رسالة



أنا
سارة.. فتاة عربيةٌ مسلمة.... تذكروا ذلك!

نشأتُ في منزلٍ كبيرٍ جداً.. مليءٍ بالغرف.. ومليءٍ بالأطفال والمربيات..

تعلمتُ النظام منذ صغري.. فبدونه لن أحصل على الطعام..

كنت أعاني الجوع والقسوة عندما أخطئ أحياناً.. وبدون سببٍ في أحيانٍ أخرى..

لكني لم أتذمر يوماً.. ولم أشعر بأن في حياتي خطباً ما.. حتى بلغتُ السادسة من عمري والتحقتُ بالمدرسة.. واكتشفتُ أنني مجهولة نسب!



أنا لقيطة! لا أعرف لي أماً أو أباً..

أملك اسماً ولكن الكثيرين ينادونني بـ "يا أنتِ!".. وكأنهم لا يعترفون باسمٍ لم يمنحني إياه والداي..

حتى الأطفال الصغار كانوا يهزئون بي وينادونني باللقيطة دون أن يفهموا معناها.. أنا أيضاً لم أفهم معناها إلا عندما كبرت..

كل ما كنتُ أفهمه هو أنني مختلفة.. شيءٌ شاذ.. غير طبيعي.. لا أملك أماً أو أباً..

بالمناسبة لطالما استهوتني فكرة أن يكون لي أم وأب خاصان بي وحدي..! يبدو ذلك رائعاً! سأكون أسعد إنسانٍ على الأرض لو تحقق ذلك!

كنتُ أتجاهل سخرية واحتقار الآخرين لي لذنبٍ لا علاقة لي به.. وكنتُ أتشاجر معهم أحياناً..

ولكني كنتُ أتحمل لأني أملك في البيت العديد من الأخوات الرائعات..

غناء كانت واحدةً منهن.. كانت أختي وصديقتي المقربة..

بالمناسبة اسمها ليس
غناء بل حسنية.. سمتها بهذا الاسم إحدى المربيات على اسم والدة زوجها!

غناء لم تحب اسمها ذاك.. كنا نناديها غناء لأنها كانت تغني دائماً وكان صوتها جميلاً جداً..

لقد كانت تنال عقاباً خاصاً بسبب ذلك.. كما أن تلك التي سمّتها
بحسنية كانت تكرهها وتعذبها بشكل خاص.. يبدو أنها كانت تكره والدة زوجها!



حسناً.. هناك أيضاً ماما
لمياء.. إنها امرأة محسنة فاضلة.. تزورنا منذ صغرنا وتجلب لنا الطعام والحلوى والهدايا فصرنا نناديها ماما لمياء..

كانت المربيات يخبئن الطعام الذي تجلبه عادة، ولكننا كنا نأكل الحلوى في وجودها أحياناً قبل أن تتمكن المربيات من إبعادها.. كنا ننال عقاباً شديداً بعدها ولكننا لم نكن نبالي فقد أكلنا الحلوى!

كن يقلن لنا أن علينا أن نكون ممتناتٍ جداً لماما
لمياء لأنها تزورنا.. فالمحسنون في البلد يفضلون إعطاء صدقاتهم لأناس يستحقونها أكثر من مجرد لقطاء!

أما ماما
لمياء فلأنها طيبة جداً فهي تحب أن توزع صدقاتها على جميع أصناف المحتاجين.. حتى علينا نحن اللقطاء!

كانت ماما
لمياء تحبني بشكلٍ خاص لأني جميلةٌ ومهذبة.. بقيت تزورنا بانتظام في نهاية كل أسبوع.. كبرنا ونحن نراها.. كنا ننتظر نهاية الأسبوع بفارغ الصبر.. كان الآخرون ينتظرون هداياها.. أما أنا فكنتُ أنتظرها!

كنتُ أرغب في أن أهتف لكل زميلاتي في المدرسة:
أترون! أنا أيضاً أملك أماً! فقد كنت أراها كوالدةٍ حقيقيةٍ لي..



ذات مرة زارتنا ماما
لمياء مع صديقةٍ لها.. كانت الصديقة تبدو مرتبكةً لوجودها في مكانٍ كهذا.. كانت تحذر من أن يلمسها أحدنا..

كنتُ وقتها في الخامسة عشر من عمري.. وقد تضايقتُ لوجود هذه المرأة مع ماما
لمياء.. ولكن ماما لمياء بدت سعيدة وهي تتحدث لصديقتها عنا وكيف ننتظر زيارتها بفارغ الصبر..

