تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : في رحاب الحرمين الشريفين



أ. عمر
2-6-2018, 05:50 AM
بسم الله الرحمن الرحيم





http://qalyubiagate.com/wp-content/uploads/2016/06/5861c083d4.jpg



قصيدة: قصدنا كعبة الرحمن (د. رياض قزيحة) (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&p=3570559&viewfull=1#post3570559)
الحلقة الأولى (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&p=3570746&viewfull=1#post3570746)
الحلقة الثانية (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&p=3571165&viewfull=1#post3571165)
الحلقة الثالثة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&p=3571691&viewfull=1#post3571691)
الحلقة الرابعة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&p=3571888&viewfull=1#post3571888)
الحلقة الخامسة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&p=3571986&viewfull=1#post3571986)
الحلقة السادسة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&p=3572035&viewfull=1#post3572035)
الحلقة السابعة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&p=3572114&viewfull=1#post3572114)
الحلقة الثامنة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&p=3572166&viewfull=1#post3572166)
الحلقة التاسعة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&p=3572207&viewfull=1#post3572207)
الحلقة العاشرة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&p=3572259&viewfull=1#post3572259)
الحلقة الحادية عشرة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&p=3572380&viewfull=1#post3572380)
الحلقة الثانية عشرة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&page=2&p=3572468&viewfull=1#post3572468)
الحلقة الثالثة عشرة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&page=2&p=3572488&viewfull=1#post3572488)
الحلقة الرابعة عشرة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&page=2&p=3572581&viewfull=1#post3572581)
الحلقة الخامسة عشرة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&page=2&p=3572834&viewfull=1#post3572834)
الحلقة السادسة عشرة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&page=2&p=3572995&viewfull=1#post3572995)
الحلقة السابعة عشرة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&page=2&p=3573080&viewfull=1#post3573080)
الحلقة الثامنة عشرة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&page=2&p=3573170&viewfull=1#post3573170)
الحلقة التاسعة عشرة (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&page=2&p=3573230&viewfull=1#post3573230)
الحلقة العشرون (الأخيرة) (http://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190765&page=2&p=3573259&viewfull=1#post3573259)

أ. عمر
2-6-2018, 04:49 PM
قَصَدْنَا كَعْبَةَ الرَّحْمَنِ عَصْرًا
فَيَا رَبَّاهُ مَا هَذا البَهَاءُ
أُلُوفٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ طَافُوا
حَوَالَيْهَا يَعُمُّهُمُ الضِّيَاءُ
وَلَمْ أَسْمَعْ سِوَى التَّسْبِيح دَوْمًا
وأدْعِيَةٍ يُخَالِطُها البُكَاءُ
هُمُ لَبُّوا النِّدَاءَ لِمَنْ دَعَاهُمْ
فَيَا لِلهِ ما هذا الدُّعَاءُ
قُلُوبٌ قَدْ هَوَتْ دَوْمًا إِلَيْهِ
وحُقَّ لِزَائِرِ البَيْتِ الهَنَاءُ
ضُيُوفٌ واقِفُونَ بِبَابِ رَبٍّ
دَعَاهُمْ فَاسْتَجَابَ الأَتْقِيَاءُ
هُمُ يَرْجُونَ مِنْ رَبٍّ رَحِيْمٍ
بِأَفْئِدَةٍ مِنَ التَّقْوَى هَوَاءُ
وَهَلْ سَتَرُدُّ يَا رَبَّاهُ ضَيْفًا
ولا زَادٌ لَدَيْهِ عَدَا الرَّجَاءُ
وإِنْ لَمْ تَعْفُ يَا رَبَّاهُ عَنَّا
يَضِيْقُ بِرَحْبِهِ عَنَّا الفَضَاءُ
لَقَدْ مَسَّ السَّقَامُ نُفُوسَ قَوْمٍ
بِبَيْتِ الْلهِ كَانَ لَهُمْ شِفَاءُ
(د. رياض قزيحة _ في جدة _ نيسان _ 2010م).

أ. عمر
2-6-2018, 05:15 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

في رحاب الحرمين الشريفين

رحلاتنا إلى بيت الله الحرام وإلى المسجد النبوي

نسجلها لكم بما واجهناه فيها من الطرائف ومن الأخطار

قريبًا بإذن الله تعالى

أ. عمر
6-6-2018, 02:37 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الأولى



إنها تلك الأيام البعيدة!
إنه صيف العام 2003، وقد أمضينا سنة سابقة بتعاقد وظيفي، وادخرنا مبلغًا لا بأس به... ونحن؛ وهذا الأكثر أهمية؛ موعودون بالتعيين الرسمي بملاك التدريس، ليكون لنا راتبنا الشهري، بدءًا من العام الدراسي الذي سينطلق بعد شهر ونصف تقريبًا...
لذا؛ أسعدنا بحق تلك الإعلانات المتوالية عن رحلات البر إلى السعودية لأداء مناسك العمرة؛ ولكنني، كنت خائفًا وبحق!
وسبب الخوف يرجع إلى سنوات الطفولة وبدء مرحلة الشباب، وقتها كان أي مشوار طويل بالسيارة، يدفع بي إلى التقيؤ ما لا يقل عن أربع مرات ذهابًا ومثلها إيابًا!
فماذا عن الآن؟ هل سأحتمل مشوارًا من لبنان إلى السعودية؟ هل زالت تلك العادة التي كانت تتملكني رغمًا عني، أم لا؟
ولكنني حسمتُ الأمر أخيرًا، وذلك بذهاب أخي قبلي إلى العمرة...
هذا الأمر جعلني أقرر المخاطرة والذهاب، أيًا كان الأمر...
هذا، ومن المؤكد أنه يستحيل علينا؛ تلك الفترة؛ أن نفكر برحلة بالطائرة، وذلك لأن تكاليفها ستكون قاسية ماديًا علينا، ولن نستطيع تحملها...
لذا؛ أسعدنا أن هناك رحلة برية إلى العمرة أعلنت عن تخفيض الأسعار قليلًا، وأن تكلفة الرحلة 200 دولار أمريكي فحسب، تشمل الإقامة والأكل والشرب كذلك!
باقي الرحلات أقلها كان يطلب 250 دولارًا، وصولًا إلى 300 ربما، ومن دون الأكل والشرب... كنا بانتظار التعيين الرسمي، وبعد التعيين سيكون معاشنا الشهري 316 دولارًا فحسب... وذلك لتعلموا فداحة المبلغ بالنسبة إلينا تلك الأيام، خاصة أنه سيكون أمامنا 3 شهور على الأقل من بداية السنة الدراسية من دون معاش، وذلك لــ(فتح ملف لنا) كما يقولون!
وبالتالي، يجب علينا أن يكون معنا مبلغ من المال نستعين به على الشهور المقبلة...
ولذا؛ لم نفكر بشكل منطقي آنذاك، كيف يكون الأكل والشرب على حساب القافلة، رغم الأجر (الزهيد) نسبة إلى غيرها من القوافل؟؟
وليتنا فعلنا ذلك! كنا أدركنا؛ على الأقل؛ أن مثل هذا العرض مستحيل، أو فيه خدعة ما... وانطلقت أجهز المستندات اللازمة، وذلك لاستخراج جواز السفر، وهذا أول جواز سفر لي، يا للسعادة ويا للفخر!
إنه جواز سفر، أستخرجه خصيصًا لأنني أريد السفر إلى السعودية لأداء مناسك العمرة، لا إلى دولة ما للسياحة!
وباستلامي جواز السفر،بعد أيام، شعرت بمزيد من السعادة والفخر، وذلك لأن إنهاء هذه الخطوة كان يعني إمكانية الالتحاق بركب القافلة التي ستنطلق بنا إلى الديار الطاهرة، لأداء مناسك العمرة، بعد أن كنا نكتفي بالمشاهدة عبر شاشات التلفزيون، والتمني أن نكون مكانهم!
ولكن، كانت هناك مشكلة أخرى، وهي أننا جميعًا؛ عدا اثنين معنا فحسب؛ لم نكن قد ذهبنا إلى العمرة من قبل قط، وبالتالي لا علم لنا بالمناسك بشكل صحيح، رغم أننا كنا نشاهد عبر التلفزيون...
وقد تطوع أحدهم بالشرح لنا، ويا له من شرح! طلبوا لقاءنا بحجرة صغيرة، وقفنا فيها لا نكاد نجد متنفسًا للهواء، وقام الأخ برسم دوائر بيضاء على اللوح، ودائرة سوداء، ليقول لنا إن الدوائر البيضاء هي البلاط حول الكعبة، والدائرة السوداء هي الكعبة، ثم رسم نقطة سوداء صغيرة، قائلًا لنا إن هذا هو الحجر الأسود!
وبعد ذلك تحول الرسم إلى ما يشبه (بيت العنكبوت) لكثرة الخطوط الصاعدة والنازلة، المتشابكة بكل الاتجاهات، وأكاد أظن أن علامات الاستفهام كانت تخرج من رؤوسنا!!
وهنا؛ تلقينا الوعد (القاطع) بأننا سنشاهد فيديو توضيحي، بشرح مفصل من قبل (شيخ) سيكون معنا في القافلة، يشرح كل شيء بالتفصيل الممل، بإذن الله تعالى.
اطمأنت قلوبنا هنا، وانصرفنا إلى توضيب أغراضنا، ولا أعلم لماذا أصرت والدتي _ رحمها الله_ على أن آخذ معي طعامًا يكفي فريق كرة قدم، شهرًا على الأقل، لا شخصًا واحدًا لمدة تسعة أيام في السعودية، إضافة إلى ما يستلزمه المشوار ذهابًا وإيابًا... ولكن، يبدو أنها خافت عليَّ أن أجوع، ولا أجد طعامًا في السعودية كلها!
رغم أن أخي أكد لها أن المطاعم منتشرة بكل مكان، وأنني أكدت لها أن الأكل والشرب على حساب القافلة لا على حسابنا الشخصي!
وأخيرًا حان اليوم الموعود، ودَّعت أمي، وكم آلمتني دموعها، وانطلقتُ بالسيارة مع أبي وأخي إلى الطريق العام، لأركب باص القافلة، بعد أن ودعت أبي وأخي، وما كاد يكتمل عددنا في الباص، حتى ارتفع صوت السائق يقول (بسم الله الرحمن الرحيم) ويذكرنا بدعاء السفر...
ثم أدار محرك الباص...
وبدأت رحلتنا إلى رحاب الحرمين الشريفين...
تلك الرحلة التي لم تكن تقليدية كما كنا نتخيل...
بل حملت إلينا آلامًا كبرى، ورعبًا رهيبًا...
وبلاحدود.


تابعوا معنا

أ. عمر
14-6-2018, 01:55 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الثانية




دار محرك الباص، لينطلق السائق بنا، ونحن نشعر بالسعادة، لأننا في رحلة فريدة من نوعها
كان الكثير منا لم يذهبوا إلى العمرة من قبل على الإطلاق، لذا كانوا في حالة من النشوة لقرب تحقيق الأمنية الرائعة التي طالما تمنوها من قبل.
وبسرعة، انطلق السائق بالباص، ومساعده يجلس بجواره، مسترخيًا بقدر استطاعته، وذلك ليستلم القيادة إذا ما تعب السائق الأساسي، ومسؤول شركة العمرة نفسه، يرافقنا في الرحلة، ما جعلنا نشعر بأننا في رحلة مع شركة منظمة ومقتدرة بعملها
ولكن، كنا مخطئين كثيرًا في ما تصورناه آنذاك!

وصلنا إلى الحدود السورية، ليبدأ بعض الشباب بتبادل التهاني، بفضل هذا (الإنجاز)، إذ تجاوزنا ثلث مسافة السفر!
الحدود السورية، فالأردنية، فالسعودية!

وارتفعت بعض الأصوات السعيدة معبِّرة عن انفعالها لقرب الوصول إلى المدينة المنورة، كما توهم أصحابها آنذاك.

ولكن السعادة انقلبت حزنًا وخوفًا
فلقد توقف الباص، وأخذ مسؤول الشركة جوازات السفر منا، وذهب مع بعض الشباب ممن لديهم خبرتهم برحلات العمرة، لختمها
وأحد هؤلاء الشباب يخبرنا بأن لا نبتعد، لأنهم سيطلبوننا جميعًا لرؤيتنا والتأكد من مطابقة الصور في جوازات السفر مع وجوهنا

لم نفهم السبب في ذلك!
ولا أعني سبب طلبهم إيانا وتأكدهم من المطابقة، فهذا حقهم،
ولكن لم نفهم؛ حقيقة؛ لماذا لم نذهب معهم مباشرة ليرانا مسؤولو الحدود ويتأكدوا من صحة كل جواز سفر؟!

ولكن الوقت لم يتسع لنا لإلقاء الأسئلة على الإطلاق
وبينما الشباب الذين في مقتبل عمرهم في غمرة سعادتهم بأنهم كانوا يزورون سوريا، بموجب هوياتنا فحسب، والآن يبرزون جوازات سفر، وذلك لأنهم أصبحوا (رجالًا) بحق... فوجئنا جميعًا بأحد زملائنا عائدًا من مكتب الجوازات إلى الباص، عابسًا متجهمًا، يبدو متوترًا، بل يبدو كأنه نسي الكلام، إذ نظر إلينا صامتًا بعض الوقت، ثم تساءل بصوت منخفض، كأنه يخشى أن يزعج همسات الليل:
_ من يكون فلان الفلاني؟

لم يرد أي شخص!
كنا من مناطق كثيرة، ومعظم الركاب لا نعرفهم، بل لم نعرف أسماءهم بعد، وحين لم يحصل زميلنا على إجابة، ارتفع صوته هاتفًا بعصبية شديدة:
_ من يكون؟ إنهم يريدونه، للاعتقال!

شعرنا كأن صاعقة قاسية قد هوت في الباص، إذ نسمع هذا الخبر الرهيب!
ولا ننكر مشاعر الخوف التي سيطرت علينا آنذاك، إذ أدركنا أننا مقبلون على موقف عصيب فعلًا...
ومع حالة السكون التي انتابتنا جميعًا، سمعنا ذلك الصوت الخافت
صوت الشخير المنبعث من المقاعد الأخيرة في الباص

نظرنا إلى الشاب النائم هناك، وقد عرفنا أنه هو المقصود بالاعتقال، من دون أن يخبرنا أحد!
وذلك لأننا مستيقظون، ولم يبق سواه نائمًا، وبالتالي لا بد من أنه هو...

اتجه زميلنا نحوه، ليوقظه بهزات عنيفة، فنهض الشاب مزعوجًا، ويبدو أنه هَمَّ بالصراخ أو الاعتراض، لولا أن سبقه رفيقنا قائلًا بصوت خافت:
_ تعال معي، إنهم يريدونك.

نزل المسكين من الباص، وهو يتثاءب، ومشى خلف رفيقنا، من دون أن يعلم إلى أين يذهب به، ولا لماذا يريدونه، بل من هؤلاء الذين يريدونه...
أما متى أغفى بهذا العمق فهذا ما لا نعرفه! من لحظات سلَّمنا جوازات سفرنا، فمتى نام هذا الشاب، حتى لم يَعُدْ يسمع صراخ رفيقنا؟!

دخل المسكين مكتب الجوازات، وارتفع صراخه بغتة، ولم تمضِ ثوان قليلة، حتى رأينا مشهدًا قاسيًا...
ومخيفًا إلى أقصى حد!

الجنود يخرجون برفيق رحلة السفر، مقيدًا بالقيود الحديدية في يديه، يدفعونه إلى سيارة عسكرية، انطلقت به مسرعة، وصراخه لما ينخفض بعد...

واختفت السيارة العسكرية من أمامنا في لحظات...
ولم يتكلم أحد منا!
الرهبة والإشفاق والحزن والألم على هذا المسكين، حتى لو أننا لا نعرفه بعد...

وسمعنا مَن يتمتم بصوت مستنكر:
_ تصوروا، إنهم يقولون إنه تاجر مخدرات عتيد!

لم يعقب أحدنا بكلمة واحدة، ولا أعلم هل كان أحدهم يريد التعقيب أم لا...
إذ برز زميلنا الذي بَشَّر المسكين بالاعتقال، صارخًا بصوت هادر:
_ انزلوا حالًا.
وقبل أن نسأله عن السبب، تابع بصرخة أشد هولًا:
_ إنهم يريدونكم... جميعًا!

وانهار بعض صغار السن بالبكاء المرير...
خوفًا مما ينتظرهم من الاستجوابات المخيفة!


تابعوا معنا

أ. عمر
3-7-2018, 08:29 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الثالثة

_ إنهم يريدونكم... جميعًا!
كنت أعلم أنهم يريدوننا جميعًا، ليتأكدوا من أن جوازات السفر تحمل صورنا فعلًا، فقد أخبرنا أحد زملائنا بذلك، قبل دقائق قليلة...
ولكن كثيرًا من رفاق الرحلة أخذوا بالبكاء!!
ارتجفت أجسامهم، وامتقعت وجوههم، وقد خافوا أن هذه (الإرادة) لهم، لِيَتِمَّ استجوابهم حول هذا الشخص، ومدى معرفتهم به، وما إلى ذلك...
وارتفعت بعض الأصوات المرتعدة:
_ لا نعرفه، والله لا نعرفه، إن شاء الله يصدقوننا!!

كنا من مناطق مختلفة متعددة، ولم نكن نعرف الأخ، بل لم نكن قد لحظنا شكله حتى قبل ذلك...
ولكن...
ساورني الشك لحظات أن يكونوا يريدوننا فعلًا، ليسألونا عن ذلك الأخ، لما رأيته وسمعته من رفاق الرحلة الشجعان هؤلاء!

وبعد مدة من الصمت (استيقظ) زميلنا أخيرًا، ليقول لنا مبتسمًا:
_ هذه هي العادة هنا، أن يحمل كل واحد جواز سفره بنفسه!

وارتفعت الهتافات المستبشرة، وركض الشباب إلى إدارة الجوازات يتدافعون من سيدخل أولًا، وقد صمُّوا آذانهم عن سماع ما يريد زميلنا شرحه، من أنهم (يريدوننا) للتأكد من أنه لا يوجد متسلل فيما بيننا، ولكن أحدًا لم يهتم بالسماع، فالمهم أنهم (يريدونهم) لأمر مختلف تمامًا عن (إرادتهم) ذلك الزميل، وكل أمر من بعدها يهون!

فجأة، عادت المأساة، لكن بشكل آخر...
ارتفع صوت البكاء، والشهيق، وتمتمات بكلام غير مفهوم، من إحدى الراكبات،
فقال أحد الرفاق متضايقًا:
_ أف من البنات! تستطيع البنت أن تتحول إلى ما يشبه غيمة سوداء أيام الشتاء، من أين يخترعن
كل هذه الدموع؟!

ولكن نظرة العتاب القاسية من مسؤول الرحلة، الذي خرج توًا من مكتب الجوازات، أوقفت تساؤلاته المتهكمة هذه...
وبصوت خافت، تمتم الرجل:
_ هذه الأخت، هي أخت زميلكم الذي اعتقلوه منذ لحظات!

نظرنا إليها بإشفاق شديد، لكن لم يكن بيد أحدنا أي شيء ليفعله، ومن المستحيل أن نذهب إلى رجال الأمن لنتوسط لذلك الراكب، وإلا فإننا سنجد أنفسنا معه في زنزانة واحدة على الأرجح!

انطلق بنا الباص، مبتعدًا بنا عن الكابوس المرعب الذي مررنا به منذ لحظات، أو هذا ما ظنناه، فلقد توقف السائق فجأة، لنفاجأ بجندي يصعد إلى الباص، مديرًا عينيه في وجوهنا...

وارتجف الرفاق مجددًا، وسالت دموع عدد منهم، إذ أدركوا أن الكوابيس السابقة ستتحقق بعد قليل!
وأعتقد بأن الجندي أصيب بالدهشة، لرؤيته هذه (الأشباح)، وهو قد صعد إلى الباص، بإجراء تقليدي، ليتأكد أن كل شخص منا معه جواز سفره، لا أكثر ولا أقل!

نزل الجندي، وانطلق الباص بنا مجددًا، وابتدأت الكلمات (الشجاعة) فعلًا، فهؤلاء شعروا بالرعب لأنهم نبلاء، يضحون لأجل الآخرين!
فهذا قد دمعت عيناه (قليلًا جدًا) حزنًا على أمه، لأنها سوف تحزن عليه وتبكي، فحزن على حزنها الذي لم يحدث، وأخذ يبكي لبكائها الذي لم يحدث!!
وذلك شعر بــ(بعض) الغصة في حلقه، لأنه ظن أنه لن يرى الكعبة، وما إلى تلك البطولات، ما جعلني أظن أن أحدهم لم يشعر بأدنى ذرة من الخوف، بل لو كانوا يريدونهم لاستجوابهم عن هذا الأخ _ كما ظنوا سابقًا _ لتدافعوا بحماسة وتنافسوا من سيجلس في عربة الاعتقال قبل سواه، لما يتمتعون به من الشجاعة النادرة فعلًا!!

تجاوزنا الحدود السورية، وتوقف الباص مرة أخرى، وارتفعت الأصوات المرتعدة:
_ لـ... لـ... لماذا؟ نحن لا نعرفه!
هتف مسؤول الرحلة دهشًا:
_ من هذا؟؟
صاحوا بصوت واحد:
_ هذا!!
هتف المسؤول ساخرًا:
_ ما شاء الله، ما شاء الله، فهمنا!

كان إيقاف الباص لسبب ديني، فالفتاة لم يعد بإمكانها متابعة السفر وحدها، بعد اعتقال أخيها...
وبشهامة تامة، وموقف يستحق عليه مسؤول الرحلة كل التقدير، تم إيقاف سيارة أجرة، لينطلق بها هذا المسؤول وأحد زملائنا، وتلك الأخت، عائدين إلى حدود الأراضي اللبنانية، ومن سيارة أجرة إلى أخرى، حتى أوصلاها إلى بيتها، ولم يتركاها تدفع شيئًا من أجرة الطريق، بل تحملاه هما بكل شهامة وعزة نفس...

أما أنا، فكنتُ أتلقى درسًا قاسيًا للغاية ذلك الوقت...
فلقد أغرى الطقس ببداية الليل زملاءنا للخروج من الباص والتنزه...
فخرجوا تباعًا...
وبخروج آخر دفعة منهم، وقفت لأخرج معهم، إذ لم يكن من المنطقي أن أبقى وحدي في الباص
مع النساء...
ولكن، كنت أسمع أن طقس السعودية حار كالجحيم، لذا، لم أضع الجوارب في قدمي، ولم أحضر معي أي سترة يمكن لها أن تقيني البرد...
لم أحسب أي حساب لما قبل السعودية في رحلة السفر هذه!
تجمدت ساقاي في الهواء البارد، وارتعد جسمي لشدة البرد، وأحسست بأسناني تصطك ببعضها رغمًا عني، وأخذت أقول لنفسي:
_ ليتني أحضرت بعض الجوارب، وسترة سميكة... لا؛ بل ليتني ادعيتُ النوم في الباص، ولم أنزل!!
فما كنت أستطيع أن أرجع إلى الباص، بعد أن نزلت منه، فكيف أرجع، ولا يوجد سوى البنات؟!

طالت المعاناة عدة ساعات، ثم عاد مسؤول الرحلة وزميلنا أخيرًا، فأسرعت إلى الباص ملتمسًا بعض الدفء فيه، وأنا أشعر بأنني أمشي على آيس كريم، لا على قدمين!

وبالكاد تخلصت من بعض البرد، لأرى أننا توقفنا عند حدود الأردن، وقد حان وقت صلاة الفجر،
ونزلنا لنتوضأ في مغاسل قريبة من الجامع الصغير هناك، و...
يا أمي! مستحيل أن يكون هذا الذي ينزل من حنفية المغسلة ماء! بل هو سائل ثلجي، يفوق الثلج نفسه برودة وألَمًا!
آه! لو كنت أضع الجوارب في قدمي، لجاز لي أن أمسح عليها، كما يفعل رفاقي في الرحلة، كنت الوحيد الذي يتوضأ، ويغسل رجليه، وقد سمعت بعض عبارات الانبهار بشجاعتي النادرة، إذ كيف أتحمل برودة الماء الفظيعة هذه، ولم يكن هؤلاء المنبهرون يعلمون ما في قلبي من المشاعر، ولا ما في عظامي من آلام التجمد!!

وفي المسجد أخذت أحاول أن أحف قدمي بالسجاد، بقدر الإمكان، لأجففهما من هذا الماء المؤلم، ولكن إحساس البرد استمر فترة طويلة، بعد انتهائنا من الصلاة، بل حتى بعد انتهائنا من الحدود الأردنية، والحمد لله لم يكن هناك أي زحام، ربما كان باصنا ثالث باص في قائمة الانتظار، لكنهم كانوا سريعين في إجراءاتهم، ما يستحقون عليه كل الاحترام...

ومع انطلاق الباص بنا من الحدود الأردنية، فوجئ كثير منا، ببعض الرفاق يصفقون ويهتفون ويكبِّرون، حتى ظننا أنه قد تم نقل الكعبة، بطريقة سحرية، من مكة، إلى ما بعد الحدود الأردنية بقليل...
ولكني أعذر هؤلاء، إذ ظنوا أنهم تخطوا ثلثي الطريق، الحدود السورية والحدود الأردنية، ولم يبق إلا الحدود السعودية، ثم نرى الحرم المدني أمامنا مباشرة!

بكل الأحوال، كانت الحدود السعودية بالنسبة إليَّ، وإلى الكثيرين، كابوسًا حقيقيًا...
إذ إننا سمعنا أن فترة الانتظار قبل أن يحين دورنا بالتفتيش، تصل أحيانًا إلى 11 ساعة!

ولكن، الحمد لله تعالى، كنا من أوائل الواصلين كذلك، وكانت هناك عدة نقاط للتفتيش...
فلم ننتظر إطلاقًا، ولكن...
طلب إلينا مسؤول الرحلة أن ننزل من الباص، لأن هناك نوعًا مختلفًا من التفتيش سيحصل...

وقفنا قرب الباص، مفكرين ما المقصود بـ(النوع المختلف) من التفتيش؟!
ثم ارتجفنا رعبًا... وأعترف بأنني ربما كنت أكثر الخائفين هذه المرة...
المنظر رهيب فعلًا، وتلك الفوبيا القديمة في أعماقي تتحرك، وتدعوني لأركض بأقصى سرعة، لأفرَّ بحياتي مما أراه أمامي!


تابعوا معنا

Jomoon
10-7-2018, 12:19 AM
وعليكمـ السلامـ ورحمة الله وبركاته~


جميل أستاذ كالعادة سرد مبهر ما شاء الله
هلَّا أكملتها!،
أريد أن أعرف هل وصلتم للحدود السعودية؟!،
مالذي ينتظركم وماذا ستفعل معكم؟!،
لا أظن سوءاً
أحسنت فعلاً^^,
باركك ربي،
قل لي هل الشاب فعلاً متورط أم يظلمونه؟!،
أم لا تعلم؟!،
الموضوع فعلاً جميل
هل القصيدة لأخاك؟!،
انتظر التكملة
فلا تتأخر^^,
وفقت
في حفظ المولى،،
Icon22
~

أ. عمر
10-7-2018, 01:27 PM
وعليكمـ السلامـ ورحمة الله وبركاته~


جميل أستاذ كالعادة سرد مبهر ما شاء الله
هلَّا أكملتها!،
أريد أن أعرف هل وصلتم للحدود السعودية؟!،
مالذي ينتظركم وماذا ستفعل معكم؟!،
لا أظن سوءاً
أحسنت فعلاً^^,
باركك ربي،
قل لي هل الشاب فعلاً متورط أم يظلمونه؟!،
أم لا تعلم؟!،
الموضوع فعلاً جميل
هل القصيدة لأخاك؟!،
انتظر التكملة
فلا تتأخر^^,
وفقت
في حفظ المولى،،
Icon22
~



سأتابع بإذن الله تعالى
الشاب كان بريئًا ولم يظلموه، تبينت لهم براءته وأطلقوا سراحه
القصيدة لوالدي
بارك الله بكم وحفظكم من كل سوء

أ. عمر
10-7-2018, 02:09 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الرابعة

لم أركض هَربًا مما أراه، خوفًا أن أتعرض لما هو أسوأ من ذلك فيما بعد
ولكني كنت أرتجف بقوة، لما أعانيه من فوبيا الكلاب من صغري
طبعًا لم يكن الكلب وحده، بل كان هناك جندي يقوده، ورغم ذلك كان الخوف رهيبًا
كنت أعلم، ممن ذهبوا قبلنا، أن الكلب سيشم الباص، بحثًا عن مواد ممنوعة، ولكن معرفتي هذه لم تكن لتقدم أو تؤخر شيئًا، فلي مع الكلاب مواقف وتجارب مريرة، جعلتني أخافهم خوفًا شديدًا
ورغم كل الخوف، لم أتمالك نفسي من الابتسام بسخرية شديدة، مع سماعي بعض التعليقات من زملائنا الشجعان!
لقد ظنوا أن الكلب سيأتي ليشمهم!!
رأيت أن وجوههم أشبه ما تكون بوجوه الأشباح، وبعضهم دمعت عيناه (ربما حزنًا على أمه التي ستحزن عليه إذا ما رأته حزينًا)!

ثم هبطت الشجاعة؛ فجأة؛ فوق رأس أحد هؤلاء، ليقول متحديًا:
_ إن كان هذا الكلب قادمًا ليشمَّنا، فلن أسمح له بذلك!
نظرنا إليه، كأنه قد فقد عقله، ورَدَّ أحد الشباب بتهكم لاذع:
_ لماذا؟ هل تظن نفسك عَظْمَة مشوية، وتخاف أن يأكلك الكلب؟!

دوت ضحكاتنا الشامتة لهذا الرد، وكانت (ناعمة) فيما يبدو، لأن الجندي الذي يقود الكلب جمد مكانه، وأخذ ينظر إلينا كأنه يشاهد أناسًا فقدوا عقولهم بغتة، وكأني به يفكر من أي كوكب أتى هؤلاء، حتى يبدو منظرهم مثل الذي ينتظر الإعدام في لحظة، وينفجروا ضحكًا في لحظة تالية!

واصل الجندي سيره بالكلب إلى الباص، وبفخر غريب، هتف ذلك الذي لن يسمح للكلب أن يشمَّه:
_ ألم أقل لكم؟!

وارتفعت التعليقات الساخرة:
_ ماذا قلت لنا؟
_ أه، أه، صحيح، لقد خاف الكلب منك!
_ من المؤكد أن الكلب المسكين سيستقيل من مهنته، بعد ما رآك يا سوبرمان!

اقترب منا؛ هنا؛ أحد الجنود، ليسكت الرفاق، وكأنهم يعتقدون أن الكلام ممنوع مثلًا، ولكن الجندي كان يريد إلقاء التحية فحسب، ومتابعة سيره، ولكنه توقف ينظر في وجه أحد المسافرين معنا، وهو رجل متقدم في السن نسبيًا، وتساءل الجندي:
_ ماذا تشتغل في وطنك؟

أجابه زميلنا متفاخرًا:
_ أستاذ، من فتح مدرسة أقفل سجنًا!

تمتم الجندي بدهشة:
_ عفوًا؟

كرَّر زميلنا باللهجة المتفاخرة ذاتها:
_ أستاذ، من علمني حرفًا صرت له عبدًا!

لا أعتقد أن الجندي كان بحاجة لهذه الحكم والأمثال، فغادر من دون أي سؤال إضافي، واتجهنا إلى مسجد صغير قريب، لنمضي به الساعات الإحدى عشرة، المرتقب لنا أن نمضيها على الحدود السعودية، ولكن... لم يمضِ سوى وقت قليل، وأتى مسؤول الرحلة يتساءل مستنكرًا لماذا نحن هنا؟ وكيف سينطلق الباص من دوننا؟

أجابه أحدهم:
_ لم تنتهِ ال 11 ساعة بعد!
ولم يفهم الأخ ما المقصود بال 11 ساعة بادئ الأمر، ثم أغرق بالضحك حينما فهم المقصود، ورَدَّ ساخرًا بأن من يحب هذا الانتظار فليفعل، ثم يلحق بنا وحده، لقد انتهى التفتيش وختم الجوازات، وحان وقت الانطلاق، أما هذه الساعات فربما أمضاها أناس ذهبوا قبلنا، وكان قبلهم عدد كبير من الباصات، أما نحن...

لم ننتظر سماع المحاضرة كلها، اتجهنا نحو الباص، وما إن انطلق به السائق، حتى انطلقت الهتافات السعيدة:
_ الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر!

لم يفهم كثير منا سبب التكبير الآن، ولكن قلنا لعل ذلك فرحًا بأن (كابوس) الانتظار الطويل قد زال عنا، ولكن اتضح السبب لاحقًا، حينما توقف الباص قرب إحدى الاستراحات، ليصرخ أحد الركاب غاضبًا:
_ هل هذا وقت الاستراحة؟ كم تبقى لنا لنصل إلى الفندق في المدينة؟ ساعة؟ ساعتان؟ لنمشِ؛ إذًا؛ من دون إضاعة وقت!

صاح مسؤول الرحلة مستنكرًا:
_ ساعة؟ ساعتان؟ قل إن شاء الله نصل غدًا مساء!

وكانت صدمة قاسية لهؤلاء الشباب، لقد ظنوا أنهم سيخرجون من الحدود السعودية إلى المدينة مباشرة، ولم يعلموا بأنها تزيد؛ على الأرجح؛ عن المسافة من لبنان إلى الحدود السعودية!

انطلقنا بعد الاستراحة، ولكم ارتفعت أصوات تعبِّر عن الملل والإحباط بسبب الطريق التي لا تنتهي، ومرَّت الساعات بطيئة مزعجة، رغم أن الباص لم يكن يتوقف تقريبًا، وحينما يتعب السائق يحل محله مسؤول الرحلة نفسه ليواصل قيادة الباص، و...

يا للجمال النادر!
مآذن الحرم المدني تبدو أمامنا أخيرًا!

ظهرت أضواؤها أمامنا تنير الدروب والأبصار والأرواح، وبدأ التصفيق والتكبير والتهليل، وارتفع صوت التهاني المتبادلة، لقد وصلنا أخيرًا إلى المدينة.

وفي فندق الأشراف نزلنا... فندق ضخم، وبسرعة فائقة تم توزيعنا على الغرف المخصصة لنا، ما يقطع بكفاءة مسؤول الرحلة، لم يقدِّر الكثير منا هذه الكفاءة، ولكني أدركتُها فيما بعد، وصعدنا إلى غرفنا، وما كاد المصعد يتحرك بنا، حتى تمتم أحدنا:
_ بسم الله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون.
هتف شخص ثان:
_ لماذا؟ هل تظن المصعد بقرة؟!
رد الأول متضايقًا:
_ بل وسيلة نقل!
هتف به الثاني:
_ نعم، نعم، ولا ينقصه إلا أن يقول (ماء... ماء)!!
صرخ الأول:
_ لا داعي لأن يقولها! أنت تقولها! ويكفي...

هتف بهم أحد الرجال:
_ اسكتا! ما هذا؟ هل هذه أخلاق من يأتون إلى العمرة؟ عيب! استحوا على دمائكم!

وفي غرفة الفندق واجهتنا مفاجأة! أو أعتقد أن المفاجأة كانت لإدارة الفندق لا لنا! لقد اتصل بهم أحد الزملاء من هاتف الغرفة، صائحًا بغضب:
_ ما هذا؟ هل تريدون للأكل أن يفسد؟ ألا تضعون برادًا في الغرفة على الأقل؟! نعم؟ هناك براد؟ أين؟ في السقف مثلًا؟ أم أنه هرب قبل أن نصل؟؟

وبالفعل كانت إدارة الفندق رائعة، لم ينتهِ الاتصال، إلا وأحدهم يدق باب غرفتنا، ويدخل، ليفتح خزنة صغيرة جدًا في زاوية الغرفة، لنرى أن البراد داخلها!

ويا له من براد! لا يتسع لمحتوى حقيبة شخص واحد فينا!
لم نتوقع ذلك طبعًا، بل لم نتوقع حجم هذا البراد الذي لم نَرَ له مثيلًا من قبل قط!
أصغر براد نراه في المحلات لدينا يفوق هذا البراد بثلاثة أضعاف تقريبًا!

وكانت المشكلة الحقيقية هنا، لم نستطع وضع سوى أقل كمية ممكنة من الطعام، وتركنا الباقي في حقائبنا، ندعو الله تعالى ألا يفسد...
قررنا أن نذهب إلى الحرم المدني لنصلي المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، ولكن أحد الرجال المتقدمين في السن أتى نحونا، يتساءل غاضبًا:
_ أين الطعام الذي وعدتنا به الشركة؟

صرخ بوجهه حوالي عشرة أشخاص على الأقل:
_ وأنت قادم لتؤدي العمرة؟ أم أنك أتيت لتأكل إن شاء الله!

