الكوميديا يا شباب! دوَّت الضحكات في الصف، وصُعِقَ زياد تمامًا، وأعتقد أن المسكين ظن أن الأستاذ يمازحه، فاتَّجه ليتناول مسابقته، ثم جمد مكانه لحظات كأنما قد نسي الكلام، وبعدها انفجر صارخًا، كإصبع ديناميت ينفجر: (يا لك من أحمق! 15.5+3=11؟ حتى البهائم لا تحسب هكذا)!

ارتج على الأستاذ لحظات مع هذه الإهانات (وهناك إهانات أخرى صدرت من زياد، ولكن ليس من اللائق كتابتها)، ثم انفجر الأستاذ بدوره، يسب ويشتم قليلي التربية الذين يسبون ويشتمون! وختم انفجاره، بإعطاء زياد درسًا غريبًا في الحياة! (أنا صححتُ لك أول مرة برحمتي! واليوم أصحح لك بعدلي! حينما وضعتُ لك 15.5 كان ذلك برحمتي، وحينما رفضتَ أنتَ ذلك، صححتُ لك بعدلي...)!
قاطعه زياد صارخًا بجنون: (رحمتك وعدلك؟! من تظن نفسك؟! آه؟! قل لي، قل، من تظن نفسك)؟!
صرخ الأستاذ، وهو يكاد يضرب رفيقنا بالفعل: (أغلق فمك يا كافر)!
صاح زياد بتهكم عصبي: (كافر؟ وما دخلك أنت بي؟ أنا أريد أن أكفر، فما شأنك أنت؟ ثم إن كنتُ كافرًا، فهذا أشرف لي من أكون منافقًا مثلك)!

أمسك الأستاذ بخناق زياد، قائلًا بصوت مختنق: (اخرج من الصف، قبل أن أمسح بك الأرض)!
خلص زياد نفسه بعصبية، وهو يقول بصوت ثابت: (سأخرج، ليس لأنني خائف منك، فأنا أستطيع أن أمسح بك الأرض لو أردت، لكني لن أمدَّ يدي على رجل في عمر والدي، سأخرج لأنه لا يشرفني أن أحضر حصة مجنون مثلك)!

أخذ الأستاذ يسب بألفاظ قبيحة جدًا، وغادر زياد بعينين دامعتين، ومرت فترة صمت طويلة، ثم قال الأستاذ لنا، بعد أن تمالك نفسه قليلًا: (كان بإمكاني أن أضربه، ولكني رحمتُه! قدَّرت أنه قد فقد عقله، ولا يجوز لنا أن نحاسب المجانين، وأنا لن أسأل عنه؛ لا الآن ولا حتى آخر العام؛ هل فهمتم هذا)؟
أجبنا بالإيجاب، ثم اتسعت أعيننا دهشة، مع استطرادة الأستاذ: (عمر، انزل لترى هل زياد في الملعب أم لا)!
قلتُ له بسخرية لاذعة: (تكرم عينك أستاذ! هذا، ولن تسأل عنه، فكيف الحال لو أردتَ أن تسأل عنه)؟!
وغادرتُ من دون انتظار أي رد، ونزلتُ الدرج، لأفاجأ بالمدير وأحد النظار جالسين متقابلين في الممر الضيق، كل واحد على كرسيه، ويمد رجليه، ما يعني استحالة المرور من بينهما إلى الملعب، وما إن وقع بصرهما عليَّ، حتى هتفا معًا: (هل أنت مطرود من الصف؟ اعترف بالسبب فورًا)!

أفهمتهما أنني أبحث عن زياد، بناء على طلب الأستاذ، فَرَدَّ المدير بحزم أنه لم ير أحدًا، ولم يمر بهما لا زياد ولا غيره، فرجعتُ إلى الصف حائرًا، أفكر هل اختفى زياد؟ أم أنه صعد إلى سطح الثانوية؟ وماذا يريد أن يفعل هناك يا ترى؟!

لم يقتنع الأستاذ بأن غريمه قد اختفى، فطلب مني أن أنزل مرة أخرى لأرى إن كان زياد في الملعب أم لا (فقط)! ففعلتُ ذلك، ومرة أخرى يعترض المدير، ثم يقول لي أن أذهب إلى الملعب لأرى، وذلك ليرتاح بال الأستاذ، وإذ رآني لا أتحرك، سألني بدهشة: (لماذا لا تمشي)؟!

سألتُه متهكمًا إن كان يظنني شبحًا أستطيع المرور من مسافة لا تزيد عن ربع المتر، وفق أفضل تقدير، هذا مع الوثب العالي طبعًا، كي لا أصطدم بركبة المدير أو الناظر، ولم يفهم المدير شيئًا، والحمد لله أن ذهن الناظر كان حاضرًا، فقد ضم ساقيه إلى بعضهما، ورفعهما إلى الكرسي ليجلس في وضعية عجيبة فعلًا، ومررتُ بصعوبة، لأفاجأ بزياد جالسًا يبكي!

رجعتُ من حيثُ أتيت، ليسألني المدير ماذا وجدتُ، فأخبرتُه بأن زيادًا يجلس في الملعب، فطلب إليَّ أن أستدعيه حالًا، ليفهم منه كيف مَرَّ إلى الملعب من دون أن يراه أحد! رجعتُ لأسأل زيادًا عن ذلك، فأخبرني أنه مَرَّ أمام المدير تمامًا، بل وأخذ منه كرسيين كان يحملهما، ووضعهما له في المكان الذي أشار إليه بالضبط!
رجعتُ مع زياد، وكنتُ أريد حضور حواره مع المدير، لولا أن أرسل الأستاذ إحدى الزميلات لتطلب إليَّ الصعود إلى الصف لأمر ضروري جدًا جدًا، ففعلتُ ذلك، لأرى أن هذا الأمر الضروري جدًا جدًا ليس أكثر من نفاد صبر الأستاذ، وفضوله ليعلم هل زياد في الملعب أم لا!

ربما فاتني حوار المدير مع زياد، ولكن الأخيران صعدا إلى الصف معًا، والمدير يسأل الأستاذ، حتى قبل أن يدخل الصف عمَّا حصل، فأخبره الأستاذ بأن هذا الطالب (المهذب) قد سبَّه وشتمه ولعنه، فصرخ المدير في وجه زياد: (كيف تفعل ذلك؟ سأطـ...)
وانفجر زياد مجددًا، يصرخ متسائلًا كيف لشخص في غباء الأستاذ أن يدرِّسنا، وأي أحمق في الدنيا كلها يقول إن 15.5+3=11، وكيف ينال هو؛ أي زياد؛ خمس عشرة علامة ونصف، وقد حرمه الأستاذ علامة سؤال، ولأنه نبَّهه إليه، حسم له ثلاث علامات ونصف، مدعيًا أنه قد زاد له ثلاث علامات! و(أي أحمق في الدنيا كلها يقول إن 15.5+3=11)، ولم يتمكن؛ لا الأستاذ ولا حتى المدير؛ من إسكات زياد!

كانت هذه الحادثة سببًا ثانيًا لي لأرجع إلى الكتابة القصصية، وإن كانت نهايتها أليمة فعلًا، فزياد لم يستمرَّ طويلًا معنا، ولم يكمل السنة الدراسية، بل انسحب فجأة من الثانوية، لنخسر صديقًا رائعًا لنا...
ويومًا ما، التقيتُ أنا بأستاذ ثانٍ، التقيتُه في ظرف عجيب، جعلني أضحك وأضحك، ثم التقيتُ بأستاذ ثالثٍ، في ظرف عجيب، ملأني غيظًا، خاصة أنه جعلني أجوع جوعًا شديدًا!

كل هذا، سنحكيه في أسباب رجوعنا إلى عالم الكتابة القصصية، ولن نهمل تلك الرسالة الغريبة التي وصلتني منذ عشرين عامًا فقط!

تابعوا معنا.

Lumi
5-1-2018, 09:50 PM
وهاهي المزيد من القصص الطريفة التي تضحكنا حد البكاء ...
تشوقتُ كثيرا لأعرف محتويات الرسالة وعلاقتها بعودتك إلى الكتابة ...
بارك الله فيك وجزاك خيرا عن تلك البسمات التي ترسمها على وجوهنا
تقبل مروري أستاذي القدير ودمتَ في حفظ الله ورعايته

أ. عمر
5-1-2018, 11:34 PM
وهاهي المزيد من القصص الطريفة التي تضحكنا حد البكاء ...
تشوقتُ كثيرا لأعرف محتويات الرسالة وعلاقتها بعودتك إلى الكتابة ...
بارك الله فيك وجزاك خيرا عن تلك البسمات التي ترسمها على وجوهنا
تقبل مروري أستاذي القدير ودمتَ في حفظ الله ورعايته


أضحك الله سنكِ دومًا، وبارك فيكِ ولكِ، ودامت ابتسامتكِ،
مروركِ يشرفني بارك الله بكِ دومًا، وحفظك من كل سوء

أ. عمر
7-1-2018, 12:35 AM
8_ قليلًا من المرح!


إنه صف الشهادة الثانوية، ونحن في درس وإعداد وتحضير، والشهادة تقترب رويدًا رويدًا، وها هي معلمة مادة الفلسفة العربية تشرح وتشرح، ثم تطلب إلى أحد رفاقنا طلبًا معتادًا: (اقرأ الدرس يا خالد)، ولكن غير المعتاد استجابة خالد التلقائية الحماسية: (وتحرك رجل المستحيل في سرعة مذهلة)، قبل أن ينتبه خالد إلى ما يقرأ! كان يضع قصة من قصص رجل المستحيل في طبقة طاولته، ويتظاهر بالاستماع إلى المعلمة!
اكتفت المعلمة بمعاتبة خالد، ولم تتخذ بحقه أي إجراء، ولكن في مرة ثانية أحسَّت المعلمة بأن خالدًا ورفيقًا ثانيًا له، ينظران إليها باهتمام، ثم تزوغ عيناهما نحو طبقة المقعد، فقامت بسرعة نحوهما، لتضبطهما يقرآن ألغاز المغامرات الخمسة، وصادرت المعلمة اللغز الذي وجدته، وفتشت الحقائب لتجد لغزًا آخر، قامت بمصادرته، وغادرت الصف لتترك اللغزين مع المدير.

كل هذا طبيعي كذلك، وحتى رجاء رفيقينا الحار، ووعودهما بأن يكونا طالبين مطيعين هادئين نشيطين مجتهدين (إلخ)، لم تؤثر في المعلمة، بل كان ردها حاسمًا باترًا (إن أردتما اللغزين، فاذهبا إلى المدير، واطلباهما منه)، ولم يجرؤ أحدهما على ذلك، ولكن الأمر بات صعبًا في اليوم التالي، فصاحب اللغزين عرف بالأمر، وأصر على استرجاعهما، ولم يجد رفيقاي هذين اللغزين في المكتبة عندنا، ولا حتى في مكاتب عديدة في المنطقة المجاورة، فعادا إلى الرجاء، ولكن من دون فائدة، بل الرد ذاته: (إن أردتما اللغزين، فاذهبا إلى المدير، واطلباهما منه)، وهكذا اتجه الزميلان إلى الإدارة،
ثم عادا إلى الصف يرقصان ويغنيان، ويصفقان بسرور، رغم أنهما لم يكونا يحملان شيئًا، ولكن... (قال لنا المدير أن نرجع آخر الحصة، حتى يكون قد انتهى من قراءة اللغز الثاني! بل وطلب منا أن نحضر إليه المزيد منها)!

لم تصدق المعلمة ما تسمع، ولكن الشك انقلب يقينًا مع مغادرة الصديقين آخر الحصة فعلًا، ليعودا باللغزين، الكنز الثمين! ومن وقتها لم تَعُد المعلمة تعترض، بل تركتهما يقرآن الألغاز، وكانت تتساءل أحيانًا مداعبة إياهما: (كيف حال رجل المستحيل يا خالد؟ هل ما زالت سرعته مذهلة؟ طمنَّا عنه)! فيحاول خالد ورفيقه سامح أن يشرحا لها أنهما يقرآن الآن عن (تختخ) والشاويش (فرقع)، لا عن (أدهم صبري)، فتسألهما من يكون رجل المستحيل من بين هؤلاء!

هذا الموقف عمَّق السخرية في أعماقي، وعاد قلمي يكتب القصص فعلًا، عدتُ أكتب رواية قديمة كنتُ قد ابتدأتُ بها وأنا في المرحلة الابتدائية، ولم أكملها أيامها، ثم توقفتُ عن متابعتها كذلك بعد أن ابتدأتُ بها في المرحلة الثانوية، ولا أدري السبب في ذلك.

وبعد الشهادة الثانوية، أخذ قلمي في الإجازة الصيفية ينساب على الورق أخيرًا، وكانت أول قصة أكتبها هي قصة (أعجبتني كثيرًا)، ثم من بعدها قصة (هروب)، و(ورقة بيضاء)، وأعدتُ كتابة قصة (هذا قلمي)، وإذ كنت أكتب، تخبرني إحدى أخواتي بأن زميلاتها في العمل في مختبر الدم بِتْنَ يعرفن أنني أكتب، ويسألنَنِي هل يستطعن قراءة بعض القصص؟ على الأقل لتمضية أوقات الفراغ في أمور نافعة، بدلًا من الأحاديث المتكررة!

أسعدني ذلك، وأخذتُ؛ كلما كتبتُ بضع قصص، أُرسِل الدفتر إليهن، وأخبرتني أختي أنهن أعجبْنَ كثيرًا بما أكتب، بل ويتخاطفن الدفتر، وكل واحدة تريد أن تكون هي الأولى في القراءة، ولكم ملأني هذا فخرًا بنفسي!

وبعد فترة من الزمان، عادت إليَّ أختي برسالة من إحدى صديقاتها، لقد ترددت تلك الصديقة كثيرًا في كتابة الرسالة، خوفًا أن لا أتقبلها منها، ثم حسمت أمرها أخيرًا، وما زلتُ أذكر المديح والثناء في رسالتها لقصصي الرائعة وأسلوبي الساخر المدهش، الذي يجعلها تقرأ كل قصة عشرات المرات، ولا تسأم، وختمت الأخت رسالتها بالقول: (ولكن هناك ملاحظات، هذا إن صح وأسميناها ملاحظات، وسأرسل بها فيما بعد، لأن أختك مستعجلة للانصراف الآن، وللرسالة تتمة في المرة المقبلة).

عاتبتُ أختي عتابًا شديدًا بسبب ذلك، ولكنها قالت لي إن صديقتها ستكمل رسالتها، وقد قالت لها ذلك، وما زلتُ؛ رغم افتراق أختي وصديقتها في مجال العمل عن بضعهما بعد ذلك بسنين طوال؛ أنتظر تتمة الرسالة،
رغم مرور عشرين سنة (فقط) على هذه الرسالة! إذ إنها أرسلَتْ بها إليَّ عام 1998! فهل ستصل هذه التتمة يومًا ما، أم يبقى ما أرادت الأخت قوله، والإشارة إليه كملاحظات، لغزًا في مجاهل الأيام؟!


ويومًا ما، طلبت إليَّ أمي (رحمها الله) أن أنزل لأرمي كيسين من النفايات في الوعاء المخصص لذلك، فقلت لها مداعبًا:
(نعم؟ صرتُ بالجامعة، وتريدين مني أن أرمي أكياس النفايات)؟
صرخت بي أمي معاتبة:
(نعم؟ نعم؟ انزل بسرعة، هيا، قال صار بالجامعة قال، لم يذهب ولا يوم، بل ولم يتسجل في الجامعة بعد، وصار في الجامعة)!
حملت الكيسين، ونزلت مسرعًا، وأنا أضحك، ثم اختفت الضحكة مع اصطدام شخص بي اصطدامًا عنيفًا، وصوت تثاؤبه يرتفع عاليًا، فنظرتُ إليه معاتبًا، قائلًا بخشونة:
(هل تمشي وأنت نائم أم ماذا)؟
رد الرجل:
(تقريبًا! الله يصلح الماما، لازم أنزل أرمي أكياس النفايات كل يوم، قبل أن يصيح الديك)!

