بائع البسكويت

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 14 من 14

الموضوع: بائع البسكويت

مشاهدة المواضيع

  1. #1

    الصورة الرمزية تشيزوكو

    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المـشـــاركــات
    4,317
    الــــدولــــــــة
    مغترب
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي بائع البسكويت

    بائع البسكويت



    اتكأ على عمود الإشارة الضوئية البارد.. تأمل عبر نظارته السوداء السيارات الغادية والرائحة.. تلتمع أضواءها وتنثر عجلاتها رذاذاً من المياه المتبقية في الطريق من أمطار الأمس..

    يرتجف في مكانه.. يضع علبة البسكويت جانباً.. يشد عليه معطفه ويعدّل وضع قبعته الصوفية ويرفع شاله الثقيل ليغطي أنفه وفمه..

    من المعتوه الذي سيشتري منه شيئاً وهو يبدو بهذه الهيئة المريبة؟ إنه يعرف هذا تماما ولكن ما باليد حيلة.. فآخر ما يتمناه هو أن يراه أحد رفاقه من ثانويته وهو يبيع البسكويت عند الإشارة الضوئية!

    أضاءت الإشارة بالأحمر الآن.. تناول علبة البسكويت مجدداً وبدأ يتجول بين السيارات ببطء وصمت..

    حتى ووجهه مخفي عن الأنظار، وحتى وكل من حوله الآن لا يعرفه، لا يزال يشعر بإحراجٍ كبير تماماً كأول مرة حمل فيها صندوق بسكويت ليبيعه رغم أنه الآن في أسبوعه الثاني في هذا العمل!

    أضاءت الإشارة بالأخضر مجدداً فعاد إلى مكانه متأملا صندوق البسكويت.. لم يبع قطعةً واحدةً اليوم..

    تخيل خيبة أمل والده عندما يعود إليه بعد سويعات.. ضايقه هذا الخاطر.. بدأ يهز قدمه بعصبية وهو يحاول الوصول إلى قرار.. وأخيراً رفع رأسه إلى السماء وأطلق تنهيدة عميقة..

    نزع نظارته السوداء.. طواها برفق ودسّها في جيب معطفه.. عدّل شاله الثقيل ورفع قبعته الصوفية قليلاً.. صار وجهه واضحاً الآن.. كل ما بقي لديه هو أن يتمنى أن يستمر معه حظه الذي رافقه طوال الأسبوع الماضي وألا يمر أحد رفاقه من هذا الطريق!

    على الأقل ليس عادل.. يمكنه أن يتحمل أن يراه زميلٌ آخر.. يمكنه التعامل معه وإقناعه بالصمت.. ولكن ليس عادل.. ليس صديقه الحميم.. إنه آخر شخص في العالم يمكن أن يراه على هذه الهيئة..


    ~


    عادل فتى رائع.. تعرّفه العام الماضي عندما انتقل إلى الثانوية.. لا يجد كلمة أفضل من رائع ليصفه بها.. فتى وسيم علاماته ممتازة وروحه مرحة وتعامله راقٍ جداً.. كل الرفاق يحبونه.. وكلهم معجبون بشخصيته.. إن مثل هذا الفتى الرائع هو صديقه الحميم!

    لقد تعارفا عندما جلسا إلى جانب بعضهما في يومهما الدراسي الأول.. وجدا كثيراً من الأمور المشتركة بينهما.. كلاهما يعشق كرة السلة، كلاهما يكره مادة الحساب، وكلاهما يحب مشاهدة أفلام الرعب ليلاً!

    كان هناك الكثير من المواضيع ليتحدثا فيها كل يوم.. كان هناك الكثير من المواقف التي ساندا فيها بعضهما ببسالة مما جعل الجميع يحسدهما على صداقتهما وعلاقتهما القوية..

    ولكنه مع ذلك لا يعرف عن حياة عادل الكثير.. لماذا؟ لأنه ببساطة لم يسأل! خشي أن يسأل فيترد السؤال عليه.. لقد كان دائماً يتجنب الحديث عن الأمور الشخصية ويغير دفة الحديث إن بدا أنها تتجه إلى ذلك المسار.. إنه لا يريد لعادل أن يعرف شيئاً عن حياته البسيطة!

