~{{ مَدخل :
كانَ "يُدركُ" أنه أعمى البَصر.. وَ "يَظن" أنه "فقط" أعمى البصر..
والمعانِ الخفية.. لا تُدركُ بمجرد المَعرفة..
...،،
أمضى معها أحدَ عشرَ عاماً مِن عمره.. كانَ قد تعرضَّ لحادِثٍ مروري مروّع.. فقد فيه بَصره..
فقد عيناه.. بالكامل.. كان يمازُحُ أهله وأصدقاؤه.. "إنني أراكم بذي الحُجرتين الفارغتين"..
كانت تشاركه الحجرة ذاتها في المشفى.. وقتٌ طويلٌ مر.. أشهرٌ لا يتذكر عددها.. كان محبوباً مُزاراً..
وكانت وحيدة.. تبدأ المحادثات مع زائريه.. جميعهم إستلطفوها.. وأخبروه أنها تملك إبتسامة "تُعيدُ روحَ فاقِدها"..
ومضت أيامٌ وأسابيع.. حتى خَلت حجرته مِن الزائِرين.. فكثرت بينهما المحادثات..
حول مُختلف الأشياء.. وكل الأشياء..
فباتَت تربطهما المعرفة الدقيقة.. صداقةٌ بائِسة.. وطيفُ حُب.. خَشيَ كلُّ واحدٍ منهما أن يكشفَ عنه للآخر..
بعد عامين.. إستعادت عافيتها.. وغادرت.. على وعدٍ بالزيارة "كلما سنح الوقت"..
ولكن الوقت.. باتَ معدوم الوجود.. فكانت تزوره دائماً.. كل يوم.. تجالسه كل الوقت..
حتى يحين موعد نومه.. فتغادره على وعدٍ صامتٍ باللقاء..
ومضى عامٌ وآخر..
وغادر المشفى.. إلى شقته الجميلة.. أو.. التي كان يظنها لا تزال..
أوصله اخوته هناك.. وأجلسوه على سريره.. سألوه إذا ما كان في حاجة شيء.. فنفى ذلك..
وغادروه جميعهم.. ووصايا كاذبة خلّفوها ورائهم "إن إحتجت لشيء.. إذا رغبت أن ..."
سويعات.. سويعاتٌ فقط.. وإستشعر الوحدة حتى كاد فؤاده ينفطر ألَماً..
طرقاتٌ خافِته على الباب.. "إنه مفتوح".. فتحت الباب بحذر.. ودلفت "إنها أنا"..
"أدركتُ ذلك" .........
لحظاتٌ تطول مِن الصمت.. ما بين إستغرابها من كلماته.. وتساؤله المستمر عن ما جعله يقول ذلك..
قطعت كل ذلك بحديثها عما جلبته معها.. ثم أخبرته أن شقته جميله.. ولكنها مغطاة بالأتربه..
تناول شيئاً أعدته مُسبقاً.. وأوى إلى فراشه.. وصوتُ المِنفضة المزعج يخبره بأنها لا تزال هنا..
كطفلٍ.. يستشعر وجود والدته قربه.. نامَ قرير العين ....
سألها يوماً.. "لم لا تمكثين في منزلك"..
أجابت بتساؤل "ربما لأنك لا ترغب أن تكون وحيداً ! "..
...،،
أخبرته يوماً أنها أثارت إعجاب أحدهم.. وبادلته إعجابه.. ربما تتزوج.. مَن يدري !..
فثارت ثائرته.. وأمرها بالمغادرة.. "لا تعودي.. أيتها الكاذبه.. قلتي أنكِ ستبقين بجواري"..
أيامٌ.. ثم عادت إليه.. "إذا كُنت ظننت أن وعدي بمرافقتك تعني أنني لن أمضي في حياتي الخاصة.......
وغمر السكون المكان لحظات......
فأردفت..
... لا بأس.. سأبقي على الوعد كما فهمته أنت.. لا كما قصدته أنا"..
...،،
أصبحواْ يملكون ذلك "الشيء" الذي لا يرغبان بالحديثِ عنه..
أعوامٌ مرت.. عملٌ بسيطٌ هنا وآخرٌ هناك.. تمكن بعدها من جمعِ مبلغٍ لا بأس به.. أقنعته بإجراء جراحة..
كانَ مُتردداً.. أن يملكَ عينيّ أحدهم في رأسه.. ولكنه الخيار الأقل مرارةً من البقاء دون بصر..
...،،
يومٌ في المشفى قبل الجراحة.. كانت ضحكاتها تملأ الحجرة حيوية..
ورغم قلقه.. كان يُحس براحةٍ ما.. "إنني أفكر أنني سأراكِ للمرة الأولى"
"أليس ذلك مثيراً.. ولكنني أراكَ دائماً لذا لن أشعر بأي جديد" واصلت ضحِكها..
قبل الجِراحة بدقائِق..
كانت تنزع ساعته المعدنية.. ولكنها أبقت أصابعها حول معصمه لفترةٍ طويلة..
"ماذا هناك ! "
"أُحبّك"..
لَم يَحر جواباً ....
...،،
بعد أن إستفاق.. كان يشعرُ برأسها على بطنه.. حركها.. فإستيقظت ضاحكه.. سعيدة..