نظرت إليه مبهورًا هنا، وأنا أسمع صوته، وأحدق في ملامحه، لكن لا، مستحيل أن يكون هذا هو!
وجهه أحمر تمامًا، وفمه مفتوح مثل المغارة ليتابع التثاؤب، ويلبس منامة واسعة للغاية، تتسع لاثنين أو ثلاثة أشخاص آخرين معه فيها!
هممتُ بمتابعة طريقي، ولكنه استوقفني قائلًا:
(صحيح، نسيت أن أبارك لك النجاح في الشهادة، لم أرك من وقتها)!
هذا يعني أنه يعرفني، وأنني أعرفه! ولكن لا، لا يمكن! سألته بحذر:
(وهل تعرفني)؟
رد في خجل وارتباك:
(لا بأس، لا بأس، النعاس يهلكني، الله يصلح خطيبتي، هي الأخرى تجعلني أسهر حتى منتصف الليل، لقد ظننتُك عمر)!
غريب! أنا نفسي أظن أنني أنا نفسي أحيانًا كذلك! كلامه أكد لي أنه يعرفني حق المعرفة، وملامحه مألوفة فعلًا، لكن ما زلتُ لا أصدق...
وفجأة تنضم إلى الحدث امرأة، لتصرخ في وجه الرجل:
(تضرب يا دب! ساعة لترمي كيسًا في النفايات؟ اذهب إلى البيت حالًا وفورًا، وركضًا))...
قاطعها الرجل في ارتباك:
(على مهلك يا أمي، لقد جرسِتنا أمام الرجل)!
صرخت الأم في وجهه مجددًا:
(اذهب فورًا إلى البيت يا...)
واتسعت عيناي عن آخرهما!
لقد عرفته أخيرًا!
إنه أستاذي...
السابق!!

ويا له من موقف طريف، أضاف إليَّ الكثير ككاتب قصص ساخرة، رغم أنني لم أكتب تلك القصة أيامها، بل كتبتُها من سنوات قليلة، كحدث بسيط سريع، مثلما فعلتُ الآن، تمامًا مثل حدث طريف آخر، يحمل في طياته الغيظ إلى جانب الطرافة، وقد حصل بعد هذا الموقف بفترة بسيطة،
أيامها كنا في شهر رمضان، وأعلنوا عن إفطار جماعي في المسجد البعيد عن بيتنا، وبكل الأحوال لم أكن أحب الذهاب كي آكل، فلا أهوى الأكل مع الناس في جماعات، ولكن والدتي (رحمها الله) أصرَّت على ذلك، والحجة أن (اذهب لتأكل وتفرح)، ولا أعلم ما علاقة (الفرح) بـ(الأكل)، وإن كان هناك علاقة، ما يمنع أن أفرح في بيتي؟!

ولكن، إزاء إصرارها، ذهبتُ! صلينا المغرب في المسجد، ثم تجمعنا لنجلس أرضًا بجوار بعضنا، وكل واحد فينا يفتح الوجبة التي أمامه، وابتلعتُ ريقي في توتر، فقد جلس بجواري تمامًا أستاذ سابق لي، كان يدرِّسني السنة نفسها، أي لم تمضِ سوى بضعة أشهر على مسألة أنه لم يَعُد أستاذنا في الصف، وكيف آكل بجوار أستاذي؟!

ونسيت هذه المشاعر الطيبة، حينما فتح الأستاذ الوجبة التي أمامه، لأجده يحمل قطعة بيتزا كبيرة الحجم، وأنا لا أطيق هذه البيتزا، لا من قريب ولا من بعيد! ولو أنني سأجد طعامي بيتزا فسأتركه كما هو، ولكن، لا... إنه دجاجة مشوية، والصحيح أن نقول إنه (صوص) مشوي لصغر حجمه، ولكن لا بأس، أفضل من البيتزا بكثير (صوص=كتكوت في اللغة المصرية، ولا أعلم باقي اللغات ماذا تسميه)!

صاح الأستاذ بمرح، وهو يلوح بيديه:
_ (فروج، فروج)!
ومد الأستاذ لسانه ليلحس به شفتيه أمامي!
وعاد يهتف بمرح:
_ (فروج، فروج)!
يا ربي! لقد (علق) الأستاذ بهذا الصوص المسكين! يا رجل نحن صائمون، أتريد أن تتركني أهلك جوعًا؟!
وبـــ(شهامة) شديدة وضع الأستاذ قطعة البيتزا أمام فمي، ورفعها حتى كاد يولجها في أنفي، وهو يقول:
_ (دعنا نتعاون يدًا بيد).
نتعاون؟ يدًا بيد؟ لماذا؟ هل سنذهب لنبني بيتًا بأيدينا؟ رددت مشمئزًا:
_ (لا أطيق البيتزا).
هتف الأستاذ بمرح:
_ (فروج، فروج)!
لا حول ولا قوة إلا بالله! يجب أن أتخذ إجراءًا عمليًا، فأمسكت بالفروج المسكين، وفتحت فمي، ومد الأستاذ يده يسحب الفروج، وقد دخل بعضه في فمي، هاتفًا بمرح:
_ (فروج، فروج)!
ومن دون رحمة بي، قسم الأستاذ الفروج قسمين، قسمًا يشكل الفروج بأكمله (تقريبًا)، وقسمًا يشكل قطعة لا تكاد ترى، وهتف بمرح: (فروج، فروج)! وانقض على حصته يلتهمها بسرعة فائقة، وأنا أنظر إليه مغتاظًا!
تركت الاجتماع وعدت مسرعًا إلى البيت لأفاجأ بأن والدتي طبخت بامية، وأنا لا أطيقها من عين أصلها، ولم يعد هناك شيء يؤكل في البيت، إلا بعض الحواضر، كالجبنة، ولا مانع لدي في أكلها، ولكن يجب أن نتركها لوقت السحور! ويا للجوع الذي حرمني من النوم! ولكنه؛ رغم ذلك؛ لم يكن سلبيًا تمامًا، فلقد بلور أسلوبي القصصي أكثر وأكثر، واتجهتُ به إلى الأساتذة، لا إلى التلاميذ وقصصهم فحسب (مع بعض الاستثناءات كحادثة أعجبتني كثيرًا)، فلقد باتت القصص الساخرة بالأساتذة أساسًا في كتاباتي القصصية، وأولى القصص الساخرة بحق الأساتذة، قصتي الآتية:



المستحيل

- لا يوجد مستحيل، هكذا قال نابليون بونابرت، الأحمق وحده من يقول مستحيل.
قالها أستاذ التربية الرياضية بحزم، وهو يواجه تلاميذه، ولقد سأله أحدهم:
- أتؤمن أنت بذلك يا أستاذ ؟!
رد الأستاذ:
- بالتأكيد، كل عام أو عامين، يبرز في الرياضة أبطال يحطمون الأرقام القياسية لسابقيهم، وهكذا، وبعد عدة سنوات، يصبح الرقم الأول رقمًا متأخرًا، لا قياسيًا.
عاد التلميذ يسأل:
- هذا بفضل التدريب والمران، ولكن ألا يزال هناك مستحيل (http://www.r3arb.com/vb/showthread.php?t=2031) يعجز الإنسان دومًا عن إتيانه؟
رد الأستاذ بشيء من الحدة:
- كلا، لا يوجد مستحيل (http://www.r3arb.com/vb/showthread.php?t=2031) إطلاقًا، وإلالما وصل الإنسان إلى القمر، بل ولما اخترع الصاروخ ولا الطائرة والسيارة، أو حتى الدراجة !!
تدخل تلميذ آخر في الحديث قائلًا:
- ولكن المستحيل ما زال موجودًا، فمثلًا، لا يمكن للإنسان أن يذهب إلى الفضاء بدون زي واق.
صاح الأستاذ غاضبًا:
- سيتخطون ذلك يومًا، لا يوجد مستحيل، هكذا قال نابليون، الأحمق وحده من يقول مستحيل.
قال تلميذ آخر بحماسة:
- هذا صحيح، أخي في السابعة، ولقد صدمته شاحنة بالأمس فلم يصبه شيء، بل إنه مد لسانه وضربها به، فدفعها عشرة أمتار إلى الخلف.
سأله الأستاذ بوجه محتقن:
- أتسخر مني؟
تمتم التلميذ ببراءة:
- لماذا؟! ألا تصدقني يا أستاذ؟!
صاح الأستاذ وهو يشتعل غضبًا:
- أنت وأنا، وكلنا نعلم أن ذلك مستحيل، و...
قاطعه التلميذ بابتسامة خبيثة:
- ماذا يقول نابليون بونابرت يا أستاذ؟
انتبه الأستاذ إلى الفخ الذي أوقع نفسه فيه..
ولم يحر جوابًا..
فيما صاح التلاميذ بصوت واحد:
- ال "..." وحده من يقول مستحيل (http://www.r3arb.com/vb/showthread.php?t=2031)!!
واحمر وجه الأستاذ..
كالطماطم الناضجة.

تمت


ومن ذلك قصة استوحيتُ فكرتها من حادثة الأستاذ والفروج، وصُغْتُ أحداثها كما يأتي:



شيش طاووق



_ {بيب، بيب،بيب}.
أطلق أستاذ الرياضة صافرته ثلاث مرات متتالية، فأسرع التلاميذ يقفون خلف بعضهم بالترتيب كما دربهم أستاذهم من قبل.
ولقد واجههم الأستاذ قائلًا:
_ أنا فخور بمهاراتكم المتزايدة في اللعب، أتمنى أن تستمروا هكذا، فلا شيء كالمران يعطي ال...
بتر الأستاذ كلامه، وقد لاحظ أن أحد التلاميذ شارد تمامًا، وربما لا يسمع كلمة مما يقول، وبغضب صرخ الأستاذ بغتة:
_ أميييين !!
انتفض جسم أمين في رعب، وارتفعت الضحكات الشامتة، فصاح الأستاذ:
_ كفى.
واستدار إلى أمين قائلًا بحدة:
_ هل أنت نائم؟ لماذا تقفون هنا إذًا ما دام...
قاطعه أمين في انبهار شديد:
_ كيف عرفت؟
سأله الأستاذ في دهشة:
_ عرفت ماذا؟
رد أمين في إعجاب:
_ أن هذا ما أفكر فيه بالفعل، لماذا نقف هنا؟! أعني أن هذه هي حصة الرياضة، وبعدها الاستراحة، فلماذا لا نأتي بلوازم الفرصة معنا مباشرة، بدل الصعود إلى الصف والنزول؟
تساءل التلاميذ بأجمعهم:
_ نعم، لماذا؟
أجابهم الأستاذ بحزم:
_ وأين ستضعون السندويش؟ على الأرض الملوثة بالغبار؟ ثم إن هذه حصة نظامية كغيرها، ولا بد من اتباع النظام، والآن هيا قبل أن نتأخر.
سار التلاميذ خلف أستاذهم إلى الصف، وهناك أسرع كل واحد إلى حقيبته يخرج منها كتبه وطعامه، و...
وانطلقت صرخة ملتاعة من حلق أحدهم، ثم بدأ بالبكاء، فسأله الأستاذ في قلق واضح:
_ ماذا حدث؟
رفع التلميذ السندويش، بمعنى أدق، بقايا السندويش، وأخذ يصرخ في حزن شديد:
_ لقد أكلوه، أكلوا السندويش، يا ضياع الشيش طاووق!!
شعر الأستاذ بمزيج من الدهشة والاستنكار..سندويش شيش طاووق في المدرسة!!
لا شك أنه قد برد.. بل تجمد..ولكن الأستاذ تجاوز أفكاره هذه، وسأل التلميذ باهتمام:
_ ومن تتهم بأكله؟
أسرع تلميذ آخر يجيب:
_ أستاذ اللغة الفرنسية، لقد سألنا ماذا أحضرنا من طعام إلى المدرسة، وحين أخبره سعيد أن معه سندويش شيش طاووق، لحس شفتيه بلسانه! لا شك أنه الفاعل !!
صرخ الأستاذ والغضب يعصف به:
_ لحس شفتيه بلسانه!! أهكذا تتحدث عن أستاذك يا قليل الأدب؟! سأربيك حتى تعلم...
دخل المدير باترًا كلام الأستاذ بهتافه:
_ ماذا يحدث هنا؟ لم الصراخ والضجيج؟! حان وقت الاستراحة.
قال له أستاذ الرياضة:
_ هذا الولد وجد السندويش مأكولًا، ومحمود يتهم أستاذ اللغة الفرنسية، ويقول...
قاطعه المدير بلهفة:
_ سنحضره فورًا، اذهب في طلبه من غرفة المعلمين يا ماهر، ولا تشعره بشيء.
أسرع ماهر لينفذ الأمر فيما كان الفضول يعتصر أستاذ الرياضة...
كيف للمدير أن يصدق كلام هذا الولد المشاغب؟! يجب أن يعاقبه، لا أن يستدع يأستاذًا ليسأله أمام التلاميذ عن شيء مخجل كهذا !!
دخل أستاذ اللغة الفرنسية في تلك اللحظة، وما إن وقع بصره على السندويش حتى صاح:
_ لم يكن الأمر هكذا! ليس إلى هذا الحد!! أعني أنني لم آكل شيئًا!!

أتى كلامه بمثابة اعتراف صريح، جعل الأعين تتسع في ذهول بالغ...كل الأعين بلا استثناء...
وبغضب ظاهر للعيان، قال المدير للأستاذ:
_ اتبعني إلى غرفة الإدارة، وأنتم إلى الملعب.
وفي غرفة الإدارة، أخذ المدير يكتب بسرعة على ورقة، ثم ناولها للأستاذ المرتجف قائلًا بغضب وضيق:
_ فلترد على هذا الاستجواب أيها الملهوف على الطعام!!
قال الأستاذ بذلة:
_ أرجوك يا حضرة المدير، كانت قضمة صغيرة فحسب!
صاح المدير في تهكم واستهزاء:
_ قضمة صغيرة!! كل هذا تسميه قضمة صغيرة!! ماذا لو كانت قضمتك كبيرة؟! هل كنت ستلتهم المحفظة بمحتوياتها مع السندويش يا رجل!!
تمتم الأستاذ، وهو يكاد يبكي:
_ صدقني، لقد قضمت قضمة صغيرة فحسب، وبعدها...
قاطعه المدير بتهكم أشد:
_ وبعدها واصل السندويش أكل نفسه، أليس كذلك؟!
واكتسب صوت المدير قسوة مع إضافته:
_ تصرفت بغباء شديد في الصف، الأبله نفسه عرف أنك الفاعل، وبقايا السلطة بين أسنانك!!سالت دموع الأستاذ..
وبذلة أخذ يرد على الاستجواب...
ولكن بم عساه يجيب؟؟ وأي مبرر سيقتنع به المفتش الذي سيتولى القضية؟!
ومن منطلق خوفه...
ومن معرفته بوقوعه...
تردد قلم الأستاذ كثيرًا وطويلًا...
كل كلمة يكتبها يتبعها بفترة استراحة...
ما أضجر المدير، فبدأ يكتم التثاؤب...
إلا أنه فشل في ذلك...
ومع تثاؤبه فتح فمه الكبير...
وأطلق الأستاذ شهقة ذهول...
وأتبعها بتنهيدة ارتياح، وابتسامةعريضة...
ففي زاوية فم المدير، وبين أسنانه...
كانت تستقر قطعة...
قطعة شيش طاووق!

تمت


وبهذا الأسلوب الساخر، تابعتُ صياغة أحداثي القصصية، حتى فيما لا يتعلق بعالم الأساتذة والتلاميذ، إلى أن كنا في دار المعلمين، بين عامي 2001، و2002، وموقف غريب لم أفهم ولم أهضم أحداثه قط حتى الآن، وحادثة (أعجبتني كثيرًا) التي ذكرتُها لكم من قبل تتكرر... وأكثر من قصة عن (الحمَّام) بسبب ذلك! ثم أي عائق منع أعمالي من الظهور في شاشة تلفزيون عربية!

تابعوا معنا

أ. عمر
13-1-2018, 09:18 PM
9_ كثيرًا من القهر!


