،

قال لي مرة: "ارسمي الموت لي، بفرشاتكِ" . . وضحكَ، بينما التوت شفتاه بتشدق !
نظرتُ إليه بلا مبالاة تامة، كان هو أدرى بما يختبئ خلفها ،
كرر، بلهجة تُبطن أكثر مما تظهر، : "هيا، افعلي" !
افترت شفتاي عن شبه ابتسامة حاولت أن ترتسم، لكنها سرعان ما عجزت عن ذلك، فعاودت الانحسار !
قلت: "يا عزيزي، لم أدرِ أن روح النكتة تطورت بكَ إلى هذ الحد !" ،
إنه لا يدري، لا يدري أبدًا . . أي خيالات أثارها طلبه في مخيلتي، أي صورٍ بدأت تتزاحمُ بعقلي طالبة مني المفاضلة بينها !
وأنا أدري، أنه يدري، أن كلماته يومًا لم تكن عبثًا !
اعتدلتُ في جلستي، وأتبعتُ ذلكَ بنهوض، قائلة بدون تركيز -تقريبًا-: "يالكَ من مُتعب" ،
حثثتُ خطاي نحو مخدعي الخاص، قائلة بصوت عالٍ -ليصل إلي قبل إليه-: "لا تُزعجني" !
لمحتُ ابتسامة الانتصار على وجهه، وهي يُحني رأسه بسخرية صرفة، لكني لم أهتم أبدًا، وكيف أفعل؟!
وسمعته يُتمتم: "ستبدأ طقوسها، ستفعل" !
.

بمخدعي، وأمام مرآة حائطي العملاقة، وجّهتُ نفسي ،
بذاك البنطال الذي يرجو الخلاص، وذاكَ القميصُ الذي سيكمل سنيه العشر قريبًا ،
وشلالُ شعري انساب بحرية، ليلتف حول خصري، بألفة ،
وبجانب كرسيّ الهزاز الذي أسترخي عليه، تصاعدت رائحة القهوة المرة، مغرية ،
وبمكانٍ هادئ، وأضواءٍ خافتة، وموسيقى تنبعثُ من جهاز تسجيل قريب، بدأتُ بـ -طُقوسي- كما أسماها !
وسرعان ما ملأت آلاف الصور مساحة مرآتي الهائلة -التي كانت منذ لحظات فارغة صامتة- ،
وكلُ صورة تتوهج بريقًا، تنطقُ قائلة: أنا من تحتاجين" !
وبتلكَ الأطراف، أرى معاركًا تُشنّ، وينتصرُ الأكثر توهجًا . . ليعود فيتلاشى بعد أن ينتصر عليه آخر، دون توقف !
"آن وقت الاندماج" تمتمتُ بهمس ،
ليزداد الوميض، ليتألق التوهج، وليعمق ظلامُ المنتصف، أكثر فأكثر ،
وقررت، سأبدأُ من هناكْ !
.

دلفتُ إلى الخارج، لأراه لا يزال يقطنُ المقعد ذاته، بينما تسرحُ عيناه متأملة وهج نار المدفأة !
انتبه لخطواتي، فالتفت مذهولًا، قال: "ألم تتوجهي لمرسمكِ بعد؟!" ،
جثيتُ بقرب المدفأة، وعيناي تعكسان لهيب نارها، رافعة يدي أطلبُ الدفء ،
قلت: "أخبرني، ما الموتُ برأيكْ؟! متى نموت؟!" ،
بعد قليل تفكير قال: "ألسنا نموتُ عندما تُفارق الروح أجسادنا، بشكلٍ أو بآخر" !
لم يبدُ وكأنني سمعتُ، إذ سرحتُ بأفكاري دون إجابة !
بعد نصف الساعة ربما، قلت: "أخبرني، أليسُ كل من لا نعرف، كالميت بالنسبة لنا؟! أليس كلُ من تطاله أيدي نسيان ذاكرتنا هو كالميت بالنسبة لنا؟!" ،
أضفت: "هذا إن نظرنا للموت بمنظرونا، لا بمنظور الأموات" !
قال: "إلام تودين الوصول؟!" بحيرة تعتلي ملامحه ،
قفزتُ من مكاني بحيوية مُستغربة، وأسرعتُ الخطى نحو مرسمي، فتحتُ بابه، لأعود فأنظر إليه وهو مستغربٌ ينظرُ في أثري، قائلة: "سأخبرك، الموت . . هو الموت، بكل بساطة" ، وأغلقتُ الباب . .
و . .
الاستفسارات ، !


. . . . .
{مخرج ،

ليس ثمة موتى، غير أولئك الذين نواريهم في مقبرة الذاكرة . .
إذ يمكننا بـالنسيان أن نشبع موتًا من شئنا من الأحياء ، فـنستيقظ ذات صباح ،
و نقرر أنهم ما عادوا هنا . . !
بـإمكاننا أن نلفّق لهم ميتة في كتاب، أن نخترع لهم وفاة مداهمة بـسكتة قلمية مباغتة كـحادث سير، مفجعة كـحادث غرق، و لا يعنينا إن هم بقوا بعد ذلك أحياء ،
فـنحن لا نريد موتهم، نريد جثث ذكراهم لـنبكيها، كما نبكي الموتى، نحتاج أن نتخلّص من أشيائهم، من هداياهم، من رسائلهم، من تشابك ذاكرتنا بهم ، نحتاج على وجه السرعة أن نلبس حدادهم بعض الوقت، ثم ننسى !

- أحلام مُستغانمي - ،


. نُشر في مكانٍ آخر ،