لا أعلم هل ينبغي أن يتبخر الأخ جوعًا، كي يؤدي العمرة بشكل صحيح أم ماذا!
ولكن يبدو أنه لم يحضر معه سوى كمية ضئيلة من الطعام استهلكها وعائلته في طريق الذهاب، استنادًا إلى الوعود بأن الطعام على حساب الشركة!

انطلقنا بسرعة إلى الحرم المدني، والسعادة تنطق على الوجوه، سنصلي في الروضة الشريفة الآن، ولكن؛ لا، الحرم المدني مغلق! يغلق كل ليلة بين الساعة 11 والساعة 3 ليلًا!

صلينا المغرب والعشاء خلف أحد زملائنا في ساحة المسجد
ثم تفرق الزملاء، ليرجعوا إلى الفندق، إلا أنا.. قررت البقاء، سأبقى هنا حتى الثالثة فجرًا،
وإذ يفتح الحرم أبوابه سأدخل وأصلي في الروضة الشريفة، و...

ولا شيء بعدها!
غفوتُ من دون أن أشعر، فالإرهاق كان عنيفًا، برحلة طويلة أخوضها أول مرة، وكان للاستيقاظ طعم مختلف فعلًا، لم أمرَّ بمثله من قبل قط...

طبعًا لم يكن التميز بأنني سأستيقظ، وأنا أظن نفسي في بيتنا، وأجد نفسي في الحرم المدني، والأبواب مفتوحة على مصراعيها، و... فنحن في الواقع لا في عالم الروايات الدرامية!

ولكن الأمر لم يَخْلُ من الدراما حقيقة، بل من التراجيديا
وهل هناك أسوأ من أن يستيقظ أحدكم بركلة عنيفة تكاد تمزق أواصر خاصرته من مكانها؟؟

فتحت عيني بانزعاج، لألمح طرف حذاء يتجه نحو خاصرتي، ولم أستطع فعل شيء، لتكون الضربة الثانية الألعن مما سبقها

وقفت هنا بسرعة وتوتر، وكدت ألعن الفاعل (نسيت أنني في الحرم هنا) لولا أنني انتبهت في اللحظة الأخيرة...
لم أنتبه إلى أنني في حرم المدينة فحسب، بل إلى هذا الأخ الذي يركلني...
لم يكن أحد زملائنا في العمرة، وقد أحب أن يمزح مثلًا، بل كان رجل أمن!

ما الذي يحدث؟
أأنا رهن الاعتقال، أم ماذا؟
ما هذا الذي فعلته يا ترى؟؟

تابعوا معنا.

أ. عمر
13-7-2018, 03:13 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الخامسة


ضربتان ناريتان في خاصرتي!
وأنا أحدق؛ الآن؛ بعيني رجل الأمن، سائلًا نفسي بتوتر:
ما الذي يحدث؟ أأنا رهن الاعتقال، أم ماذا؟
ما هذا الذي فعلته يا ترى؟؟
ثم ألا توجد وسيلة للاعتقال أكثر (نعومة) من هذه الطريقة؟؟
شعرت بأن الزمان قد تجمد بنا هنا، ورفع رجل الأمن يده، ليشير نحو منطقة بعيدة عن التي نقف بها الآن، هاتفًا:
_ الصلاة يا رجل، الصلاة!

قالها، مشيرًا نحو جموع المصلين الذين كانوا في حالة السجود، لأدرك ما حولي، وسبب إيقاظي من قبل الأخ، وإن لم أغفر له الطريقة التي اتبعها، وارتفع صوت الإمام بالتكبير للقيام للركعة الثانية، ليتضاعف غضبي، مرة لإيقاظي بالركل، وأخرى لأنه لم يوقظني قبل ذلك، ما أضاع عليَّ اللحاق بالصلاة الأولى لنا جماعة في الحرم المدني، فوجدتُ نفسي أصرخ بوجه رجل الأمن:
_ لماذا لم توقظني قبل أن يبدأوا الصلاة؟! هل يؤلمك بطنك لو فعلت؟!

جمد الرجل مع هذه الصرخة، قبل أن يحتقن وجهه غضبًا، فأسرعتُ أهتف به مشتتًا انتباهه، كي لا أجد نفسي رهن الاعتقال فعلًا :) :
_ الصلاة يا رجل، الصلاة!

وأسرعتُ أنزل السلم الكهربائي المتحرك نحو دورات المياه والمغاسل لأتوضأ، ثم ارتددتُ إلى ساحة الحرم، داعيًا الله ألا أجد رجل الأمن هذا في انتظاري!
انضممت إلى جموع المصلين، وما كدت أرفع يدي للتكبير والبدء بالصلاة، حتى ابتعدت بسرعة، شاعرًا بالدهشة والاستنكار لما يحصل.
رجل انضم إلى صفوف المصلين، ليقف بجانبي، وهو يمسك بيد امرأة، أوقفها بجانبه معنا في صف الرجال، ورفع الرجل يده ليكبِّر، لكن أحد رجال الأمن صرخ به:
_ حجي، الحريم هناك!

رد الرجل بحزم:
_ زوجتي! لا أسمح لها أن تفارقني!

وهنا صاح به رجل الأمن صيحة هادرة، لم أميِّز حروفها، لكنها جمدت الأخ مكانه، ولم أر شخصًا خائفًا مثل ما رأيت في ملامحه، وأسرع الأخ يطلب من زوجته الذهاب إلى مصلى النساء، لأنضم؛ مجددًا؛ إلى الصف ملتحقًا بالمصلين، شاعرًا بالامتنان لرجل الأمن هذا، وحزمه المطلوب بمثل هذا الموقف، الذي كان كفيلًا بإبطال صلاتنا لو لم يتدخل رجل الأمن الرائع.

رجعت بعد الصلاة إلى الفندق، مؤجلًا البحث عن الروضة الشريفة داخل الحرم، وقبر المصطفى صلى الله عليه وسلم والصديق والفاروق خارج الحرم (كما كنت أظن وقتها)، إذ إنني لم أنَل كفايتي من النوم، ثم إنني كنت أشعر بألم شديد من مواطن الركل في خاصرتي، وشعرتُ بأنني بحاجة إلى نوم عميق، يزيل كل المتاعب والآلام، ولكن حتى النوم لم يكن مريحًا كما توقعت...
فمرة أخرى أستيقظ بطريقة سخيفة فعلًا!

حينما نمتُ كنتُ وحدي في الغرفة، وحضر أحد رفاقي خلال نومي، فجلس هادئًا يقرأ القرآن بينه وبين نفسه كي لا يوقظني، ثم انضم الزميلان الآخران إلى الغرفة، وأحدهما يصرخ كأنما اكتشف اكتشافًا نوويًا:
_ تخيل يا... تخيل! إنهم في السعودية يبيعون... يبيعون... يبيعون...
هتف الرفيق الذي كان في الغرفة، وقد نفد صبره:
_ يبيعون ماذا؟

اختنق صوت الأخ من الانفعال، ليتابع زميله بدلًا منه:
_ يبيعون الفساتين، تخيل!

دخل زميل خامس هنا، ليس معنا في الغرفة (يبدو أن غرفتنا تحولت موقف الباص، وأنا لا أعلم)، والمنفعل يتجاوز انفعاله ليهتف:
_ كنا نظن النساء في السعودية يلبسن الجلباب فقط، ولكن... (اكتشفنا) أنهم يبيعون الفساتين في السعودية!

هتف الزميل الذي انضم إلى الغرفة، محتارًا:
_ وماذا إن كانوا يبيعون الفساتين؟
وهتف الزميل الذي كان أولًا، مستنكرًا:
_ وأنتما، ما الذي ذهب بكما إلى محلات النسوان؟ آه؟

كنت قد استيقظت في بداية الصراخ هذا، مزعوجًا فعلًا، لمقاطعة نومي مرة ثانية، وأنا لم أكتفِ بعد، وبلغ انزعاجي مبلغه مع هذا الحوار (العميق) (المدهش) الـ... ولم أجد فعلًا ما هو أسخف من هذا (الاكتشاف) وما تلاه من (الانفعال)، فالأنثى هي الأنثى، ومن الطبيعي أن تحب ارتداء الفستان، ماذا في ذلك؟ هل يلزم الأمر هذا الصراخ؟

والأسخف من ذلك، أن أحد صاحبي هذا (الاكتشاف) نظر نحوي، متسائلًا:
_ ما رأيك؟
لو لم نكن قادمين لأداء العمرة، لأخبرته رأيي فعلًا، ليس بما يبيعونه في السعودية، بل بذكائه وألمعيته النادرين، لكني تمالكت أعصابي، لأجيبه بشكل فعلي، بأن أدير له ظهري، وأتابع نومي، أو أحاول ذلك!

حينما أفقتُ؛ هذه المرة؛ كنت أشعر بكثير من الارتياح والنشاط، توضأت وذهبت إلى الحرم بكل النشاط، وتمكنتُ؛ بفضل الله تعالى؛ من الصلاة في الروضة الشريفة، وبقيتُ فيها حتى أذان الظهر، وبعدها أردتُ (الذهاب) لإلقاء السلام على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، لولا أني لم أكن أعرف مكانه فعليًا، لكن قلتُ لنفسي سأسأل، ومن لا يسأل لا يصل، لكن ظهر أمامي فجأة أحد زملائنا ممن أدوا العمرة سابقًا، وما إن علم بما أريد، حتى أخبرني بأن أمشي بخط مستقيم حتى نهاية الحرم، وهناك قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبجانبه قبر الصديق، وقبر الفاروق، ونصحني الأخ نصيحة مستنكرة فعلًا!

طلب إليَّ؛ بكل بساطة؛ أن أذهب إلى باب الدخول لآتي بحذائي أولًا، وأحمله بيدي، ثم أتجه للسلام على المصطفى صلى الله عليه وسلم، لكني استهجنتُ هذه النصيحة المستنكرة، وتلك الفكرة العجيبة، إذ كيف لي أن أمُرَّ بقبر خير المرسلين صلى الله عليه وسلم، لأقرأه السلام، وأنا أحمل بيدي حذائي؟؟

تجاهلت نصيحته (السخيفة)، وسرت مع السائرين، حتى وصلتُ إلى مبتغاي، فألقيت السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم على الصديق، فالفاروق، واستدرت أريد الرجوع، لكن ذلك كان أمرًا مستحيلًا بكل معنى الكلمة!

أعتقد أنني كنت أواجه حوالي ألف رجل في تلك اللحظات، ويجب أن أتخطاهم جميعًا لأستطيع الرجوع من حيث أتيت! وانتبهت إلى هتاف أحد رجال الأمن يطلب مني الخروج مباشرة من الباب الذي أمامي، كون الرجوع ممنوعًا، وكأني أستطيع الرجوع لو كان ذلك مسموحًا!

خرجتُ باستسلام من الباب أمامي، وفي اللحظة التالية شعرتُ بأنني أشم رائحة لحم يتم شَيُّه أسفل قدميَّ، فالبلاط كان ملتهبًا فعلًا في ظهيرة شهر آب (الشهر الثامن)، في السعودية!

أخذتُ أركض، والحرارة اللاهبة تزداد في قدمي، وتكاد تفقدني وعيي لفرط ما أعانيه من آلامها، ولم أكد أصدق أنني وصلتُ إلى الأبواب الرئيسة، فأسرعتُ أدخل الحرم مجددًا لأطلب الراحة، لكن (الأبخرة) ظلت تتصاعد من قدميَّ (مجازًا طبعًا لا حقيقة، لكن لشدة ما أشعر به من الاحتراق)، فرجعتُ سريعًا إلى الفندق، لأفتح في الحمام حنفية الماء الباردة (لو صح أن نسميها باردة)، وأخذت أغسل قدميَّ (المسكينتين)، وفي ذهني تتردد نصيحة رفيقي التي تجاهلتها، وليتني لم أفعل، لكن (يا ليت) لن تقدم شيئًا ولن تزيل هذه الآلام الفظيعة، للأسف!

أمضينا يومين في قصر الأشراف، ثم وضبنا أغراضنا، لينطلق بنا الباص نحو مكة، وتوقف بنا الباص في الميقات طبعًا، لنغتسل ونحرم، وأي إحساس رائع أحسسنا به آنذاك! سنؤدي العمرة، أول مرة في حياتنا، يا للروعة! يا للسعادة!
صلينا في المسجد هناك، وأعلنَّا بعدها نية الإحرام، مضيفين آخرها، كما كنتُ أعلم مسبقًا، وكما أكد لنا الآن مسؤول الرحلة:
_ فإن حبسني حابس، فَمَحِلِّي حيث حبسني.
وذلك كي نتمكن من التحلل من الإحرام، فيما لو تعرضنا لما يمنعنا من المتابعة إلى الحرم المكي.

انطلق بنا الباص إلى مكة، ونحن صامتون لا يتكلم بيننا أحد، ثم أخذ مسؤول الرحلة بالتكبير، ولم نعرف سبب التكبير، فكان التفاعل معه قليلًا، ليتوقف عن التكبير قائلًا لنا إنه سنة للمعتمر، وهكذا ملأ التكبير أرجاء الباص فترة طويلة، وما كاد يتوقف لنلتقط بعض أنفاسنا، حتى هتف أحد رفاقنا، وقد تذكر أمرًا مهمًا:
_ لكن، ألم تقولوا لنا إنكم ستعرضون لنا فلمًا تسجيليًا يعلمنا كيف نؤدي العمرة، صوتًا وصورة؟
رَدَّ المسؤول بحزم:
_ بلى، كله سيأتي في وقته، لا تقلقوا.

لم أفهم متى سيأتي (وقته) إن لم يكن الآن!
هل سنشاهد الفلم التعليمي، بعد أن نؤدي العمرة مثلًا؟

وصلنا إلى مكة مستبشرين، إذ إن الأمنية تقترب أكثر وأكثر، وما كادت مآذن الحرم المكي تلوح لنا، حتى تمتم أحد الزملاء بخيبة أمل:
_ مآذن الحرم في المدينة أحلى!

سأله أحد الزملاء متهكمًا:
_ وحضرتك، قادم لتؤدي العمرة، أم لتتصور مع المآذن؟!

كنت أتفق معه بهذا الرد، لكني لم أتدخل، رغم ميلي إلى السخرية بمثل هذه المواقف، ولكني أردت الابتعاد عن حوار قد يدخلنا في جدال لا معنى له، يضيع علينا الإحرام، والعمرة بالتالي.

وصلنا إلى الفندق (لا أذكر اسمه)، ووضعنا أغراضنا في الغرف، مرة أخرى تتجلى لنا كفاءة مسؤول الرحلة بتوزيع أسمائنا من دون إضاعة الوقت، وانطلقنا إلى الحرم مسرعين، سنؤدي العمرة الآن، سنرى الكعبة مباشرة من دون شاشات التلفاز، سنحقق الأمنية، بل الدعاء إلى الله تعالى أن يكتبها لنا...

ولكنْ... لقد نسينا أمرًا مهمًا فعلًا...
لنجد أننا أمام مفاجأة (سخيفة)، لم نكن نتصور أننا سنواجهها بمثل هذا الموقف النادر...
على الإطلاق!


تابعوا معنا.

Jomoon
13-7-2018, 04:32 AM
ضربك أسلوب وحشي
الحمدلله عدى الموضوع على خير
أما موضوع الفساتين هذه حكاية مضحكة
قصة الحذاء تقهر الشعور يبدو مؤلما
وفقرة المآذن أضحكتني
بارك ربي بك
وزادك من فضله
السرد جميل وممتع
ماهو الأمر الذي نسيتموه
متشوقة لمعرفته
ننتظر التكملة
بوركت
في حفظ المولى،،
~

أ. عمر
13-7-2018, 01:11 PM
ضربك أسلوب وحشي
الحمدلله عدى الموضوع على خير
أما موضوع الفساتين هذه حكاية مضحكة
قصة الحذاء تقهر الشعور يبدو مؤلما
وفقرة المآذن أضحكتني
بارك ربي بك
وزادك من فضله
السرد جميل وممتع
ماهو الأمر الذي نسيتموه
متشوقة لمعرفته
ننتظر التكملة
بوركت
في حفظ المولى،،
~




الحمد لله لانتهاء موقفي مع رجل الأمن على خير
تخيلت من صراخي في وجهه أنه لن يسكت لي :)
وفعلًا المواقف كان فيها كوميديا مثل هذا الذي (اكتشف) ماذا يبيعون في السعودية
وذاك الذي لم تعجبه مآذن الحرم المكي...
أما الركض على البلاط الملتهب، فكان فيه عذاب شديد لي، لم أشعر بمثله في حياتي حتى حينما تعرضت لصعقة كهرباء خفيفة في بيتي بعد ذلك...
بارك الله بكِ أختي الكريمة، وسأسعى لتقديم حلقة جديدة اليوم إن شاء الله تعالى

أ. عمر
15-7-2018, 01:07 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة السادسة

انطلقنا جميعًا إلى الحرم المكي لنؤدي العمرة، من دون أن نتوقف للاستراحة في الفندق ومسؤول الرحلة يهتف بنا متحمسًا أننا سنلتقي باثنين ممن أدوا العمرة مسبقًا، ويعيشان الآن في السعودية، وذلك تلافيًا لأي أخطاء قد تحصل. ولم يقنعنا هذا الكلام، فبيننا؛ فعلًا؛ من أدى العمرة من قبل، لكن معظمنا لم يكونوا قد فعلوا ذلك، وهذه هي المفاجأة (السخيفة) و(المزعجة) التي لم نكن نتخيل أننا سنواجهها إطلاقًا! فرغم (تأكيدات) مسؤول الرحلة أننا سندخل (جميعنا) من باب السلام، كي لا نتفرق، ونبقى (معًا)، لنعتمر (معًا)، إلا أننا سمعناه يتمتم بعدها بقليل:
_ باب السلام مغلق، و...

وتفرق جمعنا السعيد هنا! كل واحد انطلق نحو باب مختلف ليدخل منه! ولن أتكلم عن شعورنا إذ نرى الكعبة أول مرة في حياتنا، ليس لأن هذا الأمر مَرَّ مرور الكرام، بل لأنني لا أستطيع وصفه صراحة، مهما حاولتُ ذلك! يكفي أن أذكر أننا وقفنا نحدق بالكعبة بانبهار تام، ويبدو لنا الناس الذين يطوفون حولنا، كأننا نراهم من بعد آخر، فمنظر الكعبة ملأ أعيننا وكياننا...

وكما يُقال باللغة العامية (زالت السَّكْرة وأتتِ الفِكْرة)، ماذا سنفعل الآن؟
سنؤدي العمرة طبعًا، ولكن... كيف؟؟

الحمد لله أن أخي كان قد أدى العمرة قبلي بأيام قليلة، وقد شرح لي كل شيء، ولو كان الشرح نظريًا إلا أنه أفادني فعلًا، على الأقل بالانطلاق الصحيح، ولكن...

كثيرًا من رفاقنا وقعوا في فخ قاسٍ فعلًا، إذ رأوا بعض الناس يرفعون أياديهم بمحاذاة الركن اليماني هاتفين (بسم الله، الله أكبر) فظنَّ رفاقنا أن هذا هو الحجر الأسود، فرفعوا أياديهم صارخين بحماسة شديدة (بسم الله، الله أكبر)، وبدأوا أداء مناسك العمرة من هناك، وإذ كانوا يصلون قرب الحجر الأسود، يعتبرون أنفسهم قد أنهوا شوطًا من أشواط العمرة، لأنهم ظنوا أنه الركن اليماني!

ولكم شعروا بالدهشة؛ آنذاك؛ إذ يصلون إلى الحجر اليماني بسهولة، خلافًا لما سمعوه من قبل، ولكم أفرحهم ذلك! إنهم يلمسون الحجر الأسود _ كما يظنون _ ويقبِّلونه، ويأخذون راحتهم في ذلك، وليس كما كانوا يسمعون أنه يستحيل الوصول إليه، لكن... ما بال الناس حول الكعبة؟ هل اختل توازنهم الفكري جميعًا، ليهجموا على الركن اليماني _ كما يظنون كذلك _ ويتدافعون بكل قواهم لمجرد لمسه؟؟

ولا أستطيع أن ألومهم فعلًا، فرغم أننا افترقنا عند الأبواب، لكننا التقينا؛ ولو بجماعات صغيرة؛ داخل الحرم أمام الكعبة قبل البدء بالعمرة، ولكن إدراك بعض الزملاء أن الرَّمَل سنة في الأشواط الثلاثة الأولى، وعدم إدراك كثير منهم ذلك، بل عدم فهمهم معنى الكلمة، إذ ربما ظن بعضهم أن الرَّمَل من الرَّمْل، ولم يفهموا كيف يأتون بالرَّمْل هنا، كل ذلك جعل الرفاق يتفرقون مجددًا، ومن أدى العمرة سابقًا، يؤديها الآن وحده، ومن يؤديها أول مرة، ينطلق من الركن اليماني معتبرًا أنه يعتمر بشكل صحيح!

وهناك ما خدعهم بشكل أقسى، امرأة _ غفر الله لها _ تولول بأعلى صوتها، وتنقض على الرجال تدافعهم لتصل إلى الركن اليماني، وهذا ما عمَّق في أذهان الرفاق أنهم يقفون إزاء الحجر الأسود. لكن (الطرافة) لم تنتهِ هنا! ولا أعني بهذا الوصف مناسك العمرة طبعًا، بل أعني (جمود) رفاقنا بعد انتهائهم من الطواف، لقد صلوا ركعتين خلف المقام، وشربوا من ماء زمزم من الخزانات الموجودة في أرض الحرم، لأن المكان المخصص لذلك يخضع لعمليات الصيانة والتوسعة، ولا يمكن النزول إليه، و... ولكنْ،
أين الصفا والمروة يا تُرَى؟؟

قرب مقام إبراهيم عليه السلام، التقى بعض هؤلاء الرفاق، والحيرة تبدو على وجوه عدد منهم، لأنهم لم يحملوا معهم أي نقود، لكن عددًا آخر كان معه نقود، وبالتالي تم (حل) أول (مشكلة)، لا داعي لأن يرجع أحد إلى الفندق ليأتي بنقوده، فالذهاب إلى الصفا والمروة بات ميسَّرًا! خرج هؤلاء من الحرم المكي، باحثين عن سيارات الأجرة، إلى أن وصلوا إلى موقف جدة (صدفة، هم لا يعرفون أنه موقف جدة، لكنه موقف سيارات أجرة، وهذا يكفي)، وبكل حزم استوقف هؤلاء ثلاث سيارات أجرة، وأحدهم يهتف بصرامة:
_ نريد أن نمشي فورًا، ولا نريد الانتظار إطلاقًا، خذونا؛ الآن وفورًا؛ إلى (جبال) الصفا والمروة، لنتابع أداء العمرة!

رغم أنني لم أكن حاضرًا هذا المشهد الطريف، إلا أنني أستطيع تخيل صوت ضحكات السائقين هناك لما يسمعونه، والحمد لله أن أحدهم لم يتحمس، ليأخذ رفاقنا إلى بعض الجبال هناك، ليخبروهم بأن هذه هي الجبال الموعودة، خاصة أنهم حاولوا جاهدين إقناع رفاقنا بأن طلبهم مستحيل، فسيارة الأجرة لا يمكنها أن تدخل الحرم المكي، لا مكان لها هناك أصلًا، ورفاقنا لا يفهمون كيف تكون (الجبال) داخل الحرم نفسه، هم كانوا هناك، ولم يَرَوا جبلًا واحدًا!!

أنا لم أكن أفضل حالًا من هؤلاء، وإن لم أتصرف كما (أبدعوا) باستيقاف سائقي سيارات الأجرة، ولكني لم أكن أعلم أين الصفا والمروة، كل ما أعرفه أنها (قريبة) من الحرم نفسه، ولكن أين؟ أين؟ لا أدري لماذا لم يخطر لي أن أسأل أحدًا آنذاك، ربما بسبب آلام تشتعل في ساقي، لتشنجها المؤلم المباغت، لكني، إذ أمشي في خط موازٍ للطائفين، بعيدًا عن الكعبة، رأيتُ لافتة مكتوبًا عليها (الصفا والمروة)، ولكم أسعدني ذلك!

أتممتُ مناسك العمرة، وقررتُ الرجوع إلى الفندق لأستريح قليلًا، ولكن... أين الحذاء؟؟ أخذتُ أبحث عن الخزانة التي وضعتُ فيها حذائي، وانتبهتُ؛ أول مرة؛ أن كل خزانة لها رقم، وليتني انتبهتُ إلى ذلك قبل أن أضع الحذاء فيها...
ولكنْ، ما هذا؟ أذان الفجر يرتفع الآن!
لم أتخيل أنه قد حان وقته، الحمد لله أني لم أغادر الحرم إذًا!

ظللتُ في الحرم نفسه حتى أدينا صلاة الفجر، ورجعتُ أبحثُ عن حذائي، حتى وصلتُ إليه بعد فترة مطولة من السير على ساق متشنجة... مددتُ يدي لأحمل حذائي، وإذ بشخص ما يبرز أمامي بغتة، ليحمل الحذاء وينطلق به مسرعًا، وأخذت أعدو خلفه على ساق واحدة، وأنا أهتف به أن يتوقف، لكني أتكلم العربية طبعًا، والآخ يبدو أنه أعجمي، ولا أعلم لم توقف بعدها! ربما بسبب الهتاف المتكرر مني وإن لم يفهمه لكنه أراد أن يعرف ما الصوت الذي ينطلق خلفه...

ووقفنا متواجهين! كيف أستطيع أن أفهمه أن الحذاء لي؟ أخذت أشير إلى الحذاء تارة وإلى قدمي أنا تارة، والأخ ينظر إليَّ بعينين متسعتين دهشة، ثم وجدتُ أن ملامح وجهه تتغير غضبًا، حتى سألتُ نفسي، ترى؛ هل تمثل هذه الإشارات مني إهانة ما؟ ولكم أدهشني أن أرى الدمع يتلألأ في عيني الأخ، وهو (يحتضن) حذائي، حتى تخيلت أنه سيقبِّل الحذاء ويخبِّئه في رقبته مثلًا!
(وكله حذاء مما يُلبَس في المنزل، ليس حذاء غالي الثمن، كيف لو كان كذلك إذًا)؟!

بعد فترة من المواجهة الصامتة هذه، اقتنع الأخ أن يرفع الحذاء وينظر إليه محدقًا به، كأنه يفحص خروفًا ما قبل شرائه، وأخيرًا يهز الأخ برأسه دلالة الفهم، تنفست الصعداء، ولكنْ... يا للحماقة!

لم يعطني الحذاء، بل انطلق به كأنه صاروخ، وأنا أحاول مجاراته، بكل آلام ساقي، فالأخ (أمين) لدرجة لا تصدق! لقد عاد بحذائي إلى الخزانة التي كان فيها، ليعيده إليها، وأمامها توقف محتارًا، لقد وضع شخص ما حذاءه في الموضع نفسه الذي كان به حذائي، وبالتالي نقصت (أمانة) الأخ، إذ لم يَعُدْ يعلم أين يضع الحذاء، وهنا كنتُ قد وصلتُ إليه، لأنتزع الحذاء من يده غاضبًا، وازداد غضبي، وهو يشير إلى الحذاء الآخر، وأنه لم يستطع إرجاع حذائي إلى مكانه، والحمد لله أنني لم أتهور لأضربه بالحذاء في وجهه، فلقد بَدَت لي فكرة جيدة جدًا آنذاك!

خرجتُ من الحرم، لأتحلل في أول محل للحلاقة هناك، حالقًا الرأس تمامًا، أول مرة في حياتي، وتخيلت مشهد أمي (رحمها الله)، وهي ترى الرأس هكذا! لكم أوصتني ألا أحلق رأسي تمامًا، والسبب (شكلك ما بيعاد حلو)! ومتى كان (شكلي حلوًا يا ترى)؟! بخطواتي العرجاء الأليمة، تابعت سيري إلى الفندق، ثم توقفت لا أعلم ما أفعل!

فندقنا هنا، على خط الفنادق الطويل هذا، لكن أي فندق من هذه الفنادق يا ترى؟ لم أضع طبعًا، لكني لم أحفظ اسم الفندق، وهكذا أخذت أدخل كل فندق وأخرج منه، محاولًا أن أحدد؛ من خلال ردهة الاستقبال؛ هل هو فندقنا أم لا!!

بعد أن بلغ بي الألم مبلغه، تذكرت أنني قد وضعت في حزامي بطاقة من الشركة فيها اسم الفندق وعنوانه، وذلك قبل أن أنطلق من لبنان حتى، فأخرجت البطاقة في لهفة، لأقرأ اسم الفندق، وأتجه إليه بسرعة، وأنا أعد نفسي بأنني سأنام، وأنام، وأنام...

وبرز؛ هنا؛ شاب، لا أذكر أنني أعرفه أو أنني رأيتُه في حياتي، ليركض نحوي يحتضنني مبتسمًا، وهو يهتف: (وصلت أخيرًا، الحمد لله)...
طبعًا قالها بتسكين التاء، كما نلفظها بالعامية (وصلتْ)...
فلم أعلم هل يقصد نفسه بفعل الوصول أم يقصدني أنا!
لكنْ، في الحالتين، يبقى السؤال قائمًا وبشدة:
_ من يكون هذا الفتى؟
ومن أين يعرفني؟؟

تابعوا معنا

أ. عمر
17-7-2018, 06:04 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة السابعة

ركض الشاب نحوي يحتضنني، هاتفًا أن قد (وصلتْ) أخيرًا، فلم أعرف
هل يقصدني أم يقصد نفسه، لكن الطرافة الأجمل في الأمر، أنه أخذ يهتف بحماسة نادرة:
_ أنا بريء، وقد اكتشفوا ذلك!

من أنت يا هذا؟ ثم من الذين (اكتشفوا) ذلك؟ وماذا تعني بأنك بريء؟ هل أخبروك أنني اشتريت لك حبل المشنقة مثلًا؟!

كنت في حالة من الإرهاق، وأريد النوم بأي ثمن، وساقي بالكاد أقف عليها، و...
وتابع الشاب صياحه (السعيد):
_ لقد... لقد وقفت تحت الشمس قليلًا، ثم اكتشفوا أن اسم أمي يختلف، وليس مثل اسمها هي، فأطلقوا سراحي!

اسمها (هي)؟ من (هذه) يا ترى؟
كدتُ أطلق بعض التعبيرات الساخرة، لكن الأخ تابع ليضيء لي حل اللغز، والحمد لله:
لقد تأخرت لأنني رجعت إلى لبنان، وأتيت بأختي، قدَّرت أن مسؤول الرحلة لن يتابع السفر بأختي، وهي وحدها، فأعادها من الحدود السورية إلى بيتنا، وهكذا ذهبت لـ...

هتفت به مقاطعًا:
_ الحمد لله على سلامتك.

أخيرًا فهمت من يكون الأخ!
رغم أنني لا أعرفه من قبل، ولم أكد أراه سوى ثوان قليلة، قبيل إيقافه على الحدود لاعتقاله بحجة أنه تاجر مخدرات...

تركته يتابع سعادته بوصوله إلينا، واتجهت نحو الفندق، لأباغت بشاب آخر يأتي نحوي مسرعًا، يصافحني بحرارة، ويبارك لي العمرة، ويقول إنه سيذهب ليؤديها الآن!

ومن أخبره أنني ولي أمره مثلًا، لأمنعه أو أسمح له بذلك؟!

ولكن... هذا الشاب ملامحه مألوفة فعلًا، آه! إنه من منطقتي، لكن ماذا يفعل هنا؟
سألته هذا السؤال، ليجيبني بأنه مسافر معنا، لكن تأشيرته تأخرت، فاضطر للبقاء في لبنان حتى وصلت التأشيرة، ليلحق بنا هو وأخته...

وكانت هذه مشكلة حقيقية!

لا أقصد بالمشكلة أنه أتى بأخته، بل بزيادة العدد أربعة أشخاص، فتوزيع الغرف في فندق مكة، جعل لزميل لنا وامرأته وابنه غرفة رباعية، ولم يقبل الأخ بالتنازل عنها، ولم يقبل إطلاقًا بأن يبقى فيها مقابل أن تذهب امرأته إلى غرفة أخرى مع بعض النساء، وتكون غرفته له ولابنه ولشابين آخرين، ما اضطر ببعض الزملاء إلى النوم على الأرض، وهم يتمتون غيظًا:
_ فَلْيَنَم حضرته، وليشبع نومًا!

ولكن لم تكن هذه هي المشكلة الوحيدة هنا، فلقد عادت مشكلة (الأكل) تبرز أمامنا، ومرة أخرى يعترض هذا الرجل، ليصيح به بعض الشباب، الذين يعاونون مسؤول الرحلة:
_ هل أنت قادم لتؤدي العمرة، أم أنك قادم لتأكل إن شاء الله؟!

وانفجر الرجل يصرخ ويسب، رغم أنه في مكة!
إنه يكاد يتبخر جوعًا، هو وامرأته وابنه، والنقود التي معهم مخصصة لشراء أغراض معينة، وكلما اضطر لإنفاق شيء منها للأكل يتميز غيظًا!

وبرأيي معه حق في ذلك، فلقد وعدونا أن الأكل على حساب الشركة المنظمة للرحلة، ولم يفوا بوعدهم...
أزعجنا هذا بداية، ثم قلنا ليتهم بقوا هكذا، لا يفون بوعودهم!

فلقد كان الأكل (العظيم) يتوزع علينا ما بين ال 24 ساعة وال 36 ساعة! وهو عبارة عن قطعة من الخبز الإفرنجي (السمُّون) فيها قطعة من الموز، وكفى!
ربما يلزم أن القادمين للعمرة يجب أن يتحولوا كائنات خيالية لا تأكل ولا تشرب!

وما زاد الأخ غيظًا (نصيحة) بعض الشباب، أن يكتفي بشرب ماء زمزم فحسب، علمًا بأنه رجل متقدم نسبيًا في السن، ولن يحتمل البقاء من دون طعام، وهكذا أخذ الرجل يشتري الطعام، وهو يتميز غيظًا من الشركة ووعودها الكاذبة!

أما نحن، فكان علينا؛ كذلك؛ أن نسعى للحصول على رزقنا، قبل أن نتبخر، أو نرجع إلى أهلنا هياكل عظمية!

أخذت أبحث عن مطعم باكستاني، لأتذوق الأرز البخاري، فقد قالوا لنا إنه لذيذ جدًا، وسعر الطبق ثلاثة ريالات فحسب.
لم أصدق؛ أخيرًا؛ أنني وجدت هذا (الكنز)، فقلت لصاحب المطعم إنني أريد طبق أرز بخاري، وناولته ثمنه، وجلست على الطاولة أنتظر هذا الطعام الخيالي.

وبعد فترة من الوقت، وضع أحد العمال أمامي طبق الأرز _ لو تجاوزنا وقلنا إنه طبق خيالًا ومجازًا، فلقد كان يكفي عشرة أشخاص، لا شخصًا واحدًا _ وكاد ينصرف الأخ، لكني هتفت به، بدهشة مستنكرة:
_ وين المعلقة؟
(هكذا نطقتها، بالعامية اللبنانية، بل إنني نطقت الهمزة بدل القاف في كلمة المعلقة، وفقًا للهجتنا المحكية)، وفوجئت بهتاف الأخ المستنكر:
_ وش بتقول؟

وش بقول؟ ربما لم يفهم معنى كلمة (وين)، أعدت قائلًا:
_ فين المعلقة؟
مرة أخرى، أنطق الكلمة بالعامية المحكية، ومرة أخرى يهتف الأخ مستنكرًا:
_ وش بتقول؟

قلت له بحزم:
_ أَيْنَ المِلْعَقَةُ؟

صرخ مستنكرًا مرة أخرى:
_ ملعقة!!

تخيلت أن كلمة (ملعقة) لها دلالة أخرى في لغة الأخ، ربما دلالة بذيئة لا سمح الله، وحاولت أن أوضح له الأمر، فسألته بحيرة:
_ كيف آكل؟

ابتسم الأخ أول مرة، ثم أجابني مبتسمًا:
_ مثلما يأكل الناس!

وقبل أن أعترض، أشار بيديه لأنتبه إلى ما حولي! الجالسون يغمسون أيديهم في الأرز ويأكلون!
لم أستسغ أن آكل بهذه الطريقة إطلاقًا، رغم أنني لا أعارض الأكل باليد، وأرى أن الطعام باليد ألذ، ولكن يستحيل عليَّ فعلًا أن آكل الأرز بهذه الطريقة! يلزمني معجزة لأفعل ذلك!

قلت له بعناد شديد إما أن يحضر لي ملعقة أو سأترك له الأكل وأمشي، فأجاب بالإيجاب، وانصرف، ومضى الوقت حتى كدت أغفو مكاني، ثم عاد الأخ أخيرًا، يحمل ملعقة، ويا لها من ملعقة!!

