الحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ، كما يُحبُّ أن يُحمَد ، وصلى وسلم على عبده ورسوله سيدنا محمَّد ،

وعلى آله وصحبه والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدِّين ،

أما بعد ..

كنت أقلِّب صفَحات كتاب رياض الصالحين للإمام الزاهد الورِع النووي - رحمه الله - ، فرأيت في الفِهرس :

بابٌ في كراهة التقعير في الكلام والتشدُّق فيه وتكلف الفصاحة ، واستعمال وحشيِّ اللُّغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوامِّّ ونحوهم
فأعجبني أنْ أورد الإمام بابًا كهذا في هذا الكتاب ،

وقلت لعلي أنقل هذا الكلام ؛ حتى نتعرَّف على توجُّه العُلماء من السلف الصالح في شأن اللغة والفصاحة - مما يدلُّ على وجود فئة لا تُحسِن الإعراب وليست بتلك الفصاحة آنذاك أيضًا - .



يقول الإمام النووي - رحمه الله - من قرية نوى من الشام :

"

بابٌ في كراهة التقعير في الكلام والتشدق فيه وتكلُّف الفصاحة ، واستعمال وحشي اللُّغةِ ودقائق الإعراب في مخاطبة العوامِّ ونحوهم


1734 - عن ابن مسعود - رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم قال : " هلك المُتنطِّعون* " - قالها ثلاثًا - . ( رواه مسلم )

المُتنطِّعون : المبالغون في الأمور .

1735 - وعن عبد الله بنِ عمرِو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله يبغض البليغ من الرِّجال ، الذي يتخلَّل بِلِسانه كما تتخلل البقرةُ** " . ( رواه أبو داود ، والترمذي وقال : حديث حسن )

1736 - وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربِكم مني مجلسًا يومَ القيامة أحاسنُكم أخلاقًا ، وإنَّ أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم مني يومَ القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون " . ( رواه الترمذي وقال : حديث حسن )***

"

-----------------
الهوامش :

* قال الشارح الشيخ محمد الصابوني : أي المتعمقون المتشدِّدون فيما لا ينبغي التشدُّد فيه ، الخائضون فيما لا يعنيهم ، المبالِغون في الأمور ، كمن يقذف غيرَه بالضلال لأمرٍ يسير .

** قال الشارح : أي يتشدق بلسانه ، ويلف الكلام لفًّا ، كما تلفُّ البقرة الكلأ بلسانها لفًّا ؛ فهذا من المبغوضين عند الله .

*** سبق ذكر الحديث بشرحه برقم ( 630 ) ، وتتمته : " قالوا : يا رسول الله ، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون ؛ فما المتفيهقون ؟ قال : " المتكبرون " " .
قال النووي : الثرثار : هو كثير الكلام تكلُّفًا ، والمتشدق : المتطاول على الناس بكلامه ويتكلم بملء فيه تفاصُحًا وتعظيمًا لكلامه ، والمتفيهق : أصلُه من الفَهْق ، وهو الامتلاء ، وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه ، ويُغرِب به تكبُّرًا وارتفاعًا ، وإظهارًا للفضيلة على غيره .
وقال الشارح : في الحديث تنفير من مساوئ الأخلاق التي تكون في بعض الناس ، والتي تبعد الإنسان عن مرافقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جنان الخُلد والنعيم ، لا سيما لأسوأ الناس أخلاقًا ، ببذاءة اللسان والكِبر والعُجب .



من هنا نرى أنَّ دينَنا ليس فيه تكلُّف ، بل يكفيك ما أبلغك الهدف وأديت به ما عليك ، وكذا الأمرُ في اللُّغة ،

وإنَّ الذي يتكلَّف ويستجلب غريب اللفظ ووحشي الكلمات لا يُفهِم من يسمعه ولا يُفيده ، وهو يُكثر الذهاب والإياب بغير فائدة تعود على السامع ، ولا يحفظ الوقت الذي هو أغلى من الذهب ، وخيرُ الكلام ما قلَّ ودلَّ ،

وفي حديث آخر لأمِّنا عائشةَ - رضي الله عنها وأرضاها - : " كان كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلامًا فصلاً ، يفهمه كل من سمِعه " ؛ فهذا خير الناس خلْقًا وخُلُقًا - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - ،

ولكن قد لا يكون هناك حرجٌ ، لو كان الغرض هو التعليم والفائدة ، لا بغية التميُّز وإظهار الفصاحة والبلاغة ،

نسأل الله أن يهدينا ويسددنا ، ويهديَنا سبله ويهدينا لنوره ، هو نور السماوات والأرض ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

والله - تعالى - أعلم .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والذين اتبعوهم بإحسان ومن سار على ملتهم - إلى يوم الدين .







أخوكم المُحِب / المُوتِر


× الاقتباس والهوامش مأخوذة من كتاب شرح رياض الصالحين ،
للشيخ محمد بن علي الصابوني - وفقه الله - ، من طباعة مؤسسة مطوفي
حجاج دُوَل جنوب آسيا ؛ أداءً للأمانة العلمية ..