بســم الله الرّحمن الرَّحيــــم




أهــلاً و مرحبـاً بكم في أوَّل موضُــوع لـي هُنــا في هذا القسـم ، و بإذنِ الله لن يكُون الأخيــر .

فقــط أعطِنـي عزيزي القارِئ الكريـم من وقتـك القليــل ، لتستفيـد و تتفقَّـه في موضـوعٍ في دِينك .

و لكِن فلنمـرّ أولاً بالمقدّمة البسيطـة التالِيـة .






لــم يكُن العُلمـاء المجتهدون - رحمهم الله - يتكلّمون بالهوى ، بل كانوا يجتهدُون في بيان أحكام الشَّريعة

بحسب ما بلغهم من الأدلّـة ، و بحسب ما فهمُوه منها ، و قد يتفقون فيما بينهم ، و قد يختلفُون في بعـض

الأحيـان . و الخلافُ بين العُلماء يُعـاز إلى أسبابٍ عديدة ، جميعُها تدُور حول بحثهـم عنِ الحقّ و بيـــان

الشريعـة ، فكلّ واحدٍ منهـم إمّا أن يكُون مُصيباً فلهُ أجران ، أو مُخطئـاً معذُوراً فلهُ أجــرٌ واحــد ، كمـا قال

النَّبي - صلّى الله عليه و سلَّم -
: ((
إذا اجتهـد الحاكِمُ فأصاب فلهُ أجران ، و إذا اجتهد فأخطأ فلهُ أجـر )) .

و من أهــمّ أسبــاب اختلاف العُلمـاء بـاركُ اللهُ فيهــم جميعاً و حفظَهـم للأمَّـة ، ما يلــي :



الســبب الأوَّل :

كــون العالــم لم يسمـع بالدّليـــل .

مثال ذلك : بلغ عائشة رضي اللهُ عنها أنّ عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - يأمُـر النساء إذا اغـتسلــن أن

ينقضن رؤُوسهنّ ، فقالت : يا عجباً لابن عمرو هذا يأمر النّساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤُوسهنّ ، أفلا

يأمرهنّ أن يحلقن رؤوسهنّ ؟ لقـد كُنت أغتسـل أنا و رسُول الله
- صلّى الله عليه و سلَّم - من إنـاءٍ واحـد ، و لا

أزيـد على أن أفرغ على رأســي ثلاث إفـراغــات .


،،

السَّـبب الثانـــي :

يبلغُ الحديث عالمِين لكنّه يكُون صحيحاً عند عالمٍ ، ضعيفاً عند العالم الآخر حيثُ لم يبلغهُ بسنـدٍ صحيـح .

مثالُ ذلك : حديـث الْعِينَةِ الذي رواهُ ابن عمر ضي الله عنهُما قال : سمعـتُ رسُول الله- صلّى الله عليه و سلَّم -

يقُـول : ((
إذا تبايعتُم بالْعِينةِ ، و أخذتُم أذناب البقـر ، و رضيتُـم بالزّرع ، و تركتُم الجِهـاد ؛ سلَّط الله

عليكُـم ذلَّا لا ينزعهُ حتَّى ترجِعُوا إلى دِينُكـم
)) ، هذا الحدِيث لم يعمـل بهِ الشَّافعي لضعفـه عـنـده ، و

و عمـل بهِ الجُمهور ؛ لأنّ لهُ طُرقـاً تُقوِّيـه ، و قد عضدتـه بعض الآثار عن الصَّحابة - رضي الله عنهم -

فِــي تحرِيـــم الْعِينَـة .

* العِينة هي : أن يبيع سلعةً بثمن مُؤجّل ، ثمّ يشتريها من الذي أخذها بأقل من الثمن حالاً .


،،


السَّـبب الثالــث :

أن يبلُـغ الحديث العالم و يعلم أنّه صحيح لكن يظنّه منسُوخاً ، و الآخــر بخـلاف ذلك .

مثال ذلك : اختلف العُلماء في حُكم الحِجامة للصَّائم هل تُفطِّـر أم لا ؟ فمن قال : إنَّها لا تُفطِّـر استدلّ

بحديث ابن عبَّاس في الصحيح : ((
أنَّ النبي - صلّى الله عليه و سلَّم - احتجم و هُو مُحرم ، و احتجم و هو

صائِــم
)) ، و من قال : إنَّها تفطّر استدلَّ بحديث : (( أفطـرَ الحاجِـمُ و المحجُوم )) ، و من الأجوِبـة

التي أجابُوا بها عن حدِيـث ابن عبَّـاس قالُوا : إنَّ الحديـث منسُوخ ، و لم يُسلٍّــم لهُم الآخـرون بأنّ


الحديــث منسُـــوخ .