أعتقد أن الأخ ذهب إلى بيته، وأخذ ابنه الصغير إلى طبيب، ليصف له علبة دواء للسعال، تحتوي ملعقة داخلها! فقد كانت الملعقة التي أحضرها الأخ، ملعقة بلاستيك صغيرة للغاية، لا يُمكِن الأكل بها إطلاقًا، شعرت بالحسرة لما ضاع من الوقت، وألقيت بالملعقة جانبًا، وأخذت آكل (مثلما يأكل الناس) وفق تعبير الأخ! ثم توقفت مشمئزًا! فالبصل يختفي تحت طبقات الأرز، وأنا لا أتحمل أن أراه حتى، فضلًا عن أكله، ويبدو أن هذا مصداق المثل (صام...صام... ثم أفطر على بصلة)!

جلس بجانبي على الطاولة رجل غريب، انتظرت أن يخبرني أنه (بريء) أو (تأخرت تأشيرته)، كأنني استلمت منصب مختار الرحلة مثلًا! لكنه لم يفعل ذلك، والحمد لله، بل أشار إلى الطعام بإصبعه، وهو ينظر إليه مشتهيًا أن يأكل، وأتى أحد العمال ليصرفه، لكني استوقفته بإشارة من يدي، وقلت للرجل أن يتفضل بالأكل، إلا أنه لم يستجب، وحيَّرني هذا قليلًا، ثم قلت لعله لم يفهم لغتي، فأشرت إليه بيدي، داعيًا إياه أن يأكل، وقمت لأنصرف جائعًا!

قررت أن آكل بأي ثمن، وأمام أحد المطاعم صغيرة الحجم (نسميها نحن سناك)، وجدت لائحة أسعار مميزة، ومن ذلك صنف (أديم لحم)... أديم لحم؟ ما شاء الله! سآكل حتى أنتفخ إن شاء الله، كدتُ أطلب الأديم اللحمي هذا، ولكن البائع وضع أمامه طبقًا صغيرًا، فيه سائل أحمر اللون، وقطع ملونة _ الله أعلم ما تكون _ تسبح داخل الطبق، قائلًا بحماسة:
_ أديم لحم... أديم لحم!
وانقض أحد الناس على الطبق يحمله وينصرف سعيدًا، وأنا أشعر باشمئزاز جعلني أنسى الجوع نهائيًا!

مضى يومان، وبقي مثلهما لانصرافنا من مكة، لنرجع إلى المدينة مرة أخرى، وفي نفسي تتحرك أمنية قديمة، أمنية من عام 1994، وقت استمعت إلى صوت القارئ شيخ بن أبي بكر الشاطري أول مرة، أريد أن أصلي خلفه مباشرة، أن أجلس لأتحادث معه، أن...

طلبت جواز سفري من إدارة الفندق، وانطلقت مع أحد رفاقي إلى جدة في سيارة أجرة،
شقيق أحد رفاقي يسكن هناك، وقد صلى خلف الشاطري في مسجد التقوى، في شارع التحلية، لذا؛ لم أتردد لحظة في الانطلاق إلى جدة...
الشاطري هناك!

في موقف مكة في جدة، توقفت السيارة بنا لنفترق أنا وزميل الرحلة، ويأخذ كل منا سيارة أخرى ليصل إلى مبتغاه...
وكان نصيبي سائق أجنبي، متعدد اللغات إلى حد مدهش فعلًا...
يتكلم الباكستانية (ربما)، والسعودية المحلية، والعربية الفصحى المكسرة، والإنكليزية، مازجًا ذلك بضحكاته السعيدة، وكل ذلك في جملة واحدة، وليفهم من يستطيع ذلك!!

انطلقنا بسيارته إلى شارع التحلية، وأنا أشعر بسعادة بالغة، لأنني سأحقق أملًا لم أتخيل يومًا أنه ممكن التحقيق، متجاهلًا (قصص) السائق متعددة اللغات هذه، وتلاشى الأمل ليحل محله الغيظ، فالأخ لا يعرف أين جامع التقوى هذا، حللنا المشكلة باستيقاف بعض المارة وسؤالهم، لكن أحدهم لم يكن قد سمع باسم هذا الجامع، ولا باسم الشاطري!

قرر السائق الرجوع بعد أن دار في شارع التحلية من أوله لآخره، وبغض النظر عما أشعر به من الغيظ، تابع السائق رواياته الضاحكة، ثم سألني باللغة العربية (الفصحى):
_ متزوج؟
أجبته بلا مبالاة:
_ لا
هتف بسعادة:
_ أنا متزوج، وعندي بنت كبير، وبنت صغير، وبنت وسط!

بنت كبير وبنت صغير وبنت وسط!
تخيلت أن السائق سيتابع بعد ذلك:
_ وبنت بسجق، وبنت بخضار، وبنت مع كاتشاب!!
أخذت أضحك لهذا الخاطر المفاجئ، إذ تخيلت نفسي في فرن للمعجنات، يعرض علينا لائحة أسعار البيتزا وأصنافها، رغم كراهيتي البيتزا وكل ما يتعلق بها، ويبدو أن السائق أحبني فعلًا، إذ انطلق بي مسافة طويلة في جدة، يتنزه بي ما يزيد عن ساعتين ونصف!
وطبعًا لم تتوقف الحكايات لحظة، بين الإنجليزية والباكستانية والسعودية المحلية مع كلمات عربية مكسرة نادرة، وأنا لا أفهم شيئًا مما يقول!

وتوقف السائق؛ بعد ذلك؛ مشيرًا إلى أضواء رائعة تلتمع من مسافة بعيدة، قائلًا بحماسة:
_ سوق ... غولد!

شعرتُ بتأنيب الضمير لأن السائق يتكلم كل هذه المدة، وأنا لا أجاوبه، رغم أنني لم أكن أفهم شيئًا، لكن هذه الجملة قد فهمتها، ولا بد لي أن أجاريه في الكلام، فهتفت بحماسة مماثلة:
_ The women is love the gold very well

لا أعلم هل نطقتها بشكل صحيح أم لا، لكن السائق أخذ يضحك بجنون، حتى شعرت بأن السيارة ترتج بنا لقوة الضحكات!

أخيرًا عاد بي السائق إلى موقف مكة، لأرجع من هناك إلى مكة، واتجهت إلى أول مكان للاتصالات العمومية، متصلًا بلبنان، طالبًا بيت صديقي، لأنني لا أعرف عنوان أخيه في جدة ولا كيف أتواصل وإياه، ورَدَّت والدته _ حفظها الله _ لتخبرني بأن ابنها ليس عنده هاتف، بل يتصل من محلات عمومية، وأنه؛ الآن؛ في مكة يؤدي العمرة، وذلك إذا (أردتَ أن تراه في الحرم يا عمر)!

وضعت السماعة مفكرًا بدهشة شديدة، كيف أستطيع أن أجد الأخ في الحرم، بكل هذه الآلاف المؤلفة من البشر هناك!!
ثم إنني أعرفه بالاسم فحسب، إذ لم يسبق لي أن رأيته قط!

ولا أعلم لماذا خطر لي أن أذهب؛ اليوم التالي؛ من الصباح، لأنزل في مركز منطقة التحلية، وأنطلق باحثًا سيرًا على الأقدام، حتى أصل إلى مسجد التحلية، ولا أعلم؛ كذلك؛ لماذا لم أفعل ذلك! والحمد لله أنني لم أفعل ذلك، فلقد علمتُ؛ لاحقًا؛ أن الشاطري لم يكن آنذاك في السعودية كلها...

لا علينا من هذا الآن!
لقد انتهت إقامتنا في مكة، وذهبنا إلى الحرم نطوف طواف الوداع، وأخذنا نغادر من أبواب الحرم، ونحن نشعر بالحزن الشديد، ثم استدار أحد رفاقنا عائدًا إلى الحرم، لينظر إلى الكعبة وينفجر باكيًا بحرقة شديدة، أصابتنا جميعًا بالوجوم، ولا نلومه على هذا طبعًا...

ركبنا باص الشركة أخيرًا، سنرجع إلى المدينة، إلى قصر الأشراف، لنمضي فيه يومين آخرين، قبل أن نرجع إلى لبنان...

ولكنْ، ما هذا؟
راكب آخر ينضم إلينا، وها هو مسؤول الرحلة يقدِّمه إلينا، قائلًا بفخر:
_ هل تعلمون من يكون الشيخ؟ إنه فضيلة الشيخ الذي ســ(يعلمكم) كيف تؤدون العمرة بشكل صحيح!
هتفنا جميعًا باستنكار تام:
_ هوراااااااااا!!

احتقن وجه الشيخ، وإن كنا لم نقصد السخرية منه حتمًا، بل من الموقف الذي يُطَبَّق عليه المثل اللبناني (يطعمك حجة والناس راجعة) تقريبًا، لا؛ بل تمامًا، فالأخ أخذ يشرح لنا أن (الحج) أنواع، المفرد والمقرن... لينطلق الإنشاد السعيد من الشباب، خاصة الذين سألوا سائقي سيارات الأجرة أن يأخذوهم إلى (جبال) الصفا والمروة:
_ (أحمد يا حبيبي سلام عليك يا عون الغريب سلام عليك) و(ودي لي سلامي يا رايح ع الحرم، وادعي لي وسلم لي على هادي الأمم)!

والشيخ يصرخ بهم غاضبًا:
_ اسكتوا، اسكت أنت وهو، اسكتوا، اسكتوا!

كأنما هم أطفال مشاغبون في المدرسة مثلًا! وكان نتيجة هذا الصراخ أن الشيخ غضب، وأعلن صراحة أنه لن يشرح لنا شيئًا، ولنبق جاهلين بما أننا نحب الجهل! فأخذوا يصرخون في وجهه غاضبين بدورهم:
_ هل أنت نائم أم مستيقظ؟ آه؟ هل نقلوا الكعبة من مكة إلى المدينة؟ نقترح أن تأتينا في رحلة العودة إلى لبنان لتعلمنا! ربما ينقلون الكعبة من مكة إلى لبنان آنذاك! بل ربما نجد الصفا والمروة على شرفة بيتنا هناك! تعلمنا العمرة ونحن قد انتهينا منها؟ ثم العمرة حج مفرد أم حج مقرن؟ وماذا يكون الحج إذًا؟ عمرة لا وصف لها؟

ومسؤول الرحلة لا يستطيع إيقاف سيل الصراخ المستنكر هذا! والحقيقة أنني كنت مستمتعًا أشد الاستمتاع بذلك! فما مَرَّ به الزملاء المساكين، الذي أدَّوا العمرة بشكل خاطئ تمامًا، ليس هينًا، ومنهم من ذهب بعدها إلى مسجد السيدة عائشة ليحرموا مرة أخرى، ويعيدوا العمرة، ومنهم من لم يفعل لأنه سمع أن مسجدها ليس ميقاتًا صحيحًا لنا، نحن أهل الشام، ومنهم من لم يفعل لأنه ظن أن عمرته قد فسدت، والآن تريدون أن تعلموهم كيف يؤدون العمرة!!

عدنا إلى قصر الأشراف، ويبدو أن الشركة ستفي بوعدها لنا أخيرًا، سنأكل أكلًا (معتبرًا)، عشاء فخم، كما قالوا! تجمعنا كلنا؛ نحن الشباب؛ في غرفة واحدة، وأمامنا مائدة كبيرة، عبارة عن صنفين فحسب، خيار وجبنة، ولكن...
ما هذا؟؟
قل أعوذ برب الفلق!!

تابعوا معنا

أ. عمر
19-7-2018, 09:25 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الثامنة

يبدو أننا سنتعشى أخيرًا، ولكن ما هذا؟ خيار وجبنة؟ لسنا نتكبر على الأكل، ولكن قالوا لنا إن الأكل (معتَبَر)، بمعنى على الأقل سيكون هناك أصناف كثيرة، لن نتكلم؛ هنا؛ عن الدجاج واللحوم، ويا للهول! ما هذا؟ جبنة أم أوراق دفاتر؟

طعم هذه الجبنة كارثي بحق، أشبه بأوراق الدفاتر شكلًا وطعمًا، لا أدري من أين أتوا بها، ربما جاؤوا بها من لبنان وفسدت على الطريق من شدة الحرارة، وتذكروها الآن، فقرروا إطعامنا بها بدلًا من رميها في النفايات، والله أعلم!
أما الخيار، فكان عديم الطعم واللون والرائحة معًا! لكننا انقضضنا عليه، نتناوله، على الأقل لن يصيبنا بالقرف، إذ لا طعم له، ولكن من المستحيل أن يفكر أحدنا بتذوق لقمة أخرى من هذه الجبنة التعيسة!

وتأفف صاحب الغرفة التي نجلس بها بصوت مسموع، قبل أن يهتف:
_ يبدو أن هذه الشركة تنوي أن تتخلص منا هنا، سنموت مختنقين من هذا الأكل العفن! لكن؛ سأحل لكم المشكلة!

نظرنا إليه بدهشة، متسائلين كيف سَيَحُلُّ لنا المشكلة؟ وهل يمكنها حلُّها؟ وإذ رفع الأخ سماعة هاتف الغرفة، ظننا أنه سيطلب لنا عشاء جيدًا من إدارة الفندق، ولكنه فاجأنا بهتاف آمر:
_ 13 كباية شاي لو سمحتم!
صمت الأخ لحظات، هتف بعدها غاضبًا:
_ نعم؟ نعم؟ حجزنا للنوم فقط ولم نحجز للطعام؟ ضاقت في أعينكم الآن أكواب الشاي؟ فندق مكة كان فيه بوفيه مفتوح لتناول الفطور، لكننا لم نعلم بذلك إلا اليوم الأخير، ماذا يعنيكم في ذلك؟ أود أن أفهم، هل إن مات أحدنا، تستدعون له الإسعاف لنقل جثته، أم ستتركونها تتعفن لديكم إن شاء الله، لأنه لم يحجز؛ مسبقًا؛ سيارة إسعاف وقبرًا؟!

ضحكنا من كل قلوبنا لهذه الأسئلة والفرضيات، على أننا نعلم أن زميلنا ليس محقًا في ما يطلب، فالشركة حجزت لنا للنوم لا للطعام، وبالتالي ليس لنا أن نطلب من الفندق ولا حتى كوبًا من الماء، إلا إذا دفعنا سعره، لكن بعضنا لم يَعُدْ يفكر بالمنطق، لما يشعر به من الجوع!

في اليوم التالي، وإذ وصلنا الحرم لنصلي الظهر، فوجئنا بأحد رفاقنا يهتف بنا قبل أن ندخل:
_ اسمعوا، اسمعوا، بعد الصلاة سنلتقي بجانب باب السلام، وذلك أن الشركة أمنت لنا غداء (معتبرًا)، وفي المطعم هذه المرة، لنأكل ما نشاء من الدجاج!

أخيرًا!
يبدو أن الشركة قد استحت على دمها! سنأكل أكلًا يعيد إلينا الحياة، قبل أن ننطلق بطريق العودة إلى بلادنا...

ولكن الفرحة لا تكتمل فيما يبدو! لقد أخبرنا هذا الزميل، وأخبر زميل آخر عددًا آخر منا، ونحن أخبرنا بعضنا بعد الصلاة، كي يعلم من لا يعلم، لكننا؛ إذ خرجنا؛ انتظرنا طويلًا، ولا يزال أحدنا مفقودًا، وهو نفسه الذي كان يسأل عن الطعام الموعود دائمًا، وبسؤال بعضنا، علمنا أنه قد علم بموعد الغداء، لكن الأخ لم يعد يخرج، حتى تساءلنا:
_ هل صلى معنا الظهر أم أنه يصلي التراويح الآن؟

طال الانتظار، ودخل بعض رفاقنا الحرم يبحثون عنه، لكن لم يجدوا له أثرًا، فقررنا الانصراف إلى المطعم، ونحن نشعر بالغضب لهذا التصرف منه، ولكن...
يا سلام! الأخ يقف خارجًا في السوق! وما إن رآنا حتى صرخ بنا:
_ ما هذا؟ ألا تستحون على دمائكم؟ كل هذا الوقت سأنتظركم؟ يبدو أن باب السلام قد صار في جبال ددة!
(ددة منطقة لدينا في لبنان)!

لم يكن الأخ يعرف ببساطة أين باب السلام هذا! فخرج إلى السوق يبحث عنه، ويبدو أن أحدهم أراد مداعبته، أو ظن أن صاحبنا هو الذي يمزح مزاحًا سمجًا، فأخبره أن باب السلام حيث يقف الآن، وهكذا وقف حضرته ينتظرنا في السوق، ظانًا أنه في باب السلام!

اتجهنا؛ أخيرًا؛ إلى المطعم، وكان أحد زملائنا هو المسؤول عن هذا الأمر، بالتواصل مع مسؤول الرحلة، وبالتالي جلسنا ننتظر الطعام، وأتى زميلنا ينضم إلينا، قائلًا بحماسة:
_ أنتم تعلمون أنها ليست المرة الأولى التي آتي بها إلى هنا، وبخبرتي أقول لكم ستأكلون هنا أطيب دجاج ذقتموه في حياتكم كلها، وقد قلتُ لصاحب المطعم إننا نريد الدجاج من دون (بهارات)، ذلك لأنهم؛ في السعودية؛ يأكلون الأكل لاهبًا يكوي الحلوق! وتصوروا! لقد سألني إن كنا نريد الدجاج باردًا أم حارًا! هل هناك من يأكل الدجاج باردًا؟ يبدو أنه لا يجيد عمله، ويجب طرده! لو كنت مالك المطعم لطردته فورًا! لقد قلت له نريد الأكل حارًا بكل تأكيد، وبقدر الإمكان، وذلك لأننا...

هتف به بعضنا، وقد نفد صبرهم:
_ هل انتهت قصة حياتك التاريخية هذه؟ أم لا يزال فيها المزيد؟

سكت الأخ غاضبًا، ولم نبالِ بغضبه هذا حقيقة، وما إن وصل الدجاج حتى انقض عليه بعض الزملاء بهمجية واضحة، أما الآخرون، ومنهم أنا، فكنا هادئين، وذلك لأننا كنا نشتري بعض السندويشات من المحلات ونأكل، لم نترك أنفسنا نجوع بهذه الدرجة الغريبة، ولقد دفعوا الثمن فعلًا! الدجاج كان مليئًا بالمواد الحارة، ما جعل حلوقهم تحترق ألَمًا! نحن نأكل الطعام، وفيه بعض البهارات، لكن ليس إلى هذا الحد الرهيب!

وانقض بعضنا على زميلنا الذي يتبجح بـــ(خبرته) هذه، يريدون أن يرغموه على تناول هذا الدجاج بأكمله وحده! وتدخل آخرون لمنع هذه المهزلة، وكي لا نصبح فرجة للمتفرجين في المطعم، وأكاد أجزم أنني لم أر أحدًا؛ من قبل؛ يتناول ثلاث علب معدنية من الكولا خلال أقل من دقيقة، ذلك أن كل من تناول الدجاج، كان يضع علبة الكولا في فمه، ولا ينتزعها إلا وقد فرغت تمامًا، ثم يتناول أخرى من أمامنا، نحن من لم نأكل، ولقد تركناها لهم تكرمًا، نظرًا لحالتهم التعيسة هذه، فمن نال علبتين فلا بأس، ومن نال ثلاث علب فوضعه أفضل، والله المستعان!

رجعنا إلى الفندق نوضب أغراضنا، ثم غادرت ورفيق لي نتناول الطعام بأحد المحلات، وبعد ذلك رجعنا إلى الحرم نصلي العصر، ومن بعدها تجمعنا في الفندق، لنصعد الباص وينطلق بنا السائق الماهر، يتناوب معه مسوؤل الرحلة القيادة، وذلك ليقصرا مسافة السفر والتعب علينا، ثم توقفنا في مصلى صغير نوعًا، وأدينا صلاتي المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، واتجهنا؛ بعد ذلك؛ مشيًا إلى مطعم قريب، فلقد أَصَرَّ مسؤول الرحلة أن يعوضنا عما سببه لنا من الجوع، لنأكل في المطعم ما نشاء، ولكن...
أخبرنا صاحب المطعم أنه لم يبق لصلاة العشاء سوى دقائق قليلة، لذا؛ سيغلق المطعم ويفتحه بعد الصلاة، فرجعنا إلى المصلى نحتمي من النسمات الباردة، وإذ حان وقت الأذان، هجم شابان على الميكروفون يتنازعانه، قبل أن ينتصر أحدهما، ويرفع الأذان بصوت دفع بنا للفرار من المصلى، فلقد توقعنا سماع صوت عذب، خاصة بعد هذا الصراع على الميكروفون! ولكن ما سمعناه، جعل كثيرًا منا يهتفون:
_ الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلًا!

وانتهت مغامرتنا في أرض السعودية، في المطعم!
المطعم صغير، وليس فيه سوى صنفين من الطعام لا أكثر، إما دجاج مشوي وصحن أرز، وإما شيش طاووق وسلطة...

ورغم أنني أفضل الشيش طاووق، أردت أن أطلب الدجاج، نظرًا لأن صحن الأرز لوحده يكفيني حتى بعد رجوعي إلى لبنان، وكنت قد رأيت الطاولة التي بجوارنا، وقد نزل عليها صحن فيه دجاجة محترمة (حجمًا)، وصحن أرز عائلي كبير، لكن رفيقي على الطاولة قال لي إنني لم أر شيئًا، فلقد رأى هو الشيش طاووق، عشر قطع، كل قطعة أكبر من قبضة اليدين معًا!

وهكذا، طلبتُ الشيش طاووق اقتناعًا بكلامه، كما طلب هو كذلك، وما إن وصل الطعام، حتى أمسك هو بقطعة وضعها في فمه، ثم أطلق صرخة ألم، وأمسك بفمه متأوهًا، فسألتُه متعاطفًا:
_ هل أحرقتَ لسانك؟
أجابني، والألم يبدو واضحًا في وجهه:
_ همممممم... نممممممم!!

همممممم؟؟ نمممممم؟؟
ما معنى هذا؟ معناه نعم؟ أم معناه لا؟

وأخيرًا، زال الغموض!
لقد استرجع المسكين قدرته على الكلام، ليصرخ غاضبًا:
_ غشاشون! غشاشون! هذه عظام، وليست بشيش طاووق!

وكانت كارثة حقيقية... كارثة (طعامية) لو صح وصفها بهذا الوصف!
فتلك القطع الضخمة كانت؛ في معظمها؛ عظامًا بالفعل، وتكاد تكون مغلفة بطبقة رقيقة جدًا من الشيش طاووق!!

بمعدة شبه خاوية، وبطن جائعة، غادرنا الطاولة، وعدنا إلى الباص مع الزملاء، ليواصل بنا المشوار حتى الوطن، وتوقفنا دقائق قليلة عند الحدود الأردنية، لندفع رسمًا جمركيًا بسيطًا عن البضائع التي معنا، خمسة ريالات سعودية فحسب...

وإذ اقتربنا من الحدود السورية، هتف أحد الشباب:
_ هل تشاهدون مسلسل مرايا لياسر العظمة؟
أجاب بعضنا بالإيجاب، فتابع هذا الزميل بمزاح سمج:
_ في إحدى الحلقات، يقبضون على الرجل، لتشابه اسمه مع شخص مطلوب لديهم، ويوسعونه ضربًا، ثم يطلقون سراحه لاكتشافهم أن اسم الأم مختلف، ولكن؛ في اليوم التالي يقبض عليه فرع آخر من المخابرات، للسبب ذاته، ويوسعونه ضربًا!

وتوجَّه بكلامه إلى الزميل الذي اعتقلوه في رحلة الذهاب، متابعًا بسماجة ما بعدها سماجة:
_ من المؤكد أننا سنجد مسؤولين غير الذين كانوا في رحلة الذهاب، ومن المؤكد أنهم سوف (يشحطونك) إن شاء الله، انبسط يا زلمة!

وانبسط الزلمة بحق! (الزلمة يعني الرجل، لكنها تستخدم في العامية ولا تدل على احترام أو وضع قيمة للطرف الآخر) والدليل كم السباب الذي خرج من فمه وقتها!

واقترح عليه بعضهم، بدعابة ثقيلة كذلك، أن يخبئوه، في لعبة دب كبيرة، اشتراها أحدهم من الأردن، لطفلة في عائلته، وذلك بأن يمزقوا اللعبة قليلًا، ليدخلوه فيها، ويتجاوز الحدود، ولا يقبضون عليه مرة أخرى، ولقد بدا المسكين أشبه بشبح ميت لفرط الرعب، لذلك الخاطر الرهيب، أن يتم القبض عليه مرة أخرى!!

الحمد لله أن ذلك لم يحصل، وعبرنا الحدود بأمان، ومن دون مشاكل تذكر، لتتواصل بنا الرحلة إلى مناطقنا، شاكرين الله عز وجل أن يَسَّر الله لنا زيارة بيته الحرام وأداء مناسك العمرة،
ولكن... لا زالت رحلتنا في رحاب الحرمين الشريفين مستمرة...

هذه الرحلة الأولى!
أما الرحلة الثانية، فكانت رحلة رعب حقيقية...
واجهتُ فيها خطر الضياع التام، سواء وحدي في السجون السعودية، أم جماعيًا في الصحراء القاحلة!

تابعوا معنا

أ. عمر
22-7-2018, 02:50 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة التاسعة


مرت أيام السنين سراعًا، وها نحن الآن في صيف عام 2006
مرت ثلاث سنوات متتالية، منذ أن رجعنا من أرض الحرمين الطاهرة إلى بلادنا
والحنين والشوق إلى هذه البلاد يراودني، ومآذن الحرم المدني ومآذن الحرم المكي ماثلة في مخيلتي
أريد أن أراها، وأن أصلي في رحاب الحرمين الشريفين مرة أخرى، ولا أكتفي بمشاهدة المعتمرين والطائفين على شاشات التلفاز فحسب...

سألتُ بعض رفاقي ممن كانوا معي في الرحلة الماضية، حتى عرفتُ مكان الشركة التي ذهبنا معها آنذاك، المشكلة الوحيدة معهم كانت في الطعام فحسب، لم يستطيعوا أن يفوا بوعدهم لنا آنذاك، ولكنها لم تكن مشكلة بالنسبة لي، فقد حسبت حسابي لذلك جيدًا وقتها، وسأحسب الأمر لنفسي كذلك الآن...
إذًا، كل الأمور جيدة جدًا! اتجهت إلى مركز الشركة، وأنا لا أعلم أنني ذاهب لأسجل اسمي في رحلة مرعبة، تكاد تودي بي في مهاوي الضياع التام، وبأكثر من اتجاه...

دخلت مركز الشركة، وإذ بمسؤولها الأول الذي رافقنا الرحلة الماضية، ينهض للترحيب بي، وقد تذكرني _ وإن لم يتذكر الاسم طبعًا _ فصافحته بحرارة، وأخبرته أنني أريد الذهاب معهم إلى العمرة مجددًا، فاستلم الأخ الأوراق مني، جواز السفر، وما إلى ذلك، قائلًا إن هذا شرف كبير له ولشركته، حينما يقصدها من سافر معه قبل ذلك، فهذا دليل نجاح الشركة بعملها...
لا أعلم _ صراحة _ لماذا شعرتُ هنا بالقلق! إذ أتاني شعور بأن هذه الرحلة ستختلف عن سابقتها اختلافًا شديدًا، ولم أستطع منع نفسي من التفكير في ذلك الأمر!

وبمنتهى القلق، الذي لا أعرف سببه، سألتُ صاحب الشركة:
_ ومتى سننطلق إن شاء الله؟
أجابني متحمسًا:
_ أنت تعلم أنه لا بد من الحصول على التأشيرة أولًا، وذلك لأنه لا يمكن دخول الأراضي السورية أو الأردنية أو السعودية من دون التأشيرة!
رددت متحمسًا:
_ أنا أعلم أنه لا بد من الحصول على التأشيرة أولًا، وذلك لأنه لا يمكن دخول _ ولا الخروج من _ الأراضي السورية أو الأردنية أو السعودية من دون التأشيرة!
أجاب مبتسمًا:
_ اتفقنا إذًا!

اتفقنا؟
على ماذا يا ترى؟
قلت له بجدية:
_ متى الوقت الافتراضي للانطلاق؟ متى سترسلون جوازات السفر لأجل الحصول على التأشيرات اللازمة؟
فوجئت به يهتف بدهشة كبيرة:
_ أي جوازات سفر؟
نظرت إليه متسائلًا بيني وبين نفسي، إن كان يمزح أم لا، لكني لم أره يبتسم، لو كان يمثل هذه المزحة، فهو بارع فعلًا، لكن ماذا لو لم يكن يمزح؟
سألته بهدوء:
_ أي جوازات سفر في رأيك؟
أجابني مباشرة:
_ لا أعرف!

لا حول ولا قوة إلا بك يا رب!
سألته مستفسرًا:
_ أليست هذه شركة لنقل الركاب إلى العمرة؟ ألا تستلمون منهم جوازات سفرهم؟ ألا ترسلونها إلى السفارات للحصول على التأشيرة؟ أليس...
قاطعني بضجر:
_ أعرف كل هذا، وبلى! صحيح! لكن لا يوجد جوازات سفر لنرسلها، أعني لا يوجد ركاب!

_ لا يوجد ركاب!!
لم أتمالك نفسي من الابتسام، لما بدا لي من طرافة الأمر!
هذه العبارة الخالدة (لا يوجد ركاب) التي سمعتها كثيرًا من بعض سائقي سيارات الأجرة، وباصات الأجرة حتى، يقولونها مشتكين يرثون أنفسهم بها، ولو كانت سياراتهم وباصاتهم ممتلئة بالركاب عن آخرها!

أما أن يقولها مسؤول شركة سياحية كبرى، فتلك مسألة عجيبة فعلًا!
ولأنه (لا يوجد ركاب)، أخذت الأيام تتوالى بنا، ولا يوجد أدنى فكرة عن توقيت الانطلاق...
وكلما ارتفع رنين الهاتف الثابت في بيتي، أسرع للرد، متوقعًا أنه اتصال من الشركة، ولكن، لم يُصِب هذا التوقع ولا مرة!
وحصل اتصالهم مرة واحدة، لم أكن؛ آنذاك؛ في البيت، ولكن لم يحمل اتصالهم الأمل المنشود...
إذ تركوا لي خبرًا أن التأشيرات المطلوبة قد تم الحصول عليها، لكن موعد الانطلاق غامض كل الغموض!
(وكأننا في لغز بوليسي مثلًا، ننتظر بطل التحريات ليحل لنا الغموض)!

اقترب العام الدراسي أكثر وأكثر، وانهار الأمل في أعماقي تمامًا، لن يُكتَب لهذه الرحلة النور على ما يبدو، لذا؛ حسمت أمري أخيرًا؛ واتجهت إلى مقر الشركة لأقوم بإلغاء الحجز، وأسترجع جواز سفري...

فلقد حسبت الأيام جيدًا، آخر مهلة للانطلاق هي اليوم التالي، وإلا فإن دوامنا كأساتذة في ملاك التعليم الرسمي سيبدأ ونحن في السعودية...
وبما أن الشركة لم تتصل بعد، فهذا يعني أننا لن ننطلق في الغد، وإذًا، لن نذهب إلى العمرة، هكذا بكل بساطة!

_ سبحان الله!
قالها مسؤول الشركة بدهشة، إذ رآني أدخل، ووضع سماعة الهاتف من يده، متابعًا:
_ لقد رفعتها؛ الآن؛ لأتصل بك!
سألته، وقد بدا لي تجدد الأمل:
_ لماذا؟ هل تحدد موعد انطلاقنا إلى العمرة؟

أجابني مبتسمًا:
_ نعم، تحدد.
سألته مبتسمًا بدوري:
_ متى، غدًا؟ أليس كذلك؟

قلتها بكل الأمل في نفسي...
إجابته ستحدد الآن، هل سأحصد ثمار هذا الانتظار الطويل بشكل إيجابي، أم لا؟
هل سنرحل إلى العمرة أم لن نرحل؟

أجاب المسؤول مستنكرًا:
_ في الغد؟ لا؛ أبدًا! ليس في الغد بكل تأكيد!

كدت أطلب منه أن يعطيني جواز سفري، وهممت بأن أدفع له المبلغ المتفق عليه، ثمن التأشيرات، فيما لو لم نتمكن من الرحيل إلى العمرة، ولكنه فاجأني بالمتابعة:
_ كان ينبغي أن أتصل بك من يومين، لكني قلت للسكرتيرة أن تتصل، لكنها نسيت، لكن...
قاطعته مترقبًا ما بعد هذه الرواية السعيدة:
_ ولماذا؟

سكت بعض الوقت، وهو يبتسم ابتسامة عريضة، ثم أجابني...
ويا لها من إجابة غريبة!
لم يفعل شيئًا سوى أن قال:
_ سينطلق الباص اليوم، بعد ساعة ونصف فقط، مبارك لك الرحلة إلى العمرة!


ساعة ونصف! أحتاج ثلثي هذا الوقت، بالتنقل بين سيارات الأجرة من الشركة إلى بيتي، وبالعكس، ولن يبقى معي سوى نصف ساعة فحسب، لتجهيز حقيبة السفر...
ويبارك لي المسؤول بالرحلة إلى العمرة!
أي مباركة هذه؟
هل هذه بشرى لنا أم مصيبة كبرى؟
وهل سأتمكن من مسابقة ثواني الزمان يا ترى؟؟

تابعوا معنا

أ. عمر
25-7-2018, 03:55 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة العاشرة

ساعة ونصف، وينطلق الباص بنا إلى العمرة!
لن ألغي الحجز، والحمد لله، ولكن... أن يكون الانطلاق بعد ساعة ونصف، فهذه مصيبة حقيقية!
ما هذا الذي يبارك لي به مسؤول الشركة يا ترى؟

لم أنتظر ثانية واحدة في مركز الشركة، فخرجت مسرعًا أستوقف أول سيارة أجرة، ومن بعدها السيارة الثانية، وما كدت أدخل بيتي حتى أسرعت ألقي ببعض أغراضي الضرورية في حقيبة السفر، كلها فوق بعضها، كيفما اتفق لي.

واتصلت بأهلي، ليأتوني على وجه السرعة بسيارتهم، لأنطلق معهم، بحقيبة السفر الكبيرة والثقيلة نحو مقر الشركة مرة أخرى، وذلك لأنني نسيت أن أستفهم من أين سينطلق هذا الباص.

وفي الشركة، كان استقبال مسؤولها لنا استقبالًا مرحبًا، غير أنه طلب إلى أهلي الانصراف إن أرادوا ذلك، إذ إنه سيوصلني بنفسه، بسيارته الخاصة، إلى الباص، ذلك أنه _ ويا للأسف _ لن يسافر معنا هذه المرة كما في الرحلة السابقة.

انصرف أهلي، وتوجهت إلى الطابق الأول كما طلب مني مسؤول الشركة لأرتاح، وجلستُ على أول كرسي ألتقط أنفاسي المرهقة، بعد هذا الجهد المتواصل خلال الساعة التي انقضت، وأخذت أنظر إلى الساعة المعلقة على الحائط كل بضع ثوانٍ، متسائلًا لماذا لا يمر الوقت؟

متى سيأتي مسؤول الشركة ليخبرني أننا سننطلق الآن؟ نزلت إلى ردهة الاستقبال أكثر من مرة لأسأله، وما كنت أجده، وكل مرة تخبرني السكرتيرة أنه انصرف فجأة ولا تعلم متى سيعود، ثم تراني قد أتيتها بعد دقائق قليلة أسألها السؤال نفسه لترد الرد نفسه!

وأخيرًا؛ بعد انتظار طويل؛ سمعت صوت الخطوات على الدرج، وشعرت بالسعادة...
وقفت متحمسًا، وأنا أقول لنفسي مؤكدًا:
_ هذا هو مسؤول الشركة حتمًا، لا يمكن ألا يكون هو، من المؤكد أنه هو!

ذلك أنه لم يكن أمامنا وقت، دقائق قليلة ويحين موعد الانطلاق، فإن لم ننطلق الآن، فمتى سنفعل ذلك إذًا؟

كان القادم مسؤول الشركة فعلًا، ولقد نظر إليَّ بنظرات غريبة كأنه يراني أول مرة في حياته، حتى خطر لي أن أسأله بأسلوبي الساخر المعتاد إن كان قد فقد ذاكرته مثلًا، لكني وجدت أن الوقت غير مناسب لذلك، فسألته محاولًا التظاهر بالهدوء:
_ هل نمشي الآن؟
أجابني بصوت جاف:
_ لا!

أردت أن أعبِّر عن استيائي لهذا التأخير، وأذكره بالوقت، لكنه تابع بلهجة صارمة:
_ أنت لن تركب في هذا الباص...
وأضاف بقسوة بعد لحظة صمت:
_ أبدًا!