بدأت بعدها تتحدث عني.. أشارت إليّ وقالت:
انظري! هذه هي سارة التي حدثتكِ عنها! إنها جميلةٌ جداً صحيح؟ وفوق هذا إنها مهذبة ولطيفة.. هي حقاً فتاةٌ رائعة!

كانت صديقتها تنظر لي بازدراء ثم قالت بسخرية:
ما دامت تعجبكِ لهذه الدرجة لم لا تُزوجينها لولدك؟

بدت نظرة تفاجئٍ شديدة على وجه ماما
لمياء، ثم قالت بضيقٍ: لا تكوني سخيفة! إنها لقيطة!

كانت كلمتها تلك أشبه بصفعةٍ قويةٍ وُجِّهت إلي.. أظلمت الدنيا في عينيّ.. رأيتُ فقط وجهها المرتبك والمُحرَج.. كانت تتمتم بشيءٍ ما.. ثم غادرت بسرعة مع صديقتها..

ماما
لمياء لم تزرنا بعدها..



فقدتُ ثقتي بكل البشر باستثناء أخواتي.. شعرتُ بأني كنتُ مجرد غبية.. حمقاء.. لا تجيد العيش في هذا العالم..

انغلقتُ على نفسي أكثر من السابق.. قضيتُ كل وقتي مع
غناء.. توأم روحي..

غناء كانت تكبرني بعام.. لم أهتم لهذا يوماً.. لم أستشعر الفرق الكبير الذي يُحدثه هذا..

وفجأةً ودون أن أشعر.. كانت
غناء قد بلغت عامها الثامن عشر..

وحان وقت مغادرتها للدار!



بكيتُ كثيراً يوم مغادرة
غناء.. وبكت هي معي أيضاً..

وعدتني بأنها ستعود للزيارة دائماً.. لم تكن تعرف بعد إلى أين ستذهب.. ولكنها ستزورنا بالتأكيد..

ودعتها وأنا أشعر بأني أترك قطعةً من روحي لتغادر بعيداً..

ودعتها وأنا أنتظر عودتها! اشتقتُ لها قبل أن تغادر حتى!

رجوتُها أن تغني مجدداً ففعلت..

غنّت من بين دموعها ونشيجها..

كانت أروع أغنيةٍ سمعتها في حياتي..

لا زال صداها يتردد في ذهني حتى اليوم بعد مرور عامٍ كامل..

فقد كانت آخر ما سمعتُه منها!



لم أعرف لمَ لم تأتِ لزيارتنا..

أشغلها أمرٌ ما؟

أم أصابها أمرٌ ما؟

أو أنها ببساطة نسيتنا وتخلت عنا بمجرد أن وطأت قدماها عتبات العالم الخارجي؟

أصبتُ باكتئابٍ شديد.. لم تخف وطأته إلا عندما قارب العام على الانتهاء.. ففي نهايته سأغادر أنا الأخرى.. وسأبحث عن
غناء!



كنا سبعة.. سبعة فتياتٍ أتممن عامهن الثامن عشر..

سلوى كانت بمثابة قائدةٍ لنا.. كانت أكثرنا عقلانيةً ومنطقيةً.. ولهذا كانت أكثرنا قلقاً كذلك..

صاحت بي عندما تحدثتُ عن البحث عن
غناء: كفاكِ سخفاً! فكري كيف ستعيشين أولاً..!

أعادني كلامها للواقع.. نحن السبعة.. كنا قد قررنا أن نتشارك السكن في غرفة.. وأن نبحث بكل طاقتنا عن عمل نسد به رمقنا وندفع إيجار غرفتنا..

غادرنا معاً.. استطعنا بصعوبة إيجاد مسكن.. ومع أنها كانت مجرد غرفةٍ صغيرةٍ عفنة.. إلا أن إيجارها كان مرتفعاً..

بدأنا جميعاً البحث عن عمل.. شُغلتُ تماماً عن
غناء.. فقد كان عليّ أن أقوم بعملٍ أهم بكثير.. أن أبقى على قيد الحياة!

وجدتُ عملاً في مطعم ولكن الأجر كان زهيداً جداً.. مرت الأيام ونحن السبعة نعمل طوال النهار ولا نعود إلا في منتصف الليل بعد أن ينهكنا التعب..