إنها أيام دار المعلمين، والدراسة الإعدادية لنا كي ندخل سلك التعليم الرسمي فيما بعد، ولكم أسعدني أننا سندرس مادة علم النفس، فقد كانت هوايتي المفضلة تلك الأيام تتمثل في قراءة كتب علم النفس بكافة تنوعاتها واختصاصاتها.
وسبق لنا أن درسنا هذه المادة، في آخر صفوف المرحلة الثانوية، لكن باللغة الأجنبية، وكلها مواضيع حفظ كبيرة، فلم نستفد منها شيئًا على الإطلاق، أما الآن، فإننا سندرس علم النفس باللغة العربية، يا لسعادتنا!
وبعد أن درستُ عشرات الكتب في علم النفس، أجريتُ المئات من الروائز النفسية على رفاقي ومعارفي ورفاقهم ومعارفهم، بل وتمكنتُ؛ بفضل الله؛ من تصحيح خطأ ورد في أحد الروائز النفسية في أحد الكتب، خطأ طباعي طبعًا، ولكنه كفيل بإيقاع الباحث في الحيرة، وبدراسة استقرائية معمقة تمكنتُ من تصحيح هذا الخطأ، أي أنني بلغتُ مرحلة جيدة في هذا العلم آنذاك.

أحسستُ بأن مادة علم النفس التي أدرسها في دار المعلمين أمر بسيط إزاء المعارف التي أعرفها فيه مسبقًا، وكنت أنظر؛ بدهشة؛ إلى رفاقي المساكين، الذين يحاولون جاهدين الفهم والاستيعاب، فهذه أمور بسيطة، ولكن... انتبهت المعلمة إلى تفوقي الواضح في هذا العلم، وهنا مكمن الخطأ!
لقد تحولت المادة إلى تعذيب لي، فأي تلميذ سأل عن أي أمر في مادتها، يجب أن أجيب أنا، بل حتى إن سأل أي زميل؛ أو زميلة؛ سؤالًا من خارج الكتاب حول حالة نفسية معينة _ وما أكثر الحالات التي تَمُرُّ بها الزميلات المتزوجات مع أزواجهن وأطفالهن _ يجب أن يتبرع عمر بتفصيل الحالة، وأسبابها وظواهرها وشرحها وعلاجها، مع أنني لم أكن قد بلغتُ هذا المبلغ بعد!
حاولتُ أن أُفْهِم المعلمة أنني لستُ خبيرًا في علوم النفس، بل إنني أدرسها هواية لا أكثر ولا أقل، ولكن من دون أن تصدقني، وليت الأمر توقف هنا، ففي إحدى حصصها، ضاعت المعلمة ولم تَعُدْ تعرف كيف تشرح الدرس، ودخل التلاميذ دوامة الحيرة والارتباك، فطلبت المعلمة أن أشرح الدرس بدلًا منها، ولقد أخطأتُ حينما طاوعتُها، لكني لم أكن أتوقع النتائج!
خلال الشرح، ألقت إحدى الزميلات سؤالًا حول أمر يصعب عليها فهمه، وكنتُ سأشرحه بكل الأحوال، ولكنها؛ إذ سألت المعلمة قبل ذلك ولم تجبها، لم تَعُدْ تطيق صبرًا لتعرف، وإذ شرحتُ لها، هتفت بسعادة: (أنت تشرح الدرس أفضل من المعلمة)، وكأن صاعقة كهربائية هَوت على هذه المعلمة مع هذا الكلام!
حان موعد الاختبار الفصلي، ووضعتُ كل ثقلي في هذه المادة لأكون المتميز الأفضل، وفي المسابقة أبدعتُ إبداعًا نادرًا فعلًا، ولن أشهد (وحدي) لنفسي، فالمعلمة نفسها حينما أتتنا بالمسابقات فيما بعد، قالت لي، بل للجميع، قبل حتى أن تجلس على مقعدها: (الحقيقة أن عمر تفوق على نفسه بمراحل، وبشكل مدهش).
وألقت المعلمة بحقيبتها على الطاولة، هاتفة: (نعم، عمر كتب ما جعلني أظن أني أقرأ لكبار علماء النفس أنفسهم، خسارة أن لا تدخلها كاختصاصي، ستصبح أشهر محلل ومعالج نفسي في العالم كله).
كانت المعلمة تتكلم، ورفاقي ينظرون إليَّ في انبهار يخالطه الحسد، وأنا أشعر بالارتباك مع هذا المديح الذي لم أتوقعه قط، والمعلمة تؤكد: (عمر يستحق العشرين بالتأكيد).
يا لفرحتي! الدرجة الكاملة، وفي علم النفس؟ يا سلااااام!! سأقدم إلى معدتي وليمة رائعة اليوم، احتفالًا بهذا الإنجاز الرائع!
وتابعت المعلمة (ولكن، عمر قام بأمر لم أتوقعه قط)! فنظرتُ إليها باهتمام شديد، لأعرف ما هو هذا الأمر، فقالت المعلمة بحزم: (لقد كتب مقدمة مدهشة للموضوع، وربط كل الأمور ببعضها ببراعة نادرة، وخلص إلى الخاتمة بشكل مذهل، حتى أنني، حتى أنني...) وصاحت بغتة: (حتى أنني صورت لنفسي نسخة من هذه المسابقة التحفة لأتعلم أنا نفسي منها في علم النفس)!
يا لروعة أحاسيسي هنا! تابعت المعلمة بتواضع شديد: (لا تستغربوا، أنا متواضعة جدًا، وأقولها وبكل صراحة، يشرفني أن أرجع تلميذة في علم النفس، لتكون أنت أستاذي يا عمر، أنت تستحق العشرين يا عمر، ولو كانت هناك علامة أعلى لمنحتك إياها)...
شعرتُ بأن الدنيا لا تتسع لي هنا، كنت راضيًا عن نفسي كل الرضا، إنها الترجمة العملية لسنوات طوال في دراسة علوم النفس، الحمد لله، ولكن المعلمة ناقضت نفسها بغتة، بقولها: (عمر تفوق على نفسه، وكان يستحق العشرين، لولا أنه لا تُمنَح العشرون في علم النفس، ولو كان الكاتب فرويد نفسه، عمر أعجبني كثيرًا، نعم، لقد أعجبتني كثيرًا يا عمر)!
كنتُ أشعر بالفخر بنفسي! ها أنا ذا أعوِّض في هذه المادة ظلم أستاذين لي، لهما مشاكل مع قريب لي، هو مفتش تربوي، ويريدان الانتقام، بسبب استجوابه إياهما من قبل، فحطما علاماتي تحطيمًا، لكني كنتُ أحاول بباقي المواد، والآن في علم النفس، سأحصل؛ أخيرًا؛ على المركز الأول، والذي يتوقعه كل الزملاء والزميلات لي، ولكن...
لا، لا، ما هذا الظلم؟! أعلنت المعلمة؛ أنها ومن باب الحنان؛ لم تضع لأحد علامة أدنى من 16/20، وفي هذا ظلم كبير لي، ولكنها استطردت فجأة، بحماسة: (مسابقة عمر تفوق مسابقاتكم جميعًا، سأوزع لكم المسابقات، وبعدها مسابقة عمر، مسابقاتكم مثل التابع والخادم، يأتي أولًا، ثم تأتي سيدتكم مسابقة عمر)! ليصيح الرفاق مستنكرين: (هورااااه)!!
وما زالت المصيبة لم تحصل بعد! لقد رفعت المعلمة مسابقتي أمام أعين الجميع، قائلة: (عمر، برافو عليك، تستحق العشرين، علامتك عشرة ونصف)!
ورغم أنني كنتُ (بارد الشخصية) تلك الأيام، لم أتمالك نفسي من إطلاق شهقة ذهول قوية، ووجدتُ نفسي أحدِّق بالمعلمة، كأنها كائن فضائي أتى إلى كوكب الأرض، وأراه أنا أول مرة في حياتي التعيسة!
وارتفعت الضحكات الشامتة في الصف، وقد أغاظني ذلك، وأغاظني أكثر، سؤال أحد الرفاق الساخر للمعلمة: (وكان يستحق العشرين؟ أليس كذلك)؟
ارتفع صوت الضحك الشامت، تخالطه أصوات استفزازية من الزملاء الأكارم! وأنا أنظر إلى المعلمة لا أجد ما أقول، وكأنني قد نسيت الكلام! ووجدتُ نفسي أستعيد ما حصل لزميلي محمد مع أستاذ الجغرافيا في السنة الأولى في المرحلة الثانوية، ولكن مع بعض الفوارق الجوهرية طبعًا.
مسابقة محمد كانت (فوق) مسابقاتنا جميعًا، لأنها الأفضل، ومسابقتي أنا كانت (تحت) مسابقاتنا جميعًا، لأنها الأفضل! والأسوأ والألعن أن سبعة فقط شمتوا بمحمد، فأنا لم أشمت به وقتها، أما أنا فكان نصيبي في الشماتة خمسًا وعشرون طالبًا فحسب!
ثم عاد الأمل إليًّ مع كلمات المعلمة: (هل صدقت أنني وضعت لك عشرة ونصف؟ كنت أمزح يا عمر)!
شعرتُ بالهدوء والسكينة تغمرانني فجأة، لولا أنها أضافت، لتعيد العذاب إلى نفسي: (لقد "رحمتك"، وزَوَّدْتُ لك علامتين كاملتين كمااااا هماااا)!!
ولأول مرة، أحسست بنفسي، أرغب في أن (أعض) المعلمة، حتى أنتزع لحم كتفيها من موضعه!! القهر كان مريرًا، وزاد من مرارته، صياح ذلك الزميل كل لحظة وأخرى: (آخ يا عمر آخ! كنت تستحق العشرين، لكنْ، لو تعلم! لو أتى فرويد بنفسه، لما أخذها، ولذلك، ووفقًا لنظريات روشفوكولد، كان يجب أن تنال أنت عشر علامات ونصف، وبعد الرحمة، اثنتي عشرة علامة ونصف)!!
ويا له من شعور، أن ترى أحمق _ ولا أقصد هذا الزميل، ولكن فعليًا هناك كثيرون في الصف لا يعرفون شيئًا في علم النفس_ قد نال علامة أعلى من علامتك، من دون سبب مقنع!
وصاح أحدهم بالمعلمة، وهو ينظر إليَّ هازئًا: (وهو يستحق العشرين؟ أليس كذلك)؟ ردت المعلمة بحزم: (بالتأكيد يستحقها، لكني فعلتُ ذلك لأجله هو وحده)! عادت إليَّ المقدرة على الكلام هنا، فصرختُ في وجهها، شاعرًا بأنني أنوي التهامها وطحن عظامها: (كيف؟ هل أستطيع أن أفهم)؟
ردت المعلمة بسماجة: (أنت الوقت شاب في السن، وما شاء الله، كل هذه الخبرة في علم النفس، أنت تعرف تمامًا أنك تستحق العشرين وأكثر، وهذا سيدفع بك إلى العطاء أكثر وأكثر، أما لو وضعت لك العشرين علامة، ستركن إليها، وتظن نفسك فهمت المعارف كلها، ولن تنفع مرة أخرى في علم النفس)!
فصرخت فيها بعصبية شديدة: (ومن قال لكِ إنني سأنفع ولن أنفع؟ هذه هواية لا دراسة، لن أدرِّس هذه المادة ولن أشتغل بها، اختصاصي الجامعي الآن لغة عربية، لغة عربية لا علم نفس، لن أتخصص به، ولن أدرِّسه أحدًا، صححي لي العلامة لو سمحتِ)!
هزت برأسها مجيبة بحسرة غريبة: (مستحيل، لن أرضى لنفسي أن أؤذيك نفسيًا)! شعرتُ بأنني على وشك الجنون فعلًا، وأنني لو ضربتُها فإنني لا أرتكب خطأ على الإطلاق، ووجدتُ نفسي أقول بصوت مليء بالقهر والمرارة، ويا لشماتتها بي! (ولو قلتِ لي العلامة التي نلتُها قبل هذا المديح، ماذا كنتِ ستخسرين؟ هل من الضروري هذه البهدلة لي)؟
ارتبكَت قليلًا، وبدا أنها لا تجد تبريرًا مقنعًا لفعلتها هذه، ثم صاحت فجأة، مبتسمة بسعادة، كأنما وجدتِ المخرج: (نعم، ذلك ليتحقق الهدف باستعمال الصدمة النفسية)!

كان موقفًا مؤلِمًا بالنسبة لي آنذاك، وما أغاظني، أن وجهت إحدى الزميلات سؤالًا إلى المعلمة، فطلبت مني المعلمة أن أجيب! وهنا لم أعد أحتمل من فرط العصبية، فأخرجت سلسلة مفاتيحي من جيبي، والتي تحوي مفتاحين فقط، وقذفت بها في عنف شديد، لترتطم بسقف القاعة،
ثم أمسك بها بعد هبوطها، متجاهلًا الألم الذي أحسستُ به في يدي، والجرح الذي انفتح بها، فالصدمة القاسية التي أمر بها، جعلتني أتناسى الألم!
وصاحت إحدى الزميلات، في محاولة "تبييض الوجه": (ما هذا)؟ فأجبتُها في برود وجفاء: (عادة لا أرتاح إلا إن قمتُ بها)، ليتساءل زميل آخر، موجهًا كلامه إلى المعلمة: (هل لهذا تفسير في علم النفس)؟ لِتَرُدَّ المعلمة متظاهرة بأنها حكيمة زمانها: (نعم، هناك شيء ناقص في حياته)!

ما شاء الله، ما شاء الله! أعتقد أن كل البشر لديهم أشياء ناقصة في حياتهم، ولكن... ما ينقصني فعلًا أن أمسك بكِ وأتحول إلى آكل لحوم بشر، وآكلكِ نيئة كما أنتِ، مستمتعًا بصراخكِ الأليم!
وصبغت هذه الحادثة حياتي بصبغة أخرى، لقد تدهور ترتيبي بين الرفاق حتى المركز ال 21 من أصل 26 طالبًا، والفارق بيني وبين صاحب المركز الأول سبع علامات فحسب، لأجد أنني صرتُ إنسانًا لامباليًا بشيء تقريبًا! كنتُ؛ قبل ذلك؛ أسهر حتى وقت متأخر في الليل أدرس وأجتهد، وأقرأ في الكتب التي عند والدي بحثًا عن مزيد من المعلومات، كل هذا، لأنال المركز ال 21؟ بعد الاستهتار نلتُ المركز 22، بفارق علامة واحدة عن التعديل السابق، ترى، هل تستحق علامة واحدة، ومركز واحد، كل هذا التعب والإرهاق؟!

وعدتُ إلى صديقي الرائع، القلم، لأكتب قصة بعنوان (تحليل نفسي)، وللأسف ضاعت مني مع دفترها، عام 2009، ولكن فكرتها عن معلمة علم نفس مغرورة تعطي مادتها بِلُغَة غير مفهومة، وكل كلامها وأمثلتها عن المسكين (زوجها) الذي لا يجرؤ على وضع إصبعه في فمه! لأنها ستكتشف أنه محروم من الحنان! ولا يفتح البَرَّاد في حضورها، خوفًا من أن تكتشف نفسيته المعقدة التي يخفيها عنها! (وكأنه يجب أن يخترق البراد بقبضته ويخرج منه الطعام، مثل أفلام الكرتون الهزلية توم وجيري وغيرها، وقد كانت معلمة علم النفس في المرحلة الثانوية تتكلم هكذا فعلًا)! وأن هناك تلميذًا كان يرجوها أن تشرح علم النفس باللغة العربية، ولكنها لا تستجيب له، وتتهمه بالكسل، فتحدَّاها وقام بتحليل نفسيَّتها تحليلًا كاملًا، أثبت فيه أنها مغرورة إلى حد كبير، وأنها فاشلة في حياتها عاطفيًا، وأن زوجها لا يتحمل سماجاتها، فكان أن وثبت من مكانها وهجمت عليه، ليهرب هو في اللحظة الأخيرة، وقد توقع؛ بخبرته في التحليل النفسي؛ هذا الهجوم منها، ولم تكتفِ المعلمة بخروجه من الصف، بل خرجت خلفه تصرخ هائجة مثل الغوريللا، وهو يختبئ في الحمام الضيق، متحملًا الروائح الكريهة، وخبرته تؤكد له أن هذه المعلمة لن تهدأ قبل وقت طويل جدًا... للأسف الشديد!

