" حياة "

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 15 من 15

الموضوع: " حياة "

مشاهدة المواضيع

  1. #1

    الصورة الرمزية kaw Matsuda

    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المـشـــاركــات
    203
    الــــدولــــــــة
    السعودية
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:

    افتراضي " حياة "

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


    هذه الحكاية عاشت بين جنبات قلبي وبنات فكري طويلاً
    كانت بدايتها وليدة لحظة ما .. ثم توالت الأحداث في ذهني وقررت بل وتحمست
    لإكمالها لإيصال رسالة ما .. سبق ونشرت جزءًا منها في موضوع " بقعة حبر "
    وشكرًا للآنستين بوح وتشيزوكو على ردهما آنذاك ^^
    أخيرًا أقول .. أهدي هذه الحكاية
    لجميع الأرواح المتعبة




    (١)
    - ســـ ...
    وابتلع الرصاصة قبل أن تنطلق من لسانه وتخترق صدره مجددًا مستقرةً في صدر الآخر !
    بعض الكلمات تصيب في مقتل وهو يدرك ذلك جيدًا، لذا اختار أهون الشرين وفضّل أن يصمت .. ظل الآخر ينظر إليه بحيرة، عاقدًا ذراعيه أمام صدره، والعقدة في جبينه تُقرّب المسافة بين حاجبيه أكثر، خرج صوته قلقًا :
    - سـ .. ماذا ؟ لم بترت حديثك فجأة ؟ ماذا كنت تريد أن تقول ؟
    أدار إليه ظهره .. واقترب من زجاج النافذة المفتوح ليسند جبينه عليه ..
    داعبت شفتيه ابتسامة عابثة لا تتناسب وجدية الموقف أبدًا، ما الذي كان سيقوله بحق الله ؟!
    (سأموت .. أيامي معدودة .. جئتُ متأخرًا مع الأسف.. هذا ما أخبرني الأطباء به ببساطة ! )
    أساسًا صديقه لا يعلم أنه مصاب بمرض ما .. توغل داخل عروقه وتفشى فيها كالسم الزعاف
    لماذا يُقلق راحته الآن ؟
    مذ علم بهذا الخبر حبسه في صدره وأوصد عليه بمفتاح ثم ألقاه في ذاكرة النسيان .. هذه الذاكرة المزدحمة بخيباته الكثيرة التي ود أن ينساها يومًا لكن هيهات !
    بقي على صمته يناجي بنظراته الأرصفة والشوارع الشبه خالية من السيارات في هذه الساعة المبكرة من الصباح .. والآخر يحترق بانتظاره ! تقدم منه - بصبر يوشك على النفاد - وهو يضغط على حروفه بشدة :
    - تكلم .. منذ البارحة وأنت لست على سجيتك .. ما الذي حدث ؟ توقف عن إخافتي
    التفت إليه أخيرًا وكسر حاجز الصمت بصوت موقن :
    - ستُمطِر !
    وحدث ما قال .. سقطت قطرة ماء من السماء المكفهرة، تبعتها قطرات أخرى غزيرة .. اندفعت موجة من الهواء البارد باتجاههما، متزامنةً مع تسبيح الرعد في الأفق بصوت مجلجل ترهب منه القلوب ..
    كانت السماء مُلبّدة بالغيوم منذ ساعات الفجر الأولى لكنه لم يكن يعلم ذلك، ولم تكن حالته النفسية أصلاً تسمح له بتتبع أخبار الطقس، ولا الانتباه لوجه السماء المتجهم .. أو ربما كان منتبهًا لكل ذلك .. من يدري ؟!
    لكنه على أي حال استعمل لفظة ( ستمطر ) مجازًا .. كان يعني أنها ستمطر فرجًا عليه بإذن الله، رغم كل ما سمعه من الأطباء ..
    المفترض أن يكون راقدًا الآن على أحد أسرّة المستشفى، يتلقى العلاجات وتحيطه الأسلاك من كل مكان، لكنه لم يرغب بسجن نفسه بين الأدوية وجدران المستشفى الباردة - إن كانت هذه آخر أيام حياته فعلاً -
    لذا وقّع على الخروج مع تحمل المسؤولية الكاملة فيما لو حدث له أي شيء سيء لا سمح الله ..
    ولدهشته كان ذلك أول قرار يعتبره جادًا ويقرر حمله على عاتقيه وتحمل كافّة تبعاته . هو لا يخشى الموت لذاته، بل لأنه يدرك أن رصيد أعماله الصالحة ضئيل جدًا، هو الذي عاش طوال حياته يقدّس اللحظات الأخيرة ويراكم كل أعماله المهمة، ولا يُنجزها حتى تحين الساعة الحرجة الضيقة .. وأحيانًا أخرى يضطر لتركها - أي أعماله - إن تأزم الموقف كثيرًا ..
    شعر وكأنه أفاق من سباته العميق عمق غفلته وتناسيه لنهايته المحتومة
    وكأنه كان يركض طوال حياته في نفق طويل مظلم، وحين وصل لنهايته بعد عناء وجده مسدودًا !
    القرار الآخر الجاد الذي اعتزم فعله هو أنه سيفعل كل ما كان يجدر به فعله في هذه الأيام القليلة .. وأولها ...
    دوّى الرعد في الأفق مجددًا ..
    الحيرة الممزوجة بالخوف ما زالت تحتضن نظرات رفيقه وانتقلت إلى لسانه الذي هتف :
    - محمود ؟
    ابتسم ابتسامة واسعة علها تبدد خوف صديقه لكنها زادته أكثر :
    - شكرًا على كل شيء .. سأرحل الآن
    أعترض الآخر بانزعاج :
    - تأتيني بصمت وتغادرني بصمت ! ثم كيف ستذهب مع هذه الأجواء المضطربة ؟ على الأقل انتظر حتى يتوقف المطر
    هز رأسه برفض ورغبة جامحة تحثه على الخروج .. يريد أن يبتل بماء المطر - قبل أن يتوقف - من رأسه إلى أخمص قدميه ..
    عانقت قدماه الحافيتان أرضية الحجرة الباردة متوجهًا نحو الباب المفتوح .. انحنى جالسًا على عتبة المدخل الأمامية ليرتدي حذائه .. ثم نهض ملوحًا لصديقه الذي لحقه بملامح متبرمة :
    - سأعود لاحقًا .. أما الآن فأنا مضطر للرحيل فعلاً، ثمة شيء مهم ينبغي عليّ فعله
    وأكمل في سره " بعد أن أغسل روحي جيدًا بماء المطر "
    أوصد الباب .. تاركًا رفيقه الذي عاد إلى غرفته ليغلق النافذة التي تسكب مزيدًا من القطرات إلى الداخل، وتسمح لها بالانزلاق على الجدار، لتستقر على الأرض أخيرًا مُكوّنة بركة صغيرة من الماء
    ذهنه ما زال موقدًا بالتفكير في تصرفات صديقه العجيبة ..
    ستمطر ؟! هل أتى إلى شقته في هذا الوقت المبكر من الصباح ليخبره بذلك فقط ؟!
    أي سر تخبئه يا محمود ؟!


