بسم الله الرحمن الرحيم


زعموا أنه كان في الغابة مملكة حكمت بالعدل، وساد رعاياها السلام والأمن. وكان من قاطنيها أخوان من بنات آوى، يُقال لهما كليلة ودمنة، عُرفا بالمعرفة والحكمة، وفاقا في ذلك كل ذي نسمة. ومرّةً اشتكى كليلة من مرض ألزمه الفراش، واشتدّ به الوجع حتى ظنّ اقتراب المنيّة، فجمع أبناءه من حوله، وأخذ يوصيهم وصية مودّع لهذه الدنيا. فكان مما قاله لهم: اعلموا يا أبنائي أنّه لا يزداد المرء مكانةً ورِفعةً بين الناس إلا باهتمامه بإصلاح ذاته وتنقيتها من الشوائب، وأنّ التهاون بصغار الأعمال لا يورث إلا الندم والمهانة، فقطرات الماء الصغيرة تصنع جدولاً، وضربات الفأس المتتالية لا تلبث أن تحطّم الصخرة العظيمة التي لم تبدُ متأثرة بكل ضربة على حدة. فتقدّمت صغرى بناته منه، وكانت فَتِيّةً مورّدة الخدين، وقبّلت جبينه وسألته: وكيف تؤثر أعمال المرء في سلوك الناس تجاهه؟ فمسح على رأسها وأجاب: إنما مثل ذلك كمثل الغزالة وزوجها. فهتفوا به جميعًا: قُصَّ علينا قصتهما. فتنحنح وقال:

** حكاية الغزالة وزوجها **

زعموا أنّ غزالة شابّة اشتكت من جفاء زوجها لها، وساءها ما ظهر لها من قلة اهتمامه بأمرها، فقصدت نمرًا عجوزًا حكيمًا، فقصّت عليه المشكلة، وطلبت منه النصح لحلّ المعضلة. فنظر النمر إلى وجه السائلة، فألفاها ذات جمال، فعلم أنّ ما أصابها هو من صنيع يديها، ووجد في ذاتها كبرياءً قد حطّمها ما أظهره زوجها من ازدراء وقلة اكتراث. فطلب إليها النمر أن تصحبه إلى حانوت الجوهريّ، ونصحها بأن تبتاع لها من صاحبه الثور ما يشدّ انتباه زوجها ويلفته إليها. فانطلق النمر متكئًا على عصاه مع الغزالة الصبيّة، وبلغا حانوت الثور فرحّب بهما صاحبه، ولمّا أعربا عن غرضهما قادهما إلى واجهة الدكّان حيث عُرضت مجموعة من الحليّ من أساور وخواتم وعقود تخطف الأبصار ببريقها. وشدّ ما سرّ الغزالة أن سمح لها الثور برحابة صدر أن تجرّب هذه الحليّ على نفسها، لتختار ما يوافق هواها منها. وبينما الغزالة في شُغل بالجواهر، إذ عثرت قدم النمر فوقع أرضًا، واصطدمت عصاه بحافة الواجهة فأسقطت عددًا من الحليّ، فسارع بعض غلمان المتجر فعاون أحدهم النمر العجوز على النهوض بينما شرع الآخرون يجمعون الحليّ الساقطة ويعيدونها إلى مكانها. وطفق لسان النمر يلهج بالاعتذارات، فهدّأ الثور من روعه دون أن تفارق البشاشة محيّاه أو تغيض الابتسامة من وجهه. وما لبث أن وقع اختيار الغزالة على خاتم تزيّنه ماسة متلألئة، وسألت الجوهريّ عن ثمنه، فراعها أن وجدت ثمنه زهيدًا رغم جماله وروعته والماسة التي فيه. وقبل أن تستوضح الثور عن ذلك، دخلت الحانوت بجعة من ذوات المقام والغنى، فولجت المكان في شموخ، ملتفة بوشاح من فراء ثمين، فترك غلمان المتجر ما بأيديهم وهرعوا لاستقبالها، واعتذر الثور من الغزالة وخفّ للترحيب بها. وأعلنت البجعة أنها تبغي شيئًا مميزًا ترتديه في حفل زفاف صديقة مقرّبة، فلمعت عينا الثور ببريق الفهم، وغاب في المستودع دقائق عاد بعدها يحمل بين يديه عقدًا تعجز عن وصفه الألسن وتذبل الورود أمام جماله وتنقطع زقزقة العصافير من بهائه، تتوسطه ياقوتة بحجم بيضة الحمامة، تضارع في صفائها أنقى المياه، وتفوق في نعومتها ملمس جلد الطفل الرضيع. فلم تستطع البجعة إخفاء انبهارها بها، وأعلنت من فورها عن موافقتها على شرائها، وغادرت الحانوت وهي في صحبتها بعد أن نقدت البائع ثمنها، ولم تلبث الغزالة أن حذت حذوها فغادرت هي والنمر بعد أن دفعت ثمن ما ابتاعته.


ولمّا خرج الاثنان من الدكّان، وابتعدا بضع خطوات عنه، شرع النمر يقول للغزالة موضحًا ومفسّرًا: إنما مثل كل أنثى كمثل الجوهرة، وإنّ الجواهر لتنتمي إلى نوعين: فنوعٌ مقلّدٌ يوضع في الواجهات ويُباع بثمن بخس ويسمح الجوهريّ لأيّ كان بلمسه وتجربته، ولا يكترث له إن أصابه مكروه، وذلك مثل من تخدع نفسها وتغض الطرف عن بعض حشمتها وتتهاون في ذلك، فتقلّ قيمتها في أعين الرجال؛ وأما النوع الثاني فجوهر نادر ثمين لا يعرضه بائعه إلا على من يقدر على شرائه، ولا يلمسه إلا من يأخذه بحقه، وذلك مثل الأنثى التي تعتصم بالحشمة والحياء لتحصّن عفتها، ولا تبيح لأحد لمسها إلا لزوجٍ أو ذي مَحْرم، فتلك التي يُجمع صالح الرجال وطالحهم على احترامها وتقديرها ويعترفون برفعة مكانتها.
فوعت الغزالة الدرس، ووقع من قلبها موقعًا، فعادت إلى منزلها بعد أن عرفت الداء، لتعدّ له بلسم الشفاء.



(يُتبع)