وبعد ذلك بفترة بسيطة، كتبتُ قصة لا علاقة لها بعلم النفس، ولكني وضعتُ لها عنوان (في الحمام)، استنادًا إلى نهاية القصة السابقة، منهيًا مقاطعها باتساع عيني الأستاذ في ارتياع بالغ، وإليكم القصة:



في الحمام

أمجد تلميذ شاطر...
بل عبقري...
وخاصة في الأدب العربي...
ولكن مشكلته التي لا يستطيع التغلب عليها هي كثرة دخوله الحمام...
والأستاذ لا يملك _ إزاء موهبته _ منعهم ن الخروج حينما يريد...
أو يحتاج...
المهم أن الأستاذ قرر أن يجري مسابقة لتلاميذه ذات يوم...
وهنا تبدأ القصة...
القصة الحقيقية.

دخل الأستاذ إلى الصف قائلًا في عجلة:
_ ليضع كل واحد منكم أمامه ورقة بيضاء، و...
قاطعه أحد التلاميذ:
_ مهلًا يا أستاذ، نريد أن نراجع دروس المسابقة.
رد الأستاذ في حزم:
_ هذا ما يجب أن تفعله في البيت، أو حتى في الملعب، ولكن ليس هنا.
تدخل تلميذ آخر في الحديث قائلًا:
_ ولكن أمجد ليس هنا، أعني أنه لم يحضر بعد، أعني أنه قد حضر ووضع كتبه، وذهب إلى الحمام.
صاح الأستاذ في غضب:
_ الحمام؟! دائمًا يذهب إلى الحمام!! لا بد من وضع حد لهذا الأمر.
قالها، وغادر غاضبًا...
ولم يصدق التلاميذ أنفسهم...
ولكنهم انهمكوا في مراجعة الدروس...
أما الأستاذ، فقد توجه نحو الحمامات...
وكانت كلها مغلقة...
فأخذ يدق الأبواب، وهو ينادي:
_ أمجد... أمجد.
وشيئًا فشيئًا، بدأت الحمامات تفرغ...
واحدًا وراء الآخر...
دون أن يظهر أمجد...
وبقي حمام واحد...
فطرق الأستاذ بابه، قائلًا في نفاد صبر:
_ والآن يا أمجد، ألم يحن الوقت بعد لتخرج؟!
وزاد من قوة طرقاته، وهو يتابع:
_ هيا أسرع، ستبدأ المسابقة بعد قليل.
اشتدت الطرقات أكثر، والأستاذ يضيف:
_ اسمعني جيدًا يا أمجد، المسابقةكبيرة، وإن لم تسرع فلن يكون معك ما يكفي من الوقت.
وأخذ الأستاذ نفسًا عميقًا حاول السيطرة به على أعصابه، ثم استطرد مواصلًا طرقه لباب الحمام:
_ لقد تجاوزت كل الحدود يا أمجد، مضت عشر دقائق وأنا أطرق الباب، وأنت لا تجيب، وهذا...
بتر الأستاذ عبارته بغتة...
واتسعت عيناه في ارتياع...
ارتياع بالغ.

بتر الأستاذ عبارته بغتة، وقد انتبه إلى تلك الحقيقة لأول مرة...
نعم، قد مضت دقائق عديدة وهو ينادي ويدق، وأمجد لم يجبه بحرف واحد...
لا همسة ولا حركة...
وأمجد في الداخل...
وعدم إجابته تعني أن شيئًا ما قد أصابه...
في الحمام.

لقد فقد أمجد وعيه...
هذا ما جال في خاطر الأستاذ...
وهذا هو التبرير الوحيد والمنطقي لعدم إجابته...
التفسير الأوحد للصمت والسكون...
وإلا فلم لا يجيب؟!
وفجأة، قفزت فكرة مخيفة إلى ذهن الأستاذ...
ماذا لو أن أمجد لم يفقد الوعي...
بل الحيــ...
نفض الأستاذ رأسه في قوة ليبعد عنه ذلك الخاطر المزعج...
ثم شعر بتجمد في جسمه...
وبشيء يشبه الشلل...
ماذا لو أن هذا ما حدث بالفعل؟!
وفي قوة، ضرب الأستاذ الباب بكتفه مرة...
ومرات...
إنما دون فائدة...
وأخيرًا، توقف الأستاذ وهو يلهث...
لا بد من إبلاغ المدير...
لعله يتصل بالإسعاف...
وفي حركة يائسة، ضم الأستاذ قبضته، وأهوى بها على مقبض الباب في عنف...
وكانت المفاجأة...
لقد انفتح الحمام، و...
واتسعت عينا الأستاذ في ارتياع...
ارتياع بالغ.

وفي حركة يائسة، ضم الأستاذ قبضته، وأهوى بها على مقبض الباب في عنف...
وكانت المفاجأة...
لقد انفتح الحمام، و...
واتسعت عينا الأستاذ في ارتياع...
ارتياع بالغ.

لقد كان الحمام خاليًا...
ولا أثر لأمجد!!
نبش الأستاذ كل ركن في الملعب...
فلربما يكون أمجد فاقدًا وعيه، من دون أن يشعر به أحد...
ولكن من دون فائدة...
ثم ذهب إلى الإدارة ليخبر المدير...
ولكنه لم يجد الأخير هناك...
فعاد إلى الحمامات...
ثم إلى الملعب...
إنما بلا جدوى...
وأخيرًا، شعر الأستاذ بالعجز...
بالقهر...
وباليأس...
لقد بذل كل ما يستطيع، ولكن...
ورغمًا عنه سالت من عينيه الدموع...
لقد أحب أمجد كما لم يحب تلميذًا من قبل...
إنه موهوب بحق، ويندر أن يجود الزمان بمن هم على شاكلته...
ولكن ما العمل؟!
مسح الأستاذ دموعه...
وعاد إلى الصف...
وهناك كادت مقلتاه تغادران محجريهما...
فأمامه كانت مفاجأة...
مفاجأة قاسية...
واتسعت عينا الأستاذ...
في ارتياع...
ارتياع بالغ.

لن نقول إن المفاجأة كانت وجود أمجد في الصف..
مع أن الأخير كان يجلس على مقعده بالفعل..
وذلك كي لا تكون النهاية تقليدية..
ربما يجمح الخيال في بعضكم، ليقولوا _وبكل ثقة_ إن المفاجأة هي وجود المدير في الصف مع أمجد...
وهذا صحيح، إلا أنه ليس المفاجأة...
المفاجأة كانت في...
في وجود المفتش...
الذي يتميز غيظًا..
ولقد استقبل الأستاذ صارخًا في وجهه:
_ أين كنت؟ أكثر من نصف ساعة وأنا أنتظرك! أين كنت؟!
حبس التلاميذ ضحكاتهم بصعوبة...
أما الأستاذ، فقد ارتبك وتوتر...
إنه يتلقى اللوم والتأنيب كالأطفال...
ترى بم سيرد؟!
وما عساه يقول!!

_ لماذا لا ترد؟
انطلقت صرخة المفتش الغاضبة تخترق أذني الأستاذ كالرصاص، فأسرع يجيب متلعثمًا:
_ كنت.. كنت... في ال... في الحمـ...في الحمام!!
صاح المفتش في استنكار يشوبه تهكم عصبي:
_ في الحمام؟؟ نصف ساعة وحضرتك في الحمام!! ما الذي كنت تفعله هناك يا هذا؟!
وهنا، عجز التلاميذ عن كبت ضحكاتهم...
فانطلقت مدوية مجلجلة...
واحمر وجه الأستاذ...
وأصبح في لون الطماطم المهترئة.



تمــــــــت بحمـــــــد الله تعـــــالــــــى


وتوالت قصص علم النفس الهازئة، ولم تكن كلها محصورة في مجال التعليم، فــ(القصة الضائعة) لا علاقة لها بذلك لا من قريب ولا من بعيد، ولا (ليل الجنون) كذلك، ولا سواها من القصص، مثل (مَنْ يا ترى)؟ و(صدمة نفسية)، ولكن، قبل هذه وتلك، حصل لي موقف آخر... جعل فريق كرة قدم يخرج بأكمله بحثًا عني، وذلك ليشرب أفراده من دمي، لو كان بمقدورهم هذا!
تابعوا معنا!

Jomoon
14-1-2018, 06:42 PM
أهلاً أستاذ^^,
الظلم على أشده وكأن ذنبك أنك أفضل منها،
كلمة من مدحتك كانت كالصاعقة على المعلمة،
والعجيب أنها أثارت الحنق عليك وتبعه بخس حقك،
الحمدلله والشكر على مثل هكذا عقول،
شيء يقهر بشدة
وما نملك سوى قول حسبنا الله ونعم الوكيل،
ربي يجعل ذلك رفعة في درجاتك في الاختبار الحقيقي،
باركك ربي
وكالعادة أسلوب مميز في الطرح
وروعة في السرد،
وبالنسبة للقصة التي أوردتها،
رحمت الأستاذ كثيراً
الحمدلله أنها من تأليفك،
ربي يعافيك يارب،
في حفظ المولى،،
~

أ. عمر
18-1-2018, 09:14 AM
أهلاً أستاذ^^,
الظلم على أشده وكأن ذنبك أنك أفضل منها،
كلمة من مدحتك كانت كالصاعقة على المعلمة،
والعجيب أنها أثارت الحنق عليك وتبعه بخس حقك،
الحمدلله والشكر على مثل هكذا عقول،
شيء يقهر بشدة
وما نملك سوى قول حسبنا الله ونعم الوكيل،
ربي يجعل ذلك رفعة في درجاتك في الاختبار الحقيقي،
باركك ربي
وكالعادة أسلوب مميز في الطرح
وروعة في السرد،
وبالنسبة للقصة التي أوردتها،
رحمت الأستاذ كثيراً
الحمدلله أنها من تأليفك،
ربي يعافيك يارب،
في حفظ المولى،،
~




أهلًا بحضرتكم الكريمة
سامحها الله على ما فعلت بنا وقتها
وشكرًا جزيلًا لحضرتكِ لدعائكِ الطيب
أما القصة فأظن أنني كنت أتخيل معلمة علم النفس هذه، وأنا أكتبها :)
كل الشكر والتقدير لكِ أختي الكريمة

أ. عمر
18-1-2018, 10:59 AM
10_ وحش المستحيل!