،،


السَّـبب الرَّابـع :

يبلُغ العالِـم الحدِيث و يعلم أنّه غير منسُوخ لكن يعتبره مُعارضاً بحدِيثٍ آخــر .

مثال ذلك : خلاف العُلماء في مسـألـة استقبـال القبلة و استدبارها أثنـاء قضاء الحاجة ، فمنهم من قـال :

إنّ الإستدبار و الإستقبال منهي عنه مُـطلقـاً ، و منهم من قـال : منهي عن الإستقبال دُون الإستدبــار ،

و منهم من قال : منهي عن الإستدبار في الفضاء دُون البنيان ، و سبب ذلك أنّ الرّسول
- صلّى الله عليه و سلَّم -

قال : ((
إذا أتيتم الغائِط فلا تستقبلُوا القبلة و لا تستدبروها ، و لكن شرِّقوا أو غرّبوا )) ، و ثبــت عن

ابن عُمر
- رضي الله عنهما - أنه رَقـيَ على بيت أخته حفصَة - رضي الله عنهما - فوجد النَّبــي - صلّى الله عليه و سلَّم -

جالسـاً لحاجته ، مُستقبل الشّام مُستدبر القبلة ، فهذان الحديثان ظاهرمُما التعارُض و لهذا اختلف

أهــل العلــم في حُكـم هذهِ المسألــة .


،،


السَّـبب الخامِــس :

اخلافُهـم في تفسير لفـظ الدّليـل ، و ذلك لكون اللفظ مُشتركاً أو مجملاً أو لأيّ سببٍ آخــر .

مثال ذلك : اختلاف الفقهاء في مسّ المرأة هل ينقُض الوضُوء أو لا ينقـض الوُضوء ، بسبب

اختلافهم في تفسير قولـه تعالى في آية الوُضوء من سورة المائِدة :
{
أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء } ،

فمن فسّرها بمجرّد اللمـس قال : هُو ينقـض الوضُوء ، و من فسّرها بالجماع قال : اللمـس

لا ينقــض الوُضُــوء .


،،


السَّـبب السَّـــادِس :

اختلافهم في مسألةٍ أصُولية مما يؤدّي إلى الخـلاف في بعــض الأحكــام ،

و ذلك كاختلاف أهل العلـم في الاحتجاج بقول الصّحابي أو فعله ؛ إذا كان في مسألةٍ لا يدخُلها الاجتهـاد ،

و لم يخالفه صحابـي آخـر هل هو حجّـة أم لا ؟


مثال ذلك : فعــل ابن عمر في رفع يديه في التكبيرات في الجنـازة ، فبعض العُلماء لم يختر

هذا الحكم لأنّه لا يعمـل بهذا النَُّـوع من الأدلّــة .


،،


السَّـبب السَّابع :

أنّ بعض العُلماء يفهـم من الحديــث شيئاً ، و يفهم غيرهُ منه شيئـاً آخـــر .


و مثال ذلك : حديث ذي اليدين : أنَّ النبي - صلّى الله عليه و سلَّم - صلَّى بهم إحدى صلاتي العشِيّ فسلَّم

من ركعتيـن ، فلما أخبروه صلَّى الرَّكعتين الباقيتين ، ثمّ سلم ثمّ سجد سجدتِيـن بعــد السلام .


فأخـذ منه بعض العُلماء أن سجود السهو يكُون بعد السلام إذا سلّم من نَقْضٍ في صلاتِـهِ ، فإنَـه

يتمّها ثم يسجُد للسهو بعد السّلام ، و فهم منه آخـرون أنّ سجود السهو يكون بعد السلام إذا

زاد في صلاتِه سهواً ، و ذلك لأنه في هذا الحدِيث زاد الصلاة على النّبي
- صلّى الله عليه و سلَّم -

و السلام من الصَّـلاة ، فقـالوا : كلّ زيادة سهواً فالسُّجـود لها بعـــــد السَّـــــلام .


،،


السَّـبب الثامِـن :

أن لا يكُون في المسألة نصّ ، فيجتهد العُلماء في استنباط حكمها من بعض النصوص و القواعد الشّرعيّة ؛

فيختلــف اجتهادُهــم .

و من ذلك : اختلاف العلماء المعاصرين في حكم الإجارة المنتهية بالتّمليك ؛

بناءً على خلافهم في تنزيلها على النُّصوص و القواعد الـشَّرعيّــة .







ننتقـل الآن إلى الفقــرة التي توضَّـح الموقف من خلاف العُلمــاء .