    ليس الأمر أنه يخجل من وضعه، على العكس فلطالما كان ممتلئا بالثقة.. ولكنه ومنذ أن قابله.. شعر بأنه يريد أن يكون مستحقاً بالفعل لصداقته! إنه يعرف جيداً أن الأمور لا تقاس بهذه الطريقة وأن قيمة الإنسان بروحه وليست بما يملك.. يستطيع أن يلقي محاضرةً عن هذا الموضوع.. ولكن مع ذلك.. يبقى التطبيق صعباً..!

    إنه يعترف بذلك بمرارة.. ولا يملك ما يفعله.. سوى الوقوف بخيبةٍ على حافة الكلمات الرنانة..

    لطالما عمل جاهداً لإخفاء حقيقة وضعه عن صديقه حتى قبل أن يؤول به المآل إلى الاتكاء على أعمدة الإشارات الضوئية! وها هو الآن هنا يغوص أكثر في وحل الصمت والغموض الذي أحاط به نفسه.. ومع كل ثانية تمر يصبح كتمان الأمر أثقل على قلبه، ويغدو كشفه أصعب على نفسه..


    ~


    لماذا انتهى به الأمر هنا مع علبة البسكويت هذه؟ في الواقع هو ليس من عائلة فقيرة.. بل حال عائلته لا بأس بها.. لديهم منزل صغير ولطيف في حي شعبي بسيط.. يعمل والده في مكتب استقبال صغير صباحاً.. ويعمل على باصٍ بقية اليوم..

    كان دخلهم متواضعاً ولكنه كان يكفيهم لعيش حياة كريمة.. ولكن ومع مرور الوقت وازدياد عدد أفراد العائلة بدأت الديون تتراكم والمصاريف تتضاعف.. وهذا العام أصبحت عائلتهم أخيراً مكونةً من ثلاثة عشر فرداً! وأيقن الوالد بأنه قد صار حتماً عليه البحث عن مصدر إضافي للدخل..

    لا.. لم يطلب من ولده أن يبيع عند الإشارات..! مجدداً، هم ليسوا فقراء.. كما أن لديهم من الكرامة ما يملأ المدينة كلها! لقد كان يردد دائماً أن أولاده هم استثماره الأنجح.. لم يكن ليضع ابنه البكر في موقف صعب يشغله عن دراسته ويترك في ذهنه ذكرى موحشة.. وفي الوقت ذاته فإن نجله هذا لم يعد صغيراً وعليه أن يشارك في تحمل المسئولية كذلك..

    الحل الذي توصل إليه الوالد أخيراً هو أن يحوّل الجزء المهمل من فناء المنزل إلى دكان!

    لم يحتج الأمر وقتا طويلاً.. هذه المساحة الصغيرة هي جزء من أرض المنزل.. بناء بضعة جدران عليها لن تحتاج أكثر من تعاون شخصين..! وهكذا لم يطل الوقت حتى افتُتح الدكان وبدأ فتانا يجلس إلى طاولته ويبيع فيه بينما كتبه مفروشة أمامه وهو يدرس أو يتظاهر بذلك!

    صار لديه الآن سبب أقوى لإخفاء حياته الشخصية عن عادل.. كان يتعذر بمختلف الأعذار ليتخلف عن نزهات الرفاق وجولاتهم، فعليه أن يجلس في الدكان معظم اليوم..

    أحياناً كان فقط يسأم من كل هذا.. يتمنى لو يتخلص من كل تلك القيود والمسئوليات ويقضي وقته فقط مع عادل، يتحدثان عن أحلاهما ويخططان لمستقبلهما معاً..

    وعندما كانت تزوره هذه الخواطر كان يغلق الدكان أو يترك فيه أخاه الأصغر ويهاتف عادلاً ليقضي بقية اليوم برفقته.. كان ينسى كل شيء في مثل تلك الأوقات ويبقى غارقاً في سعادته المؤقتة حتى يعود إلى واقعه المرير..

    في الواقع كان يشعر بتأنيب الضمير بعدها فهو قد خيّب أمل والده بإغلاقه الدكان، كما أن ترك أخيه الأصغر فيه لم يكن بالخيار الأفضل، فعندما كان يفعل ذلك كان رفاق شقيقه الكثر يحصلون على الحلوى بالمجان! لذلك كان عندها يقوم بدفن أحلامه ويعود ليواجه واقعه..