شعرتُ بأنني لم أعُدْ أفهم أي شيء هنا! فكلامه هذا كان مفاجأة حقيقية، أوقعني بِحَيْرَة كبيرة...
وبصراحة، شعرتُ بأنني أَمُرُّ بمرحلة هذيان، وأن هذا الموقف الذي أمر به الآن ليس حقيقيًا!
وإلا، فما المانع أن أركب الباص الذي سنذهب به إلى العمرة؟؟

لا أعلم هل أدرك الأخ شيئًا مما أفكر به، لأنه ابتسم ابتسامة عريضة، قائلًا بهدوء:
_ ذلك لأنني (أُعِزُّكَ) جدًا، وأريد لك أن تركب الباص الثاني، لأن سائقه (غير شكل)!
(غير شكل هنا يقصد بها أنه مميز، لكن إطلاق الصفة على الإنسان أمر غريب، من الممكن أن أقول إن طريقته غير شكل أو أسلوبه غير شكل، بمعنى التميز، لكن أن أقول عن إنسان كذلك، فالتعبير غير مستساغ)!

وتابع مسؤول الشركة ليخبرني بأن الباص الثاني سينطلق بعد ساعة ونصف من الباص الأول، وظننتُ؛ بادئ الأمر؛ أن هذا الإعزاز من مسؤول الشركة لمصلحتي، لكني كنت أتمنى لو أخبرني قبل ذلك، بدلًا من تركه إياي أبذل هذا المجهود السريع، عدا عن أنني كنت جائعًا بحق، فغادرت مبنى الشركة إلى مطعم قريب منها أتناول طعام الغداء، وتنزهت بعدها قليلًا، ثم رجعت إلى مبنى الشركة لأحمل حقيبتي الكبيرة، وأنطلق مع الأخ مسؤول الشركة في سيارته إلى موقع الانطلاق، وكان ذلك بعد العصر مباشرة، صلينا العصر في مبنى الشركة وانطلقنا، وفي الباص الكبير جلست في المقعد الأول خلف مقعد السائق مباشرة، أنتظر الانطلاق، أنا وكل المسافرين...

أدركت أن هذه الرحلة ستختلف عن سابقتها، لأنني لا أعرف أحدًا من المسافرين أولًا، وثانيًا لأنني أشعر بذلك من قبل بإحساس غريب لا أستطيع تبريره...
جلست أنتظر في الباص، وليس هذا تكرارًا في الكلام، بل تكرارًا في الحدث! فالوقت يمضي، والباص بلا سائق، وأذن المغرب، ولا زلنا لم ننطلق بعد!

غادرنا الباص، وانطلقنا نصلي المغرب، لكن النساء كُنَّ في موقف محرج بعض الشيء، إذ يبدو أن المساجد القريبة لم يكن فيها مكان خاص للنساء، ورجعنا بعد الصلاة بسرعة إلى الباص، لكن السائق لم يكن موجودًا بعد!

طبعًا لم يمر الأمر من دون ارتفاع أصوات الاعتراضات والتأفف والاستنكار، وقلة قليلة في ذلك الوقت كان معهم الهاتف المحمول، وأظن أن بعض الناس اتصلوا بمسؤول الشركة، ولكن لا نتيجة تُذكَر، سوى ارتفاع كلمات على غرار أننا سننتظر قليلًا، ويبدو أن الانتظار (القليل) كان قليلًا فعلًا، فلقد أذن العشاء، ولا زال الأخ لم يشرفنا بالحضور لينطلق بالباص بنا!

تركنا الباص، وصلينا العشاء، وعاد بعضنا إلى الباص، وبعض آخر ذهبوا يبحثون عن مكان يأكلون فيه، وهذا حقهم طبعًا، ثم شَرَّفنا السائق أخيرًا، شَرَّفنا هو واثنان آخران، قدَّما نفسيهما إلينا على أنهما (الشيخان) اللذان سيرافقاننا إلى الرحلة، وأنهما كانا موجودين قريبًا منا ويرياننا، لكنهما انتظرا أن يأتي السائق، ولم تكن الألقاب؛ ولا التبريرات؛ تعنينا الآن؛ لا كثيرًا ولا قليلًا؛ فالمهم الانطلاق بعد خمس ساعات ونصف من الانتظار!
والمستفز أن السائق كان قد حضر قبل ذلك، وقد رأيناه جميعًا قرب الباص، لكن لم يخطر لأحد أنه السائق، وأنى لنا أن نعرف ذلك، وهو لم يخبرنا ولم يصعد الباص حتى؟!

مع إدارة السائق الباص، وانطلاقه بنا، ظننا أن مشاكلنا قد انتهت، ولكننا كنا مخطؤون فعلًا...
لم تمضِ ساعة؛ بعد؛ على الانطلاق، إلا والسائق يوقف الباص، وقبل أن يسأل أحد عن السبب، فوجئنا به يفتح باب الباص وينزل بسرعة، ويلحق به الشيخان المرافقان للرحلة...
نزل الثلاثة بسرعة وتوتر، من دون أن ينطقوا بكلمة أو يُبَرِّوا لنا سبب ذلك، فأدركنا؛ جميعًا؛ أن أمرًا جللًا قد حدث.

وعاد الانتظار الممل مرة أخرى، ترافقه حيرة كبرى لا حَدَّ لها تملكت قلوبنا جميعًا، فمغادرة الثلاثة الباص بهذا الشكل بعث قلقًا كبيرًا في أعماقنا...

وفي الأذهان، دارت التساؤلات القلقة حول أسباب هذا التصرف المستهجن!
مهما حصل، من حقنا الحصول على التبرير...

وارتفع صوت متهكم من بين الركاب يقول:
_ ما رأيكم يا جماعة؟ انتظرنا كثيرًا، وبعد ذلك اتصلوا فينا لنذهب إلى العمرة، من المؤكد، من المؤكد أن هذه الشركة متفقة مع برنامج الكاميرا الخفية، والآن سوف يخبروننا بذلك، لنبتسم للكاميرا ونرجع إلى بيوتنا!

رغم استحالة تفسير الكاميرا الخفية هذا، إلا أن فكرته لم تكن مستهجنة إطلاقًا!
فما يحصل لا نجد له تفسيرًا سوى هذا التفسير الخيالي!
بغتة؛ من حيث أجلس؛ لمحت أحد المسؤولين عن الرحلة في محل قريب من مكان وقوفنا، فأسرعت أغادر الباص، لأدخل المحل، متجهًا نحو المسؤول، محاولًا أن أفهم ما يحصل، وابتدرني هو بالقول الحازم، والحكم الصارم:
_ لن ننطلق من هنا قبل الفجر، سنصلي الفجر هنا، ثم نمشي!
سألته مستنكرًا:
_ ولماذا نضيع ليلة كاملة من السفر؟ يمكن لنا أن نصلي الفجر في الأردن مثلًا، أو...
قاطعني بلهجة حازمة:
_ هذا مستحيل! فلقد نسي السائق جواز سفره، وعاد إلى منطقته؛ وهي بعيدة من هنا؛ ليحضر جواز السفر!

شعرت بالغيظ حقيقة، وأنا أفكر بهذه التصرفات الهوجاء، غير المسؤولة، فالسائق كان يجب أن يأتينا العصر، فأتى قبيل المغرب؛ وانطلق بعد العشاء، والآن نسمع (البشرى) أنه أتى من دون جواز السفر! يا للسعادة! والسعيد أكثر في الأمر أنه عاد إلى منطقته ليحضر جواز السفر، و...
لا؛ هذا غير صحيح! لن نظلم الأخ!
فأمام عيني، كان السائق يقف في أحد الأركان في المحل!
ترى؛ هل معه جواز السفر أم لا؟ وإن كان معه فلماذا نزل هنا؟ وإن لم يكن معه فهل ينوي متابعة طريقه من دون جواز السفر؟ كيف سيتجاوز الحدود إذًا؟
مسألة غريبة فعلًا، ويبدو أننا نحتاج (أينشتاين) جديد ليحلها لنا!


تابعوا معنا
(بعد فترة استراحة بسيطة، للتعافي من إرهاق صحي بسيط، بإذن الله تعالى)

Jomoon
25-7-2018, 04:18 AM
مالأمر؟!،
شيء مخيف فعلاً
انتظر بنفاذ مالذي سيحدث،
ربي يستر بــس
ربي يبارك بك
وعافاك ربي
في حفظ المولى،،
~

أ. عمر
29-7-2018, 09:36 PM
مالأمر؟!،
شيء مخيف فعلاً
انتظر بنفاذ مالذي سيحدث،
ربي يستر بــس
ربي يبارك بك
وعافاك ربي
في حفظ المولى،،
~


هذه الرحلة مخيفة فعلًا
بارك الله بكِ وحفظكِ من كل سوء
مجرد عارض صحي بسبب ضيق التنفس والإرهاق المتواصل
أتابع قريبًا جدًا إن شاء الله تعالى

أ. عمر
29-7-2018, 10:24 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الحادية عشرة

السائق ذهب إلى منطقته ليحضر جواز سفره، لكنه هنا!
كيف ذلك؟ لا أعلم بعد!
الرجل يقف أمامي، وأحد مسؤولي الرحلة أخبرني حازمًا أنه ذهب إلى منطقته ليحضر جواز سفره!
فمن يكذب يا ترى؟ المسؤول أم عيناي؟
يبدو اقتراح زميل السفر بأننا في برنامج (الكاميرا الخفية) معقولًا فعلًا!
يبدو أنها (كاميرا خفية) لكنها من النوع شديد الإزعاج!
هتفت بمسؤول الرحلة متهكمًا:
_ ومن يكون هذا الرجل إذًا؟
أجابني بدهشة:
_ إنه السائق طبعًا! من ظننتَ أن يكون إذًا؟
تمالكت أعصابي بمعجزة حقيقية هنا، وحاولت جاهدًا أن أتظاهر بالهدوء، إذ أسأله:
_ ألم تقل لي إنه ذهب إلى منطقته، ليحضر جواز سفره؟
أجابني بهدوء مستفز:
_ نعم، كاد يفعل ذلك! لكنه لم يفعل ذلك! وذلك لأنه اتصل بأخيه، وذلك ليحضر له جواز سفره، وذلك لنوفر الوقت، ولن تمضي ساعتان على الأكثر، إلا وجواز السفر هنا.
سألته بغضب:
_ ولماذا سننطلق بعد الفجر؟ ما الحكمة من هذا القرار؟
خرج السائق عن صمته أخيرًا، ليزمجر غاضبًا:
_ أريد أن أنام قليلًا، ألا ترى أنني متعب!
هتفت به متهكمًا:
_ فعلًا، صحيح، إنك متعب، متعب جدًا، تأتي إلينا متأخرًا ساعتين، وتنطلق بالباص أقل من ساعة، وتتعب بعدها، وتريد النوم حتى الفجر، يعطيك العافية على تعبك!
احتقن وجه السائق غضبًا، لكني لم أبالِ به، بل استدرت راجعًا إلى الباص، لأنني لا أريد أن أدخل في نقاش عقيم لا معنى له، مع السائق أو مع مسؤول الرحلة هذا، أو مع مسؤول الرحلة الثاني الذي انضم إلينا توًا...

كنت أشعر بالغضب فعلًا لهذا الاستهتار المستفز بنا، فنحن في طريق سفر طويل، ولا ينفع هذا الاستهتار، لكني لم أكن قد رأيتُ شيئًا بعد، وما يحصل الآن هين جدًا إزاء ما سيأتي...

انتظرنا في الباص، وبعض رفاق السفر يسبُّون السائق، ولا أعرف هل ألومهم أم لا!
وأعتقد أن أذان الفجر الذي استيقظنا على صوته كان أجمل أذان نسمعه في حياتنا، لأنه بدا لنا الخلاص من هذا الانتظار الممل المقرف...
ولكنْ، كنا مخطئين كذلك!

صحيح أننا انطلقنا بعد الصلاة بفترة، وذلك لإتاحة الفرصة للنساء معنا في الرحلة لدخول المسجد بعد خروج الرجال، ليصلين الفجر، ما أخرنا قليلًا، إلا أن قيادة السائق كانت مرهقة لنا جميعًا...
فأي شخص يركب دراجة نارية، يستطيع أن يسبقنا حتى لا تراه أعيننا...
الحذر واجب، والطيش مرفوض، لكن قيادة الباص بسرعة لا تتجاوز ال 40 كيلومترًا، أمر مرفوض كذلك، خاصة أننا لسنا ذاهبين بمشوار محلي، ولنصل بعد نصف ساعة بدلًا من ربع ساعة، بل نحن في رحلة تستغرق الكثير والكثير من الوقت...

وصلنا الحدود السورية، أقرب الحدود إلينا، وكان الانتظار طويلًا نسبيًا، لوجود عدد من الباصات أمامنا، لكنْ؛ ما كدنا نتجاوز نقطة التفتيش، حتى أوقف السائق الباص، ونزل منه بسرعة، من دون أن يخبرنا ماذا يريد، ولا لماذا توقف، و(اختفى)، هكذا بكل بساطة!
ومرت عدة ساعات، ونحن ننتظر في الباص، ولا نفهم أين السائق، حتى (ظهر) الأخ أخيرًا، وبدت عليه آثار المفاجأة، مع صراخ الركاب في وجهه، ولم يسكت، فلقد صرخ هو الآخر، مؤكدًا أنه ذهب لينام، وذلك لأنه متعب قليلًا!

لم يكن قد مضى ساعة في الانطلاق، حتى اختفى هذا الأخ لأنه متعب، وهذه مشكلة حقيقية فعلًا، أن ينام كل ساعة أو أقل من القيادة، عدة ساعات ليرتاح!

ولم تتوقف المسخرة هنا، فلم يسأل السائق أحدًا عن رأيه حينما توقف بنا أمام مطعم صغير، وخرج من الباص، وأسرع بالركض، ليتبعه عدد من الركاب، ولكن الأخ اختفى فعلًا في لحظات، ومرة أخرى ننتظر ساعات عديدة، وبعضنا دخل المطعم هربًا من أشعة الشمس الحارقة، ثم ظهر الأخ ليخبرنا بكل برود أنه ذهب لينام، وذلك لأنه متعب قليلًا، وانفجر الركاب بموجة من السباب والشتائم، ولم يعد أحد منهم مستعدًا لسماع الحكم والمواعظ من أفواه مسؤولَي الرحلة، وأننا ذاهبون إلى العمرة، ولا يجوز السباب!

صحيح أنني لم أشاركهم السباب، لكني لم أر أنهم مخطؤون!
فبحساب الوقت، نحن انطلقنا فعليًا ساعة وثلاثة أرباع الساعة، وتوقفنا حوالي سبع عشرة ساعة، من ضمنها ليلة التوقف المستفزة في بيروت، بسبب حجة جواز السفر.

انطلق الباص مرة أخرى لنصل إلى الحدود الأردنية، وأول مرة نشعر بأننا محظوظون، وأننا سنعوض الوقت الضائع، فلقد كنا أول الواصلين إلى الحدود الأردنية، ولكن...
كنا آخر المغادرين!
والسبب المستفز نفسه من جديد...
لأنه (مُتْعَب) و(يريد أن ينام)!
لأنه كذلك، اختفى السائق مجددًا، لتغادر تسع باصات؛ أو أكثر؛ أتت بعدنا، ولا يزال السائق لم يظهر بعد!
وارتفع السباب مرة أخرى، ومرة أخرى يحاول مسؤولا الرحلة تهدئة الأوضاع، لكن من دون فائدة تُذكَر...
ولعل الذين لم يشاركوا في السباب لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة من بين عشرات المسافرين!
وارتفع صوت أحدهم يقول غاضبًا:
_ إننا قادمون لأداء العمرة، ليغفر الله ذنوبنا، لكن يبدو أننا سنحصل على ذنوب أكثر مما فعلناه في حياتنا، لكثرة السباب الذي نَسُبُّه بسبب هذا السائق الأحمق!

وأخيرًا، عاد السائق يظهر، متثائبًا، وأخذ أحد الركاب يغني أغنية جونكر:
_ جاء البطل يفرح شاشتنا!
رد راكب آخر:
_ البَطَل، أم السَّطَل!
(إشارة إلى أن هذا السائق مسطول)!

انطلق السائق، ونحن ننظر إليه متحفزين متى سيوقف الباص، لنمسك بخناقه!
ويبدو أن أحد المسؤولين، وهو يَعُدُّ نفسه (شيخًا) وإمام مسجد، أراد تخفيف التوتر، فاقترح أن يبدأوا بجولة الإنشاد... وهكذا أمسك الأخ بالميكرفون، وأخذ ينشد:
_ طلع البدر علينا من ثنيات الوداع، وجب الشكر علينا ما دعا لله داع.
وأخذ عدد من الركاب يرددون خلفه، ومن بينهم نساء ذاهبات للعمرة، ولا أعلم كيف خطر لهن أن يغنين بوجود الرجال، ولا ألومهن لو كُنَّ لا يعلمن، لكني ألوم هذا الشيخ الذي لم يُنَبِّههن إلى ذلك، بل استرسل في الغناء السعيد، وهُنَّ يتفاعلن معه!

وصلنا إلى الحدود السعودية، ونحن ندعو الله تعالى ألا نجد باصات أمامنا.
في رحلتنا السابقة كنا أول الواصلين، لكننا سمعنا من زملاء لنا عن انتظار كان يصل إلى إحدى عشرة ساعة أحيانًا، ولكم أسعدنا أننا لم نجد سوى باص واحد أمامنا، فأدركنا أننا لن نقع في مشكلة الانتظار الطويل، ولكن...
كنا مخطئين كالعادة!
لا لأن السائق ذهب لينام، فلقد هدده بعض الركاب بخلع عنقه لو فعل ذلك، وتركنا ننتظر عند الحدود السعودية، وقد تيسر لنا أننا لن ننتظر...
وتعمق هذا الشعور في أنفسنا مع صعود أحد الجنود إلى باصنا، ليطلب إلى السائق أن يتجه نحو (ذلك المكان هناك)، مشيرًا بيده إلى حيث يقصد، لتفتيش باصنا...
أفرحنا ذلك...
ولكن...
كنا أول الواصلين (تقريبًا)، وآخر المغادرين (توكيدًا)!
فما كاد الجندي ينزل من الباص، حتى فتح السائق بابه ونزل هو الآخر، وأسرع خلف الجندي حتى كاد يصطدم بكتفه!
وتوقف الأخير مغتاظًا، وكدنا نرى النيران تندلع في عينيه فعلًا!
وبإشارة صارمة من الجندي، رجع السائق إلى الباص، وصعد الجندي خلفه، وأخذ ينظر إليه غاضبًا، وكان واضحًا؛ لكل ذي عينين؛ أنه يتميز غيظًا!

وأدركنا؛ جميعنا؛ أن الأمر لن يمضي بسلام...
على الإطلاق!

تابعوا معنا

أ. عمر
2-8-2018, 12:04 AM
بسم الله الرحمن الرحيم


الحلقة الثانية عشرة

أدركنا أننا سندفع ثمن تصرف هذا السائق غاليًا، لم يكن الأمر بحاجة لاستنتاجات وافتراضات،
فالجندي كان يتميز غيظًا، ولا أعلم هل كان أحد المسؤولَين في الرحلة يريد أن يتدخل لتهدئته، إذ انطلق يصرخ في وجه السائق:
_ أقول لك أن تذهب بالباص للتفتيش، فتذهب أنت خلفي! هل سنفتش إطارات ساقيك بدلًا من إطارات الباص، أم أن حقائب المسافرين في بطنك؟؟

رغم دقة الموقف أخذ بعض الزملاء يضحكون لهذه الكلمات، وأعتقد؛ مجرد اعتقاد؛ أن هذا الأمر زاد في غضب الجندي، فصرخ بوجه السائق:
_ ابقوا هنا، لن يأتي دوركم للتفتيش الآن، ربما في الغد!

كان الخبر رهيبًا بالنسبة لنا! حتى نحن الرجال لن نتحمل ذلك، فما الحال بالنساء والأطفال؟
لكن الجندي لم يبق في مكانه ليسمع اعتراضاتنا، غادر الباص، وأمام أعيننا أخذنا نرى الباصات التي تأتي بعدنا تخضع للتفتيش وختم جوازات سفر ركابها وتنطلق، ونحن في مكاننا...

ولنقول الحق هنا، لم تكن هذه كلمات الجندي بدقة، طبعًا أنا لن آتي بالكلمات حرفيًا بعد كل هذه السنين وأذكر معناها العام، وما أذكره بحرفيته أورده كذلك، لكن ما أقصده أن كلام الجندي نبا عن الأدب والذوق تمامًا بحق السائق، وأن كلمة (مسطول) ربما تكون كلمة هينة جدًا، إزاء سواها من الكلمات التي سمعها سائقنا من هذا الجندي، ولا أعلم هل يُلام الجندي على هذه التجاوزات، أم أن خطأ سائقنا الفادح جعله يستحق كل ما يقال بحقه من الإهانات؟

تكلم بعضنا مع مسؤولَي الرحلة ليحاول حل الموقف، فغادر أحدهما قليلًا، ثم رجع إلينا يخبرنا؛ بمنتهى البساطة؛ أنهم رفضوا الاستماع إليه، وأنه من الممنوع علينا أن نغادر الباص نهائيًا، ويجب أن نبقى كل هذا الوقت في الباص، ولم يخبرنا هذا الخبر السعيد، إلا وأنا أقوم من مكاني لأنزل من الباص!

هتف بي المسؤول مستنكرًا:
_ إلى أين؟
أجبته ساخرًا منه:
_ هل تعتقد أنني سأصدق هذا الكلام؟ هؤلاء بشر يقومون بواجبهم لكنهم ليسوا بوحوش، هل سيحبسوننا في الباص، من دون أكل ولا شرب؟ هل يريدون حبس النساء والأطفال كذلك؟

غادرت؛ ومعي بعض الركاب؛ إلى المسجد هناك، نجلس فيه نحتمي من أشعة الشمس التي بدأت تشتد، وندعو الله تعالى أن يفرِّج عنا ما نحن فيه من الكرب، ثم؛ بعد فترة ليست بالطويلة؛ غادر أحد الركاب ليتكلم مع مسؤولي الحدود، واستبشرنا بأن المشكلة سوف تُحَل، فقد أخبرته أن يركز لهم على مسألة وجود النساء والأطفال، وأنه لا يجوز معاقبة عشرات الناس بسبب خطأ شخص واحد، ولكن...
لم يتم حل المشكلة نهائيًا!
لا لأن رجال الأمن مسؤولي الحدود كانوا قساة القلب، بل لأن حماقات السائق لا تنتهي، بل وحماقة مسؤول الرحلة نفسه، فلقد أخبره هؤلاء أن نبقى في الباص (قليلًا) فقط، فدورنا في التفتيش قد حان، والأخ الرائع أخبرنا بأنهم رفضوا الاستماع إليه!
حسنًا، ماذا لو رجعنا حالًا للباص؟ هل تُحَلُّ المشكلة؟ لا طبعًا!
فالسائق (اختفى) كالمعتاد، ولم نستطع العثور عليه، ولكم تمنينا لو يعاوننا مسؤولو الحدود بإطلاقهم الكلاب البوليسية ليحضروه رغمًا عنه!
مرت ساعات طوال، ونحن ننتظر ونرتقب رجوع الأخ الرائع، حتى (ظهر) أخيرًا، يمشي ويتثاءب، ولكم بدا متضايقًا منا ومن اعتراضاتنا، فحضرته ذهب لـ(ينام) لأنه (متعب قليلًا)!

تم تفتيش باصنا، لنتابع انطلاقنا في رحلتنا هذه، والانتظار كان طويلًا جدًا، إذ إننا صلينا الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، ونحن ننتظر السائق، وقد انتظرناه قبلها عدة ساعات، وبعد انطلاقه بالباص بنا بقليل، توقف بنا أمام إحدى الاستراحات، لنصلي المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، ونرتاح ونتعشى و... وقد ضاع نهار كامل (تقريبًا) في انتظارنا على الحدود السعودية بسبب هذا السائق الفذ!
ولا أعلم لماذا وصفه لي صاحب شركة السياحة بأنه (غير شكل)!!

لكني علمتُ؛ فيما بعد؛ أن الباص الثاني الذي لا يقوده هذا السائق، قد عانى ركابه كذلك، لا بسبب سائقهم، بل بسبب سائقنا نحن! إذ إنهم كانوا مضطرين للانتظار كل مرة حتى نلحق بهم، ما يؤكد لنا أن (بركات) سائقنا تتجاوز باصنا المحدود، لتشمل سوانا كذلك!

صلينا المغرب والعشاء، وبعض رفاقنا دخلوا ليأكلوا، وبعضهم أكلوا مما معهم من الزاد القليل، وبعضهم لم يأكلوا لأن الإرهاق والغضب بلغا بهم مبلغهما، فلم يعودوا يستطيعون وضع لقمة واحدة في أفواههم!

وأود التوقف هنا عند عائلة معينة من المسافرين معنا، رجل وامرأته، وولديه، صبي وبنت، والبنت طفلة صغيرة جدًا، لكنها لا تكاد تهدأ، كانت تنطلق بين الركاب في الباص، لتضيفهم من كيس البطاطا (الشيبس) الذي تحمله في يدها، ولا يبدو أنه يطيب لها أن تأكل قبل أن تطعم كل الموجودين، سواء أكانت تعرفهم أم لا تعرفهم، لطيبة نفسها وكرمها، من سنين طفولتها.

وتوقفي بذكر هذه الطفلة له أسبابه، فلطالما كنت أدعو الله تعالى أن يرزقني بطفلة، وكنت أيامها متزوجًا، بل إنني كنت أدعوه تعالى بذلك، من قبل أن أتزوج حتى، لأن الطفلة مفتاح الجنة لمن يُحسِن إليها، وكانت تلك الأمنية _ ولا زالت _ الأمنية الأغلى في حياتي.

وبرؤيتي هذه الطفلة وكرمها وحيويتها، خفق قلبي، وأخذت أدعو الله ربي أن يرزقني طفلة مثلها، تكون قرة عين لي، وتكون مفتاحًا يقودني إلى الجنة يوم القيامة... ولكنْ، أنا لا أذكرها لهذا السبب فحسب، بل لأن لها دورًا ما في الأحداث، سأذكره؛ لاحقًا؛ في موضعه، بإذن الله تعالى...


نرجع إلى الموقف الذي كنا فيه آنذاك، انتهينا من الطعام قبل العشاء بمدة طويلة، لكننا لم ننطلق إلا بعد العشاء بمدة طويلة؛ ربما ثلاث ساعات ونصف؛ وذلك لأن السائق (اختفى) من أمام أعيننا؛ بغتة؛ كي (ينام لأنه متعب قليلًا)!

تنزهنا، تسوقنا من ماركت قريبة هناك، نمنا وأفقنا في الاستراحة المجاورة للمسجد، وشتمنا السائق والحظ (لم أشارك بالشتائم، لكني سمعتُ منه ما لم أسمعه في حياتي كلها)

عاد السائق مرة أخرى، يمشي متثائبًا، وأدار محرك الباص ليتابع رحلته بنا، أو هكذا ظننا، فلقد أغفينا تعبًا وإرهاقًا، ولا أظن أن أحدًا منا قد بقي مستيقظًا، ولكني أجزم بأننا جميعنا قد استيقظنا معًا، في وقت واحد...

فلقد شَقَّ ذلك الصراخ الرهيب آذاننا فجأة...
استيقظنا، لنلحظ أن الباص تتباطأ سرعته، قبل أن يتوقف بنا تمامًا...
وليس هذا المخيف هنا، بل الرعب تمثل في أن السائق نظر إلينا كأنه لا يرانا، وهو يلوح بذراعيه، مطلقًا صراخًا ترتعد له الأبدان!
إنها كارثة رهيبة قد نزلت فوق رؤوسنا، كارثة لا نعلم عنها شيئًا إطلاقًا!
وارتفعت هتافات الركاب المتضرعة لرب العالمين:
_ يا رب، استر، استر يا رب!

تابعوا معنا

أ. عمر
3-8-2018, 12:36 AM
بسم الله الرحمن الرحيم


الحلقة الثالثة عشرة

الباص يتباطأ حتى يتوقف عن السير، والركاب ينتفضون مذعورين لصراخ السائق الرهيب...
ولئن استيقظنا على صراخه المبهم، إلا أننا لم نستطع تمييز صرخته الثانية ونحن في وعينا، فلقد كانت؛ هي الأخرى؛ رهيبة بحق!
أية كارثة قد وقعنا بها؛ يا ترى؛ من دون أن نعلم؟ وما هي هذه الكارثة؟
سمعت هتافات مذعورة من المقاعد الخلفية:
_ يا رب، استر، استر يا رب!
لا يزال السائق ينظر في الفراغ كأنه لا يرانا، لا؛ إنه ينظر إلينا الآن، يلوح بذراعيه بانفعال، والكلام قد اختنق في حلقه، فلم يَعُدْ يخرج أي حرف، ما ضاعف من توترنا...
ورغم ذلك، كنت أفكر بسرعة فائقة، لماذا الخوف؟ ولماذا الصراخ؟ لو كان هناك ما يتهددنا لرأيناه وعرفناه حتمًا!
هل هناك قطاع طرق؟ بهذه الحالة كنا سنراهم، لا أظن أنهم سيتفرجون علينا مثلًا! لماذا لم يأتوا بعد إذًا؟ هذه فرضية مستحيلة... حسنًا، هل تعطل الباص؟ لا؛ بكل تأكيد، فتعطل الباص ليس سببًا مقنعًا ليصرخ السائق مثل المجانين، ويفقد القدرة على النطق!

أعتقد أنني تمنيت لو أخطأت بتوقعاتي هذه أنه لا يوجد أي خطر، لتفاهة السبب الحقيقي وراء الصراخ، فلقد (أتحفنا) السائق أخيرًا، ناطقًا بكلمة واحدة لا ثاني لها:
_ كافيتريا!
ارتفعت بعض الأصوات المستنكرة:
_ هل أيقظتنا من النوم لتسألنا إن كنا نرغب بالنزول إلى الكافيتريا؟

لكنْ؛ يا لهم من ظالمين متسرعين!
فهذا الأمر لم يَجُلْ بخاطر سائقنا إطلاقًا!
لكنه (سوء الظن) من زملائنا بالسائق، هو ما دفعهم بالتفكير أن السائق ســ(يسألنا)!
فلقد فتح الأخير بابه، لينزل من الباص ويتلاشى حرفيًا في ثانية أو أقل!
وبمنتهى السرعة، تجاوز بعض الركاب المفاجأة والصدمة، واندفعوا خارج الباص، محاولين اللحاق بالسائق، ليرجعوا به ليتابع الرحلة...
ولكنْ، لا فائدة، السائق اختفى، تبخر، تلاشى، لا أعلم أية صفة تبدو مناسبة أكثر من سواها.

وارتفعت الأصوات المستنكرة التي يخالطها الشتائم الجارحة، ولن نذكر هذه الشتائم طبعًا!
_ أين ذهب هذا الــ...؟
_ هل سألنا رأينا؟
_ لقد غادرنا الكافيتريا من ساعتين، بعدما أكلنا وانتفخت بطوننا! فما لزوم التوقف هنا؟
_ يبدو أن هذا السائق يريد أن يحولنا إلى دببة!
_ إن كنا سنأكل في كل كافيتريا وكل مطعم نجدهما في طريقنا، فسنؤدي العمرة على الكرسي المتحرك، لأن وزننا سيتجاوز ال 200 كيلو!

ثم انقلبت التعليقات إلى وجهة تهكمية بحتة:
_ هل يجوز؛ يا حضرة الشيخ فلان والشيخ فلان؛ الاستعانة بالجن؟
_ أعوذ بالله، ما هذا الكلام؟ لا، لا يجوز ذلك إطلاقًا!
_ بل يجوز! في حالة هذا السائق العظيم يجوز ذلك حتمًا، لأننا لن نستطيع العثور عليه من دون الجن الأزرق والعفاريت الحمراء!

وكانت ليلة ثقيلة بحق، لما أصابنا من ملل الانتظار، عدا عن الغضب الهائل الذي شعرنا به آنذاك، ومن استيقظ منا عجز عن النوم بعدها، وأخذنا ننظر يمينًا ويسارًا، بقدر ما تسمح به أضواء المحلات هناك في هذا الليل، لعل السائق يظهر، لكن لا فائدة!

ولولا أنه أيقظنا بهذا الصراخ الرهيب الذي أطلقه قبل مغادرته الباص، لظننا أنه قد تم اختطافه من قلب الباص، من دون مزاح...
وانقضى الليل وانبلج نور الصباح، لنصلي الصبح هناك، ولا يزال السائق مختفيًا!
أشرقت الشمس، ولم يظهر الأخ بعد!
وإذ حان وقت الضحى، فوجئنا به يظهر بغتة، كأنما نبت من قلب الرمال، يمشي متثائبًا كعادته، واستقبله الركاب بعاصفة من الشتائم والاعتراضات والاستنكارات، لكنه رَدَّ ببرود تام قائلًا إنه ذهب لـ(ينام) وذلك لأنه...
قاطعه العشرات صارخين في وجهه:
_ لأنك متعب قليلًا! تضرب بهذا الرأس الذي تحمله فوق أكتافك!

انطلق الأخ بنا مرة جديدة بمشهد متكرر ممل، وما كاد ينطلق فعلًا حتى صرخ أحد الركاب قائلًا بصرامة:
_ اسمع أيها المستهتر، لو رجعتَ إلى عادتك هذه بالتوقف كل ساعتين لتنام سبع عشرة ساعة، فسأخلع رقبتك من مكانها، ولو اضطررنا إلى البحث عن تاكسي لنتابع إلى المدينة ثم إلى مكة!

حاول مسؤولا الرحلة التدخل، لكنهما قوبلا بموجة من الاعتراض والاستنكار، ما دفعهما إلى السكوت، والاكتفاء بالتمتمة:
_ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

ثم تكلما مع السائق بصوت منخفض، قبل أن يهتف أحدهما بنا:
_ اسمعوا! لا توقف نهائيًا في الطريق، إلى أن نصل إلى الفندق في مكة!

هتف بعض الركاب محتارين:
_ مكة؟ ألن ننزل في المدينة قبل ذلك؟ الشركة وعدتنا بيومين؛ أولًا؛ في المدينة، وخمسة أيام في مكة، ثم يومين آخرين في المدينة، ولكن...
هتف ركاب آخرون:
_ لا! الشركة قالت إننا سننزل في مكة أولًا، خمسة أيام، ثم أربعة في المدينة!

صاح أحد المسؤولَين:
_ كفى! من السنة أن نسافر مباشرة إلى مكة لأداء العمرة، من دون التوقف في الطريق!
رغم انقسام الركاب وآرائهم حول أين ننزل أولًا، إلا أنهم توافقوا جميعًا هنا على الهتاف المتهكم:
_ فعلًا، فعلًا!
_ معكم حق!
_ لم نتوقف في الطريق إطلاقًا!
_ بارك الله بكم لأنكم لا تتوقفون في الطريق!
_ كل هذا ولم نتوقف في الطريق! ماذا لو توقفنا إذًا؟ كانت هياكلنا العظمية هي التي ستصل إلى مكة، لا نحن!

أما أنا، فنظرت إلى المسؤول قائلًا بسخرية:
_ من السنة؟ صحيح؟ هل تعطينا حديثًا صحيحًا يؤكد كلامك؟
رد بحزم:
_ نحن مسافرون إلى أين؟ إلى العمرة! والعمرة أين؟ في المدينة أم في مكة؟
أجبته بالسخرية ذاتها:
_ هذا رأيك، وربما أوافقك وربما لا، لكن كلامك هذا لا يعني أن من السنة أن لا نتوقف في المدينة!
قال، وقد ظن نفسه ذكيًا على الأرجح:
_ أعطني دليلك على أنه من السنة التوقف في المدينة أولًا!
رددت بلا مبالاة:
_ حينما أدعي هذا الأمر، اطلب الدليل يا رجل!

لم أكن معترضًا حقيقة على المتابعة مباشرة إلى مكة، وذلك لسبب واحد، فما ضاع من المسافة على الطريق يجب تعويضه بأي ثمن، وإلا سيبدأ دوامنا المدرسي، ونحن لم نرجع؛ بعد؛ إلى لبنان، ولولا ذلك أعتقد أنه من (الواجب) النزول في المدينة أولًا، وذلك لأخذ استراحة تعيد الحيوية إلى أجسامنا المرهقة، بسبب هذا السائق الأحمق المستهتر.

تابعنا المشوار، وقد أسرع الباص بنا، بناء على طلبنا، رغم أن السائق تأفف من ذلك، لكني أظن أنه وجد نفسه مضطرًا لإطاعتنا، لأنني أعتقد أن الكثيرين كانوا مستعدين لضربه، بل وتكسير عظامه، لما فعله بنا.

وصلنا إلى الميقات أخيرًا، لكننا وصلنا في حالة من الإرهاق لم نشعر بمثلها في حياتنا قط...
وبهذا الإرهاق ارتفعت الأصوات تعبِّر عن الأمنيات التي لا تتحقق:
_ ليتنا نزلنا في المدينة أولًا، ولو يومًا واحدًا، لنرتاح قليلًا!
رد المسؤولان معًا:
_ لا عليكم! لقد مَرَّ الكثير ولم يبق إلا أقل القليل!

