وبهذا القيد خرجت أمور من قبيل :
جمع المصحف زمن أبي بكر ، رضي الله عنه ، وزمن عثمان ، رضي الله عنه ، فلا يقال بأن فعلهما بدعة ، إذ قد وجد المقتضي زمن الرسالة ، ولكن وجد معه المانع ، وهو عدم انقطاع الوحي ، فجمع المصحف قبل تمام الوحي مفض إلى التبديل المستمر في النسخ المجموعة ، وقد انتفى ذلك المانع في عهد من جاء بعده ، إذ انقطع الوحي ، بل قامت الحاجة إليه حاجة ماسة لما استحر القتل بالقراء في حروب الردة ، ولما اختلف القراء زمن عثمان ، رضي الله عنه ، اختلافا مفض إلى وقوع الفتنة .

يقول ابن تيمية رحمه الله :
"وهكذا جمع القرآن ، فإن المانع من جمعه كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الوحي كان لا يزال ينزل ، فيغير الله ما يشاء ويحكم ما يريد . فلو جمع في مصحف واحد ، لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت ، فلما استقر القرآن بموته ، واستقرت الشريعة بموته صلى الله عليه وسلم أمن الناس من زيادة القرآن ونقصه ، وأمنوا من زيادة الإيجاب والتحريم ، والمقتضي للعمل قائم بسنته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فعمل المسلمون بمقتضى سنته ، وذلك العمل من سنته ، وإن كان يسمى في اللغة بدعة"


وكإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب زمن عمر ، رضي الله عنه ، إذ قد وجد المقتضي لذلك بوصيته صلى الله عليه وعلى أله وسلم ، كما في حديث أبي عبيدة ، رضي الله عنه ، مرفوعا : (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) ، ولكن وجد معه المانع زمن الصديق ، رضي الله عنه ، إذ انشغل بحروب الردة ، فلما توحدت الجبهة الداخلية بقمع حركة الردة ، انتفى المانع ، فأنفذ عمر ، رضي الله عنه ، وصية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .

يقول ابن تيمية رحمه الله :
"وصار هذا ، (أي : ما تقدم من جمع القرآن) ، كنفي عمر رضي الله عنه ليهود خيبر، ونصارى نجران ، ونحوهما من أرض العرب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عهد بذلك في مرضه ، فقال : "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب" وإنما لم ينفذه أبو بكر رضي الله عنه لاشتغاله عنه بقتال أهل الردة ، وشروعه في قتال فارس والروم وكذلك عمر لم يمكنه فعله في أول الأمر لاشتغاله بقتال فارس والروم ،
فلما تمكن من ذلك فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان هذا الفعل قد يسمى بدعة في اللغة ، كما قال له اليهود : كيف تخرجنا وقد أقرنا أبو القاسم وكما جاءوا إلى علي رضي الله عنه في خلافته ، فأرادوا منه إعادتهم ، وقالوا : كتابك بخطك فامتنع من ذلك ، لأن ذلك الفعل كان بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان محدثا بعده ، ومغيرا لما فعله هو صلى الله عليه وسلم"


وكالأذان الثاني يوم الجمعة قبل الصلاة ، إذ لم يوجد المقتضي زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فكانت المدينة صغيرة المساحة يكفيها أذان واحد ، فلما اتسعت أرجاؤها وكثرت أسواقها ، زمن عثمان ، رضي الله عنه ، قامت الحاجة ووجد المقتضي لسن ما ينبه الناس في محلاتهم وأسواقهم لقرب وقت الجمعة ، فكان الأذان الأول بين يديها ، خارج المسجد ، في المحلات والأسواق ، لا بعد دخول وقتها داخل المساجد كما هو مشاهد في العصر الحاضر في بعض الأقطار كمصر .
ولذلك اختلفت أنظار أهل العلم إلى هذا الأذان
فمنهم من قال : شرع لعلة ، فلما زالت العلة في زماننا بوجود وسائل التنبيه الأخرى من ساعات ومكبرات صوت ......... إلخ ، زال الحكم ، إذ الأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما ، ومنهم من قال بل هي سنة خليفة راشد مهدي أمرنا باتباعها ، كما في حديث العرباض بن سارية ، رضي الله عنه ، مرفوعا : (عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا وَسَتَرَوْنَ مِنْ بَعْدِي اخْتِلَافًا شَدِيدًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَالْأُمُورَ الْمُحْدَثَاتِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) ، فتبقى صورتها على جهة التعبد ، وإن زالت علة الحكم .