صبَغَت قصتي الحقيقية مع معلمة علم النفس حياتي بصبغة الاستهتار وعدم المبالاة بشيء، والابتسام أمام الصعاب، والنوم ملء الجفون حتى لو كان اليوم التالي يوم امتحانات عصيبة!
وشخصية هذه المعلمة أفهم أنها أرادت الأذى والانتقام، ولكن شخصية أستاذ اللغة العربية لم أفهمها ولا أحد فهمها أصلًا، بل حتى هو نفسه شخصيًا لا يفهم نفسه!
كان الأخ أستاذًا مستحيلًا بمعنى الكلمة، فلا يعجبه شيء، وكل الإجابات في هذه الكرة الأرضية، لا لدينا نحن وحدنا كطلاب، هي إجابات خاطئة تمامًا، حتى لو كان قائلها سيبويه أو الكسائي شخصيًا!
وحينما أصف أستاذي هذا بأنه أستاذ مستحيل، فهذا لأنه بشحمه ولحمه لا يعرف ما هي الإجابة الصحيحة، ولنقل مثلًا تم طرح جملة بسيطة، على غرار: (اشترى أخي لعبةً)، وكان المطلوب إعراب (لعبةً)، فإن الأستاذ يرفض أنها (مفعول به) ويعتبر ذلك إعراب (الجهلة أمثالنا)! وهنا يتم اختراع إجابات في الإعراب، تشمل علوم النحو بأكمله (مفعول معه، مفعول مطلق، تمييز، حال، مفعول لأجله، مضاف إليه...) والأستاذ يرفض كل هذه الإجابات (الجاهلة)، ثم يأتي دوره ليخبرنا بالإعراب (الراقي)، وإذ به يحكي لنا أنه حينما تزوج، وفي صباح عرسه، أعدت له امرأته طعامًا لذيذًا جدًا جدًا، من اللحم المشوي، وبعد انتهائه من تناول الطعام، سألها ما هذا اللحم؟ فأخبرته بأنه لحم حية مشوية!
طبعًا لم أجد في كتب النحو والبلاغة والعروض والصرف والأدب، كلمة واحدة، إعرابها (حية مشوية) ولا حتى (مقلية) أو (مسلوقة)، أبعد الله عنا كل هذه الأصناف التعيسة!
ولم يكن هذا هو الرد الوحيد منه إذا ما وجد نفسه محاصرًا لا يعرف الإجابات، سواء في الإعراب أو حتى في أسئلة تحليل النص، إذ كان يتحفنا بإجابة تحليلية نادرة، ومفادها أنه يعرف مذيعة تلفزيون كانت تظهر على الشاشة أربع مرات، بأربع فساتين مختلفة، ولكن، يا لبراعتها النادرة! كانت (تخدع) الجماهير المتابعة، فلم يكن لديها سوى فستان واحد، لكنه تلبسه على أربعة أوجه! (هل يمكن ذلك فعلًا؟ لا أعلم ولا أتوقع ولا أتخيل! ولكن ليس هنا السؤال، بل إن هذه المسكينة لم يكن لديها سوى هذا الفستان اليتيم، وبالتالي ألم ينتبه المتابعون إلى أنها ترتدي يوميًا الفساتين الوهمية الأربعة هذه؟ أم أنها كانت تلجأ إلى علب الدهان المتنوعة مثلًا، لتتابع الخداع)؟!
ولا يعني هذا أن الأستاذ لم يكن يتكرم علينا بالإعراب! محاولته التهرب بقصة الحية المشوية والفساتين الوهمية كانت في أسئلة التحليل، وفي أسئلة الإعراب حينما يحاول أن يرينا أننا جاهلون لا نفهم شيئًا، ولكنه كان يقتحم عالم النحو بمنتهى (البراعة)، ليخبرنا أن هذه الكلمة إعرابها (مبتدأ مبني على الضمة في محل نصب مفعول به) وتلك الكلمة (مفعول معه مبني على الفتحة الظاهرة على آخره في محل رفع مبتدأ)، وما إلى ذلك الهراء والتخريف... وللعلم فإن مدير دار المعلمين تقدم بشكوى، وأتت الموافقة على إلغاء التعاقد مع الأستاذ المذكور مع نهاية الفصل الأول، ولكن الأستاذ أتى بواسطاته، ليتابع التعاقد في الفصلين الثاني والثالث، بل ويستلم مادة ثانية إضافة إلى مادة اللغة العربية!
وزاد قلمي حِدَّةً وسخرية لاذعة من الأساتذة، ومن الهيئة التعليمية بالكامل، وكم من صديق لي اتسعت عيناه ذهولًا، وهو ينظر إليَّ غير مصدق، هاتفًا باستنكار: (هل أنت حقيقة من كتب هذا؟ هل أنت متأكد أنك أتيت إلى دار المعلمين لتصبح أستاذًا؟ لقد بهدلت الأساتذة يا رجل)!
ولكني لم أبالِ بشيء من ذلك، فلقد كان لي جمهوري الكبير من هؤلاء الزملاء، ثم اتسع ليشمل أساتذتي في دار المعلمين، ومن بينهم أستاذ اللغة العربية نفسه (والحمد لله أنني لم أكن قد سجلت إحدى مواقفه في قصصي هازئًا به وقتها)!
ببساطة (صادر) هذا الأستاذ مني دفتر القصص، دخل حينما كان صديقي يعيده إليَّ، فسأل هل هذا دفتر المادة؟ وتبرع صديقي لإخباره بأنه دفتر قصص يكتبها عمر، فأخذ الدفتر وفتحه، وأخذ يقرأ بعض الوقت، ثم قال لي متحمسًا: (سآخذ الدفتر، لأقرأ قصصك على مهل، وأرجعه إليك بعد ذلك)، كان هذا في العام 2001، وطبعًا لم يَعُد الدفتر إلى مكانه بين دفاتري وكتبي، ولم يكذب الأستاذ ويقدم إليَّ الوعود، بل أخبرني بصراحة تامة أنه قرأ كل القصص فيه، وأنه يوميًا يعيد قراءة قصتين أو ثلاث قبل النوم، حتى ينتهي الدفتر، فيرجع إلى قراءتها مرة ثالثة ورابعة وخامسة، ولا يسأم منها، بل إنه لم يَعُد يستطيع النوم، ما لم يقرأ هذه القصص!
(يبدو أنني كنتُ مخطئًا إذ كتبتُ في الصفحة الأولى: قصص ساخرة بقلمي عمر قزيحة)، ولم أكتب (حكايات جدتي) أو (حكايات ما قبل النوم)!
وعاد قلمي ينساب بقوة لأعيد إنتاج كل القصص التي تمت مصادرتها، وإذ طلب مني أستاذ آخر أن يقرأ أخذت أنسخها له على دفتر ثالث، خوفًا من عملية مصادرة أخرى، ولكنه لم يصادرها، بل كتب ملحوظات توجيهية لبعض منها، وأثنى عليها جميعًا، وطلب المزيد، ووجدتُ نفسي أكتب المزيد والمزيد، بحماسة شديدة، ليثني عليها كذلك، ويعتذر لأنه لم يستطع كتابة تقييم إيجابي لكل قصة بقصتها، بسبب ضغوط العمل مع اقتراب الامتحانات.
وأستاذة ثالثة طلبت مني أن أعطيها دفتري لتقرأ قصصي، وكان أن أشادت بتنوع اتجاهاتي القصصية، أسريًا واجتماعيًا، وبتوجهها إلى الأطفال والشباب والكبار على حد سواء، وكل ذلك يملأني فخرًا بنفسي (بكل تواضع طبعًا) :)
وما زال أستاذ اللغة العربية (يتحفنا) بالمزيد، وقبل أن أسأل نفسي ما الذي أثار إعجابه الشديد بقصصي، وهو الذي لا يعجبه شيء، إذ به يخبرني بأن أكثر قصصي تأثيرًا في نفسه، قصة الجرذ،
وأنا نفسي لا أستطيع قراءتها بأكملها دفعة واحدة!
تلك القصة فيها مشاهد لم أعرف كيف تمكنتُ من كتابتها، ومن هذه المشاهد، أن الأستاذ يفتح البراد في بيته، ليرى جرذًا كبيرًا جالسًا هناك، فيجمد مكانه رعبًا، لتأتي زوجه وتسأله لماذا يحدق في وعاء الكوسا باللبن هكذا! بل إنه يصب الشاي من الإبريق، فيفاجأ بأن ما ينزل من الإبريق ليس شايًا، بل دم... دم الجرذ! (كان الأستاذ قد قتل جرذًا في الصف في وقت سابق)، ولا أعلم هل هذه القصة تؤثر في النفس، أم أنني أنا لا أتأثر بشيء، أم أن الأستاذ يمزح معي؟!
لا، لم يكن الأمر مزاحًا، فالأستاذ أتانا؛ بعد ذلك بفترة؛ بمسابقة الامتحان الفصلي، وقبل أن يوزعها لنا، أخبرنا بصراحة تامة: (اخترتُ لكم هذا النص للامتحان، من وحي قصص عمر، بل من وحي أكثر قصة أعجبتني وأثَّرَت بي في قصص زميلكم عمر)، وإذ بالنص عن الجرذ!
أدركتُ مدى صحة المقولة (الناس أذواق وأهواء)، ولكن بعض التعليقات والردود تثير الغيظ فعلًا، ومن ذلك حينما فتحت قريبة لي دفتر قصصي، بعد أن أخذته من أختي، ما كادت تنظر في أول قصة، حتى ارتفع صوت ال (هيهاهاهااااا)، وأخذت كلماتها ترتجف وتتقطع من القهقهة: (قص..صة... مض...حكة..هيهاها... الولد يلعب نيهاهاها)!!!
يا أختي اقرئي أولًا، ثم اضحكي وأتحفينا بآرائك، أو ابقي صامتة، هذا أفضل لكِ ولنا، فأنا لم أكتب قصصي لمهرجي السيرك ليلقوها على مسامع جماهيرهم، حتى تضحكي بهذه الطريقة من قبل أن تقرئي جملتين على بعضهما، ولكن لا بأس، ردة فعلها هينة إزاء صديق لي طلب مني أن يقرأ، فأعطيته دفتري، وما كاد يفتحه، حتى أخذ يقلب صفحاته بسرعة شديدة، لينهي عشر قصص في أقل من عشر ثوان، ويهز برأسه بعدها، قائلًا بمنتهى (الحكمة): (أسلوبك ينقصه التوجيه الصحيح)!
رددتُ ساخرًا: (نعم، أحسنت، أسلوبي ينقصه التوجيه الصاروخي، الذي يشتغل على البنزين الخالي من الرصاص)! فسألني بارتياب: (ماذا تقصد)؟ ولم أرد سوى بابتسامتي المتهكمة، فهرب من نظراتي إلى دفتري، ينظر فيه، ولكن هذه (الأعجوبة) انتهت بعد ثوان معدودة، إذ هتف، كأنه قد وجد كنزًا: (ها أنت تقلد العلمانيين! لماذا كتبتَ أن السيارة انطلقت على الأوتوستراد؟ يجب أن تقول إنها انطلقت على الطريق العام)! فأجبتُه بأن هناك فارقًا كبيرًا بين اللفظتين، في مفهوم من يقرأ قصصي من أولاد منطقتي، فهم يستخدمون كلمة (الطريق العام) قاصدين بها الطريق البحرية، ويستخدمون كلمة (الأوتوستراد) للطرق المخصصة للسيارات السريعة، ومن يريد الذهاب إلى العاصمة، وهو موضع مرور باصات الركاب.
لم يَبْدُ أنه فهم ما أقول، لكني سألتُه بفضول متهكم: (ما دخل العلمانيين بكلمة الأوتوستراد؟ وما دخل غير العلمانيين بكلمة الطريق العام)؟ فنظر إليَّ ببلاهة، كأنه مصاب بالصمم، ثم طلب إليَّ أن يحتفظ بالدفتر، ليقرأ متمهلًا (الحمد لله، بدأ عقله يتحرك)! ثم يعطيني (توجيهاته) فطلبتُ إليه أن يقرأ، محتفظًا بتوجيهاته هذه لنفسه، لأنها لا تقدم شيئًا لأحد.
وتحول الأمر ناحية أخرى مع رفاقي في دار المعلمين، زميلة لي بدأت بال(نق) فوق رأسي، تريدني أن أكتب قصة (معاناتها) مع زميلتنا التي تأخذها كل يوم إلى السوق لتشتري (بابوجًا)، وتقف تتفرج على البابوج نفسه فترة من الزمن، كأنها قد تحولت إلى هندية تقف أمام تمثال بوذا! وبعدها تمشي من دون أن تشتريه، ويتكرر هذا المشهد كل يوم، فراقت لي الفكرة، وكانت (حكاية بابوج)، لكن بعد استئذان صاحبتها أولًا، بطلة القصة، لأن قلمي ينحو منحى السخرية إن اقتضى الأمر، فأذنت بل وتحمست، وأخذت القصة بعد أن كتبتُها، لتقرأها وترجعها إليَّ كما قالت، ولكنها أخذتها وقرأتها وأبدت رأيها في كل مضامينها، ولم ترجعها! (البابوج هو الحذاء المنزلي لدينا، وفي بعض المناطق البابوج هو الحذاء المنزلي للإناث فحسب).
وربما مزقت الأخت القصة، لأن إخوتها؛ كما اعترفَت لي؛ ضحكوا عليها ضحكًا شديدًا، وهم يقرأون القصة، وقد صغتُ أحداثها على أن البابوج هو المتكلم، وكم سُعِدَ هذا البابوج بنظرات (الانبهار) في عينيها، إذ تحدق به يوميًا، ما لا يراه في عيني زبونة أخرى! وحينما اشترتْه؛ أخيرًا؛ بعد تردد ثلاثة أسابيع (فقط)، أخذت تنظر إليه ب(حنان) فتوقع أنها ستضعه فوق رأسها، ولكنها ألقت به أرضًا من دون رحمة أو شفقة بعظامه! لتضعه في قدميها، لا، بل وإنها رفعت قدمها به لتهوي على الصرصور بضربة قاتلة، جعلت البابوج (يقرف حياته)، وأخذ يغني أشعارًا يرثي بها واقعه الأليم هذا!
طبعًا أعدتُ إنتاج القصة كلها بعد سنوات، لكني فقدتُها في ظروف أخرى سأخبركم بها، أما الآن، فإنني أرجع إلى طلبات كتابة القصص، فهذا صديقي في دار المعلمين، وفي منطقتي قبل دار المعلمين، فاز ورفاقه ببطولة كرة القدم لدورة مخصصة للشباب، وكان فوزهم غريبًا جدًا! إذ لم يستطيعوا تنفيذ تسديدة صائبة واحدة طيلة المباراة، وأُرهِق حارس مرماهم المسكين بالتصدي للعديد من الهجمات والفرص، لكنه لم يستطع المحافظة على نظافة شباكه، فلقد تلقى هدفًا، كان كافيًا لخسارة المباراة، لولا أن قلب هجوم فريق الخصم، سجل في مرمى فريقه وفي الثانية الأخيرة (والأخ لم يسجل أي هدف في كل مباريات البطولة، استيقظ آخر ثانية، وليسجل في شباك فريقه)!
وفي الشوط الإضافي الثاني، يتسبب قلب الهجوم هذا بضربة جزاء، للمسه الكرة في منطقة جزائه بيده من دون سبب، ويسددها لاعب فريق صديقي، بمنتهى الرعونة لتضرب العارضة، وهنا يقفز الحارس بطريقة عجيبة، لتهوي الكرة فوق رأسه، وترتفع في أعلى الشباك! ويحصل صديقي ورفاقه على جائزة البطولة...
لم أكتب قصة هنا، بل جمعتُ ما بين القصة والمقابلة الصحافية، والتقرير الإخباري، بأسلوب لم أكتب بمثله من قبل قط، لأتخذ دور صحافي يجري مقابلة مع الهداف الأحمق، الذي يتكلم مؤثرًا في الجماهير، عن الرحمة والحب والتسامح مع الخصوم، فينسون الكأس ويهتفون بحياته، حياة (وحش المستحيل) الذي رحم كل خصومه وأحبهم، ولم يرض أن يسجل في شباكهم، وبلغت به المحبة مبلغًا يندر أن يصل إليه أحد في الكرة الأرضية، ليفجرها في آخر مباراة ويساعد خصومه مسجلًا في شباك فريقه، مرضيًا جماهيره التي كانت تطلب إليه أن يسجل كل مباراة، وهو يعدها ويخلف بوعده، كما كانت المقابلة مع (أبو قرعة) حارس المرمى الذي حقق تصديًا فذًا وهدفًا دوليًا في وقت واحد، ولكن الهدف سيسجل للاعب الخصم، وبالتالي يبقى تصديه الرائع والرهيب للكرة، عنوانًا وقدوة لكل حراس المرمى في العالم، ووجهتُ كلمة شكر مؤثرة لكلٍّ منهما آخر القصة، وأعطيتها لرفيقي ليراها، ثم أنسخها له، لكنه أخذها، مدعيًا أنها (لم تعجبه) وسيعدل بها قليلًا ويرجعها لي لأنسخها، وكان ضياع القصة هنا، لقد خدعني برأيه هذا :) القصة أعجبته حتى النخاع، ولكنه؛ يا لتهوره ورعونته؛ نسخ منها عدة نسخ، واتصل ببعض رفاقه في الفريق الساخر، يخبرهم بأن هناك من يهزأ بهم، طالبًا إليهم التوجه إلى المقهى والنظر إلى الجدران، وذهب بعد ذلك يعلقها على الجدران الخارجية في مقهى الضيعة (فعل ذلك نهارًا، والمقهى لا يفتح إلا مساء).
كل هذا لم أعرفه وقتها، لكن مساء، كنت أستعد للخروج، وإذ بصديق عزيز لي يصل، طالبًا إليَّ، وهو لا يكاد يستطيع التقاط أنفاسه لما بذله من العدو، هذا الأخ كان صديقًا مقربًا لي، ويعرف أنني كتبتُ قصة بهذا المضمون، وأخبرني بما حصل، لقد رأى ذلك المخادع يعلق قصتي في القهوة ويتوارى ضاحكًا كالمجانين، ثم رآهم، حضر بعضهم بداية الأمر، ثم اتصلوا برفاقهم، وكانوا يغلون من الغيظ، وأخذوا يهددون كاتب هذه ال(مقابلة صحفية) بالشرب من دمائه، ودق عظامه بأكملها، لو أنهم تمكنوا من معرفة من يكون! (لم يأتِ المسكينان اللذان هزئت بهما في القصة وحدهما، بل الفريق بأكمله، وانفجروا بالصراخ والتهديد لي، ثم نزعوا القصص ومزقوها ألف قطعة وربما أكثر)!
وكم مرة؛ بعد ذلك؛ أسمع خطواتٍ مسرعةً من خلفي، وأنا عائد إلى بيتي، فأبدأ بالركض، خوفًا من أن يكون الأخ الذي كتبتُ له القصة قد اعترف بمن يكون الفاعل!
ولكني تعلمتُ درسًا قاسيًا، ألا أعطي أحدًا من قصصي هذه ما لم يكن معي نسخة أخرى منها، ولكن حتى هذا الدرس لم ينقذ قصصي من الضياع، ولهذا حكاية أخرى، ولكن الخطوة الصحيحة الأولى هي رفض كل طلب كتابة قصة تسخر من الآخرين، حتى لو كانت سخرية من تصرفاتهم أو أحداثهم، لا منهم هم شخصيًا، ليكتب قلمي وفق ما أحب وأهوى فحسب...
وزادت قصصي غزارة وإنتاجًا، وتحولت بها من القصص القصيرة إلى الطويلة والروايات الاجتماعية، والخواطر الأدبية الساخرة، حتى تلقيتُ في العام 2009 ضربة قاسية جدًا، كادت تدفع بي إلى اعتزال عالم الكتابة القصصية بالكامل، وكان أن تلقيتُ بعدها بثلاثة أعوام صدمة أخرى، كادت تدفع بي إلى الاعتزال مجددًا...
تابعوا معنا (الحلقة الأخيرة) إن شاء الله تعالى.

أ. عمر
26-1-2018, 10:19 PM
11_ الأمل الذي يتهاوى

ظل القلم يطاوعني بفضل الله تعالى سنوات طوال، وبات لديَّ عدد من الدفاتر التي خَطَطْتُ قصصي فيها، وكلما أشتري دفترًا أنظر إلى حجمه الكبير، وأقول لنفسي إنني ربما لن أملأ منه سوى صفحات قليلة، وأجد القلم يطاوعني، بل ويغلبني في الدفق القصصي المتوالي، إلى أن حان العام 2009، ذلك العام الذي حمل إليَّ ذكرى أليمة فعلًا، ولا أعني بهذا ذكرى طلاقي زوجتي، بل لقد سافرتُ بعدها مباشرة إلى السعودية لأداء العمرة، وفي ليلة الرجوع،كنتُ متحمسًا لأبتدئ كتابة قصة مطولة جديدة، أتناول خلالها رحلاتنا الثلاث إلى العمرة (هذه الرحلة واثنتان في سنوات سابقة)، وإذ بسائق الباص يتوقف فجأة في بداية منطقتنا، معتبرًا أنها محطته الأخيرة، وعلينا أن (ندبر أنفسنا)!
وكيف نفعل ذلك، وقد وصلنا قرب الثانية والنصف ليلًا، في غاية الإرهاق، ومعنا حقائب السفر، ومطرة ماء زمزم تتسع ل 20 ليترًا؟ والحمد لله أن إحدى أخواتي اتصلت لتعرف أين نحن، وهل وصلنا، وما إن علمَتْ بوضعي حتى أتى زوجها بسيارته ليعود بي إلى البيت، ولم أصدق أنني أفتح باب بيتي، سأعِدُّ لنفسي كوبًا من الشاي، وأبتدئ الكتابة القصصية، ثم أصلي الفجر وأنام، و... ما هذا؟ أين أنا؟
كدتُ أظن أنني دخلتُ بيتًا آخر غير بيتي، فباب الصالون اختفى من موضعه! وكان عندي ملفات من الأوراق والدفاتر أضعها على الكنبة التي مقابل الباب الخارجي، لم أجد منها شيئًا، تصوَّرْتُ أن أحدًا قام بنقلها من مكانها، ولكني كنتُ أتساءل محتارًا عن (الإعصار) الذي أخذ باب الصالون ومشى!
الأسوأ من ذلك أنني لم أجد علبة الشاي مكانها، ولا حتى جهاز استقبال الإنترنت من الشركة الرسمية، ذهبتُ إلى مكتبتي حيث أضع دفاتري القصصية، مددتُ يدي لأفتح باب الغرفة، وإذ به يتهاوى أرضًا، وأنا فوقه، كاتمًا آهة ألم حادة، متسائلًا كيف وقع هذا الباب، ثم أدركتُ الحقيقة فيما بعد، فلقد كان هناك بابان، واحد أنام فوقه تقريبًا، وقد جرحتُ ذراعي به، والثاني باب الغرفة الثابت موضعه، لا شك أن هناك إعصارًا فعلًا خلع باب الصالون وألقى به إلى إحدى الغرف الداخلية، ولكن، يا له من إعصار منظم مرتَّب! قام بفتح باب تلك الغرفة، ثم دفع بباب الصالون ليقف بين دفتي بابها تمامًا، ما شاء الله! كم نفتقد مثل هذا الترتيب التخريبي المنظم!