نزلنا من الباص، وأبى السائق النزول، هو سائق يتقاضى أجرته، ولا علاقة لنا به، لا يريد أداء العمرة، وذلك لأنه حر، وإذًا لا أحد يستطيع أن...
قاطعه أحدنا متأففًا:
_ انفلق! من طلب قصة حياتك؟
تدخلت؛ هنا؛ لأقول بحزم:
_ اسمع! درجة الحرارة لا تطاق، سنحرم هنا، ثم نصلي الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، وركعتي الإحرام، ويجب أن نجدك في الباص بعدها، وقد أدرت المحرك وشغلت المكيف، قبل أن نرجع إليه ولو بعدة دقائق، هل الكلام واضح؟
أجاب السائق بالإيجاب، وهتف أحد المسؤولين مستنكرًا:
_ هذا أمر بديهي! هل تتخيل أن يحصل العكس؟
وأضاف المسؤول الثاني:
_ بكل تأكيد سيحصل ما قلته يا أستاذ عمر!

وددت لو أصدق، لكنني؛ لسبب ما؛ وجدت نفسي عاجزًا عن التصديق، وشعرت بأننا مقبلون على حماقات جديدة من هذا السائق، حتمًا لا محالة...
وصدق توقعي فعلًا، ولكم تمنيت أن أكون مخطئًا في ما ظننته، ولكن... يا للأسف!
خرجنا من المسجد، لنجد أن الباص مغلق، وكل نوافذه مغلقة؛ كذلك؛ عن آخرها، والسائق مختفٍ، وقفنا محتارين، تحت أشعة شمس حارقة، قبل أن نرجع إلى المسجد نحتمي به، خوفًا من الإصابة بضربة شمس حادة...
هل ذهب السائق لينام لأنه متعب قليلًا؟ وأين سينام؟ هل سيدفن نفسه في الرمال اللاهبة مثلًا؟
كنا بحالة إحرام، وفي المسجد، لكني أعتقد أن بعضنا قد انطلق بالسباب والشتائم رغم هذا!

كل فترة يخرج أحدنا ليرى هل شَرَّف السائق، ولا يجده، إلى أن عاد الأخ للظهور أخيرًا، بعد حوالي ساعتين ونصف من الاختفاء، ولا تظلموه! لم يذهب لــ(ينام لأنه متعب قليلًا)، بل ذهب ليتنزه قليلًا، وكانت نتيجة ذلك أننا ركبنا الباص (المغلي) بعد وقوفه تلك المدة في الشمس الحارقة، وكاد بعض الركاب يبكون لحرارة المقاعد التي أحسوا بها مع جلوسهم على المقاعد...
حتى أن الراكبة التي تجلس في المقعد الأول قرب باب الباص، أي على مسافة من يميننا، قد مَدَّت رجليها لتضعهما في حضن الراكب بجواري!
وقبل أن أعترض على هذا التصرف، هتفت هي:
_ إياك أن تعترض!
فكرت مبهورًا أنها تدرك خفايا النفوس مثلًا، لكنها تابعت لأدرك أنها لا تملك هذه الميزة:
_ يا أخي! من حقي أن أرتاح، الأرض تحتي ملتهبة لم أعد أستطيع وضع ساقي عليها، إن لم تساعدني فما لزومك أخًا لي إذًا؟

كانت الحرارة؛ آنذاك؛ ثلاثًا وستين درجة مئوية، وذلك بعد مدة يسيرة من انطلاق السائق بالباص، وتشغيل المكيف البارد!
وإذ تدنت درجة الحرارة إلى الأربعين شعرنا بأننا نرتجف بردًا! مع أن الأربعين؛ في بلادنا؛ تُعتَبَر حرارة لا تُحتَمَل بأي حال كان!

كنا مصابين بصداع رهيب، وشعور بتهالك أجسامنا يفقدنا ما تبقى من قوتنا وحيويتنا نهائيًا...
خطر لي؛ هنا؛ خاطر عجيب، جعلني أبتسم ساخرًا:
_ "كيف لهذا السائق الذي كلما قاد الباص ساعتين أو ثلاثًا، انهار نائمًا نصف يوم _ على الأقل _ أن يتحمل هذه الحرارة الفظيعة، من دون أن ينهار بسببها"؟

لم أجد إجابة ما، ولم أفكر كثيرًا بالحصول عليها...
فلقد حصل؛ آنذاك؛ أمر غريب، ما كان لأكثرنا خيالًا ولا لأبعدنا تفكيرًا أن يتوقع حصوله...
على الإطلاق!


تابعوا معنا

أ. عمر
3-8-2018, 12:50 AM
توقف عدة أيام لأخذ استراحة صحية أخرى... والله المستعان

أ. عمر
7-8-2018, 12:46 AM
نتابع في الغد إن شاء الله

أ. عمر
7-8-2018, 02:01 AM
بسم الله الرحمن الرحيم


الحلقة الرابعة عشرة

إنها الأمطار تنهمر...
فوق رؤوسنا...
مباشرة!

أمر غريب يحصل الآن...
وأنى لأكثرنا خيالًا وأبعدنا تفكيرًا أن يتوقع ذلك!

الطقس حار كالنار، ثم تمطر؟
لكن المصيبة أن المطر ينهمر علينا، فأخذنا ننظر إلى سقف الباص نتأكد من وجوده، وإذ به موجود، ولكن الماء يتسرب منه بغزارة...

هتف أحد الركاب بالسائق، بلهجة غاضبة:
_ ما هذا؟
أجاب السائق، مؤكدًا:
_ شتاء!
صاح راكب آخر:
_ بجد؟ يعني هو شتاء شتاء؟ كنا نظن أنه بيبسي!
أضاف ثالث:
_ ماذا عن سقف باصك التعيس؟ ألم يخبره أحد أنه سقف من قبل؟ أم أنه قد أخذ إجازة؟

تدخل أحد مسؤولَي الرحلة، ليهتف بالركاب:
_ ما القصة يا شباب؟ المطر رحمة!

تبرير طريف فعلًا!
المطر رحمة، والمطر عذاب كذلك!
ولنفترض أنه هنا رحمة، فمن أخبرهم أننا نريد أن نتعرض للمطر؟
لقد كنا في حر رهيب، وشعرنا بالاحتراق فعلًا بجلوسنا في مقاعدنا، وبعد ذلك قطرات المطر، وهواء بارد، هذا ما لم يكن في الحسبان...
غير أننا لم نعترض قط، إذ خفنا أن يتحول الأمر بنا إلى جدال قد يفقدنا العمرة التي انطلقنا من لبنان لأجلها، فكتمنا الغيظ، واستسلمنا للواقع المرير...
ورغم أن المطر والهواء لم يستمرا طويلًا، إلا أن الكثير منا أحسوا بصداع قاس جدًا، وببوادر الزكام تكاد ترهق أجسامهم...

_ لقد وصلنا!
هتف السائق متحمسًا بهذه الكلمة، فاستبشرنا خيرًا لانتهاء معاناة لم نتخيل حصولها من قبل، فلقد استغرقت الرحلة حوالي ستين ساعة، وربما أكثر، ولكن لا؛ لم تنتهِ المعاناة، ولم تتوقف المهزلة التي نعيشها، إذ إن السائق أخذ ينطلق بالباص ويدور به بحماقة نادرة، لنمر بالأمكنة نفسها مرات عديدة، من دون اهتمام بملاحظات الركاب، حتى نفد صبر الجميع، ولا زال السائق يعيد المرور بالأمكنة ذاتها، وأخيرًا (تكرم) أحد المسؤولَين، ليخبرنا خبرًا رائعًا:
_ إن السائق لا يعرف طريق الفندق!

هتف بعض الركاب بغضب:
_ أليس له لسان ليسأل أي شخص؟ أم أن لسانه قد أكله القط؟
صاح المسؤول:
_ عيب! أنت في مكة، وقادم لتؤدي العمرة، ولذا...
قاطعه الراكب صارخًا:
_ أعرف! والله العظيم أعرف! لكن هل يعرف سائقك هذا أم لا يعرفه؟؟

لا أذكر إن استمر الحوار هنا أم لا، لكني أذكر أننا دخلنا الفندق بعد أكثر من ساعتين من سماعنا كلمة (لقد وصلنا)!

كنت أسمع الهمسات المرتاحة من الركاب:
_ سنصعد إلى غرفنا ونرتاح قليلًا.
ولكن كان هذا وهمًا! فلقد بقينا؛ نحن وحقائبنا؛ في مدخل الفندق، وذلك لأن الشركة لم تؤكد الحجز لنا، لكنها أكدت لركاب الباص الثاني، الذين كانوا ينتظروننا على الطريق، لكنهم كفوا عن ذلك فيما بعد، وتابعوا رحلتهم مباشرة ووصلوا إلى غرفهم وارتاحوا، وأدوا العمرة كذلك، وعادوا يرتاحون، وبعضهم ذهب يتسوق... ونحن هنا؛ في مدخل الفندق!

وبعد هذا، أخذوا يبشروننا بأن الأمر قد تم حله، ولكني؛ لا أعتقد أن المسألة مسألة حجز أم لا، بل أعتقد أنها مسألة نقود!
لم يَبْدُ لي من المنطقي أن يَتِمَّ الحل خلال ساعتين ونصف، ويخلو من الغرف ما يتسع لعشرات الناس، وتعمق هذا الإحساس في نفسي لاحقًا، حينما أتى مسؤولا الرحلة يريدان منا نقودًا، فلم أدفع، وذلك لأنني كنت قد دفعت كامل الأجرة في مكتب الشركة قبل الانطلاق، والمبلغ كان 300 دولار أمريكي، لكنهم تقاضيا من عدد من الركاب 350 دولارًا، وعدد آخر أخذ يشكو أنه قد دفع قبل الانطلاق؛ أو حتى بعده؛ 400 دولار...

لا علينا من هذا، مضى حوالي خمس ساعات من سماعنا أننا وصلنا، ولم نصل بعد!
وأثناء جلوسنا فوق حقائبنا، كان بعض الركاب يهتفون ساخرين من أنفسهم ومن هذا الوضع:
_ من مال الله يا محسنين!

الآن تم حل المشكلة، لكن هذا لا يعني أن المشكلة قد تم حلها!
وليس هناك أي تناقض في ما أقول، فلقد أخذ مسؤولا الرحلة يخبراننا بتوزيعنا على الغرف، ثم ينقضان التوزيع ويعيدانه بشكل مختلف، ثم ثالث، ثم بتوزيع رابع، فخامس...
ومر علينا أكثر من ساعة إضافية، ونحن في هذا الوضع، وهما لا يباليان بالاعتراضات ولا بالانتقادات، كأنهما لا يسمعان!

وبعد ذلك قالوا إن هذا هو التوزيع الأخير، وصعدنا إلى غرفنا، وألقينا بحقائبنا، و...
وفوجئنا بمن يقتحم الغرفة كأنه ضابط مباحث قادم في تفتيش مفاجئ، ليخبرنا بأن (الشيخين) قد نقضا التوزيع، وذلك لأنه...
والحمد لله أنه اختفى قبل أن يصل إليه زملائي في الغرفة، وإلا أظن أنه كان سيعاني بعض الكسور حتمًا!
لكن هذا لا يعني نجاتنا! فلقد أتى أحدهما فورًا يخبرنا بأن فلانًا في الغرفة رقم كذا وفلانًا في الغرفة رقم كذا وفلانًا... لكن المهزلة مستمرة، بعضنا استجاب، وبعضنا لم يستجب، وبعضنا لم يستطع الإجابة لأنه نام كالقتيل فور أن رأى الفراش...
وهكذا! يتم إرسال ستة أشخاص إلى غرفة واحدة (ثلاثة أسرة)! وغرفة أخرى رباعية الأسرة، فيها شخص واحد!
ومرة أخرى نلقي بحقائبنا، لكن في الممر، لنجلس فوقها، وبعضنا يهتف ساخرًا:
_ من مال الله يا محسنين!

أكثر من ثلاث ساعات، وهذه المهزلة مستمرة، وكل ربع ساعة يطلبنا أحد العبقريين لاجتماع (عاجل) في بهو الفندق، ليخبرنا عن نظرته المدهشة كيف سنتوزع في الغرف، ولم ينجح اجتماع واحد، حتى لو وصفوه بالعاجل، فكل مرة يعترض أحد الرجال، فهذا قد نامت امرأته، وذاك قد نامت طفلته، وثالث يكاد يترك الفندق ومكة والسعودية كلها ويرجع إلى لبنان، لأنه يعتقد أن العمرة لن تُقبَل منه، لكثرة ما أهوى بالسباب فوق رؤوس ثلاثة! السائق، ومسؤولا الرحلة!

وأخيرًا، انتهت المهزلة، ولو مؤقتًا، ورغم كل الإرهاق الذي أشعر به يكاد يقتلني، ألقيت بحقيبتي في الغرفة، واتجهت لأغادر، وإذ بأحد الشيخين المسؤولين المرافقين لنا، يبرز أمامي، ليسألني بدهشة:
_ إلى أين؟
حاولت جاهدًا أن أتمالك نفسي، أنا في مكة، قدمت إليها لأداء العمرة، فإلى أين سأذهب إذًا؟ في هذه المواقف لساني حاد جارح في الرد، لا أستطيع إلا أن أسخر وأتهكم، لكن لم يكن هذا بمقدوري الآن؛ وأنا في حالة الإحرام، فتمالكت أعصابي بقدر المستطاع، لأجيب بهدوء:
_ إلى الحرم، طبعًا!
سألني؛ والدهشة لا تفارق صوته:
_ لماذا؟
هتفت بوجهه غاضبًا:
_ وما رأيك أنت؟!

لم يَعُدْ بمقدوري الهدوء هنا، ولقد أجابني بحزم، كأننا تلاميذ في صفه، ونحن لا نعلم:
_ ولكن الشيخ... قال إنه من (الممنوع) أن يذهب أحدكم لأداء العمرة وحده! سنذهب لنؤديها سويًا، مع بعضنا، والآن هو نائم، لأنه...
لم أكن مستعدًا لسماع قصة حياة الأخ، ولا سبب نومه، فلينم متى شاء وكيفما شاء، فقاطعت الشيخ هذا الذي يتكلم، محاولًا أن أصبر:
_ اطمئن، أعرف كيف أؤدي العمرة، هذه ليست أول مرة، والآن... سلام!
وغادرت الفندق متجهًا بسرعة نحو الحرم، لا بد لي من أداء العمرة الآن، وإلا قد لا أستطيع ذلك لاحقًا... أنا مرهق جدًا، والمرض لا يترك لي حيوية في جسمي، إذًا؛ عليَّ بالعمرة قبل أن يذهب مشوار السفر إليها عبثًا...
ولم تكن المسافة قصيرة كما قالوا لنا قبل الرحلة! قالوا إن الفندق لن يبعد أكثر من 500 أو 600 متر كحد أقصى عن الحرم، لكن عمليًا المسافة تتجاوز الكيلومترين... لكن؛ لا علينا... ما رأيناه في رحلتنا أشد وأقسى من هذا بكثير...

دخلت الحرم المكي، وأنا ألهث إرهاقًا وألَمًا...
كنت أشعر بصدري يحترق حقيقة لا مجازًا...
لكني اتجهت نحو الكعبة لأحاذي الحجر الأسود، وأبتدئ الطواف محاولًا الرمَل في الأشواط الثلاثة الأولى، بقدر الإمكان، لكني كنت أتوقف أحيانًا لأبطئ السير، للحرارة التي أعانيها في جسدي...
طفت بين الصفا والمروة أول مرة، وثاني مرة، وإذ بشخص يجلس على مقعد متحرك، يشير إليَّ، متمتمًا بكلام غريب، لم أفهمه، لكنه كان _ من إشاراته _ يريد من يدفع له مقعده ليطوف به...
وأنا ضعيف عصبيًا، ليس عندي قوة الشد، وأنا في قوتي، فكيف الحال هنا؟
كدت أنصرف، لكنه عاد يهتف بي، وأحسست بنظرات الضراعة في عينيه... توكلت على الله، وأخذت أجر له مقعده المتحرك هذا، والعرق يتصبب مني، غير أنني؛ إذ وصلت إلى الجهة الأخرى كنت في آخر حالات قوتي، ولا أستطيع الحراك نهائيًا...

نظرت إليه، وأنا لا أكاد ألتقط أنفاسي، وأخذت أشير إليه محاولًا إفهامه أنني قد فقدت كل القدرة على مساعدته، ولكم شعرت بالدهشة لما أراه! لقد هَزَّ برأسه متمتمًا بكلمات، كأنه يتعاطف معي (ربما كان يسب حظه، لا أعلم، لكن هكذا شعرت، أنها كلمات تعاطف)... ثم نهض أمامي، ووقف بكل نشاط، ليمسك بمقعده المتحرك، ويدفعه أمامه، وهو يركض بسرعة لا أستطيع مجاراتها، حتى لو كنت بكل قوتي ونشاطي!
اختفى الأخ خلال ثوان قليلة من أمام ناظري، ولكم شعرت بالندم؛ وقتها؛ لأني لم أجلس بدلًا منه على مقعده هذا، وأتركه ينطلق بي!
كان هذا سيوفر عليَّ عناء كبيرًا، ولكن... الأمنية باتت مستحيلة الآن، للأسف!

تابعت الطواف، وأنهيت مناسك العمرة، وخرجت من الحرم لأتحلل، واتخذت طريقي راجعًا إلى الفندق، ولكن...
إنه صوت الشاطري! صوت الشيخ شيخ أبو بكر الشاطري ينطلق بقراءة رائعة رائعة، تتبعت مصدر الصوت، لأجد نفسي في فرع لدار البلاغ، الذين يحتكرون تسجيلاته السنوات الأخيرة...
أو هذا ما ظننته، فالواقع أنني كنت في أبراج مكة، لكني دخلت عبر درج ضيق، من باب عليه علامة دار البلاغ...
إنها الأمنية القديمة أن أصلي خلف الشاطري تتجدد، سأسأل البائع هنا أين يصلي الشاطري، و...

_ عمر، عمر، عوماااااااااااااار!!

انطلق الهتاف الحماسي بغتة، بصوت أنثوي، ما ملأ نفسي بالدهشة...
صحيح أنني شهير فعلًا، لكن... إلى هذا الحد؟؟
نظرت إليها، لأجد أنني أمام فتاة، لم يسبق لي أن رأيتها في حياتي من قبل...
إطلاقًا!!
ترى؛ هل تنادي هذه الفتاة البائع، واسمه على اسمي مثلًا؟
لكن لا! لقد تابعت الفتاة بانفعال:
_ أستاذ عمر قزيحة، أستاذ عمر قزيحة!

وكانت الدهشة عارمة...
بحق!

تابعوا معنا!

أ. عمر
14-8-2018, 09:32 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الخامسة عشرة

صحيح أنني إنسان شهير جدًا، سمع بي بعض الأشخاص فحسب، لكن...
ليس لهذا الحد العالمي!
من المؤكد أن هذه الفتاة التي تناديني ليست سعودية حتمًا، فلهجتها ليست اللهجة الخليجية التي تعودنا سماعها، بل لهجتها أقرب إلينا نحن، أهل الشام، لكن كيف تعرفني؟
أنا لم أدرِّس خارج لبنان على الإطلاق، فأنى لهذه الفتاة أن تعرفني، وتعرف مهنتي؟

حانت مني نظرة للبائع في محل دار البلاغ، وأحسست أنه متضايق مما يحصل،
مجرد إحساس أتاني، وربما لا يكون صحيحًا، ولكن طريقة هذه الفتاة في مناداتي ليست لائقة، إذ إنها تقف تصرخ باسمي في طابق يحتوي متاجر عديدة، ومليء بالناس ما بين باعة ومشترين...

نظرت إليها، لأجد أنني أمام فتاة، لم يسبق لي أن رأيتها في حياتي من قبل...
إطلاقًا!!
ترى؛ هل تنادي هذه الفتاة البائع، واسمه على اسمي مثلًا؟
لكن لا! لقد تابعت الفتاة بانفعال:
_ أستاذ عمر قزيحة، أستاذ عمر قزيحة!

وكانت الدهشة عارمة...
بحق!

لم يعد هناك أدنى احتمال أنها تنادي البائع، بل إنها تناديني، لكن كيف عرفت اسمي واسم عائلتي كذلك؟
وجدت نفسي أحدق بها، من دون انتباه لذلك، ولقد تابعَت هي بانفعال شديد:
_ اشترِ الشريط، صوته راااااائع.

كانت قراءة الشاطري رائعة فعلًا، لكني تجاوزت ذلك، لأسأل الفتاة بحذر:
_ ولكن، من أنتِ؟
اتسعت عيناها، وهي تهتف، كأنها مصدومة:
_ ماذا؟ من أنا؟ هل تمزح؟ أنا معكم في الرحلة، وكنت أجلس في المقعد الأول عن اليمين، قريبًا من مقعدك المشترك أنت وأخي، بل إنني لمحت الاستنكار في وجهك، حينما مددتُ ساقي لأضعها في...
قاطعتها قبل أن تسترسل في ذكرياتها:
_ آه، نعم، صحيح.
قلتُ ذلك، وأنا ألوم ذاكرتي الهزيلة هذه، مبتسمًا لطرافة الموقف، إذ ظننت أن شهرتي باتت عالمية، وانصرفت الفتاة لتبحث عما تريده داخل هذا الطابق الأرضي ضمن أبراج مكة، واشتريت أنا أشرطة الشاطري الجديدة، ثم رجعت إلى الفندق، ليدعوني زميلي في الغرفة لتناول علبة (بيبسي)، وقد كان مدمنًا عليه بشكل غريب، وفجأة اقتحمت أخته الغرفة، هاتفة بحماسة:
_ تخيل يا أخي، تخيل! السديس له صوت رائع جدًا، غير ذلك الصوت الذي يعرضونه لنا في التراويح، على التلفزيون!
ربما كان أخوها يريد التعليق، لكنها لم تمنحه الفرصة، بل تابعت بالحماسة ذاتها:
_ اسأل الأستاذ، كان معي في المحل، وقد سمع صوته المذهل.
قلتُ بهدوء:
_ من سمعنا صوته لم يكن السديس، بل كان الشاطري، وهو...
قاطعتني هاتفة بمنتهى الذهول:
_ كيف؟ هل يوجد في السعودية أحد يقف إمامًا غير السديس؟
رد أخوها متهكمًا:
_ لماذا؟ هل تظنين السعودية حارة بيتنا مثلًا؟ لا يوجد فيها سوى مسجد واحد!

تواصل الحوار بين الأخ وأخته، وأنا أتمنى انصرافها، فلقد كان الإرهاق عنيفًا جدًا، والصداع يشتد، وأشعر؛ فعلًا؛ بأنني لم أعد أستطيع الوقوف، ولما لم يحصل ذلك، خرجت من الغرفة محاولًا أن أستنشق بعض الهواء، وإذ برجل يبرز أمامي، يسألني باهتمام:
_ هل لمستَ الحجر الأسود يا عمر؟
أدركت أنه أحد رفاقنا في الرحلة (حتمًا)، ولا علاقة لـ(شهرتي) الخيالية طبعًا، وعمق هذا الإدراك أن وجهه كان مألوفًا، وإذ رأيت أنه يترقب الإجابة، أسرعت أقول:
_ لا، لم أصل، كان الزحام شديدًا.

مال نحوي، يهمس كأنما سيدلي بسر خطير:
_ ولا أنا!
هتفت ساخرًا:
_ تتكلم بجد؟!

أجاب جادًا، كأنما لم ينتبه لسخريتي هذه:
_ ولكني عرفت طريقة تجعلك تصل إليه، وتقبِّله، بل إن الشرطي الذي يقف بجواره سيكون مجبرًا؛ حتمًا؛ على تأمين الطريق لك.
شعرت بدهشة كبرى، إذ أستمع إلى هذا التصريح الخطير، وتابعت كلام الأخ باهتمام تام، لأسمع العجب العجاب:
_ الخطأ الذي نقع فيه جميعًا، أننا نحاول الوصول إلى الحجر الأسود مباشرة، والصحيح أن نصل بطريقة غير مباشرة، لو سرتَ بهدوء، ناحية الزاوية، وأمسكت بـ(الحبل) فقط، فلن يكون هناك مناص لرجل الأمن إلا أن يأخذك بيده لتلمس الحجر الأسود.
واتجه نحو غرفته، قائلًا بشهامة:
_ سنصلي العصر هناك، ثم نطوف معًا حول الكعبة، وسأقوم بإيصالك بنفسي حتى تمسك بالحبل لتصل إلى الحجر الأسود.
رجعت إلى غرفتي، لأجد أن الأخت قد انصرفت منها، والحمد لله، فارتميت على السرير، وأحاسيسي مزيج بين الإرهاق والسعادة، وقد صدقت القول السائر: (إن العبقرية تتسم بالأفكار البسيطة وحدها)، الرحلة الماضية تمكنت من الوصول إلى الحجر الأسود، لكن بمعجزة، وكاد أحد المعتمرين (العمالقة) يتسبب لي بأذى كبير، ما دفعني للمس الحجر الأسود وتقبيله، خلال ثانية أو ثانيتين، والفرار بعيدًا، أو محاولة الفرار، لكني تعرضت لضربة من ذلك العملاق ألقت بي بعيدًا...
ولم أسترسل في ذكرياتي هذه، فلقد غفوت فجأة...
غفوت وأفقت...
رغم مرور فارق زماني لا بأس به بين الأمرين، لكني لم أشعر بنفسي إلا وأنا أتذكر، ويرتفع صراخ رهيب بغتة، يَرُجُّ الطابق بأكمله، صراخ عاتٍ كاد يمزق أذني، فنهضت متوترًا، وجسمي لما يسترجع شيئًا من نشاطه بعد، وأسرعت خارج الغرفة لأرى ما يحصل...
ترى؛ هل اشتعلت النيران في طابقنا؟؟
أدعو الله ألا يكون هذا قد حدث!
اتسعت عيناي دهشة وألَمًا... فالمشهد الذي رأيته كان مؤلِمًا جدًا...
لقد مضى الوقت، وأذن العصر، وعلم الأخ أنني نائم، فذهب من دوني ليطبق طريقته في الوصول إلى الحجر الأسود...
صلى العصر، وأخذ بالطواف، وأمسك بالحبل مرتقبًا أن يفسح الشرطي له المكان، ولكن...
أمسك به بعض الناس من عنقه، وألقوه أرضًا بمنتهى القسوة، ما تسبب بتمزق ملابسه، وجرح ذراعيه، وإحدى ركبتيه، وتطير نظارته الطبية بعيدًا...
ولم ينته الأمر هنا طبعًا... فلقد داس بعض الناس على الرجل، لأنهم لم يستطيعوا تلافي جسده الذي وقع قرب أقدامهم فجأة...
وعلمتُ لاحقًا؛ كذلك، أن بعض الناس انتبهوا إليه، فألقوا بأنفسهم فوقه، لتزداد آلامه، لكنهم تعرضوا لبعض الدعس بدلًا منه، وربما لولا مبادرتهم النبيلة هذه لتكسرت أضلاعه، والله أعلم.

وبعد أن توقفت مسيرة الطائفين حول الكعبة، لينهض رفيقنا متكئًا على الأيادي، وينتبه إليه بعض رفاقنا في الرحلة نفسها، ويسرعوا بإسناده والسير به إلى الفندق، وهو يتألم بكل خطوة يخطوها، لتفاجأ به امرأته وأولاده، ويعلو صراخهم وبكاؤهم...

كنت أنظر إليه مشفقًا، وأنا أفكر أن الله تعالى قد رحمني، ولم أذهب معه لتنفيذ خطته الرائعة هذه، وإلا لنالني ما ناله، وربما أسوأ منه، لكن ما أثار استنكاري فعلًا أن الرجل نظر إليَّ، متمتمًا بلهجة اعتذارية:
_ لا تؤاخذني! لم أنتظرك لأنفذ لك الوعد! لكن، حينما يخف هذا الألم سآخذك معي لتمسك بالحبل، وتصل إلى الحجر الأسود، ربما غدًا!
سألتُه (غير مصدق ما يقول):
_ غدًا؟!
تمتم (بحياء أكبر):
_ غدًا، أو، أو بعد غد، نعم، بعد غد على الأكثر، لأن...
قاطعتُه (بحزم):
_ لا غدًا، ولا بعده، ولا بعد بعد بعده! أنا لا أريد الوصول إلى الحجر الأسود، ماشي؟!
هتف (مستنكرًا):
_ كيف؟ هل هناك من (يَصِحُّ) له أن يصل إلى الحجر الأسود ويرفض؟؟
قلتُ له (ببعض السخرية):
_ يا أخي، أنت (صِحّ) بالأول، وبعدها انظر إن كان (يَصِحّ لك) أن تصل إلى الحجر الأسود!
واستطردتُ (ببعض السخرية، لكنها أقوى من المرة السابقة):
لولا أن الله رحمني لأغفو، لذهبت معك، أفتريدني أن يرحمني ربي من عنده، فأرفض الرحمة، وألقي بنفسي إلى الهلاك!!
ولا أعلم هل كان يريد الاعتراض آنذاك، أم لا، إذ إنني انصرفتُ مسرعًا، رحمةً به طبعًا، ليدخله الزملاء غرفته، لعله يستريح قليلًا.
وما يزال منظر هذا المسكين، بملابسه الممزقة، وجروحه المتعددة، ماثلًا في ذهني، رغم اثنتي عشرة سنة تفصلنا عن هذا الحدث، بل ما يزال صوت بكاء عائلته الأليم، يَرِنُّ في مسامعي.
وأنَّى لفئات قليلة ممن يذهبون إلى العمرة أن يكونوا وحوشًا بهذا الشكل، ليلقوا بمن أمامهم أرضًا، كي يصلوا إلى الحجر الأسود قبلهم؟؟
وهل تُطلَب رحمة الله تعالى بهذا الشكل!!
عدت إلى غرفتي لأتوضأ، واتجهت إلى الحرم، لأصلي العصر منفردًا، وظللت في الحرم حتى صليت المغرب، ثم العشاء، ودخلت الأسواق الشعبية لأشتري أغراضًا لعائلتي، حتى كادت تنفد ورقة الخمسمئة الريال الأولى التي أمتلكها، وبقيت ورقة أخرى لم أستخدم منها شيئًا، فلا يزال أمامنا أيام عديدة هنا، ورجعت؛ بعدها؛ إلى الحرم، لأبقى حتى الفجر، ومن بعدها للضحى...
وكان هذا خطأً كبيرًا مني، إذ إن المرض اشتد بغتة، فخرجت أبحث عن صيدلية أبحث عن دواء يسكن الألم، ورجعت بالدواء إلى الفندق لأتناول منه حبتين، وأحاول النوم (قليلًا)، لكنني نمت (كثيرًا) للأسف! ساعات طوال مضت، وأكثر من صلاة اضطررت إلى قضائها، والحرارة تشتد في جسمي ثم تخفت على أثر الدواء بعد ما أتناوله بفترة، وهكذا، وجدت نفسي في الأمسية اللاحقة أصلي المغرب ثم العشاء في الحرم، ثم أرجع إلى الفندق مرة ثانية، مع بدء الآلام في رأسي، وإحساسي بارتفاع الحرارة مجددًا، لأنتبه إلى وجود صرافة قرب الفندق تمامًا، فأخرجت ورقة الخمسمئة ريال الثانية، وأعطيتها لأحد الرجلين في الصرافة، طالبًا أن يعطيني بدلًا منها فراطة (فكة)...
أمسك الأخ بالورقة المالية ونظر إليها بدهشة، ثم امتدت يده نحو سماعة الهاتف، قائلًا بصرامة:
_ سأبلغ عنك الشرطة!
قلت له متحمسًا:
_ بلغ!
كنت شاردًا، لا أصدق متى أتناول الدواء المسكن، ثم انتبهت إلى ما يحصل، ولمحت الصراف ينظر إلي بدهشة، وربما باستنكار، فهتفت به:
_ ماذا تقول؟ ستبلغ من؟
أجابني بحزم:
_ سأبلغ الشرطة طبعًا!

خطر لي أن هذا الرجل أحمق! هل سيبلغ الشرطة عني لأن معي ورقة مالية بخمسمئة ريال!
لماذا؟ هل تحظر السعودية التعامل بمثل هذه الورقة النقدية؟
ولماذا؛ إذًا؛ لم يعترض صاحب المحل الذي اشتريت من عنده بالخمسمئة ريال الأولى؟

لكن الصراف تابع بالحزم ذاته:
_ بتهمة ترويج أوراق نقد سعودية زائفة!

كان رَدُّه رهيبًا...
بل فظيعًا...
وينذر بموقف رهيب سأقبل عليه، ولا أحد يعلم كيف سينتهي...
بدا لي خيال السجن واضحًا جليًا...
وارتجف جسمي بخوف شديد.

تابعوا معنا

محمد الهاشم
16-8-2018, 12:28 PM
مكة المكرمة .. المسجد الحرام .. الكعبة المشرفة.. 100 ألف صلاة

نعم.. أذكر مشاهدتي للكعبة لأول مرة وعلى الأرض الواقع، لقد شعرتُ بالرهبة. شيء آخر، كل دعواتنا في الحرم قد استجيبت.

قد أعود لاحقاً لاستكمال ما فاتني.

أ. عمر
19-8-2018, 03:38 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة السادسة عشرة

ذكريات من العام 2006
وإلى الآن إذ أسترجع هذه الذكريات، أحمد الله تعالى على نعمة الأمان التي أشعر بها...
كان رد الصراف؛ آنذاك؛ رهيبًا بالفعل...
وقد أحسست؛ صراحة؛ بخوف كبير لما أنا مقدم عليه...
إنه الضياع حتمًا، وللأسف...
ضياع الحرية، وحتى لو أثبتُّ براءتي، فإنني مهدد بضياع مستقبلي المهني في حال تأخرت التحقيقات خمسة عشر يومًا متتالية...
وبمحاولة أخيرة يائسة، سألت الصراف:
_ وما شأني أنا يا أخي؟ هل تظن أنني أطبع أوراقًا نقدية؟
أجابني بعناد:
_ وما شأني أنا؟ أنت تحمل خمسمئة ريال زائفة، وستخرج من هنا لتشتري بها، و...
قاطعته؛ وقد بدا لي مخرج النجاة من هذا المأزق الصعب:
_ وهل تظن أنني أتيت من بلدي؛ في رحلة برية؛ استغرقت بنا ما يقارب الستين ساعة، لأشتري بخمسمئة ريال مزورة من السعودية، وقد كلفتني الرحلة إلى السعودية أربعة أضعاف هذه الخمسمئة؟؟
جمد الصراف قليلًا، كأنه يفكر في هذا الكلام الذي سمعه مني الآن، ولم أمهله هنا، بل تابعت استلام زمام المبادرة، لأقول له:
_ وضميرك وواجبك، يقولان لك أن تؤذيني؟ وأنا بريء؟ والمخطئ صراف لا يخاف الله، في لبنان؟
عاد الرجل يقول بعناد:
_ ولكن الشيطان ماهر، وسيوسوس إليك حتمًا أن تشتري بها، وعندئذ...
أسرعت أقاطعه بحزم:
_ إذًا؛ لنضع حلًا وسطًا فيما بيننا، قم بالخربشة على الخمسمئة المزورة هذه، بل واكتب أنها مزوة إن أحببت ذلك، واختمها بختمك، ثم...
قاطعني بدهشة:
_ ولماذا لا أمزقها فحسب؟؟
أجبته غاضبًا:
_ كي أستطيع أن أمسك الصراف الذي أعطانيها من عنقه بها، إن شاء الله.
مرت لحظات صمت قاسية، وكانت لحظات صعبة جدًا، أعتقد أنها أصعب ما مررت به في حياتي، حتى تلك اللحظة، وأخذت أفكر ماذا يمكن أن يكون قرار هذا الصراف، ماذا سيفعل؟

_ نعم، هذا ما سأفعله.
قالها الصراف، إذ يمد يده نحو سماعة هاتفه، فأدركت أنه سيبلغ الشرطة، وكدت أهرب، لكني لم أفعل، والحمد لله، إذ إنه كان يمد يده ليفتح درجًا تحت الهاتف، ما جعلني أتخيل أنه يريد استخدام الهاتف للاتصال بالشرطة، فشعرت بالخوف والتوتر، وكم أسعدني أن الصراف أخرج قلمًا من ذلك الدرج، ليخربش على الورقة النقدية بطريقة يجعل من المستحيل استخدامها، ويعيدها إلي، ورغم أنه لا يمكن لي أن أنتقم من الصراف الذي أعطانيها، كوني أخذت العملة السعودية من صرافين مختلفين، ما يجعل الحقيقة تضيع بينهما، إلا أنني كنت سعيدًا لنجاتي من هذا المأزق، مرحليًا على الأقل!