ومع ذلك صرنا مهددين بالطرد من الغرفة.. فكل أجرنا بالكاد يكفي لإطعامنا فكيف نجمع ثمن الإيجار؟؟

كانت
سلوى تشجعنا طوال الوقت.. تحاول أن تبث الأمل في نفوسنا.. قالت لنا: سننجح بالتأكيد.. فقط تذكرن.. لا تبعن أهم ما تملكنه! لا تبعن أنفسكن!

ذات مرة اختفت
ليلى.. كانت أصغرنا وكانت فتاة رقيقةً وضعيفة وكثيراً ما تمرض.. لم تعد طوال الليل ولم تعد في اليوم التالي أيضاً..

بحثنا عنها ووجدناها في الطريق بين عملها والسكن.. كانت ميتة!

ماتت على الطريق! ماتت من الجوع والتعب والمرض.. لم أستطع البكاء.. شعرتُ بأني أرى جثثنا جميعاً متمثلةً فيها..

سلوى كانت أشدنا صدمة.. بقيت واجمة ولم تدر ما تفعل.. لم تُقَم لليلى جنازة.. ولم ندرِ كيف ندفنها فسعر القبر مرتفع..

أخذناها إلى الغرفة.. بقي جسدها هناك ليومين.. كما أن إحدانا أصيبت بالمرض وبدأت تسعل.. راقبت
سلوى كل هذا بصمت.. لم تعد في تلك الليلة..

ولكنها عادت في صباح اليوم التالي.. ناولتني بعض النقود وهمست:
هذا للدفن.. ثم ألقت بنفسها على فراشها باكية..



لم يسألها أحدنا عما جرى.. قمنا بدفن
ليلى.. وفي تلك الليلة لم تعد واحدة من أخواتي إلى السكن! قضيتُ الليلة وحيدة.. عدن جميعاً عند الفجر باكيات..

مرت الأيام.. أقضي كل نهاري بالعمل.. وليلي بالارتجاف وحيدةً في فراشي..

لن أبحث عن
غناء أبداً.. بوسعي الآن تخيل عشرات الأسباب التي منعتها من زيارتنا..

لعلها ماتت
كليلى.. أو باعت نفسها كسلوى.. أو بقيت مشردةً في الطرقات دون مأوى..

ربما صارت تغني في الشوارع تجمع صدقات الناس! ربما عملت خادمةً في منزل.. ولكن لا..... لا يوظف أحدٌ خادمةً من اللقطاء!

لم أكن أجني ما يكفي من المال كأخواتي.. وهذا أشعرني بالذنب جداً.. ولكني لم أرد أن يصبح مصيري كمصيرهن.. كان هذا أكثر ما يرعبني..

اليوم فُصلتُ من عملي في المطعم.. اكتشف صاحب المطعم أني من اللقطاء عندما رأى بطاقة هويتي.. فنحن اللقطاء لنا رقمٌ وطنيٌّ خاص يمكّن الآخرين من معرفة حقيقتنا فوراً..

قال بأني سأُبعد الزبائن لو علموا حقيقتي.. شعرتُ بأني مجرد حشرة قبيحة لا مكان لها في هذا العالم..

ولأكون صادقة.. فقد سرقتُ الطعام مرتين من مطعمه عندما لم أستطع مقاومة شكله الشهي.. ولكنهما كانتا مرتين فقط!

على كلٍّ أنا لن أُزعج أحداً مجدداً.. حتى رجال الشرطة لن يُزعَجوا بالبحث عن قاتلي فهذه الرسالة تُثبت بأني ألقيتُ بنفسي من أعلى هذه البناية بملءِ إرادتي..

أتريدون القول بأن الانتحار حرام؟ سأقول لكم بأن بيع النفس أيضاً حرام! والسرقة أيضاً حرام! وتركي وحيدةً في هذا العالم لأواجَه مصيراً مجهولاً أيضاً حرام!

إن السماء صافيةٌ هذه الليلة.. أتدرون.. ربما
غناء قد قفزت من مكانٍ كهذا أيضاً.. ربما من نفس هذه البناية.. ربما كانت تقف تماماً حيث أقف الآن.. ربما ستختلط دمائي بدمائها بالأسفل..

أتذكرون ما قلتُه لكم في البداية؟ أنا عربية! مسلمة! أنا فتاةٌ طبيعية! أنا إنسانة!

لقد فقدتُ إيماني بإنسانيتكم منذ زمن..

ولكن ومن أجل إخوتي وأخواتي أوجه لكم نداءً أخيراً:


أعطونا حق الحياة..!



~ تمت ~