قمتُ متجاهلًا آلام ذراعي، والدم الذي يسيل منها، لأفتح الخزانة، وكانت المفاجأة الساحقة هنا... عدد من دفاتري قد اختفى، وتلك الملفات التي كانت على الكنبة لم تكن في المكتبة، بل وهناك دفاتر وجدتُ أجزاء منها، ضاع مني عشرات القصص والروايات والخواطر، وضاع مني تلخيص نحوي وآخر بلاغي، مبسطان أشد التبسيط ليفهمهما من لم يدرسوا اللغة العربية من قبل حتى!
المفاجأة كانت قاسية جدًا، ملأتني غضبًا بالفعل، ولم أعد أستطيع النوم رغم الإرهاق الذي أعانيه، والصداع الشديد في رأسي، ولم أصدق أن أتى الفجر لأتصل بأهلي، وأعرف حقيقة ما حصل في بيتي، وأتت الإجابة المدهشة!
أهلي؛ في غيابي؛ أتوا بامرأة تعمل في تنظيف البيوت لقاء أجر مادي، وما إن علمَتْ الأخيرة بأنني مطلِّق، حتى أرادت أن (تمسح آثار المرأة) من البيت، فكان أن خلعَت باب الصالون، وألقَتْ بكل ما وجدَتْه لي أمامها في النفايات، لا تستثني في ذلك، الدفاتر والأقلام والكتب، ولا الأحذية والجوارب، ولا فرشاة الشعر أو الأسنان، حتى أنني سألتُ والدتي (رحمها الله) لماذا لم تأتِ هذه المرأة العبقرية ببلدوزر ضخم تَدُكُّ به منزلي من مكانه، ثم تُشعِل به النيران، لتمحو آثار من كانت امرأتي من قبل؟ (أما علبة الشاي فكانت في الثلاجة)!! !
لم أستطع؛ بصراحة؛ إعادة إنتاج كثير من الإنتاج اللغوي الذي ضاع مني، كما لم أستطع إعادة إنتاج سوى عدد بسيط من القصص التي ضاعت، بسبب حماقة هذه المرأة التي نظفت البيت، وحتى خلعها باب الصالون كان بحجة محو (الآثار)، ولكنها لم تستطع إرجاعه إلى مكانه بعدها، لذلك لم تخلع باقي الأبواب، والحمد لله أنها لم تتحمس لذلك، وتأخذ بخلع الأبواب، وتكسير البلاط كذلك!
كدتُ أعتزل الكتابة القصصية آنذاك، ولكني تابعتُ، وبكثير من الصعوبة، ووقتها كنتُ أكتب في بعض المنتديات، ثم أجد ما كتبتُه مسجلًا بأسماء الكثير من الناس في منتديات شتى، وكلهم ينسب كتابتي إليه هو! ومرة دخلتُ إحدى تلك المنتديات لأعترض على التي نسخت خاطرة وجدانية لي، عن طفلة فقدتُها (وهي خاطرة أدبية فحسب، وليست حقيقية)، وأخذَت تلك الأخت تتلقى (التعازي) في (طفلتها)! والمصيبة أنها كانت تَرُدُّ بأن (كلماتها) مجرد (أحاسيس وجدانية) جادت بها قريحتها!
وحينما رددتُ متسائلًا لماذا لم تنسب الخاطرة إلى صاحبها؟ انفجرت الأخت بالشتائم، وأنه من حقها أن (تنقل) ما يعجبها وتسجله باسمها، وأن الإنترنت ليس مسجلًا باسمي أنا حتى تستأذن، فأفهمتُها بأن من حقها النقل، لكن نسبة النقل إلى شخصها الكريم، يُعتَبَر سرقة، فكان الرد أنني تلقيتُ الحظر من إدارة المنتدى!
وأحمق آخر، لم أجد لحماقته مثيلًا، كنتُ قد سجلتُ العام 2010 قصيدة شعرية عروضية لوالدي، وكتبتُ آخرها أنها (بقلم والدي: د. رياض قزيحة)، ففوجئتُ بأن الأحمق قد نسخها حرفيًا ،وأعضاء المنتدى يهنئونه بهذا الأب المبدع! وهو يَرُدُّ التهاني بكل تواضع وفخر، ولم أحتمل هذه السماجة، فسجلتُ عضوية، ودخلتُ أسأله إن كان (د. رياض قزيحة) هذا والده أم والدي؟ وكان الرد أنني تلقيتُ الحظر من إدارة المنتدى كذلك!
وخاطرة أخرى عن طفلة فقدتُها، خاطرة تجمع بين الشعر والنثر، وجدتُ أن أخًا ما، بل مدير منتدى، قد سجلها باسمه، في القسم الإسلامي، منتدى النفحات الإيمانية! ولم أعلم ما علاقتها بالإسلام والإيمان، فأنا لا أتناول بها مسائل العقيدة والفقه، ولكن الأخ كان متفهمًا هنا، وردَّ بكل أدب واحترام، معتذرًا أنه لم يكتب اسم صاحبها، ونقلها إلى قسم الأدب والخواطر، مسجلًا آخرها أن الخاطرة للكاتب (عمر قزيحة) وأنه مجرد ناقل، ولكن.. .رغم ذلك ظلت فكرة الاعتزال تراودني، وأنى لي أن ألاحق كل من يأخذ ما أكتب ليسجله باسمه؟ ثم لو لاحقتهم فعلًا فلن يخلو الأمر من الجدال السخيف الذي قد لا يؤدي إلى نتيجة إلا فيما نَدُر.

ولكن العام 2012 حمل إليَّ أملًا كبيرًا، أملًا في تحويل أعمالي إلى الجمهور اللبناني، ثم العربي، وذلك عبر محطتين مختلفتين، أولاهما كانت حينما التقيتُ بأحب رفاقي، الصديق الرائع محمد، صاحب موقف (أعجبتني كثيرًا)، والذي نزلت العارضة الخشبية فوق رأسه من ركلة الجزاء التي (أتحفْتُه بها)، التقينا وذهبنا نتناول؛ صباحًا؛ وجبة لحوم مشوية متنوعة، ثم اتجهنا إلى مركز للإنتاج والتوزيع الإعلامي، لأرى إن كان الختم الخاص بي قد بات جاهزًا أم لا، وكانوا عند كلامهم المسبق وموعدهم، فاستلمتُ الختم، وكدتُ أغادر، لولا أن استوقفني أحد الشباب هناك، شاب كنتُ أعرفه بالشكل فحسب، وتبادلتُ وإياه أجهزة الهاتف الجوالة قبل ذلك بسنوات، المهم أنني لبَّيْتُ نداءه لأرى ما يريد، وتوقفتُ ومحمدًا، ويا للكارثة! يا للهول! إنه يريد أن يأخذ (رأيي القيِّم) في أشعاره!
لا أحد يعرفني على أنني شاعر، فلماذا يريد الأخ رأيي؟ جلستُ متحفزًا للفرار، وقد كان ذلك حال صديقي محمد، فكلانا لم ننسَ تجربة سابقة لنا مع شاعر متحمس في أحد المساجد، جعلنا نولي فرارًا من أشعاره، وهو يطاردنا صارخًا بها، ملوحًا بيديه، كالمجانين، حتى كاد يصعد معنا إلى منزل صديقي آنذاك، ليتابع إلقاء قصائده الدولية تلك!
الحمد لله أن هذا الأخ لم يكن كذلك، بل كان يريد رأينا في أبيات قليلة قد نظمها، ثم أخبرنا أن لديه خبرة في المونتاج، وإن كان لديَّ قصائد شعرية، يمكن له أن يصنع منها فيديو كليب يُعرَض في القنوات الإسلامية، ويا لها من أمنية! أن يظهر اسمي على أنني صاحب القصيدة على الشاشات الفضائية!
ولأنني أعرف أن ما أكتبُه ليس بقصائد، ولا يصلح للغناء الشعري، كدتُ أنفي له هذه الفكرة، ولكن صديقي محمدًا سألني متحمسًا (لماذا لا تعرض له قصيدتك التي ترثي بها الطفلة)؟
بدا الاهتمام في أعين الشاب، واسمه مصطفى، لكني لم أتحمس هنا، بل سألتُه إن كان يعرف شخصًا يمكن أن يحول قصصًا لي للتمثيل التلفزيوني، فأخبرني بأنه يعرف، ولماذا لا يعرف؟
تجدد الأمل في نفسي، وقد كان يراودني منذ سنين طوال، وفي منزلي جهزتُ عددًا كبيرًا من القصص والخواطر لأرسلها إلى الإيميل الذي أعطانيه مصطفى، ولكني لم أتلق ردًا، حتى نفد صبري بعد أسابيع، فرجعتُ إلى ذلك المركز، والتقيتُ بالأخ مصطفى، ولقد استقبلني متحمسًا، معلنًا إعجابه بكتاباتي القصصية أيما إعجاب، وحتى قصيدة (جالت بخاطري ذكراكِ أميرتي) سيحولها إلى (موال) مع مؤثرات صوتية، وتُعرَض في طيور الجنة، إن أحببتُ ذلك، ولكني لم أحبَّ ذلك! لا لأنه سيحولها إلى (موال) لا (أنشودة)، بل لأن القنوات لا تتبنى الفيديو كليب، بل تتركه لصاحبه، وليتولى تكلفته المادية بنفسه، فإن فشل فالقناة لن تخسر شيئًا، وإذا ما نجح يمكن التعاقد معه فيما بعد، وتكلفة إنتاج هذاالفيديو كليب كانت تزيد عن راتبي الشهري بخمسة أضعاف (فقط)، فتركتُ الفكرة كلها، أما القصص فأخبرني مصطفى بأنه سيحولها إلى مخرج متميز متمرس، ما أعاد الأمل إلى نفسي، ستتحقق أمنيتي السابقة إن شاء الله، ستتحقق، ولكن... هل ستمر الأيام من دون أن يتصل مصطفى بي؟ لقد أعطيتُه رقم هاتفي، ولكن أرجو ألا (ينام) كما فعل حينما أرسلتُ إليه الإيميل، لا، بل اتصل، وفي اليوم نفسه، اتصل ليخبرني أنه جالس في مكتب المخرج، والأخير يريد أن يطلب مني كتابة شيء ما ليُعرَض على المسرح، ويا للفرحة الغامرة! ولكن... لقد طلب مني المخرج طلبًا غريبًا، غير متوقع على الإطلاق.

وضعتُ السماعة، وأنا أفكر في هذا الطلب، المخرج لم يطلب قصة قصيرة، ولا رواية اجتماعية، ولا حتى قصة بوليسية (وإن كنتُ لا أكتب مثل هذه الأنواع إلا تهكمًا، لا كقصص جرائم حقيقية)، ولكن كل شيء يهون، إلا أن يطلب إليَّ المخرج كتابة نص عن السيرة النبوية الشريفة!
لقد أرسلتُ إلى مصطفى قصصي وخواطري، وتوقعتُ أن يكون طلب المخرج متعلقًا بها، وهناك الكثير من الكتب التي تتناول السيرة النبوية الشريفة، ولستُ بأفضل من العلماء الذين كتبوها، بل لن أتساوى معهم بشيء، فلماذا يطلب مني المخرج هذا الطلب؟ بل وآخر مهلة للتسليم في اليوم التالي، الساعة السادسة مساء!!
رغم ضيق الوقت، لم أضايق نفسي، فالصداع كان شديدًا (بداية إنفلونزا)، فتركتُ كل شيء، ونمتُ بعمق، متسائلًا؛ قبل أن أغفو نهائيًا؛ كيف أنام، وأمامي هذا الطلب، والمهلة الأخيرة لا يفصلنا عنها وقت طويل؟!
رغم أن الأجر المادي سيكون كبيرًا، يزيد قليلًا عن راتب شهر كامل، إلا أنه لم يكن الحافز لي لخوض التحدي، بل لأنني أردتُ أن أكتب في مجال آخر غير الذي اعتدتُه، أردتُ خوض التحدي، لعل ذلك يكون بداية لانتشار قصصي ورواياتي، واتصل بي الأخ مصطفى ليخبرني بأنه قد كتب عن السيرة النبوية، ويريد لقائي لنتعاون سويًا لإتمام النص، وضايقني هذا، فلستُ مع فكرة كتابة النص الثنائي بأي حال، ولا أعارض ذلك بشكل عام، ولكن عن نفسي، أكتب ما يحلو لي، ولكني ذهبتُ للقاء مصطفى، وكان قد كتب عددًا من المقدمات، طالبًا رأيي، ولم أبخل عليه بالتدقيق وإعادة الصياغة اللغوية، ولكني أخبرتُه؛ بصراحة تامة؛ أنني لا أجد أي مقدمة فيها تصلح للعمل المطلوب، ولا حتى لسواه، وأخبرتُه بكثير مما أعرفه من السيرة النبوية، وهو يسجل الأفكار،
ولكن لم يكن بإمكاننا أن نكتب كما يحلو لنا، فالمدة المتاحة عشر دقائق لا أكثر، وسيكون فيه مؤثرات صوتية، ويَتَخَلَّلُهُ مقاطع إنشادية، فالنص لمسرحية إسلامية ضخمة تُحضَّر بدعم كثير من الجهات والشخصيات الإسلامية، وهناك شباب آخرون، ربما يكون بعضهم؛ أو أحدهم على الأقل؛ قد كتب نصوصًا أخرى، ما ضايقني بحق، إما أن يُطلَب العمل مني أو من غيري، لستُ في مجال التنافس والمسابقات مع أحد.
وهنا وجدتُ نفسي مترددًا هل أكتب أم أنسى الفكرة؟ وقبل دقائق قليلة من موعد لقاء المخرج، طلبتُ ورقة أخرى، وتركتُ العنان لقلمي، ينطلق كما يحب، مستمتعًا بالصراع مع الوقت، وبالتحدي الذهني الرهيب، فهناك الكثير والكثير مما يمكن ذكره في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف أختصر كل ذلك في أقل من عشر دقائق؟!
وهكذا، وجدتُ أنني أقوم بعمليات عقلية كثيرة، تنظيم الأفكار، الكتابة، توازن العبارات الممنوحة لكل فكرة، تسلسل الأحداث، وحينما انتهيتُ كنتُ ألهث تعبًا، لكني اتجهتُ بورقتي هذه مسرعًا إلى مصطفى الذي هتف بدهشة: (هل كتبتَ النص)؟ أجبتُه بالإيجاب، فتناول الورقة، وأخذ يقرأ النص، ثم هتف بدهشة أكبر: (كيف تكتب بهذا الأسلوب)؟
حاولتُ جاهدًا، وفاشلًا، أن أظهر بمظهر التواضع، ولكن ابتسامة الفخر كانت كبيرة، وإحساسي بأنني كاتب رائع يتنامى في أعماقي! (بكل تواضع طبعًا) :) واستطرد مصطفى بحماسة: (إنه سخيف جدً)!
اتخذتُ قراري هنا بالرجوع ونسيان فكرة المخرج والنصوص كلها، وكفاني (تشردًا) خارج منزلي من الصباح إلى المساء، ولكن كانت هذه نصيحة مصطفى نفسه! طلب إليَّ ألا أعرض النص (السخيف) على المخرج، فطلبتُ إليه أن نتَّجه فورًا إلى المخرج، للحاق بوقتنا، وكان لقائي الأول به، وببعض الشباب في مكتبه، لتكون جلسة لا تُنسَى، وفهمتُ منها ما أخطأ مصطفى فهمه.
لم يطلب المخرج منا كتابة نصوص في الموضوع نفسه ليختار الأفضل، بل هناك شاب مكلف بكتابة مسرحية بين شخص ملتزم وآخرين عابثين بالدين، وشخص آخر يقرأ مجلدات في السيرة النبوية، فالتمويل (الافتراضي) كان هائلًا، والربح المتوقع منه أضعاف قيمة التمويل هذه، لكن كل ذلك لم يكن مهمًا لي، بل ما كتبتُه، كنتُ أنظر إلى المخرج وهو يقرأ ورقتي، مترقبًا رأيه، وأتى هذا الرأي، الرأي الرائع فعلًا، لقد قال المخرج كلامًا على غرار (دعست لي على بطني، أو في بطني) أو شيئًا قريبًا من ذلك...
نظرت إليه في تساؤل، فأردف قائلًا في حماسة: (إنه أفضل نص أقرأه منذ زمن، هذا ما أريده بالضبط، أسلوب بسيط يتمتع بالقوة ويخلو من التعقيد، لقد حققتَ كل ذلك)!!
لم أتمالك نفسي من النظر إلى مصطفى في شماتة لرأيه في أسلوبي، رغم احترامي كل الآراء، وزاد في الشماتة رفض المخرج للمقدمات التي كتبها مصطفى كونها خارجة عن المطلوب، ثم طلب مني المخرج تولي عمل أحد الزملاء (كتابة المسرحية بين الملتزم والعابثين)، لأن الزميل بارع بالإلقاء، لا بالكتابة المسرحية ولا القصصية، فأخبرتُه أنني مستعد لذلك، فطلب إليَّ؛كذلك؛ كتابة أشعار عن الصفات التي كان يتمتع بها النبي صلى الله عليه وسلم، لكني لم أعده بذلك كون الشعر لا يأتيني في أي وقت كان، ثم أشاد المخرج بقصصي (الرائعة)، طالبًا أن أحكي للشباب قصة (الكاميرا الخفية)، ففعلتُ ذلك لتنال استحسان الجميع، والحمد لله تعالى، ثم غادرنا مكتبه، والأمل في نفسي كبير، سَيَتِمُّ تقديمي؛ نهاية المسرحية الإسلامية؛ أمام الحضور على أنني الكاتب (الرائع)، وأنني صاحب النص (المدهش)، ويا للفخر!
بدأتُ كتابة المسرحية فور وصولي إلى منزلي، مع كوب الشاي المعهود بلا سكر، ثم أرسلتُها إلى إيميل المخرج، لِيَرُدَّ بعد فترة باتصال هاتفي، يهنئني به على القوة الإبداعية في كتاباتي (هكذا وصفها، لا أصف نفسي)، وأخذتُ أنتظر يوم العرض الكبير، يوم الفخر، ولكن...

