السلام عليكم ورحمة الله وبركاته



إن أدرتُ عجلةّ الزمنِ إلى الخلفِ , عشر سنواتٍ أو تزِيدْ . .
إلَى ذلك المُسّن الذِي يقضِي عصِرهُ مُمسكاً مُصحفهُ الكّبِيرْ , ذاكَ ضُعفُ النّظَر وحاجتُه إلى أحرفِ كبِيرَة !
حِين كُنتُ فِي السّادِسة , كنتُ ألمسُ حُبّهُ لِي فِي تلقِيبِي " يا غّزَالة " و أنا أركضُ حَولهُ وحَواليهِ ببراءة , و لم يزّل مُصحفَهُ ذاكْ .. فِي يديهْ !
,
كّان " سيدِي " مُسناً , لكنّهُ كان طِفلاً , إن سمعنِي أطلبُ المَال لأذهَب إلى دُكّانِ الحارة , يستوقفُنِي لأشترِي لهُ الفشفاش , أو " الهّوا " كما يُسميهْ . .
أو " اسكُمُو لمُون " [ ايسكريم ليمُون ] , فأذهبُ راكضةً أشترِي لهُ مايُحبْ , وأعُودُ وقد خدمتُ ملكَ المنزِلْ .
إن ذهبَ لقضاء حاجتِه , أسرعُ الجُلوس على سريرهِ الخشبيّ , و أمُسكُ مُصحفهُ الكبِير , أفتحهُ وأقلّد جدِي وهُو يقرأ , وكم كُنتُ أُسّرُ لسماعِ الثناء من والدِي و أعمامِي .

,

وحين كُنتُ فِي التاسِعة . .
كَان جدّي قّد مرض , وبلغت الشيخُوخةُ منه مبلغَها , لا أذكرُ شيئاً مُعيناً آنذاكْ
إلا صُورةٌ تأبَى أن تُمحَى من خيَالِي . .
حِين خرجَ و أعمامِي لتوديعنَا وقتَ الرحِيلْ , ركِبنا البَاصَ , لوحّنا لهُمْ جميعاً من خلفِ الزُجاجْ .
لم يتمَالك ذلك المُسّن نفسهُ فوقعَ من طُولهِ , قلبِي حينها سقَطْ , و والدِي كتمَ دمعتَهْ ..
يالهُ من وداعْ . . يالهُ مِن مشهدْ . . يالهُ من آخرِ لقَاءْ

,

مرضَ جدَي بعدّها كثيراً . .
نسِي كُلّ شيء , كُلّ شيءْ , من هُو .. من اولاده .. اين هُو
نسيء كُل شيء .. إلا ثلاثة !
عمِي الأكبر .. أخِي الأكبر - الذي قد سُمّيَ به - و القراءن
كان أعمامِي يتصّلُون بِنا .. يُطالبُون بأخِي ليكلّمه , وأتذكر أخي وعلاماتُ التأثر باديةً
عليهْ , هذا ان نلقَى الدّمُوع قد انحدرت !


كنتُ في الصفّ الخامِس . .
حين عُدتُ إلى المنزِل وفتحتُ البّابْ , أبِي و إخوتِي جالسون بصمتٍ وكأنّ على رؤُسهمِ الطيرْ !
سألتُ وقلبِي يكاد يتوقف بسبب ذلك الشعُور المُخيف الذي اغتالنِي وقتها ..
" شوو فيي ؟ " .. لم أتلقّ إجابةً , أعدتُ السُؤال ..
فأجابنِي أخِي " سيدو مات "

كان يومَ اثنينْ .. نزل عمّي ليلقِي التحيّة على جدّي قبل ذهابهِ لصلاة الفجَرْ ..
وجدهُ وقد ندِي جبينُه , لازال دافئاً , جالساً على مقعدِه ذاك .. وقد صعدت روحُه
إلى مالكِها ..

,

كنتُ في الصفّ السادِسْ . حين سافرَنا مرةً أُخرى لنلقَى البيتَ خالياً من سيّده .
كان خاوياً جداً , ينقصُه المنَار على ذلك الكُرسيّ , !
,
أذكرُ أن ابن عمّي قال لنا مرّة .. أن جدّي أثناء مرضِه طلب منه أن يقرأ لهُ القُرءان ..
وقد نسي كُلّ شيءٍ إلاه , بدأ ابنُ عمّي يتلُو له الايات .. ليُفاجأ بجدّي يستوقفُه
قائلاً : حسبُك !! انا أتذكرُ هذهِ الاية , و أتمّها جدِي بصوتٍ وآهِن . .

,

كان أخِي الأكبَر في السادسة عشِرة من عُمرهْ
رأى مرةً في المنامْ , أن جدّي في مثل عُمرهِ , كانا يلعبان معاً , ثم ذهب جدّي ليلعب
مع فتياتٍ جميلاتْ .. ! !
إلى الان لا ادري هل لهذا المنام تفسيراً ام لا , لكنني أسأل الله ان يكُون على خيرْ !

,


قبل أشهرُ , كنتُ في بيت جدّي أتأملُ مكانهُ مرارً وتكراراً .. " رحمكَ الله يا جدي "
رغم كل شيءِ لازلتُ أراكْ , و المُصحفُ بيديكْ ..

:


قصص ذكرها والدِي لنا !!

قال ان جدّي كان بالاصل أميّاً , لكنهُ كان يجلسُ مع طُلاب المدارس ليتعلّم
معهُم .. و كرّس ما تعلمهُ لكتاب الله :')


وقال لي والدِي
انه مرةً في صغره أصيبت عينهُ بالرمد , ذهب به جدّي إلى المصحّة , وأثناء العودة
لقي والدِي شجر صبارٍ مُثمر .. فاشتهَى صبارةً ليأكُلها ..
فسارع جدِي ليقطف له صبرةً و ينزع قشرها المشّوك بيديهِ العاريتينْ .. يمدُها لوالدي
بكل عطَف وحنانِ وحُب !!

,




رحمة الله عليكَ يا جدّي
وأسألُ الله ان يكُون مُصحفكَ .. شفيعُك الان .. !

حفيدُتك المحبّة التي لن تنساكَ ابداً ..


صلوا ع الحبيب