    ×××


    انعطف يسارًا ليسلك الطريق غير المُعبّد المتفرع من الشارع الرئيسي؛ آملاً أن يُوصله لوجهته المطلوبة في أقصر فترة زمنية ممكنة ..
    قطرات الماء تنزلق تباعًا على زجاج السيارة الأمامي، والمسّاحات تقوم بعملها بلا كلل .. الرؤية تنحجب عنه ثم تعود وهكذا دواليك .. مرر أنامله على جانبي ذقنه في محاولة للتركيز .. لم يزر هذه المنطقة منذ أمد بعيد ..
    أخيرًا أطفأ المحرك، ترجل ببطء وبصره يرنو للمنزل القديم المكوّن من طابق واحد، وسقفه المصنوع من القرميد الأحمر، وقد امتدت أمامه مساحة بسيطة مُغطاة بالحشائش الخضراء، يحيطها سياج قصير أبيض اللون
    كانت أغلب بيوت المنطقة على هذه الشاكلة ..
    رغم أن قدميه تغوصان داخل التربة الموحلة .. إلا إنه لم يتذمر أو يغضب، الطبيعة المحيطة بالمكان منحته شعورًا عجيبًا بالراحة والاسترخاء ..
    اجتاز المساحة الخضراء فالعتبات الحجرية أمام المدخل قبل أن يقرع الجرس مرتين متتابعتين .. التفكير وحصاره المشدد على عقله ما زال قائمًا، كان عليه أن يكون هنا في وقت أبكر من هذا بكثير
    انفتح الباب .. لازمت الدهشة تلك الواقفة خلفه وهي تتأمل حالة الزائر المزرية التي أنستها أن تُرحب به .. ثيابه المبتلة بماء المطر، حذاؤه الملطخ بالطين، شعره المتلبّد، ووجهه الشاحب .. رباه كم ساعة ظل صامدًا في مواجهة هذه الأجواء الماطرة الباردة ؟ هذا المجنون !
    ابتلعت ذهولها عنوة وهي تفسح له المجال دون أن تتكلم .. لم تظهر عليه أدنى بادرة تُنبئ بدخوله، هزّ رأسه بتمهل وتراجع خطوة للخلف :
    -أتيتُ لأخذ "حياة " فقط ..
    وكأنه حلم .. لم تستوعب أنه يقف أمامها بملامحه التي افتقدتها، مع أنه يبدو مُرهقًا للغاية ..
    غطى فمه بيده محاولاً خنق نوبة سعال اجتاحته بقوة .. أشفقت عليه وحاولت إقناعه بمنطقية :
    - لنتفاهم بالداخل يا بني .. ستمرض إن بقيت واقفًا بالخارج أكثر من هذا
    كاد أن يضحك ملء فاه .. لقد أصابه المرض وانتهى .. تمنى أن يدفن رأسه في حجرها ويخبرها كم هو متعب ونادم بشدة على كل شيء .. متأكد أنها ستستقبل جميع آلامه وتهونّها عليه، لكن بأي حق يفعل ذلك ؟
    قطّب بضيق إثر تفكيره السابق :
    - سأغادر إن لم ترغبي بمناداة حياة
    قبضت على ذراعه بسرعة لتمنعه من ذلك .. أما كفاه غياب تلك السنين الطوال ليرحل مجددًا بهذه البساطة ؟
    - أرجوك لا تذهب .. سأناديها لكن لا يصح أن تقابلها بهذا المنظر يا بني .. جفف نفسك وانتظر ريثما يتوقف المطر ثم افعل ما تشاء
    نظر لمظهره الرث .. لقد نجحت في إقناعه حقًا .. ألقى حذاءه بإهمال قرب المدخل وأغلق الباب، ثم تبع خطوات المرأة التي لم تتوقف إلا أمام دورة المياه .. استدارت إليه وحثته بلطف :
    - تفضل يا بني .. سأحضر لك منشفة نظيفة وبقية المستلزمات، تصرف وكأنك في منزلك


