كان يُدرس مادة الرياضيات لطلاب المرحلة الثانوية... السنة الأخيرة.. كان يلاحظ على عدد منهم الإهمال وعدم المتابعة.. فأراد أن يؤدبهم.. دخل عليهم يوماً.. وأول ما استقر على كرسيه فاجأهم بقوله: كل واحد يضع كتابه جانباً ويخرج ورقة وقلماً!!
قالوا: لماذا يا أستاذ؟!
قال: اختبار.. اختبار مفاجئ.. بدأ الطلاب بنوع من التذمر ينفذون ما طلب.. ويتهامسون باستياء.. كان من بينهم طالب كبير الجسم صغير العقل.. مشاكس كثير المشاكل.. سريع الغضب متهور.. صاح بأستاذه: يا أستاذ.. لا نريد أن نختبر.. نحن بالكاد نجيب ونحن مذاكرون.. بالله كيف إذا كنا ماذا كرنا؟!!
قالها الطالب بنبرة حادة.. ثار المدرس وهاج.. وقال: ليس على كيفك.. تختبر غصباً عنك.. فاااهم ؟!
إذا ما هو عاجبك اطلع برا!!!
ثار الطالب.. وصاح: أنت اللي تطلع برا..
توجه المدرس إلى الطالب وهو يصيح ويردد: يا قليل الأدب.. يا عديم التربية.. يا..ويقترب أكثر وأكثر..
نهض الطالب واقفا..
ثم.. كان ما كان مما لست أذكره فظن شرا, ولا تسأل عن الخبر!!
وصل الأمر إلى إدارة المدرسة.. عوقب الطالب بخصم درجتين وكتابة تعهد بالتزام الأدب.. أما المدرس فصار حديث القاصي والداني..
وأصبح مضرب الأمثال.. ومثار أحاديث الطلاب في كل المدرسة.. يمشي في ممراتها ويسمع التعليقات والهمسات.. حتى أنتقل بعدها إلى مدرسة أخرى..
بينما مدرس آخر.. وقع له الموقف نفسه.. ولكن أحسن التصرف معه.. دخل على طلابه.. وفاجئهم بقوله: أخرج ورقة وقلماً.. اختبار مفاجئ.. وكان من بين الطلاب كذاك الطالب.. صاح: يا أستاذ!! ليس على كيفك.. كان المدرس جبلاً يحس بثقل الرجل التي تحاول أن تصعد عليه!!..
يفهم أن العصبي لا يقابل بعصبية.. أبتسم ونظر إلى الطالب وقال: يعني يا خالد ما تريد أن تختبر.. فقال—صارخا— ..لا.. فقال المدرس بكل هدووووء: خلاص.. الذي لا يريد أن يختبر نتعامل معه بالنظام ..
أكتبوا يا شباب السؤال الأول .. أوجد نتيجة هذه المعادلة : س + ص= ع+15...
ومضى يسوق الأسئلة.. لم يصبر الطالب المشاكس.. أقول لك: لا أريد أن أختبر.. نظر إلية المدرس وأبتسم بهدوووووء.. وقال: وهل ألزمتك أن تختبر.. أنت رجل ومسئول عن تصرفاتك.. لم يجد الطالب ما يثير غضبه أكثر.. فهدأ واخرج ورقة وقلماً.. وبدا يكتب الأسئلة مع زملائه.. ثم بعدها تم محاسبته على سوء أدبه عن طريق إدارة المدرسة..
تذكرت هذه القصة الافتراضية وتذكرت المفارقة في القدرة على التعامل مع المواقف وأنا أتأمل في مهارات الناس على أذكاء النيران وإخمادها..
فالتعامل مع العصبي بعصبية يؤدي إلى تفجر الموقف واحتدام الخلاف.. فمن الأمور المسلمة عند العقلاء.. أن من يلاقي النار بالنار يزدها شراراً واحتداما.. وفي الجهة المقابلة تجد أحيانا أن من يقابل البرود—دائما—ببرود .. لا تستقيم له الأمور.. فليكن رابطك مع الناس شعرة معاوية.. فقد سؤال معاوية رضي الله عنه.. كيف استطعت أن تحكم الناس أميراً عشرين سنة.. ثم تحكمهم خليفة عشرين سنة.. فقال: جعلت بيني وبينهم شعرة.. أحد طرفيها في يدي والآخر في أيديهم .. فإذا شدوها من جهتهم أرخيت من جهتي حتى لا تنقطع.. وإذا أرخو من جهتهم شددت من جهتي.. صدق رضي الله عنه.. ما أحكمه!!
