السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ولأنّ تلك الريح.. تعصف من الأعماق.. وتُهيج من الأحشاء ذكرى.. دافـــئة..
فأنا لم أكن كبقية الأولاد..
فقد كان لديّ.. ثلاثُ جدّات!


جدتي الثالثة.. كانت الزوجة الثانية لجدي.. والتي كانت أرملةُ أخيه..

وقد استلوى عليها جدّي بعد وفاة أخيه حتى لا يخرج ميراث العائلة.. للغريب.. وحتى لا تنقسم الأرض بما فيها، لأن الأرض كانت في وقتهم ذلك، المشروع الأكبر، والكنز العظيم، فتزوجها بعد أن أتمّت عدتها خاصة أنّ أخاه لم يكن لديه أولاد.

لم أكن أعرفُ ما قصتها وأنا صغيرة.. كل ما كنتُ أعرفه أني كنتُ أُناديها "جدّتي".. لأن علامات التقدم بالسن كانت باديةً عليها.. ولأنها كانت كما جدتيّ الحقيقيتان.. ترتدي ثوبًا قماشيًا أسود اللون.. و "شمبر" على النحر، يُزينهُ شالٌ ملون تعصبُ به رأسها..


لستُ أذكرُ منها الآن إلا صوتُ معزوفتها الفريدة وهي تطحن الهيل باستخدام "المهباش" الخشبي، الاستقراطي الشكل، فقد كان قطعة نفيسة في تلك الأيام.. واليوم هو قطعة نادرة وتراث..

كان صوت طرقها به فريدًا جدًا.. فقد كانت تستخدمه بمهارةٍ عالية.. لتضع ما تطحنه في "ملقمة" القهوة ليغلي مع القهوة لتفوح رائحة لم يُخفها الزمن من أعماقي إلى الآن..


قيل لي أن جدّتي -غير الحقيقية- والتي كانت تُناديني "زوزان" طلبت رؤيتي في أواخر أيامها في المستشفى.. ولكن لم يتأتى لي رؤيتها أبدًا..


كما أني لم أسمع بعدها صوته مجددًا أبدًا.. ولأن "مهباشها" أصبح الآن قطعةً أثرية تضعُها زوجة جدي الثالثة في بيتها، بعد أن رحلت جدّتاي..
زوجة جدي هذه أُناديها بالخالة.. لأني لم أشعُر معها بذرة حنانٍ يومًا.. بالرغم من أنّ دموعها كانت تفيضُ فيضًا كلما
سافرتُ للخارج.. لكني لم أستشعر يومًا حرارة حقيقة من دموعها..


أما جدّتي لوالدتي.. فقد كانت مصدرَ حنانٍ لا ينضب.. لدرجة أن الذهاب إليها كان أفضل مكانٍ أذهبُ إليه..
ففي كل إجازةٍ ولدى عودتنا للبلدة.. كنتُ أصرُّ على أهلي بالمبيت عندها.. وكنتُ أطالب أمي بالنقود للذهاب لدكان العم العجوز الذي نسيتُ اسمه..

وكنتُ أعلم في كل مرة.. أنّ جدتي من ستعطيني النقود.. =)


أذكُر أني استيقظتُ ذات يومٍ على أهزوجة النجّار مصباح، الذي كان صوتُ منجرته يطربُ "الحارة" بأكملها..

لا يزالُ والدي مصرًا إلى الآن أن قطعه هي الأفضل على الإطلاق..

كانت جدّتي وقتها تُحمصُّ بنّ القهوة العربية باستخدام "المحماسة" والتي عرفتُ اسمها منذُ قريب.. فقد كنتُ طيلة الوقت أُسميها بالملعقة الكبيرة..

كانت تُحمصُها على لهب "الببور" قبل أن تقوم بطحنها.. رائحة البُن كانت لذيذة جدًا.. وصوت "المحماسة" لا يزالُ يتردد في أّذني لكأنه الآن..


صورة وجهها الباسم بعد أن فارقتها الروح وهي بيننا.. قطعة خالدة في صفحات الذاكرة.. إلى ما شاء الرحمن..



أما جدّتي لوالدي فكانت تُدعى "عيشة"..

لا أدري أيُّ عيشةٍ تلك التي عاشتها مع جدي.. فلم يعرفها أحدٌّ إلا وجزم أن حياتها كانت نكدًا على نكد.. وبأنّها عانت الأمرين مع جدي..
وقسمات وجهها الجميل كانت شاهدة على كل ما مرّت به..

كانت جدّتي بذات ثوبٍ قماشيٍ أسود ترتديه دومًا.. وحين تتزيّن.. كانت ترتدي ثوبًا مخمليًا.. مع شالٍ مطرزٍ بعناية فائقة.. ومهارة عالية..


تفوح من الأعماق ذكرى ذلك اليوم الذي طلبت مني به أن أُساعدها، وقتها لم أُردْ النهوض عن برنامجي المفضّل.. فكانت كُلّما أطفأت التلفاز.. أعدتُ تشغيله.. وكأني أتشاجرُ مع أحد إخوتي.. إلى أن قامت بفصل الكهرباء حتى أقوم عُنوة.. أذكرُ أنّها تعاونت مع أخي ضدي.. وأذكر أنه كانت لأخي مساحة كبيرة ملأت قلبها حُبًا.. لأنه كان حنونًا جدًا ولديه القدرة على إظهاره جيدًا رغم أنّه كان يصغرني..


لا زلتُ أذكرها تُرضعُ أخي ذو الأشهر حتى تُسكته في غياب أمي.. لا أعلمُ إن جرى الحليب في عروقها.. لكني أذكُرُ يقينًا أن أخي كان ينام في حضنها بعد وقتٍ قصير..


لكنّ شظف العيش الذي مرّت به جدّتي.. وهموم الأزمان.. والنوم في حديقة المنزل.. لم يمنع جدّتي من التشنج مرارًا أثناء ذهابها لمنزل جارتها الذي كان متنفسها..

ولم يمنعها من المعاناة في المشفى شهورًا.. أذكرُ أنّها لم تعرفني حين زُرتها في المستشفى.. بل وقتها لم تكن تقدر على الكلام إلا رمزًا..


لكنّ بالرغم من كل ما مرّت به.. لم يمنع عمي الكبير من البكاء كالأطفال عندما رحلت..

ولم يمنع والدي من الهذيان بعد أعوامٍ من رحيلها.. "آآآآه يا يمّا.. وينك يمّا" .. حين أصابه عارض منذُ مدّة..

ولم يمنع ذكراها الطيبة التي تفوحُ كما المسكُ في كل مكان..



رحمهنّ الله جميعًا.. وأدام الخالة لجدّي..


على الهامش:
المهباش : هنا
المحماسة: هنا
المصطلحات الآخرى : هنا

شكرًا جزيلاً لصاحب الصور -عاشق السيل-

في أمان الله