تركها..
نعم هكذا بسهولة..
كما ننطقها بسهولة (تـ .. ر .. كـ .. هـ .. ـا..) هكذا تركها..

بعد كل شئ..
بعد عام من الحب..
والألم..
الشوق.. والحنين..
اعتصرها كلها.. وملك لب لبها.. وغاص لأعمق أعماقها.. ثم.. ذراها للرياح رمادًا..
وعلى طريق العشاق طريدة متشردة..

الفشل..
هو ماحكم به عليها.. على قلبها العامر بالنبض.. بالحب.. بالصفاء...
حكم عليها بالفشل مسبقًا.. حين أوهمها بأنه يبتعد مجبرًا لظروفه.. وحين داست على بقايا كبريائها واقتربت منه لتسأله..
بهمس قالت.. (سأنتظرك عمري كله..)
فكانت الرصاصة الباردة (أريدك حبيبة فقط.. لا أستطيع الارتباط بك..)

وتهاوى الحلم..
وتمزق الستار الشفيف.. عن عالم بشع من الوحدة..
من اجترار الألم..
هجرها..
وكأنه خيط رقيق الذي ربطهم.. واحتاج فقط إلى نفخة.. واحدة.. فقط... لينقطع

سؤال بحجم السماء.. لماذا أتعبها من قبل إن لم يكن يريدها..؟
سؤال بحجم الألم حين ينزف بقسوة.. لماذا تركني...؟

تهرب من السؤال.. تهرب من الذكريات.. من الأغنيات. من الهدايا.. من الصوت والصدى.. من الليل دونه.. من العشق بلا سعود كيف يكون..؟
من الدنيا بأسرها...
ظلام.. وليل سرمدي الضيق.. هو ماخلفه لها.. بعد أن زرع فيها حبه حتى النخاع.. ورحل..!
كانتزاع الأرواح.. رحل..!
وامتلأ كأسها بالحنين المعجون بالألم فما بقي متسع لقطرة.. فجاءت المصيبة..

صديقات نزقات.. يلكن سيرتها ليل نهار.. ويستهزئن بما تفعله جهرًا ويفعلنه سرًا..!
أخت كبرى تنظر إليها من خلف نظارتها السميكة إنها مازالت مراهقة تحت وصايتها..
وأخت صغرى تصرخ فيها كلما رأتها أمام التلفاز أو المسجل.. (يا العاصية..)
وتلاحقها في السوق (غطي عينيك وإلا أخبرت أخي..)
تفتش جوالها وحاسوبها وكل متعلقاتها.. وكأنها سخطة مرسلة لتنتقم منها..

كل هؤلاء عرفوا بقصتها..
وضحكوا ملء أشداقهم.. وسخروا حتى ثملوا سخرية..
قالت الكبرى: لعب الأطفال تحت مسمى الحب ينتهي دوما بفاجعة..!
وقالت الصغرى: طمست المعاصي على قلبك يا غافلة.. والحمد لله أن ربي تداركك قبل أن تفضحينا..!

شدت رأسها المتصدع ضجرا وصرخت أعماقها..!
يكفي...

سألت صديقة عن حالها، فقالت هذه علاقة وليست حبا صادقًا لذلك فشلت، سألت أخرى، فقالت: أنت تفتقدين الحنان والاهتمام..!
واستفتت الأخيرة فقالت..عيشي حياتك..!

تريد جوابًا..
تريد يدا تمتد ببياض..
تريد قلبًا عامرًا بإيمان..
بصدق..
يحضنها من كل شتاتها..

وخمدت الدوامة..
واتخذت القرار، وقضي الأمر..
سأنسى..
سأدوس بقدمي هاتين على قلبي وأنسى..
ألم تقل لي سهام صديقتي يومًا.. مثلي الحب.. ولكن لا تصدقيه..

وخرجت على الجميع بثوبها الجديد..
ثوبها الذي حاكته ليالي وأيامًا من دموعها.. من بقايا إحساسها الأرق من الحرير..
وضعت على وجهها مكياجًا جديدًا للمرة الأولى تضعه..
مسحوقًا جافًا.. من بودرة أيامها الضائعة.. وضعته على وجهها..
واستبدلت تفاحتي خديها.. وغمازتيها الحلوتين بعبوس مصطنع..
وكست جفنيها بظلال حزين غامض.. وأسبلت على رموشها كلماتها المنتحرة شوقًا لتراها كل حين..

فحين ترى نوف الآن تدرك معنى... أنثى حزينة..!
رفلت نوف حينًا طويلًا بثوبها الجديد.. بملامحها الجديدة.. لكن شيئًا هائلًا كان ينقصها..
الكبرياء..
الإحساس بالعزة الذي غرسه والدها بكل جارحة فيها قبل أن يرحل عنهم للأبد..
استبدلت كبرياءها الجميل.. بغرور عشقه سعود.. ثم تكبر عليه.. لتعود هي تستجديه منه..!
كم هي سهلة لعبة العشق عند البعض..!

في تصرفات نوف رعونة.. قسوة ولامبالاة..
في الجامعة حرمت من أكثر من مادة..
انفضت من حولها الكثير من الصديقات..
لم تعد مقبولة في الاجتماعات ولا بجلسة الأهل..
قاسية حتى بنظرتها.. بكلامها الجاف الخالي من أي شعور..

وذات يوم..
كانت والدتها في زيارة لهم (وهي المتزوجة بعد وفاة أبيهم وتسكن بعيدا عنهم هي وأخواتها..)
ومعها بنياتها الصغيرات..
كانت نوف نائمة.. فأرسلت الأم صغرى البنات (رهف) لتستدعي نوف للسلام على أمها..
وجدت الطفلة أختها نائمة.. فارتقت السرير ببساطة.. وأدخلت وجهها الصغير بين كتف نوف ورقبتها ونامت...!
هكذا ببساطة الطفلة وعذوبتها..

نوف حقيقة لم تكن نائمة.. بل كانت تبكي.. كانت تستحضر ماضيًا لن يعود..
وترى مستقبلًا مرعبًا كريهًا..
وذهلت لتصرف الصغيرة.. العفوي.. الجميل..

يــاه..
كيف لي بمثل قلبك يارهف..؟
كيف أسترد قلبي كقلبك..؟
واعتمدت على يدها لتنهض فانتبهت الصغيرة، وتململت وكأنها تريد النوم..
فتركتها كما هي وقامت لترتدي ملابسها.. ففوجئت برهف تفرك عينيها الحلوتين وتقول..
حبيبتي نوف.. أريد عطرا..!
وبسطت ثوبها..

كادت نوف تتهاوى.. تحتضنها وتبكي بلوعة لم تعرفها من قبل..
فمدت يدها لعلبة حلوى أعلى دولابها، وأعطتها لرهف..
تغيرت ملامح الصغيرة وقالت بحزم..
أريد عطرًا.. وليس حلاوة..!
وخرجت...!

بعد فراق نوف وسعود بأقل من سنة، كانت نوف تضحك بسرور ظاهر، تضع رهف بحضنها وتضاحك أخواتها بانسجام عجيب، حتى أن أختها الصغرى تكاد تشرق بدموعها ضحكًا على تعليقات نوف وصخب حضورها..
ويلمح الكل في عيون نوف.. كبرياء ورثته عن أبيها.. بأنفها الشامخ وعينيها الذابلتين جمالًا ودلالًا.. وخديها المتوردتين بهجةً وحبًا للحياة..

الكل يلحظ ذلك... عدا رهف..!

الحب يقتل الوقت.. والوقت يقتله..!


( من أحد كتب القصص القصيرة ..!! )


Asho..!!