سحب الممولون تمويلهم! أرادوا أن يكون العرض أضخم، ويتعدى مناسبة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ليكون عملًا عامًا، وسيدخل معنا عدد آخر من الكتَّاب والشعراء، والتمويل سيكون ضخمًا جدًا، وبالتالي رواتبنا ستكون أعلى بكثير، وأسعدني هذا طبعًا (عملان أدبيان وستكون أجرتهما ألفي دولار وأكثر)، أكثر من راتب ثلاثة شهور، ولكن... ما زلنا مع (لكن) هذه، انتهى كل شيء فجأة، اختلف الممولون فيما بينهم، وطارت الفكرة (نهائيًا) إلى السنة المقبلة، وما زالت تلك السنة المقبلة لم تشرفنا بعد! ثم أخبرنا المخرج بأن العمل انتهى إلى غير رجعة، ومن دون سبب، إلا خلاف الممولين فيما بينهم، ولا نعرف سبب الخلاف، ولا مدى خطورة مثل هذا الخلاف حتى لا يستطيع أحد أن يَحُلَّه!

أخبرني مصطفى عن مخرج آخر، وأعطاني موعدًا فجائيًا لم أكن مستعدًا له، فحملتُ جهاز اللابتوب الخاص بي، متجهًا إلى طرابلس، إلى أحد المحلات التي أتعامل معها، لأشتري فلاش ميموري، متابعًا إلى المركز الذي يعمل به مصطفى، لأفتح اللابتوب وأنسخ كل القصص والخواطر إلى الفلاش، ثم اتجهنا _ أنا ومصطفى _ إلى مقابلة المخرج، بطلب واضح محدد، فهذا المخرج أخرج وشارك في التمثيل، عامين متتاليين، في مسلسل اجتماعي عُرِض على إحدى القنوات الفضائية الخاصة بتقديم أناشيد الأطفال، وتبثُّ على القمرين النايل سات والعرب سات، وكان طلبي هل تصلح إحدى قصصي أو بعضها للتمثيل الكوميدي أو الاجتماعي؟ وهل تشتريها القناة المذكورة مني؟

وكانت الإجابة الصادمة، القناة نفسها طلبت إليه وإلى رفيقيه في المسلسل إعداد حلقات هذه السنة وتمثيلها، والبحث عن الممولين كذلك! فالقناة مشغولة بتمويل برنامج ترفيهي لديها، ولم أعد أفهم ما يحصل، ولا كيف يُنظَر إلى الكتابة الأدبية في بلادنا؟ هل على الكاتب أن يبحث عن الممولين ويذهب بهم إلى القنوات الفضائية؟! لماذا لا يخصص الكاتب لنفسه؛ إذًا؛ مكافأة مادية يقتطعها من راتبه الشهري، على أنها أجرته في ما يكتبه من القصص التي سَيَتِمُّ تمثيلها؟!
طلب إليَّ المخرج أن أزوره لاحقًا، ومن يدري؟ فرجعتُ إليه بعد حوالي أسبوعين، والأمل في أعماقي لايتجاوز صفرًا في المئة، وأخبرني المخرج بأن قصصي راقَت له كثيرًا، ولكن لم يَتِمَّ العثور على الممولين، لم يعثر سوى على اثنين، كل منهما يتبرع بتمويل حلقة واحدة، وبالتالي لن يرى المسلسل النور، لأن القناة تريده متسلسلًا بثلاثين حلقة، لتعرضه في شهر رمضان، فأدركتُ بأن ما أسعى إليه ليس سوى سراب، ومع هذا، خطر لي أمر ما، فسألتُ المخرج بفضول: (ماذا عن الكاتب؟ هل سيرضى _ لو وُجِدَ الممولون _ أن يشاركه الكتابة والأجر المادي شخص آخر)؟
أجاب المخرج بالإيجاب، فاتجهتُ للمغادرة، عالِمًا بأن الإجابة _ مهما كانت _ لن تغيِّر من الواقع شيئًا، وهنا وصل الكاتب، وجلسنا سويًا، قرأ الكاتب كثيرًا من القصص، وضحك لفكرة قصة(الكاميرا الخفية)، وأُعْجِبَ بقصة (إعلان) إعجابًا شديدًا، مع أن القصة الأخيرة تحوي ثغرة كبيرة (وكنتُ منتبهًا لها من دون مبالاة بها، لأني أهدف إلى أمور رئيسة، تتمثل بإبراز دور الإعلانات السلبي، واهتمامنا غير المفهوم بكل ما هو نشاز، والأكثر أهمية، وضع الرجل المناسب في المكان غير المناسب، ووضع الرجل غير المناسب في مرتبة القيادة التي لا يستحقها)

أخبرني ذلك الكاتب أنه يستطيع سد هذه الثغرة، فيما لو تمكنا من إنتاج المسلسل، ولكنه يحتاج وقتًا طويلًا للتفكير، فأخبرتُه بأنني أستطيع إعادة إنتاج القصة وسد الثغرة في جلسة واحدة، ولايوجد عندي مشكلة في تغيير المبرر (المخرج أصابه الذهول) إلى حركة واقعية ضمن أحداث القصة، تتناسب مع الأحداث والسياق تمامًا.
فتلك القصة كتبتُها لنفسي بادئ الأمر، أما الآن فإنني أحاول نشرها كقصة ممثلة، تُعرض للمشاهدين، لذا، أعدتُ إنتاجها بعد رجوعي إلى البيت، مغلقًا الثغرة بخطوات منطقية، مضيفًا إلى الأحداث ما أراه مناسبًا، لتصبح وفق الشكل الآتي:

إعلان
المضطر يفعل أي شيء كان!
هذا ما قاله وليد لنفسه وهو يكاد يتميز من الغيظ
وليد هذا خريج من كلية الإعلام بتقدير الامتياز الأول
ومع هذا لم يجد أي عمل إلا بالمؤسسة المزعجة هذه
مؤسسة إعلامية عجيبة جدًا، مديرها لا يحمل شهادة إعدادية
لكن الضرورات تبيح المحظورات
والمضطر يركب الصعاب

_ سوف تكون مقدم إعلانات
قالها مديره حميد في برود تام
فانتفض وليد في مقعده صارخًا:
_ مقدم إعلانات؟؟ أنا؟!
رد المدير في ازدراء تام:
_ نعم، أنت.
وأضاف في لهجة استحقارية تامة:
_ هذا هو مستواك الإعلامي يا رجل،
وإن لم تكن موافقًا، فتفضل، الباب (يطلع جمل)!!
أحس وليد برغبة أن يقوم من مكانه ويخنق المدير
يا ترى لو فعل هذا، فهل تعتبر هذه جريمة!!
لكن لا يا وليد، اضبط نفسك وتمالك أعصابك
ثلاثة شهور وأنت تبحث عن عمل ولا تجد
كل المؤسسات الإعلامية مكتفية وممتلئة عن آخرها
وهنا فرصتك الوحيدة لإبراز مهاراتك الإعلامية الحقيقية
ومن يدري بم يأتينا الغد؟
ربما ستصبح أفضل مقدم نشرة أخبار في الشرق الأوسط
أو ربما تصبح _ كما تحلم من أيام طفولتك _ مراسلًا صحفيًا في الدول
الأوروبية

_ لن يحصل هذا أبدًا.
قالها المدير، وكأنه قرأ أفكار وليد
وقبل أن يعترض المسكين
وقف المدير يتابع كلامه بصرامة:
_ رفيق طفولتي ومشاغباتي وحياتي كلها ممدوح، سيكون المراسل الصحفي الخاص بنا في المكان الشاغر الوحيد.
وقف وليد، ووجهه يتلون بألوان الغضب
لكن المدير لم يبدِ أدنى اهتمام به أو بمشاعره..
وإنما أشار بيده مضيفًا في شماتة تامة:
_ للمرة الأخيرة يا وليد، إما أن توافق على تقديم الإعلانات، أو (الله معك) لا نحتاج إليك!

ما هذا الزمن المقلوب هذا يا وليد؟؟
أنت تتعب وتدرس وتسهر الليالي
وأهلك يدفعون لك المبالغ الجنونية
كل هذا لأجل أن تكون الأول على دفعتك
وبعدها يتحكم فيك ولد مثل هذا لا يحمل أي شهادة؟
وممدوح (الزفت التاني) هذا كان في صفك ورسب
وشهادته الوقت أقل من شهادتك
بأي منطق سوف يكون المراسل الصحفي وأنت تقدم الإعلانات؟!

_ ماذا قررت يا رجل؟!
زمجر المدير في ضجر غاضب للانتظار
فابتلع وليد ريقه بصعوبة بالغة
وتمتم بصوت منخفض مختنق كله أسى ومرارة:
_ مو....موا.........موافق
وابتسم المدير في ظفر
وأشار بيده قائلًا في (تسامح) مصطنع:
_ استعد للتدريبات يارجل، الإعلان المساء عن معجون الأسنان
وكاد وليد ينفجر من شدة الغضب
مرارة هائلة تلك التي ملأت قلبه
مرارة هائلة كانت، وبحق
لقد بدا له أن مستقبله الذي طالما رسمه بأحلى الصور في ذهنه قد انتهى
بل تدمر وبلا رحمة
وكل ذلك، بسبب إنسان تافه لا قيمة له سوى الواسطة
وليت الأمر اقتصر على هذا، لربما حاول وليد أن يتغاضى عنه
أما أن يرى زميلًا له، أقل مستوى منه بما لا يقاس، يستولي على منصب، وليد أحق به، فهذا ما لا يمكن احتماله

_ هل أنت مستعد لبدء التدريب؟
انتفض وليد من المفاجأة، إذ لم ينتبه لقدوم أحد، وهو شارد في أفكاره هذه،
واستدار مسرعًا، ثم هتف في دهشة:
_ ناصر، ماذا تفعل هنا؟
رد ناصر في (شموخ):
_ ما هذا السؤال؟ أنا هنا لتدريبك يا رجل!
ردد وليد في استنكار:
_ تدريبي؟! ما معنى هذا المزاح؟!
أجابه ناصر مبتسمًا:
_ أخبرني المدير أنك ستقدم الإعلان عن معجون الأسنان مساء،
وأنا هنا لتدريبك على (فنون) إلقاء الإعلانات.
وقبل أن يعقب وليد بكلمة، أو يستوعب الوضع تمامًا،
تابع ناصر في زهو:
_ أنا هو المخرج يا رجل!
وكانت الانتفاضة الثانية لجسد وليد
انتفاضة ملؤها الاستنكار والرفض لما يرى ويسمع منذ دخوله حياته العملية..
(أغبى) طالب في كلية الإعلام في تاريخها كله، كما وصفه الأساتذة هناك أيامها، هو... المخرج!!

آه يا زمن، ما أقسى هذه المفاجآت!!
ناصر الذي كان (يجري) خلف وليد في ساحةكلية الإعلام، ثم يأتيه في بيته ساعات وساعات، طلبًا للمساعدة وإعادة الشرح، سيكون مدربًا له الآن!!
وليد الذي نال تقدير الامتياز الأول بأعلى نتائج حققها في كافة المواد على صعيد الوطن بكامله
وليد الذي حقق نتائج مبهرة ومدهشة لكل أساتذته في كافة مجالات العمل الإعلامي
من إنتاج وإخراج ومراسلات صحفية وتغطية إخبارية أيام المواد النظرية والتطبيقية
يجد شخصًا كان يتضرع إليه أن يسمح له بالغش عنه في الاختبارات، وقد بات مدربًا له!!

_ أمسك بهذا.
مد وليد يده يلتقط في آلية، من دون أن يعرف ما هذا الذي يمسكه،
ثم انتبه إلى نفسه، وهو يهتف في دهشة:
_ ما الذي...
قاطعه ناصر، مشيرًا بيده، ظنًا منه أنهذا دليل على كونه (محترف) إخراج:
_ هذه أنبوبة معجون للأسنان، يجب أن تحملها في يدك، وأنت تلقي بإعلانك، و...
قاطعه وليد في غضب:
_ لم أسألك عن هذا، بل عن...
انطلق صوت المدير حميد في هذه اللحظة، ليقاطع وليدًا بدوره:
_ ناصر، أريدك في مكتبي قليلًا.
نظر إليه وليد في مقت، فتابع مبتسمًا:
_ وانتظرنا هنا يا وليد، دقيقة أو دقيقتان على الأكثر،
وسيرجع ناصر إليك، ليتولى أمرك!!

ودوت الكلمتين الأخيرتين (يتولى أمرك) في ذهن وليد
بل كادتا تدمران أعصابه تمامًا
ومع خروج المدير والمخرج، وجد وليد نفسه وحيدًا في غرفة
التدريبات، وفي يده أنبوبة معجون أسنان.

كل شيء قام بحسابه منذ تخرج، بل منذ دخل، كلية الإعلام، إلا هذا!!
لم يخطر بباله قط أن يتم (دفن) مواهبه في عمل تافه كهذا!!
لم يجل في ذهنه، ولا مرة، أن يجد من هم أدنى منه علميًا، وقد باتوا يتحكمون بأمره في العمل
وألقى وليد بنظرة متحسرة إلى الأجهزة الإعلامية
لكم اشتاق إلى التعامل معها
أن يمسك الميكروفون
أن يقف خلف الكاميرا
أن يدلي بتعليق أو يقدم تقريرًا صوتيًا على الهواء، و...
وهنا، خطرت في بال وليد فكرة أقل ما يقال عنها إنها مجنونة
بكل معنى الكلمة.

