وَ صِرْنَا غِرْنَاطَةً كَبِيرَةً

أصنام .. أزلام .. أقزام .. لئام ..

هكذا كانوا في غرناطةَ الصغيرة , أبو عبد الله الصغير , و الوزيران الخائنان , يتفنّنون في خَلْقِ الخيانات , و يتلذذون بذلك أيما تلذذ , لا دينَ يردعهم , و لا مروءةً و لا نخوة , بل حتى الأنفة و الشهامة التي يتغنى بها الجاهليّ و هو يُقارفُ الكبائر , و ينادِمُ الشركَ بكلِّ صوَره و ألوانه , غدتْ كومةً من الخيالات و الهرطقات , و ضرباً من ضروبِ المستحيلات الممتنعات , إذ هي قد ذبلت و ذوت , بعد أن كانتْ أُملوداً ناعماً , مُشرباً بالحياةِ , مُتْرعاً بماءِ الكرامة .
و في خضمّ تلكَ الخيانات المتعاقبة مِن قِبل أولئك الأرجاس الثلاثة , وُلِدتْ حالاتٌ من الكرامةِ , قدّمت في سبيل أمتها كلّ ما تملك , خرجتْ بنفسها , و بذلتِ الغالي و النفيس , لتذود عن أمةٍ هزيلةٍ ضعيفةٍ موبوءةٍ بالهوان .

يقول أبو سليمان :

فاجتمع أبو عبدالله الصغير في قصر الحمراء , مع كبار رجالات غرناطة , من العلماء و الوجهاء و التجّار و القادة , فاستشارهم في الأمر , و الكل يبصبص في صاحبه عسى أن يتكلم , فأطرقَ القوم , و العدوّ على أسوار المدينة , ينتظر قرار الوزراء و الوجهاء , خصوصاً مع حلول الشتاء القارس , فالبقاء خارج الأسوار مع ثلوج غرناطةَ شيءٌ لا يُطاق بالنسبةِ لقومٍ ترعرعوا مع الترف و الإخلاد .

قال أبو سليمان :

و بينما الوجهاء و الوزراء سادرون في خيانتهم , يُشجّعُ بعضُهُم بعضاً على الخيانةِ و الاستسلام , إذا بوقعِ أقدامٍ يشقّ صمتَ المكان , زاغَ من أبي عبدالله الصغير عيناه , و كأنه أحسّ بخطَرٍ يقترب , يريد أن يُفشلَ مشروع الخيانةِ العظمى , و ما إن اقترب الصوتُ حتى تنحنح صاحبُه , فالتفتَ القومُ فإذا هو رجلٌ عظيمُ البنيةِ , شاكي السلاح , متسربلٌ بالحديد , فتفرّسَ القوم في وجهه فإذا هو قائد الجيش موسى بن أبي غسّان , فرحّبَ به الجميع , و لمَ لا يرحبون به ؟ و هو الضرغام الذي فلّ جموع النصارى في غير ما معركة , بيْد أن أبا عبد الله الصغير بدا ممتعضَ الوجه لمرآه , و كأنه يعرفُ موسى جيّداً , بل إنه يعرفه جيّدا ..
حينها صَرَخَ أبو عبد الله قائلاً : [ الله أكبر لا إله إلا الله محمد رسول الله ، و لا رادّ لقضاء الله ، تالله لقد كتب لي أن أكون شقياً ، وأن يذهب الملك على يديّ ] .

الله أكبر ..
الآن عرفتَ العقيدةَ أيها الخائن ؟!!
الآن آمنتَ بالله !!؟
و ما تقول في أمةٍ قدمتَ لها الخيانةَ في أبشعِ صورها !؟!
غير أن هناك رأيٌ آخر , يعرفُ من أينَ تؤتى العزّة , و من أين يُصعدُ إلى جوزاء الفخْر ..

قال أبو سليمان :

فما كان من الرئبال الغضنفر موسى إلا أن قال بصوتٍ غاضبٍ أجشٍّ جهوَريّ , و كلّهُ روحٌ تُقارعُ السماء , و تناطحُ النجوم :
[ اتركوا العويل للنساء والأطفال ، فنحن رجال لنا قلوب لم تخلق لإرسال الدمع ، ولكن لتقطر الدماء ، وإني لأرى روح الشعب قد خبت حتى ليستحيل علينا أن ننقذ غرناطة ، وسوف تحتضن أمنا الغبراء أبناءها أحراراً من أغلال الفاتح و عسفه ، ولئن لم يظفر أحدنا بقبر يستر رفاته فإنه لن يعدم سماء تغطيه ، وحاشا لله أن يقال إن أشراف غرناطة خافوا أن يموتوا دفاعا ًعنها , لا تخدعوا أنفسكم ، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم ، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم ، إن الموت أقل ما نخشى ، فأمامنا نهب مدننا وتدميرها ، وتدنيس مساجدها ، وتخريب بيوتنا ، وهتك نسائنا وبناتنا ، وأمامنا الجور الفاحش ، والتعصب الوحشي ، والسياط والأغلال ، وأمامنا السجون و الأنطاق والمحارق ، هذا ما سوف نعاني من مصائب الموت الشريف ، أما أنا فوالله لن أراه , و ليعلم ملك النصارى أن العربي قد ولد للجواد والرمح ، فإذا طمح إلى سيوفنا فليكسبها ، وليكسبها غالية ، أما أنا فخير لي قبر تحت أنقاض غرناطة في المكان الذي أموت فيه مدافعاً عنه ، من أفخر قصور نغنمها بالخضوع لأعداء الدين ] .