    ×××


    تهالك على الأريكة الضخمة في الصالة الواسعة نسبيًا بعد أن انتهى من أخذ حمامه، وارتدى نفس ثيابه الرطبة التي تم تجفيفها، مرهق هو بحق .. الكثير من الأمور متراكبة فوق رأسه، لا يدرِ بأيها يبدأ، وما الذي لا ضير بتأجيله منها .. شيء ما -يجهل كنهه - يُخبره أن انطلاقته الحقيقية نحو الحياة ستنبثق من هنا رغم أنف كل المعوقات ..
    ابتسم بسخرية .. حياة ؟ وأي حياة تنتظره بالضبط والموت قاب قوسين منه أو أدنى؟ ومنذ متى كان جادًا في إزاحة العقبات التي تعترض دربه ؟ كم هو بارع في مواساة نفسه، أو ربما هذه طريقته الجديدة في إكمال لعبة الهروب السخيفة .. يشعر أن رأسه بات ثقيلاً، يبدو أنه يهذي مجددًا ..


    أقبلت عمته من حجرتها ولمحت جلسته المسترخية فوق المقعد، رقبته مائلة إلى الجهة اليُسرى، وجفناه مغلقان باستسلام .. هل غفى بدون أن يشعر ؟ كانت ستخبره أن حياة تغط في نوم عميق وربما لن تستيقظ قبل ساعة من الآن، لكن عزّ عليها إيقاظه خصوصًا بعد رؤية الإنهاك الذي يُغرق بدنه
    هل تواجهه مشاكل مع أبيه ؟ أم في عمله ؟ يظهر أن الأمر أكبر من ذلك بكثير، وملامح وجهه - حتى وهو نائم- خير دليل على ذلك .
    لم يُفق من رقاده بطريقة عادية، الكابوس الأخير الذي باغته عكّر صفو راحته وجعله يفتح عينيه على اتساعهما برعب بالغ .. احتاج بضعة ثوان إضافية حتى يستوعب حقيقة الأمر ويتذكر أنه ينام في بيت عمته الكبرى " نجاة " .. تباطأت ضربات قلبه تدريجيًا .. لحظ لتوه الغطاء الرمادي الذي يحجب نصفه الأسفل فقط، نظرًا لنومه في وضعية الجلوس .. راقب أجنحة المروحة التي تدور بتمهل وغمرت أنفه رائحة البخور التي انتشرت في الجو من حيث لا يعلم .. قبل أن يفكر بمعاودة النوم من عدمه، طالعه وجه عمته الآتية من المطبخ .. بثوبها الأخضر الفضفاض وابتسامتها الحنونة :
    - استيقظت ؟
    ذكرته ابتسامتها بالسبب الحقيقي لقدومه هنا فأزاح الغطاء عنه مباشرة وتساءل :
    - أين حياة ؟
    - في غرفتها .. لحظة واحدة سأناديها
    ذهبت عمته وتركته يتخبط في مشاعره .. وقف ثم جلس وهو يفرك جبينه بتوتر وترقب .. هل ستذكره ؟ بالأحرى هل ستوافق على الذهاب معه ؟
    أقبلت أخيرًا ..
    بقي يحدق فيها لثوانٍ معدودة .. كانت واقفة بهدوء بجوار عمته، ثوبها الصوفي يخفي جسدها الغض، بشرتها بيضاء، وجنتاها متوردتان بحلاوة،
    وحجمها يبدو أصغر من عمرها .. لم يعرف ماذا يقول .. توجس من صمتها .. لا شك في أن رؤيته لم تسرها ولا يقع اللوم عليها طبعًا .. رباه .. هل ستتخلى عنه كلا الحياتين ؟!
    ناداها بخفوت :
    - حياة
