بسم الله الرحمن الرحيم
لا إله إلا الله الملك الحق المبين لا إله إلا الله العدل اليقين
لا إله إلا الله ربنا ورب آبائنا الأولين

له الملك و الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وإلية المصير
وهو على كل شيء قدير

يُحكى أن مغنياً عزم على التوبة، فقيل له: عليك بصحبة الصوفية! فإنهم يعملون على إرادة الآخرة، والزهد في الدنيا، فصحبهم، فصاروا يستعملونه في السماع والإنشاد، ولا تكاد التوبة تنتهي إليه لتزاحمهم عليه، فترك ذاك المغني صحبتهم، وقال: أنا كنتُ تائباً ولا أدري(1).

هذه واقعة سطّرها يراع ابن القيم ـ رحمه الله، وهي تذكّرنا بالإغراق والمبالغة في النشيد هذه الأيام، والذي استحوذ على فئام من أهل النشيد، حتى أفضى الأمر عند بعضهم إلى محاكاة الغناء الماجن.

فصاحَب بعض الإنشاد التكسّرُ والتأوه في الإلقاء، ومشابهة لحون الغناء المتهتك، واعتناء بعض المنشدين بجمال الصورة، وتنميق المظهر، وحلق شعر الوجه؛ بل أفضى الأمر إلى استعمال المعازف في ذاك النشيد المتفلت، ويضاف إلى ذلك تقنيات الصوت ومؤثراته، والتي جعلت الأسماع لا تكاد تميّز بين غناء المجون وهذا النشيد.

وقد ألمح ابن الجوزي إلى ذلك وحذّر من مغبة هذا الصنيع فقال: "ولما يئس إبليس، أن يسمع من المتعبدين شيئاً من الأصوات المحرمة كالعود، نظر إلى المعنى الحاصل بالعود، فدرجه في ضمن الغناء بغير العود وحسّنه لهم، وإنما مراده التدريج من شيء إلى شيء. والفقيه من نظر في الأسباب والنتائج، وتأمّل المقاصد"(2).

ـ والانهماك في كثير من هذه الأناشيد يورث عاطفة وانفعالاً عند بعض الناس، لكن دون بصيرة أو فقه، فهو يحِّرك المشاعر، ويؤجج العواطف. وقد استخوذ على الصوفية سماع القصائد فقلّ علمهم وعزّ فقههم، حتى قال سفيان الثوري: "أعزّ الخلق خمسة أنفس ـ وذكر منهم: فقيه صوفي"(3).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا غلب على منحرفة المتصوفة الاعتياض بسماع القصائد عن سماع القرآن، فإنه يعطيهم حركة حبّ من غير أن يكون ذلك تابعاً لعلم وتصديق.. وله تأثير من جهة التحريك والإزعاج لا من جهة العلم"(4).

فالأجيال العاكفة على سماع النشيد لا تنال بذلك فقــهاً، ولا تحقق علماً بدين الله تعالى، وإنما هو ترنّم وتواجد، وانفعال عاطفي.

ـ والولع بسماع النشيد يزهّد في سماع القرآن العظيم، ولذا تجد مَنْ أكثر مِنْ سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن، حتى ربما كرهه"(1).

وقـد قال الإمام الشــافعي: "خلّفت ببغداد شيئاً أحدثته الـزنـادقة يسمونه التغبير(2)، يصــدون به الناس عن القرآن"(3).

قال ابن تيمية ـ معلقاً على كلام الشافعي: "وهذا من كمال معرفة الشافعي وعلمه بالدين، فإن القلب إذا تعوّد سماع القصائد والأبيات والتذَّ بها، حصل له نفور عن سماع القرآن والآيات، فيستغني بسماع الشيطان عن سماع الرحمن"(4).

ويقول في موطن آخر: "فإن السكر بالأصوات المطربة قد يصير من جنس السكر بالأشربة المسكرة، فيصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، ويمنع قلوبهم حلاوة القرآن، وفهم معانيه، واتباعه، فيصيرون مضارعين للذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله..."(5).

فالقلوب أوعية، فإن كان الوعاء مملوءاً بحبّ القصائد والأناشيد، فأين يقع حبّ القرآن وذكر الله ـ تعالى ـ في ذلك الوعاء؟!

وقال ابن الجوزي في نقده الصوفية: "وقد نشب حبّ السماع بقلوب خلق منهم، فآثروه على قراءة القرآن، ورقت قلوبهم عنده مما لا ترق عند القرآن، وما ذاك إلا لتمكن هوى باطن تمكن منه، وغلبة طبع..."(6).