أظن من المُسَلّمات في حياتنا أنه لا يمكن أن يهنأ بالعيش زوجان كلاهما عصبي غضوب.. كما لا يمكن أنم تطول علاقة صاحبين كلاهما كذلك..
أذكر أني ألقيت محاضرة في أحد السجون.. وكان قدري أن تكون المحاضرة في العنبر الخاص بمرتكبي جرائم القتل..
لما انتهيت من محاضرتي... تفرقوا إلى مواجعهم وأقبل إلي احدهم شاكراً.. وعرفني بنفسه وانه المسئول عن الأنشطة الثقافية في العنبر..
سألته عن سبب ارتكاب جريمة القتل عند أكثر هؤلاء.. فقال الغضب .. الغضب.. والله يا شيخ إن بعضهم قتل لأجل حفنة ريالات تخاصم عليها مع عامل في بقالة أو محطة وقود..
تذكرت عندها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة.. إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
نعم ليس البطل هو قوي البدن الذي ما يصارع أحداً إلا غلبه.. لا.. فلو كان هذا هو مقياس البطولة لأصبحت الحيوانات والوحوش أفخر من الآدميين..
إنما البطل هو العاقل الذي يعرف كيف يتعامل مع المواقف بمهارة.. يتعامل مع زوجته.. أولاده.. مديره.. زملائه.. دون أن يفقدهم..
وفي الحديث: لا يقضي القاضي وهو غضبان.. وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتدريب النفس على الحلم فقال: إنما الحلم بالتحلم..
نعم .. بالتحلم.. يعني عند كظم الغضب في المرة الأولى ستتعب 100% ..ولكن في الثانية ستتعب90% ثم في الثالثة إذا كظمت غضبك ستتعب 80%وهكذا حتى تتدرب ويصبح الحل والهدوء عندك طبيعة..
ومن طرائف قصص الغضب أني ذهبت يوماً لمدينة أملج (300 ك جنوب جدة) لإلقاء محاضرة.. وكان من بين الحاضرين شاب سريع الغضب ثائر الأعصاب جداً.. هذا الشاب سافر مرة بسيارته ولم يكن مستعجلا فكان يمشي ببطء..
كان وراءه سيارة مستعجلة تريد أن يفسح لها الطريق.. وهو يزداد بطئا ويشير لهم بيده أن خففوا السرعة..
ضاق صاحب السيارة الأخرى بصاحبنا ذرعاً.. وتعداه بسرعة وأنحرف عليه بسيارته مؤدباً.. ثم مضى.. ولم يصب أحد منهما بغضب..
ثارت أعصاب صاحبنا—وهي تثور على أقل من ذلك بكثير—فزاد سرعة سيارته.. وأخذ يصرخ ويزمجر.. ويشير لهم بأضواء السيارة مراراً حتى توقفوا..
فألقى غترتهُ جانباً.. وتناول قطعة حديد—وهي في الأصل مفك لمفتاح برغي العجلات عند الحاجة—ونزل من السيارة متوجهاً إليهم.. والغضب بادٍ عليه وقطعة الحديد في يده.. فإذا بالسيارة المقابلة ينزل منها ثلاثة شباب قد ضاقت ملابسهم بعضلاتهم.. وتباعدت أيديهم عن جنوبهم من عرض أكتافهم..
أقبلوا يركضون بانفعال إلى صاحبنا.. وقد رأوه تهيأ للقتال!!
فلما لاحظ أنهم يحدون النظر إلى قطعة الحديد.. رفعها برفق وقال عفواً.. أردت أن أنبهكم إلى أن هذه سقطت منكم..!!
فتناولها أحدهم بانفعال.. وولوا إلى سياراتهم.. وهو يشير بيده إليهم مودعاً..!!
معــــــــــــــادلة:
عصبي + عصبي = انفجار
نقلته لكم من كتاب أستمتع بحياتك (د. محمد بن عبد الرحمن العريفي)
المفضلات