خرجت من الصرافة، شاعرًا بأنني قد رجعت إلى الحياة، ولكن...
لم تكتمل الفرحة! فلقد هتف بي الصراف قائلًا بلهجة عجيبة:
_ أنا أعرف تمامًا أنك تسكن في الفندق الذي بجوارنا، رأيتك عدة مرات وأنت تخرج وأنت تدخل!
سألته بحذر، وقد رجعت إلي مخاوفي:
_ ماذا تقصد؟؟
لم يجبني الأخ! ليتركني في حالة ما بين التوتر والراحة، ما بين الخوف والرجاء، لكني تابعت طريقي إلى الفندق، وما إن دخلته حتى واجهني مفاجأة قاسية جدًا، أنستني الصراف والخمسمئة ريال المزورة والشرطة كلها! فلقد كان الرعب يرتسم مجددًا، رعب الضياع في السعودية، إذ إن أحد رفاق الرحلة استوقفني هاتفًا:
_ أنت! لا اسم لك في الفندق!
أردت أن أسأله ما معنى هذه الخرافة التي تفوه بها توًا، لكنه تابع بلهجة مستغربة:
_ نحن نريد الذهاب إلى جدة غدًا، وأخبرتنا أنك ستذهب كذلك، سألنا عن جوازات سفرنا، جواز سفرك ليس موجودًا، لم تستلمه إدارة الفندق نهائيًا، هل هو معك؟
أجبته منزعجًا:
_ كيف يكون معي؟ إنه مع مسؤولي الرحلة السعيدة هذه!
وذهبت أبحث عنهما في كل الغرف المخصصة لنا، لكني لم أجد أحدهما، وانتظرت مدة طويلة حتى حضرا، فاندفعت إليهما أسألهما عن جواز السفر، فكان أن توجها إلى إدارة الفندق ليسألا عن جواز السفر! وكان أن سألتهما إدارة الفندق عن جواز السفر! وخرج أحدهما يخبرني عابسًا:
_ لقد سألناهم في الإدارة عن جواز سفرك، ولقد سألونا في الإدارة عن جواز سفرك، ذلك أنهم في الإدارة لم يروا جواز سفرك، ونحن في الإدارة... أقصد نحن مسؤولا الرحلة، لم نر جواز سفرك، و...
قاطعته، قبل أن يتابع هذه الحكاية الخرافية:
_ كيف لم تروا جواز سفري؟ كيف تم ختمه عبر الحدود السورية والأردنية والسعودية إذًا؟
أجابني أحدهما بحكمة:
_ توكل على الله!
وانصرفا من أمامي، وأنا أشعر بأنني دخلت مرحلة خطر غير متوقعة...
ماذا سيحصل بعد أن تنتهي رحلتنا هنا؟ كيف سأتجاوز الحدود الثلاثة في طريق الرجوع؟
أم هل سأبقى في السعودية حتى أهلك من الجوع والعطش وأنام متشردًا على الأرصفة؟ أم أن السلطات السعودية ستلقي القبض عليَّ بتهمة الإقامة غير القانونية؟
يا له من كابوس آخر يرتسم أمامي الآن، ولما يزل الكابوس الأول بعد!
لم أدر لحظتها أن الرعب الفعلي لم يكن قد بدأ بعد، وأنني سأنال منه الكثير لاحقًا، لكنني كنت أفكر بكلمات رفيقي في الرحلة:
_ لا اسم لك في الفندق!

يا ربي! ماذا سأفعل؟
كيف اختفى جواز سفري من الفندق، بل كيف لم يتم تسجيل جواز سفري أساسًا في هذا الفندق؟
ماذا سأفعل حين ستنطلق قافلتنا راجعة إلى لبنان، بعد عدة أيام؟
عدت أبحث عن مسؤولَي الرحلة حتى وجدت أحدهما، ونقلت إليه أسئلتي ومخاوفي، فكان رده مثل زميله:
_ توكل على الله.

نعم، ما خاب من توكل على رب العالمين، فهو أرحم الراحمين...
لكن، يجب أن نأخذ بالأسباب، وأن نسعى في الأرض، وواقعيًا إن ظل جواز سفري مفقودًا، فسأقع في كارثة قاسية، لأنني لن أستطيع مغادرة الأراضي السعودية، وعمليًا يجب أن نتوكل على الله تعالى ونبحث عن جواز السفر، لكن مسؤولَي الرحلة لا يباليان بشيء، ويريدان التوكل من دون أن يفعلا شيئًا، أو يبحثا عن جواز سفري الذي اختفى من بين أيديهما، في مسافة ما، بين الحدود السعودية والفندق في مكة...

يا لها من (بهدلة) عنيفة تنتظرني!
سأدخل مخافر قوى الأمن، للتحقيق، وللتثبت من شخصيتي في لبنان، وللتأكد من أنني دخلت السعودية بشكل قانوني، ولن يستغرق هذا الأمر عدة ثوانٍ طبعًا، بل سيأخذ وقتًا، ومن المؤكد؛ كذلك؛ أنني لن أكون آنذاك أنتظر في (فيلا) أو على الأقل (منزل) أحد عناصر الشرطة، بل سأكون في زنزانة ما!

كانت تلك الأفكار التعيسة تسيطر عليَّ تلك اللحظات، وتسبب لي توترًا كبيرًا، أعتقد أنه دفع بمعدتي إلى إفراز الحموضة بشكل كبير (أسيد المعدة) حتى شعرت بأن حلقي يحترق!

سيكون موقفي صعبًا للغاية، فالخوف الآخر أن يغدر الصراف باتفاقنا، ولم لا يغدر، وهو الذي قال لي إنه يعرف في أي فندق أنا، بعد أن أعاد إليَّ الورقة النقدية المزورة؟ ماذا لو أبلغ عني، وأتى رجال الشرطة، كيف سأثبت هويتي؟ ستكون أمامهم قضية (غير شكل)! متهم بترويج أوراق نقد زائفة، ولا يملك جواز سفر حتى!

انتبهت؛ هنا؛ إلى أنني أصبحت بجوار أبراج مكة، ما أدهشني بحق!
كيف وصلت من الفندق إلى هنا؟ كيف مشيت هذه المسافة، وأنا لا أشعر بنفسي!
حاولت أن أنفض الأفكار المشؤومة من ذهني، ودخلت فرع البلاغ، لأسأل صاحب المحل:
_ في أي مسجد يصلي الشاطري؟ أنتم المحتكرون لتسجيلاته، ألا تعلم في أي مسجد؟
أجابني بحماسة:
_ بلى، إنه في مسجد الشعيبي، في حي السلامة، يصلي هو والشيخ عبد الله بصفر معًا!

كنت أعلم ذلك، ولا أتوقع أنه صحيح!
إذ إنني؛ بعد رجوعي من الرحلة السابقة ببعض الوقت؛ سافر صديق لي إلى جدة، مع بعثة ما، وتحديدًا بأوائل رمضان، وكان نزولهم في جدة، وكانوا يصلون التراويح في مسجد الشعيبي خلف الشيخ عبد الله بصفر، وإذ قرر صديقي أن يذهب إلى مسجد التقوى في شارع التحلية، ليصلي الفجر خلف الشاطري، وأن ينطلق في وقت السحور، فوجئ بصوت الشاطري في صلاة التراويح ينطلق بالفاتحة، ثم بمتابعة سورة الأعراف، ابتداء من الآية:
{وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم}...
ولقد سمع وقتها أن الشاطري قادم بشكل مؤقت فقط، هذه الأيام فقط، وبعدها سيصلي الشيخ بصفر وحده مرة أخرى، لم أتخيل أن الشاطري سيبقى هو وبصفر سويًا ثلاث سنوات! لكن؛ لا بأس، ليكن حيثما يكون، سأصلي خلفه، لكن هل أستطيع ذلك فعلًا؟
نعم، أستطيع، سأذهب إلى هناك، وأصلي خلف الشاطري، مهما كان الثمن، حتى لو لم يبق معي سوى ريالات قليلة، لا تكفيني لأصرف يوميًا سوى ريال واحد أو ريالين كحد أقصى، فأنا هنا في السعودية، في مكة، ولا أعلم هل يتيسر لي أن أرجع إليها مرة أخرى، أم لا!

رجعت إلى الفندق، لأتكلم مع مديره، وأخبرته بمشكلتي، فأخبرني بأنه لا مشكلة في بقائي في الفندق حاليًا، حتى ينتهي الحجز، وذلك لأن أجار الغرف مدفوع، حتى لو لم يكن لي اسم في الفندق...
(كأنني سألته عن هذا الأمر، وأنا لا أعلم)!
وتابع المدير بأن الأمور كلها بسيطة، سيسلمني بطاقة الفندق، وإن استوقفني حاجز الأمن في طريق الرجوع بين جدة ومكة، ليس عليَّ سوى أن أخبره أن جواز سفري في الفندق وفق الأصول، وأناوله بطاقة الفندق، وباتصال هاتفي واحد يؤكد هو أنني مقيم فعلًا في الفندق مع قافلة للعمرة، ولا توجد أي مشكلة تعترض طريق مشواري إلى جدة!

أخذت بطاقة الفندق، وخرجت مسرعًا، لأباغت بصوت يهتف بي:
_ جدة... جدة... عشرة ريالات!
سيارة تاكسي قرب الفندق؟ أول مرة أرى سيارة تاكسي هنا! وسائق السيارة يهتف بي بهذه الكلمات، أردت الركوب معه، لكني وجدت نفسي أشير إليه بالرفض، ولا أعلم لماذا، ومن دون أدرك سببًا واضحًا لهذا، وانصرف السائق، لأشعر بالغضب لأن هذه الفرصة قد فاتت...

_ جدة... جدة...
عاد الهتاف ينطلق قرب أذني، فقلت بسرعة:
_ عشرة ريالات؟
وفي اللحظة التالية، انتبهت إلى المتكلم! إنه أحد زملائي في الرحلة، لا سائق تاكسي آخر!
وأجابني الزميل بدهشة:
_ أعرف أن المشوار بعشرة ريالات، لكني كنت أسألك هل تذهب معنا إلى جدة غدًا؟ نحن ثلاثة، وربما...
قاطعته بضجر:
_ نعم، سأذهب.
ألا ينسق هؤلاء فيما بينهم؟ أخشى أن يكون عدد الذاهبين غدًا ثلاثون زميلًا لا ثلاثة!
لماذا سأل (منظم) أسماء الذاهبين غدًا عن جوازات السفر في الفندق، وهم أنفسهم لا يعرفون من سيذهب معهم، ومن لن يفعل!
انصرفت نحو الحرم، وزميلي يتابع:
_ سنصلي العصر في الحرم غدًا، وننطلق إلى جدة.

لم أفكر بالرد عليه حتى، لكني أخطأت بالموافقة، إذ (اقترحوا) اليوم التالي أن ننطلق إلى الحرم معًا، فكان من ذلك أننا تأخرنا قليلًا، بسبب تأخر أحدهم، ولقد قطعنا المسافة ركضًا، حتى وصلنا بأنفاس متقطعة، والعرق يغشي أعيننا، وصلنا في الركعة الثانية، وكان من المستحيل دخول الحرم لوجود صفوف المصلين، فانضممنا إليهم، انضممت أنا؛ وحذائي في قدمي؛ بينما خلع الزملاء أحذيتهم قفزًا، ليهبطوا على البلاط اللاهب مكبرين ملتحقين بالصلاة...
ثم بدأ الرقص الأليم!

تجربتي السابقة لم تشجعني على خلع الحذاء، لأقف بقدميَّ الحافيتين على البلاط، أما هؤلاء المساكين، فأخذوا يتقافزون ألَمًا لشدة اللهيب في بواطن أقدامهم، وتمكن أحدهم من مد ساقه ليدفع بفردة حذاء واحدة نحوه، وأخذ ينقل قدميه عليها، ويقفز بقدمه اليمنى ثم اليسرى فوقها، وما كادت تنتهي الصلاة، حتى أسرعوا جميعًا يمسكون بأحذيتهم ليضعوها في أقدامهم، وهم يرثونها _ أي أقدامهم _ بكلام متناثر عن اللحم المشوي، وإحساس الدجاجة المسكينة إذ توضع فوق النيران، وليتهم فعلوا مثلي، لكن تنقصهم الحكمة التي لا تنقصني! وأنا أستمع إليهم مبتسمًا، وذهني يسترجع مشهد ركضي السريع فوق البلاط الملتهب وآثاره الأليمة، في الحرم المدني، من ثلاث سنوات...

اتجهنا إلى موقف جدة، لنركب أول سيارة تاكسي هناك، وما إن انطلق السائق بنا، حتى سأله أحد الزملاء، يحاول مسايرته لتمضية الوقت:
_ هل أنت من مكة؟
قالها متوددًا، ليصرخ السائق في وجهه غاضبًا:
_ مكة؟ أنا من مكة؟ هل تشتمني؟ أعوذ بالله! أنت تشتمني حتمًا! هؤلاء يستحقون الحرق أحياء، يستحقون القتل، يستحقون هدم مكة فوق رؤوسهم! ألا تعلم أنهم أهانوا الرسول، وضربوا الرسول، وآذوا الرسول، وطردوا الرسول، و...
هتف به أحد رفاقنا مقاطعًا:
_ قل صلى الله عليه وسلم.
وعاد زميلنا الذي يجلس بجوار السائق، والذي افتتح الحديث، يقول بدهشة:
_ الله أكبر! ألا تزال حاقدًا عليهم من ألف وأربعمئة سنة، وربع قرن، وسنتين أو ثلاثٍ فوقها!
رد السائق غاضبًا:
_ ألا تعلم أنهم أهانوا الرسول، وضربوا الرسول، وآذوا الرسول، وطردوا الرسول؟!
سأله رفيقنا يائسًا من الوصول لنتيجة ما في هذا الحوار:
_ وحضرتك؟ من أين؟ من المدينة؟
رد السائق بحزم:
_ بل من الطائف.
هتف الزملاء:
_ الله أكبر، الله أكبر!
وسأله رفيقنا بعدها بغضب:
_ أهل مكة آذوا الرسول وضربوا الرسول! وماذا عنكم؟ ألم يقم أهل الطائف بإيذائه وضربه؟
صاح السائق بغضب هادر:
_ (وش بتقول)؟!
أحب الزملاء تهدئة الوضع، فأسرعوا يهتفون بدورهم:
_ (أنا مش وش بقول)!
_ (هو وش مش بيقول)!
_ (وش مش هو بيقول)!

انتهى الحوار هنا، حتى وصلنا إلى جدة، وتفرقنا؛ كلٌّ في اتجاه، وركبت سيارة تاكسي متجهًا إلى مسجد الشعيبي، وقد بدت لي العشرة ريالات التي دفعتها من مكة إلى هنا، والعشرين ريالًا التي نالها سائق التاكسي من قرب موقف مكة في جدة إلى مسجد الشعيبي، مبلغًا باهظًا فعلًا، استغرق المتبقي من ميزانيتي التعيسة تقريبًا، لكن لا بأس، سأصلي خلف الشاطري، صاحب أجمل صوت بقراءة القرآن، وفق رأيي الشخصي طبعًا...
وصلت إلى مسجد الشعيبي، وأخذت أتمشى هناك، لم يحن وقت المغرب بعد، ثم خطر لي؛ من باب الاطمئنان فحسب؛ أن أسأل صاحب مكتبة هناك تجاور المسجد تمامًا؛ عن الشاطري، ولقد فعلت، شاعرًا بأن السؤال لا أهمية له، ولكن...
كانت الإجابة مخيفة لي فعلًا... الشاطري صلى هنا منذ سنوات، سنة واحدة، وغادر بعدها، لكن؛ إلى أين؟ الله أعلم!
واقترح صاحب المكتبة أن أسألهم في دار البلاغ، وهذا فرع كبير لهم مقابل المسجد، ولم أتردد بدخول الفرع لأسأل عن الشاطري أين يصلي، رغم أنني رأيت أنه من الحكمة أن أرجع إلى مكة، فلن يبقى معي شيء فيما لو أردت التنقل في مناطق جدة، ولكني لم أنسحب مباشرة من دار البلاغ، سأرجع إلى مكة، ولكن لأنتظر رد صاحب دار البلاغ أولًا، وإن كان رده لن يعني لي شيئًا، فلن آخذ أي سيارة تاكسي ضمن جدة، وإلا سأجد نفسي أتسول لاحقًا...
أجرى صاحب دار البلاغ ثلاثة اتصالات هاتفية متتالية، ثم أخبرني خبرًا رائعًا:
_ الشاطري يصلي إما في مسجد (...) أو في مسجد (الفرقان) أو في مسجد (...)
(لم أحفظ اسم المسجدين الآخرين وقتها)
سألته بتهكم:
_ وهل هذه حزورة؟ أو لعلك ستتصل مرتين إضافيتين لتعطيني احتمالين آخرين؟ ألا تستطيع أن تحسم أين يصلي الشاطري؟ هل يصلي في مسجد الفرقان، أو في أحد المسجدين الآخريـ...؟
قاطعني صوت حازم من خلفي:
_ الشاطري يصلي في الفرقان.
استدرت لأرى من يتكلم، وقبل أن أفعل كان قد تابع مؤكدًا:
_ وقد صليت خلفه عدة مرات.
التقت عينانا، وهو يتابع:
_ وأنا هنا؛ بصفة خاصة؛ لآخذك إلى مسجد الفرقان، لتصلي خلف الشاطري!
صمت لحظات، ثم تابع مبتسمًا:
_ وبسيارتي!

تبدو لي هذه اللحظات أشبه بالخيال! لقد سرت مع الشاب كأنني معدوم الإرادة تمامًا، حتى فتح باب سيارة، فأدركت أنها سيارته بكل تأكيد، فركبت بجواره، وأنا أشعر بالسعادة لهذه الفرصة النادرة، و...
وانتبهت من الغفلة فجأة!
لقد قال لي إنه هنا (بصفة خاصة)، فما معنى هذا؟
هل هذا الأخ من المخابرات السعودية، وقد لحق بي بناء على بلاغ الصراف؟!
يجب أن أهرب، يجب، على الأقل سأصل إلى الفندق، وأحاول الاحتماء بمسؤولَي الرحلة، وطلب شهادتهما وشهادة كل الركاب، كي لا أسجن بسبب أنني لا أمتلك جواز السفر، وسأعطيه الورقة المالية المزورة وأشير إليه للخربشة فيها...
لعل هذا يجنبني السجن، لعل وعسى!

مددت يدي لأفتح باب سيارته، ولكنه انطلق بها في اللحظة ذاتها...
انطلق بي، في رحلة مجهولة بالنسبة لي...
مجهولة تمامًا!


تابعوا معنا

أ. عمر
19-8-2018, 03:39 PM
مكة المكرمة .. المسجد الحرام .. الكعبة المشرفة.. 100 ألف صلاة

نعم.. أذكر مشاهدتي للكعبة لأول مرة وعلى الأرض الواقع، لقد شعرتُ بالرهبة. شيء آخر، كل دعواتنا في الحرم قد استجيبت.

قد أعود لاحقاً لاستكمال ما فاتني.

أهلًا بكم، حياكم الله

أ. عمر
23-8-2018, 02:24 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
الموضوع هو رحلة فريدة!
بأسلوب جذاااب!
فريد .. مسلي .. ممتع .. مشوق!
ماشاء الله تبارك الله ..
وأحببت أن أخربش بأحد الهلوسات لدي ..
دليلَ إعجابي!
وأجبرت نفسي على كتابتها ..
على أفضل صورة!
فالشرف لي بمشاركة في موضوعك!
أمل أن تسمح ^^" ... :

سلامًا مهبط الوحي
سلامًا مبعث الإيمان

سلامًا منبع الهَدي
منار العلم والعرفان

بواديكِ - يناديكِ - شبابٌ في العلى زهرُ

***

إليك قلوبنا تهفو
ففيكِ مرابعُ الخَيْرِ

وفيك مقامُنا يصفو
فدُمْتِ عليَّةَ القدرِ

عليكِ يرفرفُ السَّعدُ
وفيك تطاولَ المَجْدُ

وللقاصي - بإخلاصِ - سَرَى من أرضكِ الطُّهْرُ

***

بَنُوكِ أشاوس الدُّنيا
أناروا العالم المُظْلِمْ

وكانوا زِينَةَ العَلْيَا
وأَعْلَوا رايةَ المُحْكَمْ

دَعَوْا للمسلكِ الأسْمَى
وشادُوا العزَّةَ الشَّمَّا

وبالغارِ - بإكبارِ - أطَلَّ بعزمهم فَجْرُ

***

نشرتِ الخيرَ والعدلاَ
وضُغْتِ مناهجَ الحُكْمِ

ومن ينسَى لكِ الفَضْلا
وأنتِ منارةُ السِّلْمِ

هواكِ أَجَلُّ أحلامي
ونورُكِ سِرُّ إلهامي

وفي سرِّي - وفي جَهْري - يتيه بحُبِّكِ الفِكْرُ

--
دمت متألقًا ومبدعًا ..
بانتظار جديدك دوما ..
في حفظ الله ورعايته وحفظه~~


قرأت كلماتك الرائعة مرات كثيرة ولا زلت أقرأها بالحماسة ذاتها
بارك الله بك أخي وجزاك كل الخير، وكل الشرف لي بمرور حضرتك الكريمة

Jomoon
23-8-2018, 04:59 AM
تشوقت لما بعدها،
متفائلة خيرا
ولا أدري لما،
لا أظن أنو من الشرطة
القصة مرا خطيرة
بشوق للتكملة
بارك ربي بك
في حفظ المولى،،
~

أ. عمر
23-8-2018, 11:41 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة السابعة عشرة

انطلقت بنا السيارة تمضي في شوارع جدة، وشعور الضياع يسري في كياني بالفعل...
إنها رحلة مخيفة، ولا أعتبر نفسي مبالغًا بمشاعري هذه، إذ إن الشاب أعلنها صراحة وبوضوح تام، إنه أتى (بصفة خاصة)، فهل اتصل به أحد ما، من معارفي الذين لا أعرفهم في السعودية، ليطلب إليه أن يلحق بي إلى دار البلاغ، ويضع نفسه تحت تصرفي؟ فرضية مستحيلة وخيالية، وإذًا لا يبقى أمامنا سوى...
حسنًا، ماذا لو فتحت باب السيارة فجأة؟ سيضطر إلى تخفيف سرعته، ما يمنحني فرصة رائعة للفرار، ولكن كيف أفعل هذا؟ وهل أنا أستطيع القيام بهذه المخاطرة يا ترى؟ ثم ماذا لو لم يتوقف بسيارته، بل أخرج مسدسًا ما، ليطلب إليَّ أن أغلق الباب، ونتابع طريقنا؟
إن كان من رجال الأمن، فمن المؤكد أنه سيكون مسلحًا!
إذًا، أفضل حل أن أفتح باب السيارة وأثب منها بغتة، وهو لن يستطيع التوقف مباشرة بسبب سرعته هذه، ولكن...
ما الذي سَيَحُلُّ بي يا ترى؟ هل تتهشم عظامي كلها، أم نصفها؟
بدا لي فعلًا أنني في فخ لا فكاك منه، وحاولتُ؛ فاشلًا؛ أن أسترخي لأنفض الأفكار المخيفة من ذهني، فاحتمال أن تنتهي بي هذه الرحلة في السجن، أمر مرعب، حتى لو أنني بريء، لكن الفكرة بحد ذاتها مخيفة...
استسلمت لليأس، منتظرًا أن الأخ سيتوقف في أية لحظة، لأجد نفسي في مكتب التحقيقات، ثم في الزنزانة، لن يُرَبِّت المحققون على كتفي، قائلين لي:
_ يِضْرَب الصراف الغشاش، لعنة الله عليه! اذهب أنت في أمان!
فأقول لهم:
_ ولكن، جواز سفري ضاع، و...
فيقاطعونني مبتسمين:
_ لا عليك! سنكتب لك تصريحًا خاصًا يفوضك عبور كل الحدود من دون جواز سفر!

ابتسمت رغمًا عني لهذه الخواطر، لكن بحزن أرثي به نفسي، ومستقبلي الذي أوشك على الضياع، ولكنْ؛ فعليًا؛ كيف سأجيب المحققين حينما يسألونني؟ أنا لن أكذب بشيء، وليس من مصلحتي أن أكذب، لكن السؤال ليس هنا، بل ما أفضل طريقة إجابة تنقذني من السجن؟ ما هي؟ كيف سأجيبهم؟

_ ألن تجيب؟
قالها الشاب الذي يقود السيارة بي، فأدهشني توارد الخواطر هذا، ورأيت أنه ينظر إليَّ بترقب، فغمغمت بصوت لا يكاد يُسمَع:
_ ليس أنا... بل هو... الصراف... الذي...
قاطعني متحمسًا:
_ نعم، نعم، أحسنت! صوته جميل فعلًا!

نظرت إليه بدهشة، شاعرًا أنني في حالة جنونية بعض الشيء!
صوته جميل؟ من هذا؟ الصراف؟ كيف؟ هل اتصل بالشرطة؛ وهو يغني؛ ليخبرهم بأنني أحمل ورقة مالية مزورة؟
أخذت أتخيل مبتسمًا الصراف يرفع سماعة هاتفه، ليطلب الشرطة، وما إن يأتيه الرد حتى:
_ أنا الصرااااف، لالالالا، أريد أن أخبركم، ممممممم، لالالالا، أن هناك فتى، آآآآآه...
فيقاطعه الشرطي الذي يكلمه:
_ يا لييييل يا عييييين! أكمل يااااا رجل!
ويتابع الصراف:
_ ترالالالالا... ترالالالالا...
ارتفعت ضحكاتي المتوترة رغمًا عني، ما أدهش الشاب حتمًا، لكنه عاد يسألني بنفاد صبر:
_ ألن تجيب؟؟
أجبته، وأنا أشعر بحالة تجمع ما بين السخرية والتوتر:
_ وماذا قال لكم هو؟ لقد أخبرته أن المخطئ ليس أنا، وذلك لأنه...
بترت عبارتي، وأنا ألمح الذهول يطل بوضوح في عيني الشاب، وبدا لي أنه لم يفهم شيئًا، فسألتُه بحذر:
_ ما هذا الذي تسألني عنه؟
أجابني بهدوء:
_ ما رأيك؟
سألته بالحذر ذاته:
رأيي؟ بمن؟ بالصراف؟ الصراف السعودي أم اللبناني؟
صاح مستنكرًا:
_ أي صراف هذا؟ سعودي؟ لبناني؟ إنه من إريتريا!
هتفت مستنكرًا بدوري:
_ إريتريا؟ إنه يتكلم اللهجة السعودية المحلية يا رجل!
طبعًا هو لن يخبرني بأن الصراف اللبناني من إريتريا، بل يقصد الصراف الذي وشى بي، في مكة، حتمًا، وتعمق هذا الشعور عندي أكثر، إذ أجاب الشاب:
_ هذا طبيعي، إنه يعيش في السعودية، بل أنا نفسي أصلي من إريتريا، وأتكلم السعودية مثل أهلها، لأنني أعيش فيها منذ...
سكت قليلًا، ولم يتابع لي هذه الرواية، ولم تكن التواريخ تهمني في شيء، ولقد شعرت بأنه يعاني بعض الجنون، كيف لا يخطر لي هذا، وهو يسألني متحمسًا:
_ ما رأيك أن آخذك لتصلي خلفه، بدلًا من الشاطري؟
سألته مبهورًا، لا أصدق ما أسمع:
_ هل يقف الصراف المكي، إمامًا في جدة؟
شعرت بأنه أصيب بصاعقة! وأعتقد؛ بل أجزم؛ أنه كان يريد الرد، ولكني سبقته هاتفًا، بدهشة، وفرح، وأمل، وعدم تصديق (كل هذا أحسست به في لحظة واحدة):
_ وهل أنت ذاهب بي إلى مسجد الشاطري بحق؟
أخذ يحدق بي مستغربًا، وشعرت به كأنه يراني شخصًا استيقظ من نومه توًا، وقد خلط كابوسًا رآه في نومه بعالم الواقع، وأحسست به يحاول تمالك أعصابه بمعجزة، قبل أن يقول بهدوء حازم:
_ ولماذا أخذتك من دار البلاغ إذًا؟
عادت إلي مخاوفي، لكني أجبته بصوت واثق، مع أنني لم أكن واثقًا من شيء:
_ أعرف، أعرف، لكني؛ إلى الآن؛ مستغرب من هذا.
ابتسم الأخ بهدوء، وتجاهل الإجابة، ثم عاد يسألني:
_ ما رأيك؟
سألته:
_ بماذا؟
_ بالصلاة خلفه؟
_ من؟ الصراف؟
_ أي صراف؟
_ الذي اتصل بكم!
_ من هذا؟
_ الصراف!
_ أي صراف؟
_ الذي اتصل بكم، والذي تريدني أن أصلي خلفه، لأن...
قاطعني، وقد ارتفع صوته أول مرة:
_ اسمه الصائغ يا أخي، الصاااائغ، وليس الصراااف!
تمتمت، والأمر لا يعنيني:
_ حسنًا، فهمت، الصراف اسمه الصائغ!
صاح بي، وقد نفد صبره:
_ بل توفيق! توفيق الصائغ! وهو يقف إمامًا في مسجد...
قاطعته هاتفًا بدهشة تامة:
_ إذًا، أنت ذاهب بي إلى مسجد الفرقان فعلًا!
تمتم غاضبًا:
_ قل هذا من البداية، لم أعد أعرف هل تريد الصلاة خلف الصائغ أم الشاطري!

أخذت أضحك من دون أن أحاول تمالك نفسي، وهو ينظر إليَّ مشفقًا، ويبدو أنه قد شَكَّ بسلامة حالتي العقلية...
أنا ذكرت له (الصراف) في مكة، وهو ظن أنني أريد الصلاة خلف (الصائغ) في جدة، وبعد ذلك لم يعد أحدنا يفهم على الآخر، لقد ظننت أن الصراف يغادر إلى جدة ليصلي المغرب فيها، وربما العشاء، ويعود ليشتغل صرافًا في مكة، هو يخبرني بأن الصائغ من إريتريا، وأنا أظن أنه يتكلم عن الصراف الذي اتصل بهم، ولكن... مهلًا يا عمر! معنى هذا الكلام أن الأخ لا علاقة له بالصراف لا من قريب ولا من بعيد، وأن الأخير لم يقم بالوشاية بي، وأنه منطلق بي إلى مسجد الشاطري فعلًا، يا للسعادة! يا رب، ما أجمل الشعور بالأمان!

_ اسمع!
قالها الشاب بحزم، فنظرت إليه ضاحكًا، من دون أن أتمالك نفسي، وأنا أحاول تخيل ما يشعر به، بعد (حوار الطرشان) هذا، ولم يعلق على ضحكاتي، بل أوقف سيارته، وهو يتابع:
_ سنصلي المغرب، وتسلم على الشاطري، ثم أوصلك إلى موقف حافلات تأخذك بريالين إلى موقف مكة، ومن هناك عشرة ريالات، وتجد نفسك في مكة، ولكن هناك أمرًا ربما يزعجك، فالشاطري لا يصلي دائمًا هنا، أحيانًا لا يأتي، ادع الله أن يأتي، كي لا يذهب مشوارنا بلا استفادة!

قلت له واثقًا:
_ نعم، موافق طبعًا، جزاك الله خيرًا، لكن لماذا توقفت؟ أظن أن المغرب سيؤذن في أية لحظة، لذا؛ يجب أن تقود السيارة، ولا تتوقف، وأن تسرع قليلًا، لنلحق...

توقفت عن الكلام، فلقد ارتفع صوت الأذان، وبدا لي أنه يتردد داخل السيارة نفسها، وأدهشني أننا بجانب المسجد فعلًا، وابتسمت في أعماقي متسائلًا عن شعور المسكين، وأنا أطلب منه متابعة الطريق لنصل إلى المسجد، ونحن بجوار المسجد! لا علينا! لقد ظن بعقلي الظنون حتمًا قبل قليل، فليظن به المزيد! لن يضرني هذا بعد ما أبديته له من (الذكاء)!

دخلنا المسجد، لنصلي ركعتي التحية بعد ما انتهى الأذان، وأنا أدعو أن يأتي الشاطري ليصلي بنا، شاعرًا بالامتنان التام لهذا الشاب وشهامته النادرة، والحمد لله أن الشاطري هو من صلى بنا، كنت أشعر بسعادة بالغة لأنني أصلي خلفه مباشرة، وقد سبق لي أن استمعت لكثير من تلاواته، عبر إحدى عشرة سنة مضت، وكنت أتمنى أن أصلي خلفه، ثم أقول إن هذا مستحيل، لكن ها هو المستحيل يتحقق!

بعد الصلاة، لحقت بالشاطري لأسلم عليه، ولحق بي رفيقي، فطلب منا أن نرافقه إلى غرفة مكتبه الواسعة، وكان لديه فيها ضيوف آخرون من لبنان كذلك، وقد أدهشني أن الشاطري يحب النكتة ويضحك، حتى يحمر وجهه، خلافًا لما نسمعه من بكائه الخاشع في الصلاة...
تبادلنا بعض الأحاديث حتى أذن العشاء، فصلينا خلف الشاطري مجددًا، وسلمت عليه مودعًا، لأغادر مع ذلك الشاب، والامتنان يسري في جسمي بدل الدم...
انطلقنا بالسيارة، والشاب يخبرني بأنه صلى خلف الشاطري مرارًا من قبل، لكنه يحب توفيق الصائغ أكثر، كونهما من بلد واحد، وهو إريتريا، ثم توقف الأخ بالسيارة، أمام مطعم (البيك) قائلًا:
_ دعنا نتناول الطعام معًا.
كانت فرصة مثالية لرد بعض جميله عليَّ، رغم أنني في حالة إفلاس شبه تامة، والسائق الذي أخذ منه عشرين ريالًا ضمن جدة نفسها، وجَّه إليَّ ضربة قاضية فعلًا، لأنني لم أتخيل أن المبلغ سيزيد عن خمسة ريالات فحسب، ورغم كل هذا، هتفت متحمسًا:
_ على حسابي!
وانفجر الأخ يصرخ بغضب شديد:
_ ماذا تقصد؟ أنا من دعوتك، فكيف تقول إنك...
قاطعته بسرعة:
_ اهدأ يا أخي! هذه عادة لبنانية أصيلة لدينا، أن من يُعْزَم على طعام، يقل من باب (العادة) فقط كلمة (على حسابي).
ولم أكن كاذبًا في هذا، تلك العادة كانت لدينا فعلًا أيامها، وإن كنت قصدت فعلًا أن أدعوه، ولكنه أصيب بصدمة شديدة لأنني عرضت أن يكون الطعام على حسابي!
غادرنا السيارة، والأخ يقول لي:
_ سنتناول الدجاج! كيف تحب طعامك؟ باردًا أم حارًا؟
أجبته، مستنكرًا هذا السؤال:
_ حارًا بالتأكيد!
وهل يؤكل الدجاج باردًا؟ يا له من سؤال غريب!
سألني الأخ مستوضحًا:
_ هل تعاني التهاب اللوزتين؟ أو آلامًا في معدتك؟
لم أعرف كيف أدرك ذلك، لكني أجبته:
_ نعم!
ضحك، وهو يشرح لي:
_ يا أخي، الطعام بارد يعني من دون شطة، أو من دون (حر) كما تقولون أنتم، والطعام حار يعني أنك تريد فيه الشطة بكثرة، ولن تتحمل معدتك ولا لوزتاك ذلك، وفي الحالتين، الطعام يُقَدَّم ساخنًا.

ضحكت، وأنا أتذكر مشوارنا السابق، وكيف طلب رفيقنا الطعام لنا جميعًا في مطعم في المدينة، من دون (بهارات) ولا (حر)، لكن يبدو أنه قد طلبه (حارًا) لا (باردًا)، إذ لم يعرف معنى الكلمتين، فأتونا بدجاج جعل النيران تلتهب في حلوقنا، ما اضطر بنا إلى الاكتفاء بشرب العصير...

كان الطعام لذيذًا، يليق بسمعة (البيك) الأسطورية، لكني لا أمنع نفسي من الابتسام، إذ أذكر حينما قدموا إلينا الطعام، وأنا أنظر مستغربًا متسائلًا أين الخبز، ليحمل الشاب قطعة الخبز الإفرنجي، الذي نسميه نحن (السَّمُّون) قائلًا لي إن هذا هو الخبز، فهتفت به مستنكرًا:
_ وهل سنمسك الدجاج بهذا السَّمُّون، لنأكله؟
هتف مستنكرًا بدوره:
_ ومن قال لك إننا نأكل بهذه الطريقة؟
سألته بهدوء، محاولًا أن أستوعب استنكاره:
_ كيف تأكلون الدجاج إذًا؟
أمسك بقطعة دجاج كبيرة، هاتفًا بحماسة:
_ نأكله هكذا!
وانقض عليها يأكل بسعادة، فأمسكت بدوري بقطعة دجاج كبيرة، هاتفًا بحماسة مماثلة:
_ وأنا؛ كذلك؛ آكله هكذا!