_ الحقيقة، لست أريد منك شيئًا يا ناصر.
كان ناصر على وشك الجلوس آنذاك، لكنه توقف مبهوتًا، حين سمع كلمة المدير هذه،
فهتف في دهشة:
_ كيف؟ أنت قلت لي...
قاطعه حميد مبتسمًا:
_ كان هذا فقط في محاولة مني لــ(ترويض)وليد، أردته أن يذوق شعور المنتظر ليتدرب على الإعلان، بدلًا من قرفه هذا، سيطول انتظاره الآن، ولن يبقى له من هم إلا أن (يرجع ناصر ويخلصني بقى.. ورح أقدم مية إعلان مش واحد).

ابتسم ناصر معجبًا بعبقرية مديره الفذة والتي ندر مثيلها، ولقد تابع الأخير في اشمئزاز واضح:
_شهادات؟ ما الذي تفعله الشهادات بأيامنا هذه؟ ترى كل شخص لا يعرف رأسه من رجليه يحمل شهادة ويأتي إليك مطالبًا إياك بأن تجعله أفضل الموجودين.
وتحولت لهجة حميد إلى الغرور، مع استطراده:
_ صدقني يا ناصر، من أول نظرة مني إلى وليد، أدركت أنه لا يفهم شيئًا في أصول الإعلان،
وأنت تعرف (فراستي) الرائعة في هذه الأمور.
أسرع ناصر يقول متملقًا:
_ فعلًا، حتى أنك أدركت (مواهبي) في الإخراج من أول لحظة رأيتني فيها.
رد حميد، وغروره يزداد:
_ بالتأكيد، أما وليد فهذا أفضل ما حصلت له عليه، وإن كنت أعلم أنه لن يتوقف عن الشكوى
والتذمر، حتى لم أعد أستبعد أن يخرج لي من شاشة التلفاز، ليسمعني اعتراضاته!
هَمَّ ناصر بأن يقول شيئًا ما
أراد أن يعقب منافقًا مديره ليكسب رضاه أكثر
ولكن الأخير فوجئ به، تتسع عيناه في دهشة كبرى، وبإصبعه يشير مرتجفًا
إلى ما خلف مقعده
واستدار حميد ليرى ما هناك
ثم كادت عيناه تغادران محجريهما
فعلى شاشة التلفاز المضاءة خلفه
برز مشهد عجيب
إلى حد لا يمكن تصديقه
بأي حال كان.

لو أننا أردنا وضع عنوان مشترك للحالة العامة التي مر بها الجميع
في تلك الأمسية، لاحتلت كلمة (الدهشة) الصدارة بكل جدارة
وما نقصده بكلمة (الجميع) المعنى العام للكلمة
فالدهشة لم تكن خاصة بناصر وحميد وحدهما
أو حتى بطاقم العمل في المحطة الإعلامية بأكمله
بل؛ كذلك؛ بكل المشاهدين للمحطة
فلقد انقطع البرنامج فجأة، لتظهر صورة شاب وسيم ينظر
إلى الكاميرا في سخرية، وملامحه تنطق بالتهكم وإن لم يتكلم..
وتسمرت العيون _ كل العيون_ على الشاشة حين أخذ هذا
الشاب يلوح بيديه في حركات معتوهة تمامًا، وجسده يترنح
متمايلًا، وكأنما يغني إيقاعًا خاصًا به
ثم مد الشاب يده يلتقط شيئًا ما، ليرفعه أمام عدسات الكاميرا
وكان هذا الشيء أنبوبة من معجون أسنان
وارتسمت ضحكة على وجه الشاب، كادت تبتلع وجهه بالكامل،
وهو يقول:
_ معجون سنان، معجون سنان، بيسبب هريان، معجون سنان،
بيعملك سعدان، معفن جربان، كلك هريان ،راسك ضربان،
أبو أمل وسيبان، معجون سنان، معجون سنان.

وللصراحة والأمانة، لم يقل الشاب هذا
وإنما (غناه) بصوت منكر أجش، كأنه حمار ينهق بعد أن سُدَّ حلقه بملعقة!!
وتزايد ترنح جسد الشاب وتلويحه بيديه، وارتفع صوته وازداد نشازًا، وهو يتابع:
_ معجون سنان، معجون سنان، يا بابا معجون سنان، معجون سنان،
معجون سنان، يا بابا معجون سنااااااااااااااااااااااان!!

ومع انقطاع البث، ارتفع صوت ناصر يهتف في استنكار، وصوته يتقطع من اللهاث:
_ أيها الحقير! قمتَ بتشغيل الأجهزة، لتحول بث (بهمنتك) هذه إلى الهواء! كيف خطر لك القيام بعمل أحمق كهذا العمل أيها المجنون؟
انفجر وليد ضاحكًا، وكلمة (المجنون) تدوي في أذنيه
كان يبدو وكأنه قد فقد عقله فعلًا
أو أن كلمة (المجنون) قد أصابته فعلًا بـ(الجنون)!!
لكم اعترف ناصر نفسه بذكاء وليد، وأشاد بهذا أيام الدراسة في الكلية
واليوم بات وليد (مجنونًا) في عين من لم يكن ليرى النجاح لولا أن كرس وقته له بكل شهامة

_ لقد جن المدير وكان سيأتي إلى هنا ليضربك، لولا أن منعته من هذا
نظر إليه وليد بطرف عينه في استخفاف واضح
وأخذ يرفرف بجفونه ويحرك برموشه، وكأنه يستمع إلى كلمات الغزل ويستمتع بها
وفقد المخرج أعصابه تمامًا
وضم قبضته واتجه ناحية وليد ليضربه

_ ولييييييييييييد تعاااااااااال إلى مكتبيييي حااااااااااااااالًا
انطلق صراخ المدير المدوي يجلجل في تلك اللحظة، في أركان المؤسسة الإعلامية كلها
ليمنع _ من دون أن يدري _ تشابكًا بالأيادي، كان على وشك الاندلاع ما بين ناصر ووليد
ولقد قهقه الأخير ضاحكًا في شماتة، واتجه نحو مكتب المدير وهو يغني:
_ لالالالالا..ترالللللااااااااااااااا......لالالالال الاااااااااااااااا
ودخل مكتب مديره متابعًا غناءه السعيد
وجلس يمد رجليه فوق بعضهما
وهو يقول في استهانة:
_ خير؟
صاح المدير في جنون:
_ ماذا فعلت أيها التعس؟ أكيد أنت مرتش لتدمر مؤسستي هذه، مدير شركة المعجون اتصل بي ويطالب بالتعويضات، سوف ندفع كل الخسائر ونرد له اعتباراته المعنوية، بكلمة واحدة، سوف نفللللللللللللللللسسسسسسسسسسسسسسسسس
قهقه وليد وكأنه استمع إلى دعابة طريفة
وارتجف جسد حميد، وهو يفكر أن ينضم إلى قبائل أكلة لحوم البشر!!
وقتها سيلتهم المجنون الجالس أمامه، والذي يحمل اسم وليد!!

_ تررررررررررن
ارتفع رنين الهاتف لحظتها
وفي توتر واضح، رفع المدير السماعة قائلًا:
_من معي؟
استمع لحظات
ثم صاح في ذهول تام:
_ مستحيييييييييل
ولم يكد يضع السماعة
حتى ارتفع الرنين ثانية ومزدوجًا
لهاتف المؤسسة ولجوال المدير
وتوالت الاتصالات وبدأت آلات الفاكس تستقبل أوراقًا بغزارة
وتصبب العرق من جبين حميد وهو يتابع كل هذا الضغط المباغت
أما وليد فكان يمر بأحلى لحظات حياته
لا شك أنها إهانات مستحقة يتلقاها(الأبله) المدير
ذلك كي يتربى ويتعلم أن (الناس مقامات)
أما المدير المسكين فما كادت تسنح له ثانية لم يرن فيها الهاتف
حتى أسرع هو يضرب الأرقام هذه المرة ليجري اتصاله
وما إن أتاه صوت محدثه حتى صاح في لهفة واضحة:
_ اسمع يا رجل، كل أنابيب المعجون تم بيعها، والناس تهجم مثل الجراد على الصيدليات تريد حصتها من المعجون!!
عجل يا رجل وابعث الشاحنات بكل الكميات التي تقدرون على إرسالها.

شعر وليد بالصاعقة
ماذا حصل؟!
بل كيف يحصل هذا؟!
مستحيل
من المؤكد أن المدير يكذب
أو أن الخرف أصابه من هول الصدمة

_ قبل أن أنسى يا رجل، جاءتني عروض من شركات عربية كثيرة،كلهم يريدون كميات رهيبة من معجونك المدهش هذا، لا والله لا أمزح، هم يريدون ردكم الآن، لكن انتبه، يجب أن تطبعوا على المعجون كلمة (السعدان)، هكذا أسموه هناك!!

وهنا وقع وليد على الأرض مطلقًا شهقة رهيبة
وبدأ قلبه ينبض في بطء مخيف
أولى بوادر السكتة القلبية
والعجيب أنه في حالته هذه، كانت تنطلق صرخة استنكار في أعماقه:
_ ماذا أصاب الناس في هذا البلد؟؟ بل ماذا أصاب العرب جميعًا؟؟
وأنهى المدير الاتصال
واقترب منه ينظر إليه في انبهار تام
وبكل الفخر همس المدير:
_ وليد
نظر إليه وليد في ضعف شديد
والتقت عيناهما
عين وليد النائم على الأرض
وعين المدير الواقف والذي لم يفكر في الانحناء ولو قليلًا
وبمنتهى الانبهار والإعجاب والاحترامقال المدير:
_ لماذا درست الإعلام يا وليد؟! أنت مجالك الطرب الأصيل يا ابني، آخر العروض كانت من شركة إيطالية تريد أن تكون الوكيل الحصري للمعجون هذا في أوروبا كلها، ولكن لديها شرط، شرط واحد يا وليد، لا تتنازل عنه إطلاقًا.
تمتم وليد في إعياء واضح:
_ أي شرط هذا؟؟
كاد المدير يثب من مكانه، وهو يهتف بحماسة شديدة:
_أن تكون على الأنابيب صورة المطرب (المبدع)، الذي غنى الإعلان بصوته الشجي الساحر المؤثر!

وشهق وليد مجددًا
شهق الشهقة الأخيرة له في الدنيا
وانتفض جسمه كله وجحظت عيناه
ورغم المنظر المرعب هذا لم يشعر حميد بالخوف
بل بالانبهار
لا بوليد
بل بنفسه هو!
وبكل الفخر والرضى قال حميد:
- هل رأيتم كم أني عبقري؟؟ أذكى واحد أعطيه أتفه عمل، وانظروا كيف يوظف ذكاءه وإبداعه وتخطيطه كله لينجح النجاح الباهر، فكرتي العبقرية هذه جعلت مؤسستي أشهر مؤسسة في الكرة الأرضية
وغمز بعينه متابعًا الكلام لنفسه:
- هذا هو سر نجاح بلادنا العربية على فكرة، من لا يعرف كيف يقرأ ويكتب أعطه الإدارة، واجعل تحت يده أصحاب الشهادات العالية، وانظر ماذا سيحصل بعدها، وأي تطور سيصل إليه البلد.
ورفع صوته مخاطبًا (جمهورًا) وهميًا، يتخيل أنه يستمع إليه، هاتفًا:
_ وأنتم، ما رأيكم؟!

تمت بحمد الله

ولكن هذا لم يقدِّم شيئًا ولم يؤخِّر، فما يزال عائق التمويل سدًا ضخمًا أمامنا، ولم نتمكن من تجاوز هذه المشكلة، فكان أن طارت الآمال في مهب الرياح مرة أخرى.
وعاد الأمل، وإن كان على نحو محدود، فالأستاذ الكاتب طلب أن أكتب مسرحية للأطفال سَيَتِمُّ عرضها محليًا، ولها ممولون (هذه الكلمة جعلتني أوقن بفشل الفكرة)، ولكن الأمر كان ضبابيًا بكل الأحوال، فالكاتب لم يخبرني مضمون المسرحية (وربما لو فعل ما كتبتُها، لأني لا أكتب إلا وفق هواي الأدبي)! ولم يخبرني عن المدة، كل ما طلبه أن (أكتب) فحسب، ودخلتُ التحدي عالِمًا بأنني لن أتخطاه بنجاح هذه المرة، فأنا لا أميل نهائيًا إلى هذا النوع من الكتابات، ولكني أنجزتُ سبع مشاهد مسرحية لعائلة تحصل لأفرادها بعض الأحداث، وفيها بعض الطرافة أحيانًا، وغذَّيتُها بأشعار غنائية محدودة تتناسب مع المشاهد، كل ذلك خلال أقل من 24 ساعة، ومعظم وقت الكتابة كان في الباص، وأنا متَّجِه إلى عملي، أو عائد منه، كتبتُ عن (الصوص والدبدوب)
و(إضراب عن الطعام) و(نحن يللي بدنا ناكل) و(حاج تحكي يا ماما) و(مين كسر الإزاز)... إلخ...
وزارني الكاتب في منزلي،بناء على اتصالي، وقرأ المسرحيات جميعها في ثوان قليلة، ولم أتوقع أنه سيقفز من مكانه سعيدًا بما يقرأ :) أنا نفسي لم يسعدني ماكتبتُه، رغم أنني خاطبتُ نفوس الأطفال واهتماماتهم، والمشاكل التي قد تَمُرُّ بها كل عائلة، وبعضها بنيتُه على قصص اجتماعية أو ساخرة كتبتُها قبل، وبعضها أتيتُ بفكرته من دون بناء على عمل سابق لي، ولكن الكاتب تكلم عن (الحشو) في المسرحيات، وكان مخطئًا، فالمسرحيات كانت تمشي وفق نظام صحيح، مثل (يبتدئ المشهد بباب مغلق "باب الصالون"، والأولاد في الخارج "في غرفهم" غير راضين، لأنهم لا يجلسون مع الضيوف)..مع رصد انفعالات كل متكلم في وقتها، على غرار: أمجد (في عظمة):..... ترد نورا (متضايقة)... وليس مجرد (قال، أجاب، قال، أجاب، قال، رد )!!

ولكني في النهاية كنت أتفق مع الكاتب بعدم صلاحيتها للعرض المسرحي، بغض النظر عن السبب الذي قد يراه كلٌّ منا، وطلب إليَّ الكاتب طلبه الأخير، أن أكتب مسرحية حول فكرة معينة، فكرة استهلكتها السينما ربما، والمسلسلات قبل ذلك، ثم نعرضها للناس باسمي واسمه!!
ولم أقبل بذلك قطعًا، ورغم ذلك عاد الأخ يتصل بعد فترة يخبرني بأنه أعطى رقمي لشخص يشتغل في الإنتاج التلفزيوني ويبحث عن كاتب، ولم أضع هذا كأملٍ أتمسك به في اعتباري، وبالفعل مضىت خمس سنين تقريبًا، ولم يتصل هذا المنتج بعد!

كدتُ أعتزل الكتابة القصصية بأكملها هنا،
ولكن الزمان أتى، والأيام مرَّت، لتحمل إليَّ صدمة معينة، لن أذكرها هنا قطعًا
ولكن قلمي عاد للكتابة من بعدها، متجهًا ناحية الوجدانية، وحتى القصة الاجتماعية القصيرة
(حكاية غروب)، والتي حوَّلتها إلى رواية مطولة (النجم البازغ في أعماق وحول الظلام)، ركَّزْتُ فيها على الجانب الوجداني البحث، ووجدتُ قلمي يكتب؛ أول مرة في حياتي؛ كتابة رومانسية، تجاوزت المئة والخمسين خاطرة نثرية وشعرية، بعنوان (خواطر القلوب الحائرة)...

وما زال قلمي نابضًا بنبض المداد
وأدعو الله تعالى أن يديم لي هذه النعمة الكبرى

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عمر قزيحة
26_1_2018