ـ إن النشيد المنضبط بالضوابط الشرعية بديل محمود عن الأغاني الماجنة، لكن إذا وضع بتوازن في موضعه الصحيح، أما إذا أردنا أن نعرف الحكم الشرعي في ذلك النشيد المتفلت، فعلينا أن ننظر إلى مآلاته وعواقبه، وقد حرر شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم قاعدة في ذلك، وأعملاها على السماع المحدث، فكان مما قاله ابن القيم:

"إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء: هل هو الإباحة أو التحريم؟ فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته، فإن كان مشتملاً على مفسدة راجحة ظاهرة، فإنه يستحيل على الشارع الأمر بـه أو إباحته، بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي. ولا سيما إذا كان طريقاً مفضياً إلى ما يغضب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- موصلاً إليه.

فكيف يظن بالحكيم الخبير أن يحرم مثل رأس الإبرة من المسكر؛ لأنه يسوق النفس إلى السكر الذي يسوقها إلى المحرمات، ثم يبيح ما هو أعظم منه سَوْقاً للنفوس إلى الحرام بكثير؟..."

إلى أن قال: "... والذي شاهدناه ـ نحن وغيرنا ـ وعرفناه بالتجارب أن ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم، وفشت فيهم، واشتغلوا بها؛ إلا سلط الله عليهم العدو، وبُلوا بالقحط والجدب وولاة السوء. والعاقل يتأمل أحوال العالم وينظر، والله المستعان"(7).

ـ هـذا النشيد المتهتك أنموذج من الترخص المتفلت في واقعـنا الحاضر، فقد ظهرت في الآونة الأخيرة توجهات ومؤلفات في التفـلت عن ضوابط الشرع، والتواثب على حرمات ـ الله عز وجل ـ مثل: حلق اللحية، وإباحة سماع الغناء، والتوسع في أنواع من المناكح والمكاسب والمطعومات دون التحقق من أحكام الشرع.

إضافة إلى ما هو أطم من ذلك كالتساهل في وسائل الشرك وذرائعه، وتهوين عقيدة الولاء والبراء، وغير ذلك.

وهذا الواقع يوجب على العلماء والدعاة أن يربّوا الأمة على أخذ الدين بقوة، والدعوة إلى التمسك بالسُّنة والعض عليها بالنواجذ، والحذر من تتبع الرخص والحيل المحرمة والأقوال الشاذة، وإحياء واعظ الله في قلوب أهل الإسلام، والتذكير بالوقوف بين يدي الجبار جل جلاجه، الذي يعلم السر وأخفى، قال عزَّ وجلَّ: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } [القيامة: 14-15]



(*) أستاذ مشارك في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض.

(1) انظر: الكلام على مسألة السماع، ص (342).

(2) تلبيس إبليس، ص (249).

(3) مدارج السالكين (330/2).

(4) مجموع الفتاوى (2/42).

(1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/484).

(2) التغبير: هو الضرب بالقضيب، وهو آلة من الآلات التي تقرن بتلحين الغناء، انظر: الاستقامة (1/38).

(3) أخرجه ابن الجوزي في تلبيس إبليس، ص (257). (4) مجموع الفتاوى (10/532)، وانظر: الاستقامة (1/238).

(5) مجموع الفتاوى (10/43). (6) تلبيس إبليس، ص (276).

(7) مدارج السالكين: (1/496، 497، 500)، وانظر: مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية (2/308).


الحمد لله الذي لا يرجى إلا فضله، ولا رازق غيره

الله أكبر ليس كمثله شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير

اللهم إني أسألك في صلاتي ودعائي

بركة تطهر بها قلبي، وتكشف بها كربي، وتغفر بها ذنبي، وتصلح بها أمري، وتغني بها فقري، وتذهب بها شري، وتكشف بها همي وغمي، وتشفي بها سقمي، وتقضي بها ديني، وتجلو بها حزني، وتجمع بها شملي، وتبيض بها وجهي
يا أرحم الراحمين
اللهم إليك مددت يدي، وفيما عندك عظمت رغبتي

فأقبل توبتي، وأرحم ضعف قوتي، وأغفر خطيئتي، وأقبل معذرتي، وأجعل لي من كل خير نصيبا، والى كل خير سبيلا برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم لا هادى لمن أضللت، ولا معطى لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت، ولا باسط لما قبضت، ولا مقدم لما أخرت، ولا مؤخر لما قدمت

اللهم أنت الحليم فلا تعجل، وأنت الجواد فلا تبخل، وأنت العزيز فلا تذل، وأنت المنيع فلا ترام، وأنت المجير فلا تضام، و أنت على كل شيء قدير
اللهم لا تحرم سعة رحمتك، وسبوغ نعمتك، وشمول عافيتك، وجزيل عطائك، و لا تمنع عنى مواهبك لسوء ما عندي، ولا تجازني بقبيح عملي، ولاتصرف
وجهك الكريم عنى برحمتك يا أرحم الراحمين