    وهكذا بقي مع الأيام متأرجحاً بين أحلامه وواقعه.. حتى جاء اليوم الذي تكسّرت فيه آخر أحلامه على صخرة هذا الواقع القاسي.. فقد قامت البلدية منذ أسبوعين بهدم الدكان بحجة أنه غير مصرح..

    لم تفقد العائلة مصدر دخل إضافي فحسب، بل إن البضاعة التي كلفتهم كثيراً لا تزال متكدسة في منزلهم! خسارتها تعني إضافةً مهولةً لقائمة ديونهم.. وهكذا لم يبق أمامهم سوى الخيار الأصعب.. بيع هذه البضاعة عند الإشارات..!


    ~


    ها هو الآن يحس بباعة الإشارات الذين طالما دعاهم بالمتسولين.. أيبدو هو الآن هكذا للعابرين؟ ماذا لو ناداه سائق إحدى السيارات طالباً قطعة بسكويت ليجد أحد زملائه داخل تلك السيارة؟ استطاع أن يتخيل وجه زميله المشدوه وهو يحدق من خلف زجاج سيارة والده الفارهة..

    لسببٍ ما كان الوجه الذي تخيله هو وجه عادل.. أبعد هذه التخيلات المشؤومة عن خاطره.. لقد مر الأمر بسلام طوال الأسبوع الماضي وسيستمر كذلك حتى تنتهي البضاعة وتنتهي حاله البائسة هذه! كرر هذا في ذهنه محاولاً تصديقه وتحويله إلى واقع..

    أعاده الضوء الأحمر القوي المنبعث من إشارة المرور من عالم أفكاره إلى الواقع.. أطلق تنهيدةً مجدداً فخرجت سحابة بخار كبيرةٍ معها.. فرك يديه المتخشبتين ببعضهما ليعيد الدماء إليهما.. عندما أحس أخيراً ببعض آثار الحرارة في أصابعه المحمرة حمل علبة بسكويته مجدداً ونزل إلى الطريق..

    لا يزال يتأرجح بين بقايا أحلامه المحطمة وبين واقعه المرير.. لا يزال يخاف مشهداً مرعباً يراه فيه عادل يعرض البسكويت على السائقين والمارة.. ولا يزال يخشى صورة والده المنكسر والخائب الأمل عندما يعود بعلبته ممتلئة كما خرج بها.. لا تزال أحلامه صغيرة وبسيطة.. ولا تزال تتحطم على صخرة الواقع..!

    عندما التفت عائداً إلى عموده البارد عند انطلاق الضوء الأخضر.. اصطدم بعنف بأحد المارة.. رفع رأسه متألماً.. ولأن قسوة الحياة لا تعرف حداً فقد كان الوجه الذي طالعه قد حقق أسوأ كوابيسه.. عقدت الصدمة لسانه لمرأى صديقه عادل يحدق فيه مندهشاً..

    كان يقف هناك بشعره الأشقر وعينيه الرماديتين ومعطفه الأسود الذي رآه فيه في المدرسة اليوم.. إنه هو نفسه الذي تتبدل مشاعره فرحاً عند لقياه.. ولكنه ولأول مرة يتمنى لو أنه لم يلقاه ولم يعرفه يوماً..!

    كان عادل لا يزال محدقاً.. شعر بنظرات عينيه تخترقه.. لم يعرف كيف يتصرف.. لقد طالعه هذا الكابوس مراراً ولكنه كان يتوقف عند هذه اللحظة.. لحظة الصدمة.. كل ما كان يتمناه الآن هو أن تنشق الأرض وتبتلعه..

    أخفض رأسه تلقائياً باحثاً عن تحقق أمنيته.. ليرى إلى جوار عادل كيساً كبيراً مملوءًا بالمناديل..!



    ~ تمت ~


    التعديل الأخير تم بواسطة أثير الفكر ; 7-12-2014 الساعة 01:55 AM سبب آخر: مخملية الحروف كما عهدتك :")

  2. الأعضاء الذين يشكرون تشيزوكو على هذا الموضوع:


المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...