غير أن الأخ كان لديه عادة غريبة كذلك، فكان يخلط الثوم والكاتشاب والحر معًا، ويأكله بتلذذ غريب، ثم يطلب المزيد من الثوم والكاتشاب والحر ليتابع هذا الأكل، وقد أخبرني بأنه أطيب من الدجاج الذي نأكله، وطلب إليَّ أن أجرب! وبالطبع لم أفكر بأن أجرب!

انطلق بي الشاب مرة أخرى وأخيرة، فسألته:
_ هل هي بعيدة؟
سألني بدوره:
_ من؟
أجبته:
_ حافلات موقف مكة، التي...
قاطعني:
_ لا؛ لا.
وقبل أن أشعر بالسعادة، لأنها ليست بعيدة، أكمل ليزيد شعور الامتنان في نفسي تجاهه:
_ أنا ذاهب بك إلى موقف مكة ذاته، وقد كدنا نصل يا أخي!

انتبهت هنا إلى أنني لم أعرف اسمه بعد! وأدهشني هذا! ننطلق في طرق جدة، ونتعشى معًا، ولا أعرف من يكون بعد! سألته عن اسمه، فأخبرني أنه محمد (...)
سألته بحزم:
_ أريد أن أفهم يا أخي محمد، لماذا ذهبت بي إلى مسجد الشاطري، وانتظرت معي لأصلي العشاء بعد المغرب، ثم أتيت بي إلى المطعم كي نتعشى، والآن إلى موقف مكة، أنت لا تعرفني يا أخي محمد، فلماذا؟
أجابني بعد صمت طويل:
_ من قال إني لا أعرفك؟
وكانت الإجابة غامضة فعلًا، زادت الموقف غموضًا، فكيف يعرفني؟ هذه هي زيارتي الثانية للسعودية، وأنا واثق تمامًا أنني لم ألتقِ بهذا الأخ نهائيًا في زيارتي الأولى، وأنا واثق تمامًا كذلك؛ رغم ضعف ذاكرتي؛ أنني لم ألتقِ به في حياتي كلها، وهو؛ حتمًا؛ لا يعرفني كونه رجل أمن سعوديًا، اتصل به الصراف، هذا الافتراض لم يعد قائمًا، إذ إنه من المستحيل أن يلحق بي عنصر مخابرات في جدة، ليأخذني حيث أريد، ويدعوني للعشاء على حسابه كذلك!

وصلنا إلى موقف مكة، وغادر محمد سيارته معي، ليقول للسائق الذي وجده هناك:
_ أوصل أخي إلى مكة.
وقبل أن أستطيع منعه، ناول محمد السائق عشرة ريالات، متابعًا:
_ وهذه أجرته، أدفعها لك أنا.
هتفت مستنكرًا:
_ محمد! لا يمكن أن...

فوجئت؛ هنا؛ أن محمدًا هذا لديه عادة لبنانية، أو لعلها مشتركة بين لبنان وإريتريا، فلقد عانقني؛ بغتة؛ بحرارة شديدة، قائلًا:
_ لقد أردت؛ البارحة؛ أن أنزل إلى دار البلاغ، لأراجعهم في أقراص اشتريتها، ولكني شعرت بالضعف، ولم أنزل، رغم أن دار البلاغ قريبة من بيتي، وبدلًا من أن أنزل البارحة نزلت اليوم، فالتقيت بك، فعرفت أن قدري أن أذهب بك إلى مسجد الشاطري، لقد أرسلني الله إليك! ولذا أفعل ما أفعله الآن!

لم أستطع التعقيب على هذا الكلام، ولكنني أحسست بالتأثر، وتعانقنا مرة أخرى وأخيرة، قبل أن أركب سيارة التاكسي، التي انطلق سائقها بنا، وقد كان معه ثلاثة ركاب قبلي، انطلقت بنا السيارة، وأنا أفكر بكلام محمد، وتصرفاته، وأدعو الله تعالى له، وأن يجزيه عني خير الجزاء، فلقد غمرني بكرمه وفضله، ولم أشعر بحياتي كلها لأحد بالامتنان كما شعرت لمحمد هذا...

وكان لي أن أرجع إلى عالم الرعب مجددًا!
فلقد أفقت من شرودي تمامًا، مع صوت السائق يقول لنا:
_ احملوا جوازات سفركم بأيديكم، لقد اقتربنا من الحاجز!

أخرج الركاب الثلاثة جوازاتهم، وقلت أنا للسائق متوترًا:
_ ليس معي جواز سفري، أضاعوه في الفندق، ولكن معي بطاقة الفندق، وقد قال لي مدير الفندق إنه...
قاطعني؛ هاتفًا باستنكار ما بعده استنكار:
_ بطاقة الفندق؟ ماذا قال لك الحمير في الفندق؟ هل ظنوا أن بطاقتهم ستفيدك عند الحاجز؟ هل تخيلوا أن الجنود في الحاجز سيتصلون بالفندق ليتأكدوا؟! أنت؛ بالنسبة إليهم؛ شخص دخلت السعودية بطريقة غير شرعية! سيرحِّلونك إلى السجن، حتى تتأكد قوى الأمن من روايتك، وهي من تتصل بالفندق، وتراجع الحدود، وإذا تأكدوا أنك دخلت بطريقة شرعية، قاموا بترحيلك إلى وطنك، ومن الآن إلى وقتها، تستطيع أن تعد الأيام! ربما يمر شهر قبل أن ينتهي هذا الأمر!

سكت السائق، بعدما أنهى (بشارته) الرائعة لي!
سكت؛ وقد ترافق سكوته مع أمرين متناقضين تمامًا...
تباطأت سرعة السيارة تمامًا، وتسارعت نبضات قلبي إلى حد رهيب...
وربما حدها الأقصى...
إنه الضياع الحتمي والمؤكد الآن...
أخذت أدعو الله تعالى، والخوف يملأ قلبي، أن ينقذني من هذه المحنة القاسية...
ولم تكد تمضي لحظات، حتى توقف السائق بسيارته...
أمام الحاجز مباشرة...
وانتفض جسمي؛ رغمًا عني؛ برعب شديد.


تابعوا معنا

أ. عمر
23-8-2018, 11:45 PM
تشوقت لما بعدها،
متفائلة خيرا
ولا أدري لما،
لا أظن أنو من الشرطة
القصة مرا خطيرة
بشوق للتكملة
بارك ربي بك
في حفظ المولى،،
~





تفاؤلكِ في مكانه
والأخ لم يكن من الشرطة، بل بدا لي أنه ملاك حقيقي لما فعله معي
بارك الله بكِ ولكِ، وحفظكِ من كل سوء

أ. عمر
27-8-2018, 01:55 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الثامنة عشرة

_ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
كنت أردد هذا الدعاء سرًا، وأنا أستمع لكلام السائق المخيف.
لم يكن يبدو لي أدنى أمل بالنجاة من هذه المصيدة التي أوقعني بها مدير الفندق العبقري!
وجدت نفسي أتذكر كلمته التي قالها لي؛ آنذاك؛ بغيظ شديد:
_ إن استوقفك حاجز الأمن في طريق الرجوع بين جدة ومكة، ليس عليك سوى أن تخبرهم أن جواز سفرك في الفندق وفق الأصول!
كلامه هذا كان بالأمس، ولكنه بدا لي كأنه قد (أتحفني) بهذه الفكرة العبقرية من سنوات طوال
أية (أصول) هذه؟ هل من المعتاد أن نزلاءكم تختفي جوازات سفرهم، ويذهبون إلى جدة، ويخبرون رجال الأمن في الحاجز أن جواز سفرهم في الفندق (وفق الأصول)؟ أية (أصول) يا ترى؟؟
خرجت؛ بذهني؛ من مدير الفندق وما تسبب لي به، وأخذت أردد مرة أخرى:
_ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
ودعوت الله تعالى، بكل الخوف في قلبي، أن ينقذني من هذه المحنة القاسية...
يا ويلي! لحظات قاسية أمرُّ بها الآن! لحظات وأجد نفسي معتقلًا! بل ومقتادًا إلى السجن، كوني لا أحمل جواز سفري.
انهمكت في الدعاء الضارع، أرجو الله تعالى أن ينجيني مما أنا فيه، وجسمي يرتجف، لما أنا مقبل عليه من المهانة...
سينظر رجل الأمن من نافذة السائق إلى الركاب، ليرى الجميع ممسكين بجوازات سفرهم، إلا أنا!
هل سيكون قلبه حنونًا يا ترى، فيقول لي:
_ لا تعدها مرة ثانية! تابع طريقك!
لا؛ هذا احتمال مستبعد، بل مستحيل!
غرقت في أفكاري السوداء هذه، وخواطري التعيسة، مدة طويلة، ثم انتبهت إلى أمر غريب.
لم ينظر في سيارتنا أحد؛ بعد؛ وقد مضت مدة لا بأس بها من الوقت.
لا؛ بل إن السيارة تنطلق بنا!!
هل توهمت أن السائق أخبرنا عن الحاجز؟ هل توهمت ذاك الحوار فيما بيني وبينه؟ مستحيل!
ولكن؛ جوازات السفر اختفت من بين أيدي الركاب، فهل رآها رجل الأمن في الحاجز، ثم سمح للسيارة بمتابعة الطريق؟
احتمال منطقي، ولكن؛ لو كان هذا صحيحًا لسألني عن جواز سفري، وإذًا؛ هذا يعني أنه لم ير شيئًا، أي أننا لم نمر على أي حاجز كان!
يا له من منام غريب! لم أر منامًا؛ في حياتي؛ بهذا الوضوح الصافي!
ولكن؛ متى بدأت أحداث المنام بالضبط؟
سألتُ السائق بحذر شديد:
_ ماذا حصل؟ أين الحاجز؟
هتف السائق بدهشة كبيرة:
_ أي حاجز؟
ونظر إليَّ الركاب بدهشة مماثلة، فوقر في نفسي أنني كنت نائمًا بالفعل، وأن كل ما سبق مجرد منام، ما أذهلني فعلًا، وأخذت أسأل نفسي كيف حصل هذا يا ترى؟ كيف نمت؛ وأنا لا أشعر بأي رغبة في النوم، وكيف رأيت ما رأيته بهذا التفصيل العجيب؟
ولكن؛ هذا يعني أننا لم نصل إلى الحاجز بعد، ويعني أنني لا زلت في المعاناة الأليمة ذاتها.

_ لقد تجاوزنا الحاجز منذ مدة، لم يكن فيه أي رجل أمن، من حظك يا أخي!
قالها السائق، ليزيل الغموض من ذهني، ويعيدني إلى عالم الواقع، فوجدت نفسي أبتسم براحة تامة، وملأت السعادة كياني، وتابع السائق كلامه:
_ وهو الحاجز الوحيد! أي أنك سترجع إلى مكة بسلام، لن يعتقلك أحد، ولكن حاول أن تجد جواز سفرك، ولو قلبتَ الفندق فوق رؤوسهم، وإلا فلن تستطيع مغادرة السعودية.
كنت أعرف؛ من رحلتي السابقة؛ أنه الحاجز الوحيد، ولكن كلام السائق زادني اطمئنانًا، فأنى لي أن أتوثق أنهم لم يضعوا حاجزًا ثانيًا أو ثالثًا، في السنوات الماضية؟
الآن؛ حان وقت الراحة أخيرًا بعد كل هذا الخوف الشديد...
استرخيت في مقعدي، والركاب يهنؤنني كأنهم يعرفونني من سنوات، وليست المرة الأولى التي يرونني وأراهم فيها!
أغمضت عيني بمنتهى الارتياح، محاولًا الحصول على أكبر قدر ممكن من الراحة والاسترخاء، بعد هذا الرعب الرهيب الذي مررت به، ولم أفتحهما إلا مع سماعي صوت السائق يبشرنا بسلامة الوصول إلى مكة، فغادرت السيارة بنشاط تام، وقطعت المسافة الطويلة حتى أصل إلى الفندق، بخطوات واسعة سريعة، والحيوية تسري في كياني، رغم الألم في ساقي التي تشنجت قليلًا، لكنني لم أبالِ بها، وها هي الصرافة التي بجوار الفندق، رفعت يدي محييًا، هاتفًا بامتنان:
_ السلام عليكم.
وأعتقد أن الصراف؛ وزميله الذي يساعده؛ قد شعرا بالدهشة، لابتسامتي العريضة في وجهيهما، وأنى لهما أن يدركا ما أحمله من الامتنان، إذ تركني ذلك الذي اكتشف الورقة المزورة معي، ولم يخرب بيتي! أنا ممتن له لشهامته هذه؛ حتى لو لم يكن يعرف ذلك!
جال بخاطري مشهد محمد، وهو يحاورني عن القارئ توفيق الصائغ، وأنا أكلمه عن الصراف، فارتفعت ضحكتي الساخرة السعيدة، وأنا أتابع طريقي إلى الفندق، ولكن...

_ ألم تعلم ما الذي حدث؟
استقبلني أحد الزملاء بهذه العبارة صارخًا بوجه متجهم، وكأنما كان ينتظر في بهو الفندق لأصل، ليخبرني، وتوقعت شرًا، وتعمق التوقع هذا في نفسي، إذ يتابع:
_ أنت لم تكن هنا، وبالتالي أنت لا تعرف ما حدث!

يا ربي! ألن ينتهي هذا الكابوس؟ لماذا يصرخ في وجهي بهذه الكلمات؟ هل أتى رجال الشرطة إلى هنا ليقبضوا عليَّ؟ هذا أكيد! وإلا ما الداعي لهذا الصراخ والعبوس؟
سألته متوجسًا من الإجابة:
_ ماذا حدث؟
أجابني، بوجهه العابس:
_ سنذهب غدًا إلى عرفات!
صرخت في وجهه، بغضب هادر:
_ ولماذا تصرخ؟ هل عرفات قنبلة نووية، وأنا لا أعرف ذلك؟ اصعد إلى سطح الفندق، هيا بسرعة، و(اجعر) من هناك بأننا ذاهبون غدًا إلى عرفات!
نظر إليَّ بغضب، لكني لم أبالِ به، بل تجاوزته متسائلًا كيف ضبطت نفسي، ولم أضربه بقبضة يدي في وجهه، لما سببه لي من الرعب، وكأن الرعب ينقصني بعد كل ما مررت به!
ركبت المصعد، متجهًا إلى طابقنا، ورغم تأخر الوقت دققت باب أحد مسؤولَي الرحلة، مذكرًا إياه بضياع جواز سفري، فكان الرد المعتاد:
_ توكل على الله!

لم يكن في يدي شيء لأفعله، فرجعت إلى غرفتي لأنام، وأنا أشعر بالراحة التامة لتحقيقي أمنية قديمة، وهي الصلاة خلف الشاطري، ولنجاتي من الأذى والإهانة، ولأنني سأرجع إلى عرفات مجددًا، لقد انتهت المنغصات وزالت الآلام والمصائب، كما كنت أتوقع، لكني كنت مخطئًا!

تجمعنا اليوم التالي أمام الفندق، قبل الساعة التاسعة، إذ كان من المقرر أن ننطلق الساعة التاسعة تمامًا، ولم يشرِّف السائق التعيس قبل الساعة العاشرة والنصف، ولا داعي لذكر كم السباب الذي انطلق من الأفواه بحقه وحق تصرفاته المستهترة، وما كنا نعلم؛ طبعًا؛ أننا لم نر الأسوأ حتى الآن!

انطلق السائق بنا، ومرة أخرى تتكرر الأماكن والمشاهد، حتى اعترف السائق؛ بعدما كاد يزهق أنفاسنا مللًا؛ أنه لا يعرف أين هو (عرفات) ولا ما يمكن أن يكون (عرفات)، إذ لم يسمع به قبل الآن! وانطلقت الهتافات المستنكرة إن كان لسان السائق قد أكله القط أم ماذا، ولماذا لا يسأل أحدًا، ومسؤولا الرحلة يحاولان تهدئة الوضع من دون جدوى، وأخيرًا تحرك ذهن أحدهما ليشير إلى سيارة أجرة كانت مارة بقربنا، يرجو سائقها أن يدلنا على عرفات، وكان الرجل أكرم مما توقعنا، فلقد انطلق بسيارته أمامنا، وسائقنا يتبعه، ونحن ندعو الله تعالى أن يكون ذهن سائقنا حاضرًا، حتى يحفظ الطريق، ولا ينطلق بنا؛ بعد عرفات؛ إلى الطائف أو الرياض؛ بدلًا من إعادتنا إلى مكة.

وصلنا إلى عرفات، لتتجلى المسخرة مجددًا، بكلام غبي فعلًا من أحد المسؤولَين، إذ أدلى بـ(تصريح خطير)، وهو الآتي:
_ لا يحق لأحد أن يصعد إلى عرفات! لقد أتينا لـ(نتفرج) عليه فقط، وبعد عشر دقائق سينطلق الباص راجعًا، ومن لا يكون معنا، فليرجع وحده، وذلك...
لم أتحمل سماع المزيد من هذه الترهات الغبية، فغادرت الباص متجهًا إلى عرفات، وخلفي أخت رفيقي الذي يجلس بجواري، تهتف بي:
_ انتظر يا أستاذ، سنصعد إلى عرفات معًا!

أعرف أن (عرفات) ليست كافيتريا، حتى نصعد إليها، أنا وهذه الفتاة معًا، بل حتى لو كان كذلك، لما سمحت لها بمرافقتي طبعًا، فهي فتاة غريبة عني، لذا؛ تجاهلت صراخها المتكرر أن أنتظرها، وصممت أذني عن نداءاتها، وصعدت وحدي، لأرى عددًا من الناس يتجمعون حول رجل يرفع يديه بالدعاء بخشوع عجيب، وبلغة لا نفهم منها شيئًا، والناس يهتفون متحمسين كل ما توقف بجملة قصيرة، ربما كلمة أو كلمتين، كأني بهم يقولون (آمين) بلغتهم، ورغم أنني لم أفهم لغة الدعاء، ولا معانيه، لكن الخشوع في صوت الداعي كان واضحًا، فاستمعت إليه بشغف، ولكن...

_ واااااااااااااااو!!
انطلقت الصرخة من زميلتي التي وصلت توًا، ولهثت بعض الوقت لالتقاط أنفاسها، ثم صاحت بصوت عال:
_ يا له من مطرب! صوته رائع!
هتفت مستنكرًا:
_ مطرب؟ هل هناك طرب وأغان في عرفات؟ هذا مكان للدعاء.
قاطعتني بغضب:
_ بل هو مطرب! بكل تأكيد!
لم أعلم من أين أتت بـ(كل التأكيد) هذا، لكني امتنعت من دخول الجدال العقيم، واكتفيت بالاستماع إلى الداعي، وبالدعاء بما أريده بيني وبين نفسي، وزميلتنا تفسد الموقف كل بضع ثوان، بهتافها المبهور:
_ وااااااااااااووو!!

عدنا إلى الباص بعدها، وقبل أن نصل استوقفنا رجل يسألنا إن كنا نرغب في ركوب الجمل أو الحصان، في رحلتي السابقة ركبت الجمل، لكني؛ الآن؛ لم أكن أستطيع ركوب دجاجة حتى، هذا لو كانت الدجاجة تُركَب! ولكن آلام ساقي تتجدد، ولا أدري سببًا لكل هذه التشنجات المستمرة فيها، ولكم أثار استنكاري سؤال زميلتي:
_ هل تسمح لي بركوب الجمل يا أستاذ؟
ولم أبالِ بالرد! هل تحولت إلى ولي أمركِ؛ من دون أن أعلم ذلك؟ وما شأني حتى أسمح لكِ أو لا أسمح؟؟

ركبنا في الباص، لنفاجأ بأن المسؤول صاحب التهديد بالانطلاق وترك المتأخرين، قد اختفى، وكل رفاقنا تقريبًا يجلسون في الباص، إلا قلة قليلة منهم، وقد خافوا أن يغادروا ويتأخروا فيتركوهم هنا وحدهم، وظلوا حوالي ساعة ينتظرون (أنا وتلك الزميلة ومن غادر انتظر وقتًا أقل)، قبل أن يشرف الأخ راجعًا، ولا أفهم لماذا حرمهم الصعود إلى عرفات، إلا إن كان ذلك لادعاء المسؤولية والفهم وروح القيادة الفذة!

لم يضع السائق في طريق الرجوع، ولكن المشاكل لم تنتهِ بعد، فالباص تباطأت حركته، يترافق ذلك مع صوت غريب مزعج يصدر منه، وبكل صراحة أخبرنا السائق بأن هناك عطلًا كبيرًا في الباص، ومن المستحيل أن يصل بنا إلى المدينة، فطلب إليه مسؤولا الرحلة؛ بحزم؛ أن يأخذ الباص فورًا لإصلاح الأعطال، لأننا سننطلق إلى المدينة في اليوم التالي.

ذكرت مسؤولَي الرحلة بضياع جواز سفري، فكان ردهما:
_ توكل على الله!
قلت لهما إننا سنرجع غدًا إلى المدينة، ويجب أن يكون جواز السفر في يدي، فكان ردهما:
_ توكل على الله!
سألتهما كيف سأمرُّ على الحدود في طريق الرجوع، وأنا من دون جواز السفر، فكان ردهما:
_ توكل على الله!

لذا؛ كان طبيعيًا ما شعرتُ به؛ اليوم التالي؛ حينما سألني أحد العبقريين:
_ لماذا لم تقل لنا إنك أضعتَ جواز سفرك؟
كدت أمد يدي لأمسك به من رقبته، وأنا أصرخ في وجهه:
_ وهل كان معي أنا لأضيعه؟ إنه معكم من البداية! والفندق؛ هنا؛ لم يستلمه منكم، والأكثر أهمية من هذا، أنني أخبرتكم بضياع جواز السفر عدة مرات، فهل أصابكما الصمم؟ أم أنه يلزم أن أكتب إعلانًا في الجرائد السعودية عن جواز سفري الضائع، حتى أكون قد أخبرتك بذلك؟

صمت الأخ بعض الوقت، ثم نادى شخصًا من زملائنا في الرحلة، في الباص الثاني، وهمس له بكلمات قليلة، فذهب ذلك الشخص، ورجع؛ وفي يده جواز سفر أعطاه للمسؤول، فأعطانيه المسؤول بدوره، قائلًا لي؛ من دون أن يفتح جواز السفر حتى:
_ خذ! هذا جواز سفرك! انبسط!

لم أصدق ما يحصل! هل يُعقَل أن الراكب الآخر قد تبرع لي بجواز سفره لأغادر السعودية؟ كيف سيغادر هو إذًا؟ ثم هل يمكن هذا الكلام؟ أن أخاطر بمغادرتي الحدود بجواز سفر شخص آخر؟ ومتى احترفنا التزوير لنرتكب هذا العمل الرهيب؟؟

فتحت جواز السفر، ليتضاعف غضبي! هذا جواز سفري أنا!
صرخت في وجه الرجل:
_ هذا جواز سفري، ما الذي كان يفعله جواز سفري مع هذا الأخ؟
أجابني بسماجة بغيضة:
_ أنا نسيته معه!
ضبطت نفسي بصعوبة شديدة كي لا أنطلق بالشتائم، وأنا في أطهر بلاد الله...
وبما أننا ذكرنا الشتائم، فلكم أن تتصوروا مدى فداحتها بحق السائق، إذ أتانا متأخرًا أكثر من ساعتين!

صعدنا الباص متأففين، ولكن...
تأخر السائق كان هينًا لينًا إزاء الكابوس المقبل!

سأل بعضنا السائق:
_ هل أصلحتَ الباص؟
أجاب السائق بحماسة:
_ بالتأكيد!

ولكن...
بعد انطلاق السائق بنا؛ بفترة قصيرة؛ عادت تلك الأصوات المزعجة تصدر من الباص، مترافقة مع بطء الحركة...
هتفنا بالسائق:
_ ألم تصلح الباص بالأمس؟
أجابنا بسماجة نادرة:
_ لا؛ لم أفعل ذلك، لم أكن أرغب في ذلك!

وقبل أن يعقب أحدنا على هذا الاستهتار المخيف، بل على هذه الجريمة المنكرة...
ارتج الباص؛ بغتة؛ بقوة شديدة، وتوقف نهائيًا عن الحركة...
وحاول السائق مرارًا وتكرارًا، ولكن المحرك لم يستجب نهائيًا لدورة المفتاح في مكانه...

نعم، لقد توقف السائق بنا، في صحراء شاسعة مترامية الأطراف...
ربما لم تكن صحراء، ولكن هذا ما بدا لنا جميعًا، إذ كانت الرمال تحيط بنا...
من كل حدب وصوب...

أدركنا؛ جميعًا؛ أننا قد ضعنا فعلًا، وأن مصيرنا الموت جوعًا وعطشًا...
هذا ما لم نقضِ نحبنا؛ قبل ذلك؛ بضربة شمس حادة!

تابعوا معنا

أ. عمر
29-8-2018, 02:33 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة التاسعة عشرة

أنفاس النار!
لا نُعَبِّر مجازيًا، ولكن هكذا شعرنا بأنفاسنا تتردد في صدورنا، وسط جو يشتعل لهبًا من حولنا.
فمع توقف الباص، وعجز محركه عن الدوران مجددًا، انطفأ المكيف تلقائيًا، ولم تمض لحظات، إلا وإحساسنا بالحريق يكاد يحرق أنفاسنا.
رمال على مد البصر، يمينًا ويسارًا، من أمامنا ومن ورائنا، مأزق مخيف، إذ إن السائق (الفهيم) أهمل مسألة تصليح العطل في الباص، رغم خطورة هذا العمل، لكنه؛ ويا للأسف؛ لم يكن يحمل أدنى ذرة من المسؤولية.
والآن؛ في صحراء السعودية؛ توقف الباص بنا، ولئن ساد الصمت قليلًا، إلا أن الانفجار كان مقبلًا، وحتميًا، إذ إن كثيرًا من رفاق السفر، معهم أطفالهم، وبيننا طفلة كذلك، وهناك سبب آخر، أن معظمهم ليس معهم شيء يأكلونه، إلا أقل القليل.

وهذه حماقة أخرى سأذكرها الآن، حينما وصلنا إلى مكة، أخبرهم أحد المسؤولَين معنا، ألا يشتروا شيئًا؛ إطلاقًا؛ إلا من أبراج مكة، وذلك لأن السوق الشعبي ليس فيه شيء يُذكَر، وأغلى بكثير من أبراج مكة، ثم اتضح لهم خلاف ذلك، ولكن في وقت متأخر، بعد أن دفعوا أثمانًا مضاعفة في أبراج مكة، وبما أنهم لم يحسبوا حسابهم جيدًا، وجدوا أن مالهم كاد ينفد، ولم يفكروا بشراء طعام للرحلة بين مكة والمدينة إلا أقل القليل، وقد اعتمدوا مبدأ عدم التوقف في الطريق للأكل في أي مطعم، إلى أن يصلوا إلى المدينة...
والآن؛ هم مهددون؛ في الصحراء الرهيبة؛ بالموت جوعًا وعطشًا مع أولادهم.
وبدأت الهمهمات المستنكرة الغاضبة، ثم ارتفعت الأصوات، فصاح العبقري الذي تكلم مسبقًا عن أبراج مكة، وأسعارها الزهيدة:
_ اهدؤوا! ألا تعلمون أن هذا ابتلاء من الله؟ هذا ليختبر به صبركم! ويجب أن تتوكلوا عليه عز وجل، فـ...
وانفجر الركاب بالصراخ والسباب!

نعم، كلام الأخ صحيح، لا نجادل به، لكن الغضب تضاعف، أفلا يكفي ما شهدناه؛ في رحلة الذهاب؛ من استهتاره بنا، حتى يتسبب لنا بهذا الموقف؟
كلام الأخ صحيح، لكنه ينافي الواقع! فالله؛ عز وجل؛ ابتلانا، ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه سبحانه، وهو أرحم الراحمين، ونتقبل هذا الكلام لو أن الباص توقف فجأة، أما أن يستبين عطل الباص للسائق، فيهمل إصلاحه، لأن مزاجه يريد ذلك! وبعدها ينطلق السائق بالباص، ومعه ركاب، ليقتحم بهم الصحراء، أو فلنقل منطقة رملية قاحلة، ويريد لنا المسؤول أن نهدأ! لو أنه ظل صامتًا لكان خيرًا له وأولى، إذ إن الحكم هنا والمواعظ، لن تغيِّر من الواقع شيئًا، بل سيكون مفعولها سلبيًا، ولقد تجلى ذلك بثورة حقيقية، تمثلت بفيض من الشتائم والكلام الجارح، انهال به الركاب على السائق، من دون رحمة، ولا أي اعتبار لسِنِّه، بات الأصغر منه والأكبر، يشتركان في شتيمته.

ولعل أبسط الكلام الذي تم تداوله وقتها:
_ لماذا لم يصلح هذا الأحمق الباص؟
_ خاف أن يؤنبه ضميره إن تصرف كرجل يفهم، لا بد أن يبدو كــ(مسطول)، وإلا فإنه يشعر أنه قد فقد إنسانيته!!
_ هيه، يا حضرة السائق، لماذا لم تأخذ دواء ضد المغص وتذهب لتصلح الباص بالأمس؟ نعلم أن بطنك كان سيؤلمك لو فعلت ذلك!!
ومن مقعدي خلف السائق مباشرة، رأيت كيف كان وجهه يحتقن من الإهانات، ولكنه_ وهذا التصرف الصحيح الوحيد الذي رأيته لديه_ لم يرد.
لأني أعتقد أن أي رد منه كان سيزيد الأمور سوءًا ويفتح المجال للمزيد من الإهانات.

_ ماذا سنفعل لو اضطررنا لقضاء الحاجة يا حضرة الشيخ فلان؟
قالها أحد الركاب، فرد عليه المسؤول بحزم:
_ عيب، ما هذا الكلام؟ استحِ يا رجل!
صاح الرجل بغضب عارم:
_ عيب!! انتظر حين يتحول إلى حقيقة إذًا، هل سيفتح لنا سائقك ال(...) حمامًا في الباص؟ أم يجب أن ننزل لنقضي حاجتنا في الأرض المكشوفة؟! أم أنك تظننا قادمين من المريخ ولا ندخل الحمام؟!
ارتفعت أصوات كثيرة تؤيده، ثم صرخ أحد الرجال:
_ وحين تجوع طفلتي، هل ألقمها التراب الملتهب في فمها لتأكل؟؟ أم أتركها جائعة كل النهار وبعض الليل حتى يبرد التراب قبل أن أطعمها إياه؟! أم...
وتابع بتهكم جارح للغاية:
_ أم أن سائقك الرائع سيلحس التراب بلسانه ليرطبه لها لتتمكن من أكله إن لم تحتمل الجوع؟؟

عادت أصوات الركاب ترتفع وتختلط، تجمع ما بين الغضب والسخرية والإهانات، ومسؤولا الرحلة يحاولان؛ عبثًا؛ وضع حد لهذا.
ثم استدار أحدهما نحوي ورفيقي _ وكنا قد بقينا ساكتين _ قائلًا:
_ ليتكلم أحدكما مع الركاب!
تجاهلت كلامه وطلبه، لأني أراهم على حق، فمعظمهم لم يكن معهم أي طعام، وادخروا ما تبقى من نقود قليلة لأجل الأيام الثلاثة التي سيقضونها في المدينة، ولذا، تجاهلت هذا الطلب، ولكن رفيقي قال متحمسًا:
_ وهل بعد ما قاله الرفاق ما يقال؟ بارك الله فيهم! يستحق سائقك هذا الكلام وأكثر!

رأيت المسؤول يهمُّ بالرد، ولكن الفَرَج أتى في ذلك الوقت..
سيارة تقترب من باصنا الذي تحول إلى ما يشبه المهرجان، مع صياح بعض الركاب وتلويحهم بأيديهم..
ويبدو أن من يقود السيارة قد انتبه إلينا، فأوقفها...
ومن دون كلمة توضيحية لنا، غادر المسؤولان الباص وذهبا إليه ثم ركبا معه في سيارته، لينطلقوا بها، ثم يعودوا بعد مدة ومعهم ميكانيكي، انهمك في فحص الباص وإجراء التجارب، قبل أن يبشرنا بحل المشكلة.
ولم تكتمل الفرحة، فإصلاح الباص كان لا بد له من ورشة كاملة، لكن ما قام به الميكانيكي كان كافيًا لإعادة الباص إلى الحياة إن صح القول..
بشرط أن ينطلق به السائق بأقل سرعة فيه، ويتوقف كل مدة للاستراحة..
وهكذا، وجدنا أنفسنا في باص يمشي ببطء دراجة هوائية متهالكة، ويتوقف كل نصف ساعة لربع ساعة، حتى وصلنا المدينة بعد 19 ساعة من هذا الانطلاق!!
وصلنا متعبين، ونمنا جميعًا كالموتى حتى مساء اليوم التالي، ومنا من واصل نومه ليكاد يبلغ يومًا ونصف، لشدة ما لاقاه من التعب.
ومع استعادتنا أحاسيسنا ومشاعرنا، انطلقت الأصوات المطالبة بالرحيل.
واعتبر كثيرون منا بقاءهم في المدينة إضاعة للوقت لا أكثر، ولا ألومهم، رغم خطأ الاعتبار، لكن أعتقد أن هذه المصائب التي انهالت علينا بسبب السائق هي السبب.

وهكذا، وجدنا أنفسنا ننطلق في رحلة العودة.
غير أن المنغصات وحماقات السائق لم تكن قد انتهت!
رغم بشارة مسؤولي الرحلة لنا أنه لا يوجد تفتيش للخارجين من السعودية، وبالتالي لن ننتظر كل تلك الساعات الطويلة، إلا أن التفتيش كان ينتظر عند الحدود الأردنية!
وهو ليس تفتيشًا بالمعنى الحرفي للكلمة، بقدر ما هو استيفاء رسم جمركي بسيط عن كل راكب.
وأخبرنا المسؤول أنه يريد 15 ريالًا من كل واحد فينا.
ناولناه الريالات، ليعطيها للسائق، ولتبدأ المسخرة.
الضابط والسائق يدوران حول الباص، مرة وأخرى وأخرى و...
وأكثر من عشر باصات أتت بعدنا، دفع سائقوها الرسوم وغادروا، ونحن نعد الساعات وبعضنا يسب ويلعن السائق، والأخير لا يدفع!!
ثم طلب الضابط أن يتم إخراج جميع حقائبنا للتفتيش.
وامتدت فترة الانتظار ساعات وساعات أخرى، ومسؤول في الرحلة يقول لنا متهكمًا:
_ انظروا الحضارة العربية! انظروا الحضارة!!
لم يسكت له أحد، وصاحوا به أن سبب هكذا (حضارة) هو (همجية) السائق وغباؤه وتخلفه الذهني.
وعادت الإهانات تتردد بحق السائق، والمسؤول يحاول التهدئة:
_ اصبروا، إن الله مع الصابرين.
لكن السؤال كان ينطلق من الأفواه:
_ لقد أعطيناكم النقود، فلماذا لا يدفع السائق؟ إنه لا يدفع من جيبه!!
وأخيرًا، حسم الضابط الأردني الموقف، قائلًا في ضيق:
_ هذه البضاعة عليها رسوم جمركية، ناولني!
وهنا، دفع السائق رغمًا عنه، وهو لا يبدو راضيًا.
وعدنا إلى الباص، والكل غاضب ثائر لهذه التصرفات الغبية التي لم تعد تُحتَمَل، وزاد الطين بلة، أن المسؤول أخبرنا بأنهم في الأردن (غضبوا) لتأخرنا في الدفع، فزادوا من الرسم الجمركي، وأن علينا أن نناول السائق المزيد من المال، لنعوضه عن الخسارة!!
ولن أذكر هنا ما قد قيل، بسبب فداحة الشتائم التي انهالت على رأس السائق والمسؤول والباص سويًا!
لكني أقول إن أحدًا لم يدفع شيئًا بالمرة.
وحاول المسؤول كعادته، أن يجد له مؤيدين، فسأل رفيقي الجالس بجواري:
_ ما رأيك؟ قل كلمة! تحدث بضميرك!
رد عليه رفيقي بجفاء:
_ ضميري يقول إن الرفاق على حق!
لم يعجب الرد المسؤول، فتوجه إليّ بنظراته، لأقول له بجفاء مماثل:
_ على سائقك أن يدفع لهم! ألا يكفينا أننا انتظرنا سبع ساعات على الحدود الأردنية، وكان بالإمكان المغادرة في سبع دقائق!!
وكان هذا آخر الكلام، وختام الاعتراضات.
فالرحلة تواصلت بنا، خالية من الحوارات والنقاشات، إلا الأحاديث الفردية الجانبية.
ولكن، كنت على موعد مع الألم!