الخِلاف في بعض المسائل من السُّنن الكونية و من طبيعة البشر لاختلافهم في الفهم و العلـم ، و في الإدراك و التفكير

و لكن ما موقفنــا نحن من هــذا الخِــلاف ؟

،،


أوَّلاً :

يجب إحترام العلمـاء و إجلالهم ؛ المُخطئ منهم و المُصيـب ، و لا يعني خطـأ بعض الأئمة المجتهدِيـن

التعدّي عليهم و الطّعن فيهم و انتقاصُهم ، فهذا ما أدّى إليه اجتهاده ، و هو معذُور في ذلك مأجُور ،

فعن عمرو ابن العاص
- رضي الله عنه - أنه سمع رسُول الله - صلّى الله عليه و سلَّم - يقُـــول : ((
إذا حكم الحاكم

فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران ، و اذا حكم فاجتهد ثمّ أخطأ فله أجـر
)) ، و قد سبق لك أسباب خلاف

العُلماء و هي أعذار ، كما أنّ بعض الأشياء التي ترى هذا الإمام قد أخطأ فيها قد تكُون صـوابـاً في

حقيقـة الأمــر ، و الخطـأ في هذهِ الحالة هو ما عندك . و لتتأمل قوله تعالى في قصة حكم داود

و سليمان - عليهما السلام - في الحرث عندما قال تعالى : {
وَ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ

نَفَشَتْ
فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ( 78 ) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا
} ،

فالحقّ كان مع سليمان - عليه السلام - و مع ذلك قال الله عنهما : {
وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } .


،،


ثانيـاً :

الأئمة المجتهدُون متفقون في أصُـول الشريعة ، و إنما خلافهم في فرُوع الشَّريعة ، فلا نجـد عند

الصحابة رضوان الله عليهم خلافاً في مسائل العقيدة ، و إنما الخلاف عندهم في بعض المسائل

المتعلقة بالصلاة و الحجّ و البيـع و نحوهــا .


،،


ثالثـاً :

وقُـوع الخطـأ من بعض العُلماء يدلّ على أنّ التعظِيـم يكون للنصُوص الشرعيّة لا للأشخاص ، فكلٌّ

يُــؤخـذ من قوله و يُـردّ إلا رسُـول اللهِ
- صلّى الله عليه و سلَّم - .



،،


رابعـاً :

لا يجُوز لنا التعصُّب لقول أحدٍ من العُلماء و نحن نعلم أنّ الحق مع العالـم الآخـر ، فالعالم الذي أخطأ

معذُور مأجُـور ، و لكن لا يعني ذلك أن نتابعه على خطئه و نتعصَّب له ، و نلوِي النصُوص من أجل

تصحِيــــح قولــه .


،،


خامسـاً :

النَّـاسُ من حيث عملُهم بالمسائل التي اختلف فيها العُلماء ثلاثة أقســام :

القسم الأوَّل : عالم رزقه الله علماً و فهماً : فهذا لهُ حقّ الإجتهـاد ، بل يجب عليه القُول بمقتضى الدليل

قال تعالـى :
{
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ، و هذا من

أهـل الإستنباط الذين يعرفون ما يدلّ عليه كلامُ الله و كلام رسُولـه الكرِيـــم .

القسـم الثاني : طالب علم عنده من العلم ما لا يصل بهِ درجة التبحر في العلـم : فهذا لا حرج عليه إذا

أخذ بالعمُومات و الإطلاقات و بما بلغه ، و لكن يجب عليه الإحتراز في ذلك و عدم التقصير في سؤال

العلماء لاحتمال خطئه ، فقد لا يصل علمه إلى دليل خصَّصَ ما كان عاماً ، أو قيّـد ما كان مُطلقــاً ،

أو نسخَ ما ظنَّــه مُحكمــاً .

القسم الثالِـث : عامِّيٌّ بالنسبة للأحكام الشرعيّة ، فلا يعرف تفصيل الأحكام الشرعية و لا أدلتها ولا

طرق الإستدلال ؛ و إن كان عالماً في فن آخر ؛ فهذا يجب عليه سؤال أهل العلم ، لقوله تعالى :

{
فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ، و الأوْلى أن يسأل من يراه أفضل في دينه و علمه

و يظنُّـه أقرب للصواب ، فإذا أفتاهُ بفتوى عمل بفتواه ، و لا يجُوز له سُؤال أكثر من عالم بقصد

العمل بأخفّ الفتاوى و أسهلها ؛ لأنّ هذا من تتبــع الرّخـص الذي حـذّر منه العُلمــــاء .


،،






فقــط ؛ إنتهـــى الموضُوع على أمل أن تكُونوا قد استفدتُــم منــه ..

بإذنِ الله ستكُون لـي مواضيع قادمة في فترات مختلفة في هذا القسـم الجميـل ؛ ..

شُكــراً لكم للقــراءة .. و مع خالص تحيَّاتي و تقدِيري لكُــــم .