الله أكبر !!
لله بطنٌ حواكَ أيها الشهمُ الغطارف !!

يقول أبو سليمان :

ثم إن القائد موسى شقّ بهوَ الأسود عابساً مغضباً , يثورُ حنقاً و غيظاً , ثم اتجه إلى بيته في حيّ البيازين أحد أرقى أحياء غرناطة , و أعدّ نفسَه للقتال , لكن هذه المرة بدون جيشٍ إنما لوحده , فقد جُرّد الجيش كلُّه من السلاح , و صودرت كلُّ قطعةِ سلاح بالقوّة و القهر , إرضاءً للصليب و من يمشي خلف رايته , ودّع موسى زوجته , و قبّل ابنته الصغيرة , التي أخذتْ في البكاء و العويل , و أبوها يحكي لها فضل الصبر و الشهادة , و أنها أول من سيشفع لها يوم العرض الأكبر , أما الزوجةُ فانسحبتْ بخفيةٍ و دخلت في نوْبةٍ شديدةٍ من البكاء .
و عندمّا همّ القائد بالخروج , علا صوتُ عائشةَ الصغيرة بالبكاء , فالتفت إليها , و قد غالبَ دمعته و هو متوشّحٌ بالحديد قائلا : إنها الكرامةُ يا بُنيّة تأبى عليَّ القعود , نلتقي هناك في الفردوس الأعلى بإذن الله .
ثم أغلق الباب , و اعتلا جوادهُ المطّهم , و مضى يشقّ شوارع غرناطة , يتأمّلُ كلّ شيءٍ فيها , يتأمل البيوت التي خلدتْ إلى نومٍ عميق , و الثلوج التي تكسو المكان , و منارةَ الجامع الكبير , الذي لطالما صلى الفجرَ فيه مع وجهاء غرناطة , و ما أكثر ما تخلف الملك و الوزيران , أما إمام الجامع الذي يُدعى عالم غرناطة زوراً و إفكاً , فقد ارتضى بالفتات الذي يرميه الملك للكلاب , فصارَ الخائن الأكبر , و عليه التبعةُ الكبرى ..
كان كلُّ شيءٍ في غرناطةَ يطالبُ موسى بالتعقّلِ و الرجوع , لا شيء سيجدي , واحد في مقابلِ ثمانين ألفاً .. ماذا سيصنع ؟!!!
الصغيرُ يناديه , و الوزيران الخائنان يلوحان في مخيّلته يطلبانه بالرجوع و تحكيم العقل , العالمُ المزوَِّر يدبّجُ له الفتاوى , مرصعةً بالآيات و الأحاديث , حتى زوجته و ابنته الأبيّة يتعالى صراخهما..
كذلك شجرُ الرمّان , بل و حيّ البيّازين برمّته يناديه , و خيله يمشي بطيئاً وئيدا , و كأنه تكاسل هو الآخر , يودّ الرجوع و الاستمتاع بالدفء , و لا مانع من الذلّ بعد ذلك , هنا أدرك القائد موسى أن للشيطان صولةٌ تُغلبُ بالعزيمة ..فالتفت بفرسه إلى غرناطة و قال و الحزنُ يلفُّ دثاره عليه : وداعاً أيتها الدرّة السليبة ..
ثم ثنى عنان فرسه و انطلق مُسرعاً يمخر صمتَ الليل , و الثلجُ يتساقط , و كأنها دموعُ السماء تودّعُ غرناطة و داعاً .. ربما لا لقاء بعده , انطلق قاصداً فلول النصارى , فهو قائدُ المعركة المُطاع , و هو الجندي المطيع , و هو حاملُ الرايةِ المُستهدف , و هو الميمنة و الميسرة و القلب و المقدمة و الساقة , إنهُ سيغدو معركةً في رجل .

يقول أبو سليمان :

فلما اقتربَ من معسكرِ النصارى , استوقفته كتيبةٌ نصرانية , تستطلعُ المكان , فطلبوا منه التوقف , فانقضّ عليهم , و جالدهم جلادَ المتعطشينَ للدّم القاني , حتى فنيَ سيفه , ثم أثقلته الجراح بعد أن أباد أكثرهم , فاستلّ سكيناً و ناضل عن نفسه و دينه و أمته , ثم نزل عن جواده , و انسحبَ إلى النهر القريب نهر (شنيل) , لا يودُّ أن تكون ميتته على أيديهم , فقفز في النهر , فأثقله الحديد و أتعبته الجراح .. ثم .. مات غرقاً .
لقد كان آخر نَفَسِ عزةٍ هناك ..ا.هـ

أردتُ بعد كلِّ ما مضى أن أقول : ... وصرنا غرناطةً كبيرة , فمن لنا بمثلك يا موسى ..؟

/// رسالة من البريد ///