فالطفلة التي ذكرتها لكم؛ بداية الرحلة؛ كانت تتمتع بالحيوية الزائدة، إذ كانت تمشي؛ بين مقاعد الركاب، فيسلِّمون عليها ويلاعبونها، وكانت؛ كذلك؛ كريمة لأقصى الحدود، لا تقبل أن تأكل من أي كيس بطاطا (شيبس) تفتحه، إلا بمرورها لتضيِّف كل الركاب.
وإذ وقفنا بعد الحدود الأردنية، لنيل بعض الراحة، وكي (ينام السائق) لأنه (متعب قليلًا)، وكانت الدنيا تنحو نحو الظلام قليلًا، غادر بعضنا الباص، وكنت من المغادرين، أحاول التقاط بعض الأنفاس النقية، وهناك رأيتها... تلك الطفلة، كانت تقف مع والدها، وتحرك شيء ما في قلبي... قلبي الذي يحلم بطفلة تؤنس بيتي وحياتي، أحسن إليها وأربِّيها لتكون مفتاحًا لي للجنة، فاقتربت من تلك الطفلة لأقول لوالدها:
_ ما رأيك أن نلعب؛ أنا وأنت؛ مع الطفلة؟
أجابني:
_ آه، آه!
قلت له:
_ حسنًا، أمسك بها من يديها، وسأمسك بها من قدميها، ونؤرجحها قليلًا في الهواء.
قال الأب:
_ آه، آه!
أمسكت بالطفلة من قدميها، سائلًا والدها:
_ هل أمسكتَ بها من يديها، لنبدأ؟
أجابني:
_ آه، آه!

رفعت الطفلة من قدميها لأؤرجحها، ويا أمي! يا لها من خبطة مدوية! خفت أن يكون رأس الطفلة قد انشق من موضعه! كان والدها شارد الذهن، ولم يسمع ما قلته له، فردد بتلقائية (آه، آه)، والآن؛ أفاق الرجل من شروده، صرخة طفلته الأليمة دوَّت بعنف، وشعرت بها تمزق قلبي، وبدا لي الأمر كابوسًا حقيقيًا، ووالدها يحملها ويجري بها، وخلفه يجري عدد من الركاب، ودم الطفلة يسيل، وصراخها الباكي لا يهدأ لحظة!
ومن مكان ما، ظهر مسؤولا الرحلة، لينضما إلى ركب الراكضين، وأحدهما يهتف بضرورة غسل رأس الطفلة، ومداواتها، وبقيت واقفًا مكاني، خجلت أن أمشي معهم فتراني الطفلة، وقد تسببت لها بكل هذا الألم، فيزداد حقدها عليَّ أضعافًا!

شعرتُ؛ فعليًا؛ بأن كياني مضطرب، وأنني ارتكبت جريمة بحق الطفلة، ولكم أغضبني أن يأتي أحد مسؤولَي الرحلة، ليقول لي بكل سماجة:
_ يجب عليك أن تدفع فدية رأس الطفلة!
ولولا أنه انصرف من أمامي، أظن أنني كنت سأركله كالكرة! إذ لا ينقصني المزاح، وأنا في هذا الموقف التعيس.

عاد الموكب بعد مدة من الوقت، وأشارت الطفلة إليَّ بيدها، فتوقف والدها، واقتربت منها، كنت موقنًا أنها ستشير إليَّ وتشكو، وربما تبكي مجددًا، ولكنها اكتفت بالنظر إليَّ بهدوء، بل ومدَّت يدها نحوي تريد أن تصافحني!
انحنيتُ قليلًا، لأمسك بيدها وأقبِّلها بكل الأسى والامتنان في نفسي لها، وبعد ذلك؛ غادرنا الباص للصلاة في مسجد ما، وبعد انتهائنا بقي والد الطفلة ينتظر أن تأتي امرأته من مصلى النساء، ويبدو أن طفلته كانت متعبة، فحملها، وصعدا إلى الباص، لتمد طفلته يدها نحوي لتضربها بيدي مداعبة، ما أثار دهشتي بحق، كيف يمكن لطفلة مثلها أن تمتلك هذا القلب الطيب الحنون المتسامح؟

واستطرادًا أقول، إن هذه الطفلة؛ آنذاك؛ باتت تلميذتي بعد اثني عشر عامًا من تلك الحادثة!
ومن المؤكد أنني لم أعرفها بادئ الأمر، كما لم تعرفني هي، ثم اتضح لنا الأمر فيما بعد، وإذ ذكرتها به، قلت لها إن (راكبًا) قد أوقعكِ على رأسكِ، وماذا تقولين له، وقبل أن أخبرها بتفصيل ما حصل، وكان كلامي يوحي بأن الراكب أوقعها متعمدًا ربما، قالت إنه من المؤكد أنه أراد أن يلعب بها، وبالتالي نيته صافية، ولا تقول له أي شيء، فهو قد غلط من دون قصده، لا زالت كريمة النفس كما عهدتها من قبل... وإن أحسستُ أنها قد تفاجأت قليلًا حينما أخبرتُها؛ أخيرًا؛ أنني أنا ذلك الراكب!

وبها، وبما حصل معنا، آنذاك؛ كتبتُ؛ بتاريخ 27_4_2018، الخاطرة الآتية

مسافرة الزمان البعيد!
وعبر مد السنين يتعالى صوتكِ الأليم!
بكاؤكِ وصراخكِ لآلامكِ التي لا تُحتَمَل يا طفلةً مسافرةً عبر حدود القلوب والوجدان
ولعلكِ قد نسيتِ ذلك مع الزمن... لعلكِ قد نسيتِ أنات الألم العالية ودموع القهر والأوجاع...
ولكني؛ يا طفلة الزمان البعيد؛ لا أنسى آلامكِ ولا صراخكِ... فكم تركا في القلب من جراح...
أجل يا صغيرتي، قد التأمَتْ جراحكِ في نفسكِ، لكنها ما التأمَتْ في نفسي أنا!
وكيف لكِ أن تَنسَي آلامكِ القاسية، وغيركِ ما يزال يذكرها لا ينساها؟!
ترى، أأجِدُ عندكِ إجابة شافية، أم يبقى السؤال جريحًا في مدى الزمان، وعبر مسالك الحيرة في صدر الوجدان... جريحًا كالدماء التي سالت منكِ ترتوي بها أرض الغربة البعيدة!




نرجع إلى سياق قصتنا، تابعنا طريقنا حتى وصلنا إلى وطننا أخيرًا، وكل ما وصل أحدنا، أو بعضنا، إلى منطقته، كنا نسمع التعليق حين المغادرة:
_ الحمد لله أننا خلصنا من هذا الكابوس المزعج!
وأحد مسؤولي الرحلة يردد في ذهول وغضب:
_ رحلة العمرة كابوس!! لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
طبعًا لا أحد يقصد أن ذهابه إلى العمرة كابوس.
لكن رحلة بهذا المستوى المتدني من الاهتمام بالناس، وما كادت تؤدي بنا إليه في الصحراء، تستحق اسم (الكابوس) ببساطة.
ومع وصولي، غادرت الباص، من دون تعليق، ولكني كنت قد اتخذت قرارًا حاسمًا.
ألا أرجع إلى السعودية للعمرة مرة أخرى برًا.
غير أنني _ وبعد ثلاث سنوات_ وجدت نفسي أشترك في رحلة برية أخرى.


تابعوا معنا الحلقة الأخيرة بإذن الله تعالى.

أ. عمر
30-8-2018, 01:56 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة العشرون (الأخيرة)

غادرت باص تلك الرحلة التعيسة البائسة، ولما تتوقف (إبداعات) السائق بنا!
فلقد اتخذ الأخ قراره (الخطير) ألا يدخل ضمن منطقتنا، بل سيبقى في الخط الدولي السريع، لأجد نفسي مضطرًا لقطع الأوتوستراد على مرحلتين، ومعي حقيبة السفر الكبيرة الثقيلة، ومطرة ماء زمزم 20 ليترًا...
ولا أنسى؛ هنا؛ أن أقول إننا في الرحلة الأولى كان يحق لكل واحد منا مطرتي ماء زمزم بهذه السعة، وسعر الواحدة 4 ليتر، أما في رحلتنا هذه فكان قرار المسؤولَين ألا يسمحا بأكثر من مطرة واحدة، وسعرها 20 ريالًا (فقط)!
و(يقال) إن كليهما أخذ 12 مطرة (فقط)، ويا لتواضعهما الرهيب!

لا علينا منهما، لقد تطوع صهري (رحمه الله) لملاقاتي في الأوتوستراد، وحمل الحقيبة ومطرة ماء زمزم معًا، ولم يتركني أحمل شيئًا، جزاه الله خيرًا وأسكنه فسيح جنانه بفضله ورحمته.

رجعت؛ أخيرًا؛ إلى موطني، إلى الأمان، بعد رحلة رهيبة، وإذ وضعت رأسي على الوسادة لأنام، كنت قد اتخذت قراري، لن أذهب إلى العمرة برًا مرة أخرى...
يكفيني كمية الرعب الفادحة التي عشتها هذه المرة، عدا عن إرهاق الرحلة البرية بهذا السائق المستهتر، فلماذا أخوض تجربة أخرى قد تكون مماثلة؟

لكن الأعوام مضت، ثلاثة أعوام مرة أخرى، لأجد أنني؛ في العام 2009؛ بحاجة ماسة للذهاب للعمرة، خاصة بعد اجتيازي ظروفًا صعبة بعض الشيء، وبالطبع لم تكن الحالة المادية تسمح بركوب الطائرة، وأتى الأمل بقيام رحلة من منطقتنا، وفيها أصدقائي، وبينهم ابنا مسؤول الرحلة نفسه، فحسمت الأمر وتقدمت بطلب التأشيرة، وهكذا، لم تمضِ فترة بسيطة، إلا والباص ينطلق من لبنان، لنتَّجه نحو الأراضي السعودية...

لم نشهد حماقات واستهتار كما شهدنا المرة الماضية، وحتى انطلاقنا إلى المدينة من دون التوقف في مكة، لم يكن متعِبًا لنا، لكني كنت أعاني آلامًا مباغتة في معدتي، حاولت تجاهلها، ولكن...

وصلنا إلى الفندق في مكة، قبيل صلاة الجمعة ببعض الوقت، وأراد بعض الرفاق الاستراحة، كونهم في رحلة سفر، أما أنا؛ فكنت أشعر بالنشاط، فانطلقت إلى الحرم لأؤدي العمرة، وإذ كنت أطوف، رأيت ما أثار استنكاري... رجل يحمل في يده هاتفه المحمول ويتكلم عبره، وهو يطوف حول الكعبة!
لم يكن في حالة العمرة (لأنه يلبس ملابس عادية)، ولكن استخدام الهاتف خلال الطواف، أمر لم أتقبَّله قط.
غير أن هذا الأمر كان هينًا فعلًا، إزاء توقف الرجل المباغت ليصرخ بكلمة ما عبر هاتفه، رافعًا ذراعه الضخمة ليردها إلى الخلف بقوة شديدة، وكانت الضربة الصاعقة في معدتي، شعرت أن معدتي ارتفعت من موضعها لترتطم بحلقي ثم ترتد إلى مكانها، وطعم غريب مقرف في فمي، والحمد لله أنني لم أنزف دمًا بسبب هذه الضربة المجنونة.
أما الأخ، فقد تابع طريقه بشكل عادي، كأن شيئًا ما لم يحصل، وربما لم ينتبه فعلًا إلى ما حصل، لا علينا؛ لم أكن أنتظر اعتذاره، وما كان الاعتذار ليغني شيئًا، فلقد شعرت؛ أول مرة؛ بحرارة شديدة، وأن الشمس ترسل شواظًا من نيران فوق رأسي، وما كدت أتم الأشواط حول الكعبة (لا أعلم العدد الصحيح، هل طفتُ سبعًا أم ثمانية أم تسعًا، أم أكثر)، حتى حاولت الرجوع لأجد لنفسي مكانًا داخل الحرم، لكن هذا كان مستحيلًا مع الأعداد الهائلة المتدفقة لحضور صلاة الجمعة، فجلست على الدرج، أرتجف ألَمًا وأتصبب عرقًا، والحمد لله أن الخطبة لم تكن مطولة...
خرجت؛ بعدها؛ من الحرم بأكمله وتحللت في أول محل، ورجعت إلى الفندق، وأنا لم أسع بين الصفا والمروة حتى!

استغرب رفاقي في الفندق هذا الرجوع السريع، وكيف أتممت العمرة بهذا الوقت القياسي، لكني لم أكن قادرًا على الرد، اتجهت إلى غرفتي في الفندق، بعد أن سألتُ المسؤول عن رقمها، إذ لم يكن في ذاكرتي أي شيء، سوى الألم الذي أشعر به، وارتميت على الفراش، ولا أعلم هل نمت نومًا عاديًا من إرهاق الرحلة، أم أن ذلك كان بسبب الآلام، لكني أعلم أنني نمت بعد صلاة الجمعة، واستيقظت قبيل فجر الأحد! وأعلم؛ كذلك؛ أنني استيقظت، والألم يعصف بمعدتي!

كنت بحاجة ماسة لطبيب هناك، لكني اكتفيت بسؤال صيدلي ما، وأفاد بأن الأمر سيزول وحده، لكن يلزمه وقته ليلتئم موضع الضربة، وليس لي إلا المسكِّنات، غير أن المسكِّنات لم تكفي إلا لتخفيف الألم قليلًا حينما يشتد، وفي ذهني كانت ترتسم أبعاد المشكلة الكبرى، هل خسرت العمرة هذه المرة؟

سألتُ أكثر من طرف، ممن قيل لي إنهم أهل العلم، وأحدهم قال إنني أتيت وتنزهت فحسب، ولا عمرة لي، حتى لو أعدتُها، إذ لا يحق لي إعادتها من مسجد التحريم، مسجد أمنا عائشة رضي الله عنها، والآخر قال إن عليَّ أن أتَّجه فورًا إلى مسجد التحريم لأنوي العمرة مجددًا، وأنطلق من هناك لأدائها، وإذ أنا بهذه الحيرة أفادني شخص ثالث بأن التحلل باطل، وأنه يجب أن أذهب إلى مسجد التحريم لأحرم من هناك، ولا داعي للنية إطلاقًا، وبعد ذلك أكتفي بالطواف حول الصفا والمروة لاستكمال العمرة!

حاولت أن آخذ بأوسط الأمور، لبست ملابس الإحرام، واتجهت نحو مسجد التحريم لأصلي هناك ناويًا الإحرام ورجعت إلى مكة، وكان عليَّ أن أمشي مسافة ما لأصل، لكني تهاويت قبلها، أخذت أجر ساقيَّ جرًا، حتى صعدت إلى أبراج مكة، ودخلت الحمام في أحد الطوابق، لأضع رأسي تحت المغسلة، ولا أدري نفع هذا! لن يخفف الماء آلام معدتي! لكني ظننت أن ذلك سيساعدني قليلًا لاستعادة حيويتي، ثم جلست في مطعم هناك، لا لأنني أتقبل الطعام، بل لأستريح قدر الإمكان، فرجوعي إلى الفندق كان مستحيلًا في ظل هذه الظروف.

ارتحت قليلًا، وتحاملت على نفسي لأرجع إلى الفندق، وقد شعرت بأنني لن أنجح في أداء العمرة الآن، وحتى التوجه إلى جدة بدا لي أمرًا مستبعدًا، لولا أن وصل أخي من جدة (كان قد ذهب إلى السعودية ليشتغل هناك تلك السنوات)، وانطلقنا بسيارته؛ وقد تركت لباس الإحرام، وأخذني أخي إلى مسجد الفرقان وصلينا خلف الشاطري، وسلمت عليه بعد الصلاة وسألته عن أمري، فأشار لي إلى رجل هناك لأسأله، لأن الناس يستفتونه فيما يريدون، واستمع الرجل إلى ما حصل معي، وطلب إليَّ أن أنسى كل ما مضى، وأرجع إلى مسجد التحريم لأحرم ناويًا العمرة، ثم أؤديها مرة أخرى، وسيتقبلها الله، إن شاء تعالى.

استبشرت خيرًا، وبدا لي أن العمرة لن تضيع، وأن ذهابي إلى مسجد التحريم للإحرام ليس محاولة مني قد تكون صحيحة وقد لا تكون، بل هي صحيحة فعلًا، فاتجهت إليه؛ اليوم بعد التالي؛ إذ قضيت اليوم التالي في الفراش لا أكاد أقوى على النهوض، وبعد الإحرام رجعت إلى مكة، واتجهت إلى الحرم داعيًا ربي أن يعينني، والحمد لله، أديت العمرة رغم الآلام المشتعلة في معدتي، ولا أعلم هل تمزقت أوتار بطني من تلك الضربة أم تمزق جدار معدتي نفسه أم ما حصل تحديدًا!

عدنا إلى المدينة، ومنها؛ بعد يومين؛ إلى لبنان، وهنا تجلت (موهبة) السائق، لقد هاج وماج، يريد أن يحصل على (إكراميته) من الركاب، وأخبرنا أنه (متسامح) يقبض بكل العملات الموجودة، اللبناني، السوري، السعودي، الأردني، الدولار... وأعطاه الركاب ما تيسر ليتابع الطريق، لكن من دون رضا، إذ رأى أن المبلغ (قليل)!
وهكذا توقف السائق بنا، قبل أن نصل إلى بيتنا بمسافة طويلة فعلًا، يقطعها هو في ثوانٍ قليلة بالباص، لكن أنى لنا أن نمشي تلك المسافة، وبأيدينا الحقائب وماء زمزم؟ والحمد لله أن إحدى أخواتي ظلت مستيقظة تنتظر رجوعنا، وقد اتصلت بي هاتفيًا، لأخبرها بأننا وصلنا، وانطلق صهري (غير الصهر السابق، الأخير كان في خدمته العسكرية)، ليوصلني إلى بيتي بسيارته، وإذ دخلت بيتي، ظننت أنني أخطأت حتمًا، لكن كيف فتح الباب إذًا لو لم يكن هذا هو البيت فعلًا؟

معظم أغراضي غير موجودة، والأحذية مختفية، وبعض ملفاتي التي أضعها على الكنبة قرب الباب مختفية كذلك، وباب الصالون ليس في موضعه، اتجهت إلى المطبخ لأعد لنفسي كوب شاي، فلم أجد علبة الشاي، اتجهت إلى غرفة النوم لأفاجأ بالغرفة التي بجوارها مغلقة، مددت يدي لأفتح بابها، وإذ بالباب يتهاوى وأنا فوقه، ما جرح ذراعي وكف يدي، تجاهلت الألم والدم، وحاولت أن أفهم ما يحصل، وفيما بعد عرفت! أتى أهلي بامرأة تشتغل في تنظيف البيوت في غيابي، وذلك لتنظف لي بيتي، وإذ علمت أنني مطلِّق، عبَّأت كل ما وجدته أمامها من أغراضي، الدفاتر والأقلام والأحذية والكتب وفرشاة الشعر وفرشاة الأسنان، وإلى الزبالة! وخلعت باب الصالون من موضعه لتنظفه ثم فشلت في إعادته، فذهبت به إلى الغرفة الأخيرة لتضعه واقفًا مسندة إياه مكان الباب المفتوح تقريبًا، ما خدعني تلك الخدعة المزعجة... أما علبة الشاي، فقد وجدتها مصادفة فيما بعد، في الثلاجة!

السنة اللاحقة 2010، ذهبت إلى العمرة لكن جوًا، وإذ ركبت الطائرة أخذت أفكر هل سأتحمل الرحلة جوًا؟ هل سيضيق صدري؟ هل سأشعر بالاختناق؟ (كنت قد سمعت بكثير من هذا الكلام من قبل، وأن ركوب الطائرة أول مرة يسبب هذا)، ومرت بي المضيفة تسألني إن كنت أريد أن آكل، فأشرتُ لها رافضًا ذلك، ثم انتبهت إلى أمرين اثنين، الأول أنني جائع وقد رفضت الطعام، والثاني أننا في الجو فعلًا، ولا أعلم كم مضى على انطلاقنا!

في السعودية، بعد خروجنا من المطار، قابلني شخص هناك، كما أخبرني مسؤول الشركة، الشخص سيحمل لافتة مكتوب عليها اسمه، ولقد عرفني الأخ على الفور، وأوصلني بسيارته إلى الفندق، وكان بعيدًا فعلًا عن الحرم المدني مسافة طويلة (لم تخدعني الشركة هنا، أخبرنا مسؤولها بذلك قبل أن أسافر)، وكم شعرت بالارتياح إذ يخبرني موظف الاستقبال أن بإمكاني أن آخذ؛ بمفردي؛ غرفة ثلاثية أو غرفة رباعية! واخترت الثلاثية، وسعادتي كانت أن أحدًا لن يشاركني الغرفة، ولو كانت حجرة ضيقة، وأنا وحدي فيها، لما أزعجني ذلك.

المشكلة الوحيدة هنا أن موظف الاستقبال، بدأ بـ(النق) كلما رآني:
_ فلوس؟ أين الفلوس؟ ناولني الفلوس!
وكل مرة أخبره معلومة تدخل أذنًا وتخرج من الثانية:
_ لقد دفعت الشركة لكم كامل مستحقاتكم!

وإذ فاض بي الكيل، اتصلت دوليًا بالشركة التي أتعامل معها الآن، واتصل صاحبها بمندوبه في المدينة، الرجل الذي التقى بي وأوصلني إلى الفندق، وأتى الأخير بوجه غاضب، يصرخ فيهم طالبًا المدير، وأتى الأخير على الفور، ليسأله الأخ هل يريدون تشويه سمعة شركته السياحية أم ماذا؟ وما هدفهم من هذه التصرفات السخيفة؟ وأكد له مدير الفندق أنه لا علم له بما يفعله مسؤول الاستقبال، لكننا لم نقبل اعتذاره، وأخبرناه بأننا مستعدان الآن لمغادرة فندقه إلى فندق آخر، ولكن... لن تتعامل مع فندقه تلك الشركة السياحية مرة أخرى، واعتذر المدير مرارًا وتكرارًا، ومن بعدها توقف مسؤول الاستقبال عن سماجته هذه!

انطلقت بباص كبير من هناك، توقف بنا لنغتسل ونحرم وتابعت إلى مكة لأداء العمرة، ومرة أخرى يأتي أخي لنذهب إلى جدة، بل والتقيت بأختي وصهري (صهر ثالث غير اللذين مر ذكرهما) وقد كانا في جدة، في فندق ضخم، نزل به صهري بدعوة ما (ربما من هيئة القراء في العالم، لا أعلم اسمها حقيقة، لكن فيها الشيخ عبد الله بصفر)... أمضيت الليلة في الفندق، في غرفة أختي وصهري، إذ لم يأتِ صهري إلا بعد الفجر، نمت على الكنبة، وبدت لي أفخم من أفخم سرير نمت فيه في أي فندق سبق لي الإقامة به...

أردت شرب كباية شاي قبل أن أرجع إلى مكة، ويا سلام! سعر كباية الشاي في الفندق 64 ريالًا سعوديًا! قررت الصيام عن الشاي، رغم إدماني إياه، على دفع مثل هذا المبلغ... تمشيت قليلًا حول الفندق، حتى وصل أخي، وذهبنا؛ معًا؛ أنا وأخي وأختي بسيارته نتسوق في جدة، ثم تابعنا إلى مكة، لنصلي في الحرم ونكسب الثواب المضاعف بإذن الله...

أقمت في مكة آخر يومين لي، ومن بعدها ذهبت إلى جدة في سيارة تاكسي، والتقيت بأخي، لينطلق بي بسيارته إلى المطار، وواجهتنا مفاجأة مزعجة هناك، أنه لا يحق لي أن أصعد إلى الطائرة بمطرة زمزم 20 ليترًا، والمسموح به 10 ليترات فحسب، وحتى لو قسمنا الماء قسمين، أو شرب أخي نصفه دفعة واحدة، فلا يُسمَح بأن أصعد إلى الطائرة بهذه المطرة، بل حتى لو أفرغناها من الماء بالكامل، وإذ دخلت أمتعتي للتفتيش، خرج ضابط من هناك يطلب إليَّ أن أكلمهم في قسم الأمن داخل المطار، لوجود بضاعة (مشبوهة) معي!

تذكرت تلك الرحلة الكابوسية من أربع سنوات، لكني تبعت الضابط بقلب ثابت، فأنا أثق بأنني لم أحضر شيئًا مشبوهًا، ولكم ضحكت من قلبي على تلك التكنولوجيا الغبية! معنا أدوات معدنية، كان أخي يريد إرسالها إلى لبنان، مثل خزنة معدنية صغيرة، وطنجرة وربما طنجرتان، لكنني شعرت بالضيق، وأنا أفرغ البضاعة أمام عيني أحد الضباط هناك، وهو يسألني:
_ ما هذا؟
_ طنجرة
_ طنجرااااا؟
_ آه، طنجرااااا، قِدِرْ، يطبخون بها.
_ آه... ما هذا؟
_ مقلاة!
_ مقلااااااااااة؟
_ آه، مقلااااة، مقلاااااية، مِقْلِة... هكذا نسميها!
_ آه... ما هذا؟

أخذت حقائبي، وانطلقت نحو الاتجاه الذي أشاروا لي، لنفاجأ بخبر تأجيل إقلاع الطائرة بعض الوقت... والحمد لله أن الوقت؛ على طوله؛ مَرَّ سريعًا، وكان الرجوع إلى لبنان أخيرًا، وكان هذا ختام العهد ببلاد الحرمين، وبالعمرة... ثماني سنوات كاملة مضت بنا، والشوق يملأنا للرجوع،
وندعو الله تعالى أن ييسِّر لي الرجوع، للحج، والعمرة.


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حياكم الله وبياكم (عمر قزيحة)

30_ 8_ 2018
الساعة: 0:55 ليلًا

Jomoon
9-9-2018, 06:53 PM
وانتهت رحلتك على خير
الحمدلله
مررت بأشياء مجنونة
الحمدلله على نجاتك
أكثر عجباً الجواز مع الشاب
سبحان الله
طريقة السرد رائعة وممتعة برغم ما فيها
ربي يكتب لك عمرة وحج قريباً وبخير
ربي يبارك بك
في حفظ المولى،،

أ. عمر
21-9-2018, 02:55 AM
وانتهت رحلتك على خير
الحمدلله
مررت بأشياء مجنونة
الحمدلله على نجاتك
أكثر عجباً الجواز مع الشاب
سبحان الله
طريقة السرد رائعة وممتعة برغم ما فيها
ربي يكتب لك عمرة وحج قريباً وبخير
ربي يبارك بك
في حفظ المولى،،



بصراحة لم أتوقع أنني سأرجع آنذاك إلى بلادي إلا بعد موتي!
الحمد لله تعالى، كانت رحلة مرعبة بمواقف مجنونة فعلًا
أما وجود جواز سفري مع ذلك الشاب فأمر لم أستطع فهمه ولا إدراك سبب حصوله، غير أنني لن أذهب في أية رحلة أخرى للعمرة مع تلك الشركة، أو فيها أحد المسؤولَين اللذين كانا في رحلتنا هذه...
شكرًا جزيلًا لدعائكِ الطيب، بارك الله بكِ ولكِ، وحفظكِ من كل سوء

بوح القلم
9-10-2018, 01:26 AM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركااته

موضوع دسم بحق والقصيدة! يا الله فاتنة جدًا سحرتتي الأبيات وأُسرت بسلاستها

وسبب الخوف يرجع إلى سنوات الطفولة وبدء مرحلة الشباب، وقتها كان أي مشوار طويل بالسيارة، يدفع بي إلى التقيؤ ما لا يقل عن أربع مرات ذهابًا ومثلها إيابًا!

وكأنك تصف حالي ظننتني الوحيدة التي تعاني من تلكم الحالة ^^"


وكانت صدمة قاسية لهؤلاء الشباب، لقد ظنوا أنهم سيخرجون من الحدود السعودية إلى المدينة مباشرة، ولم يعلموا بأنها تزيد؛ على الأرجح؛ عن المسافة من لبنان إلى الحدود السعودية!
حقًا؟! وأنا التي ظنتهما متجاورتين !!

بسم الله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون.
هتف شخص ثان:
_ لماذا؟ هل تظن المصعد بقرة؟!
رد الأول متضايقًا:
_ بل وسيلة نقل!
هتف به الثاني:
_ نعم، نعم، ولا ينقصه إلا أن يقول (ماء... ماء)!!
صرخ الأول:
_ لا داعي لأن يقولها! أنت تقولها! ويكفي...
هتف بهم أحد الرجال:
_ اسكتا! ما هذا؟ هل هذه أخلاق من يأتون إلى العمرة؟ عيب! استحوا على دمائكم!

أعلم أنه لا يجب علي الضحك لكنها أضحكتني فعلًا
لكن بجدية هل يشمل المصعد لزوم ترديد هذا الدعاء؟! أنا لم يخطر الأمر ببالي قبلًا

وهل هناك أسوأ من أن يستيقظ أحدكم بركلة عنيفة تكاد تمزق أواصر خاصرته من مكانها؟؟

آه يا مسكين ^^
لكن عليك أن تعذره فمع لهيب الحر الذي تتحدث عنه وربما عدد لا يحصى من النائمين المحتاجين إلى إيقاظ
غادره اللطف وحل التوتر


_ تخيل يا... تخيل! إنهم في السعودية يبيعون... يبيعون... يبيعون...
هتف الرفيق الذي كان في الغرفة، وقد نفد صبره:
_ يبيعون ماذا؟

اختنق صوت الأخ من الانفعال، ليتابع زميله بدلًا منه:
_ يبيعون الفساتين، تخيل!


أتخيل الموقف حدثتني ذات يوم خالتي أنها عندما لبست النقاب في بداية التسعينات لم يكن شائعًا لبسه
فجاءت امرأة إلى جدتي تسألها كيف لخالتي أن تأكل وتشرب وتنام وهي تغطي وجهها بهذا الشكل؟!
تظن أن من ترتدي النقاب لا تخلعه أبدًا حتى داخل جدران بيتها !!
فجهلك بزي قوم يولد سوء فهم عن كيفية ارتدائه



قلتُ ذلك، وأنا ألوم ذاكرتي الهزيلة هذه، مبتسمًا لطرافة الموقف، إذ ظننت أن شهرتي باتت عالمية


آمل أنك استمتعت بلحظات الشهرة تلك ولم تشعر بخيبة أمل بعد أن عرفت أسبابها ^_^


وقد أدهشني أن الشاطري يحب النكتة ويضحك، حتى يحمر وجهه، خلافًا لما نسمعه من بكائه الخاشع في الصلاة

وكأنهم ليسوا بشرًا ؟! وكأن من العجب أن يضحكهم ما يضحكنا؟! أنا أيضًا كنت أعتقد هذا ^^"
لكنك تشعر بالروحانية بمجالستهم وتشعرك مشاركة الضحك معهم بالانشراح صح؟



فتحت جواز السفر، ليتضاعف غضبي! هذا جواز سفري أنا!
صرخت في وجه الرجل:
_ هذا جواز سفري، ما الذي كان يفعله جواز سفري مع هذا الأخ؟
أجابني بسماجة بغيضة:
_ أنا نسيته معه!
ضبطت نفسي بصعوبة شديدة كي لا أنطلق بالشتائم، وأنا في أطهر بلاد الله...

من الجيد أنك كظمت غيظك في ذلك الموقف مع أن الغضب لا يأتي بخير لكن حاول أن تقنع نقسك
وهب أنك حاولت هل تجد لديها أذن صاغية ؟ هيهات



وبقيت واقفًا مكاني، خجلت أن أمشي معهم فتراني الطفلة، وقد تسببت لها بكل هذا الألم، فيزداد حقدها عليَّ أضعافًا!

أنا لا أحسدك على هذا الموقف ربما لو كنت مكانك لشاركتها البكاء لقد دمعت عيناي من تخيل الحدث فقط !



والشوق يملأنا للرجوع،
وندعو الله تعالى أن ييسِّر لي الرجوع، للحج، والعمرة.


أسأل الله ربي أن ييسر لك الرجوع للحج والعمرة
حكاية فاتنة الأسلوب ممتعة بطرافة سردها
شعرت وكأنني أعيش أجواءها لكن أتعلم؟ مشقة أحداثها جعلتني في خشية من تجربة مثلها رغم تلهفي
باركك ربي وأسعد أيامك وجعلها عامرة بذكره وشكره وأعانك على حسن عبادته

أ. عمر
15-10-2018, 10:05 PM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركااته

موضوع دسم بحق والقصيدة! يا الله فاتنة جدًا سحرتتي الأبيات وأُسرت بسلاستها: بارك الله بكم أختي الكريمة!

وكأنك تصف حالي ظننتني الوحيدة التي تعاني من تلكم الحالة ^^" كذلك أهلي، كانوا يظنون أنني الوحيد الذي يمكن أن يحصل معه هذا الأمر، وكانوا يعتقدون أن ضعف بنيتي الجسدية هو السبب.
حقًا؟! وأنا التي ظنتهما متجاورتين !! كنا نتمنى لو كانتا كذلك، ليخفف هذا عنا من رحلة الطريق الطويلة!

أعلم أنه لا يجب علي الضحك لكنها أضحكتني فعلًا دامت الضحكة بإذن الله
لكن بجدية هل يشمل المصعد لزوم ترديد هذا الدعاء؟! أنا لم يخطر الأمر ببالي قبلًا لا أعلم حقيقة، لكن الموقف تكرر، لأنني رددت هذا الدعاء مرة لاحقة، واعترض الشخص نفسه بالكلمات ذاتها، لكني لم أرد عليه، ولم أدخل بأي جدال معه... رأيت أن طابقنا ربما رقمه 12، وهناك مشقة كبرى أن نحمل أمتعتنا ونصعد الدرج، خطر لي أن ما قام به زميلنا قبل ذلك، بهذا الدعاء، أمر صحيح، لكني _ فعليًا _ غير متأكد من هذا الأمر!

آه يا مسكين ^^
لكن عليك أن تعذره فمع لهيب الحر الذي تتحدث عنه وربما عدد لا يحصى من النائمين المحتاجين إلى إيقاظ
غادره اللطف وحل التوتر نسأل الله أن يسامحه وأن يهديه للتصرف الصحيح بشكل دائم.



أتخيل الموقف حدثتني ذات يوم خالتي أنها عندما لبست النقاب في بداية التسعينات لم يكن شائعًا لبسه
فجاءت امرأة إلى جدتي تسألها كيف لخالتي أن تأكل وتشرب وتنام وهي تغطي وجهها بهذا الشكل؟!
تظن أن من ترتدي النقاب لا تخلعه أبدًا حتى داخل جدران بيتها !!
فجهلك بزي قوم يولد سوء فهم عن كيفية ارتدائه تمامًا! من يجهل الأمر قد يأتيكِ بآراء غريبة جدًا، ويظن أن المنقبة مثلًا تبقى كذلك، حتى في بيتها، ويستغرب كيف تأكل!
آمل أنك استمتعت بلحظات الشهرة تلك ولم تشعر بخيبة أمل بعد أن عرفت أسبابها ^_^ لم أستمتع، بل استغربت! ولم يَخِبْ أملي بعدها، بحمد الله :)
وكأنهم ليسوا بشرًا ؟! وكأن من العجب أن يضحكهم ما يضحكنا؟! أنا أيضًا كنت أعتقد هذا ^^"
لكنك تشعر بالروحانية بمجالستهم وتشعرك مشاركة الضحك معهم بالانشراح صح؟ صح، أنا استغربت أن الشاطري نفسه يلقي النكات، وليس مجرد مستمع يضحك لها، غير أنني؛ في ما بعد؛ أعدت تذكر الموقف، وشعرت أنه أمر طبيعي 100%، وذلك نظرًا لطبيعتنا البشرية.

من الجيد أنك كظمت غيظك في ذلك الموقف مع أن الغضب لا يأتي بخير لكن حاول أن تقنع نقسك
وهب أنك حاولت هل تجد لديها أذن صاغية ؟ هيهات نعم، هو لا يأتي بخير، ولو لم أكظمه، لربما بدا لهذا المستهتر انتصارًا كبيرًا له، أنه نجح في استفزازنا، سامحه الله لما سببه لنا من الرعب الهائل آنذاك، بسبب تسليمه جواز سفري لشخص آخر.

أنا لا أحسدك على هذا الموقف ربما لو كنت مكانك لشاركتها البكاء لقد دمعت عيناي من تخيل الحدث فقط ! وأنا لا أعلم كيف سامحتني! ولا أعلم لماذا لم تحقد عليَّ وقتها! ولكني أقول سبحان الله، كيف صارت تلميذتي بعد 12 سنة (وأشهر) من تلك الحادثة!


أسأل الله ربي أن ييسر لك الرجوع للحج والعمرة بارك الله بكِ للدعاء الطيب
حكاية فاتنة الأسلوب ممتعة بطرافة سردها رأي مشرف،كل الشكر والتقدير
شعرت وكأنني أعيش أجواءها لكن أتعلم؟ مشقة أحداثها جعلتني في خشية من تجربة مثلها رغم تلهفي اتكلي على الله تعالى، وادعيه أن ييسر، وحاولي القيام بها، لا أظن أن ذلك السائق سيكون له مثيل في الكرة الأرضية، ولا مسؤولي الرحلة هذه!
باركك ربي وأسعد أيامك وجعلها عامرة بذكره وشكره وأعانك على حسن عبادته

كل الشكر لحضرتكِ، وكل التقدير، لدعائكِ الطيب