"حمداً لله".. لقد كنتُ قلقة رغم كل ما أخبروني به.. لقد تكللت جراحتك بالنجاح.. سترى.. أوه سترى سترى"..
بدأ يفكر أنها تبدو سعيدةً بقدرته على الرؤية.. أكثر مما هو عليه من السعادة..
...،،
كانَ الطبيب يُزيح طبقات الشاش ببطء وتروٍ عن عينيه.. وفتح عينيه هو الآخر ببطء..
بدأت الصورة تتدرج في الوضوح شيئاً فشيئاً.. كان الطبيب أمامه.. وبجواره... تلك التي تحاول قدر إستطاعتها أن تدفع
كتف الطبيب حتى لا يحول بينها وبين "عينيه".. توالت الأفكار في عقله :
"إنها تبتسم.. كان الأشدّ وضوحاً أنها تبتسم.. ثمَّ.. ليست جميلةً تماماً.. إنها.... عاديةً للغاية..
ربما أقل من عادية.. لماذا !.. كُنتُ أتخيلها أجمل.. إنها لم تكذب حينَ وصفت مظهرها لي.. ولكنني تخيلتها أجمل"..
أشاح ببصره عنها.. فطأطأت رأسها أرضاً.. ولم يعد يتردد في الحجرة سوى ضحك الممرضة وصوت الطبيب السعيد بإنجاز عمله..
...،،
خلال يومٍ واحد.. باتَ كُل شيء واضح.. لملمت حقيبتها الصغيره.. ومَضت..
عند باب الحجرة.. كان يشعر أنها تنظر إليه.. تريده أن يودعها.. بنظرة فقط.. فتظاهر بأنه لا يدري..
...،،
كانَ رجلاً في أوجّ شبابه.. في السابعة والثلاثين من عمره.. وجد إمرأة رائعة الجمال.. فتزوج وبدأ حياته العائلية..
مضت أعوامٌ وأعوامٌ.. ورائِحةُ الذِكرى تخنقه.. كانت تتمثلُ له في كل شيء.. صَبَر وتَصابر.. حتى ملّه الصبر ففقد صبره..
وذهبَ مُصمماً البحثَ عنها.. ربما يعرف عنها شيئاً.. عنواناً أو هاتِفاً.. أو ربما يعرفُ أخبارها وأنها بحالٍ جيدة ويكتفي بذلك..
أيامٌ وأيام.. ثم.. عنوانٌ فقط.. لم يجد لها سواه.. في قريةٍ صغيرة بمدينةٍ أُخرى..
وذهب إلى هُناك.. طرقَ الباب.. ففتحَ له رجلٌ غريب.. سألَ عنها.. فإستقبله الرجل وضيّفه..
"لقد رحلت".. بدا من الغرابة أن يسمع مثل ذلك.. كان يتخيل أنها ستكون هناك.. بخير.. بإبتسامتها التي ستنكسر لرؤيته..
تخيل أن أحوالها ربما تتبدل حين تشتعل كل مشاعرها القديمة.. وقرر أن يصفح عنها لو أنها صفعته على وجهه..
ولكن.. أن تكون ماتت !! سأل : "متى.. وما السبب"..
أخبره أنها "كانت ترغبُ الحياة بشكل طبيعي.. ولكن شيئاً ما كان يمنعها.. كانت كسيرة حد الإنتهاء.. منذُ عرفتها وتزوجتها..
لم نُمضِ أكثر من ثلاثة أعوام.. حَملت خلالها مرتين وفقدنا أطفالنا بسبب تقلباتها المزاجية.."
"حينَ ماتت.. شعرتُ أنَّ ذلك هو كل ما كانت في حاجته.. كانت باسمة وحنونة.. ولكن.. بطريقةٍ ما كانت تبدو.. خاويةً من الحياة"..
...،،
في طريقِ عودته.. كان يتذكر إبتسامتها الوحيدة التي شاهدتها.. ويغمضُ عينيه مراراً ليتخيل صوتها حينَ كانت تجاوره قبل أن يُبصر..
عينيها الواسعتين.. محمرّتا الأطراف.. وصورتها الواقفة عند الباب تنظر إليه.. صورتها التي لم ينظر إليها..
وصوتُ المِنفضة الذي كانَ يهدهده عندما جاءت إلى بيته للمرة الأولى.. لم تكن شخصاً في حياته بقدر ما كانت "صوتاً"...
كانت رفيقة أُذنيه.. بكل أحوالها.. سعيدة أو بائِسة.. وحتى مُنتظرة وحتى لو كانت صامته.. كان يسمع "صمتها"..
لماذا كسرَ فؤادها الرقيق ! لماذا تركها لتغادر ! لماذا ولماذا بلا إنتهاء ......
وَ....
كما هو الحال.. وكما هي الحياة دائماً.. فقط....
تمضي الأيام ،،
مخرج ،،
قد يظنون أنهم هم فقط من يتألمون..
كل المعاناة تحيطهم وحدهم.. ولكن الحقيقة.. خفيةٌ دائِماً }} ~
* الموضوع قيد التعديل خلال اليومين القادمة.. مجرد تنسيق، إملاء وكل ما حول ذلك..
المفضلات