    بددت جميع مخاوفه عندما اندفعت باتجاهه فجأة وألقت نفسها في حجره تعانقه بشوق .. عقدت الدهشة لسانه وغاص قلبه بين ضلوعه .. لم يتوقع استقبالاً كهذا ولا في أشد أحلامه جمالاً .. أليست قطعة من روحه ؟ كيف نسيها في غمرة مشاغله الدنيوية التافهة ؟
    أبعدها عنه قليلاً لينظر إليها، ابتسمت له بكل شفافية وأسرت روحه عندما أشرق وجهها الجميل وتألقت عيناها العسليتان وهي تهتف بسعادة :
    - أبي
    يا إلهي ! ستقتله براءة ! أي أب يرزقه الله نعمة كهذه ويجحدها ؟ لماذا لم يأت قبل الآن ؟ سيكون أنانيًا لو قطف هذه الوردة من تربتها الطاهرة وغرسها في بيئة أخرى تذبل فيها سريعًا !
    من الخير لها ألا يعلّق قلبها به .. نعم هي فرحة لرؤيته كثيرًا، عيناها تخبرناه بذلك وكفى بحديث العيون صدقًا .. جلّى حنجرته قبل أن يقول :
    - كيف حالك حياة ؟
    لا تزال ابتسامتها الحلوة تزين ثغرها :
    - الحمد لله أبي .. ماذا عنك ؟
    لقد قرر .. لن يأخذها معه ! عليه أن ينهي الموضوع الآن وحالاً :
    - أتيت لألقي التحية فقط .. أنا مغادر .. السلام عليكم
    نهض واستدار ناحية الباب بسرعة كبيرة .. يا للخيبة ها هو يفشل في تحقيق أول أهدافه الوليدة، لا لم يفشل .. سيُطل عليها من فترة لأخرى، لن ينسها كما في السابق .. أجل .. مع ذلك لماذا يحس أن قلبه يؤلمه بشدة وأنه على وشك البكاء ؟
    البكاء ؟! ابتسم بمرارة .. لم يشعر بعمته التي تبعته بسرعة، وقفت بينه وبين باب الخروج :
    - مهلاً مهلاً محمود، هذه ليست نيتك من البداية ! لقد كنت تريد أخذها معك .. ما الذي حصل الآن ؟!
    تنحنح مرارًا قبل أن ينعقد حاجبيه رغمًا عنه :
    - تبدو سعيدة هنا .. لا داعي لمغادرتها .. ثم إنها تعرفك أكثر مني
    لم تصدق أنه يحتج بمثل هذه الأعذار الواهية :
    - إنها سعيدة لقدومك .. لا تخبرني أنك لم تشعر بذلك ! وكذلك سبق وجهزت حقيبتها وأخبرتها برغبتك بأخذها ووافقت بسرور .. هي تريد الذهاب معك محمود
    عضّ على نواجذه بغيظ .. لم كان على عمته فعل أمور غير ضرورية ؟ والأهم لم هذه الصغيرة فرحة برؤيته هكذا وكأنه .. وكأنها ... التفت إلى ابنته ببطء وانسحق قلبه في ذات اللحظة عندما رأى تقوس شفتيها للأسفل، ونظرات عينيها المتألمة المترجية، هل اعتقدت أنه لا يحبها ولا يأبه لأمرها ؟ " اااه ماذا أفعل ؟ حسنًا إنها تنجح ! "
    للمرة الثانية تجبره تلك العينان على تغيير قراره في ثوانٍ قليلة، ليعلن موافقته أخيرًا باستقبال حياة في مسكنها الجديد .
    التعديل الأخير تم بواسطة kaw Matsuda ; 13-1-2016 الساعة 02:31 PM


المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...