تعيس بئيس! (الحلقة السادسة)
الكاتب: عمر قزيحة _ عام 1999م.
انزلقت بغتة لأسقط وروايتي...
هناك في الساقية، شبه المتجمدة!!
حاولت الصراخ لكن لم أستطع، ربما بسبب الآلام الفظيعة التي ملأت كياني كله...
ومَرَّ بغتة رجل، فحاولتُ أن أمدَّ يدي بقدر المستطاع نحوه، لكنه لم يبادر بالمثل!
فوجئت به يهتف في ذهول:
_ واااااو!! كيف تجرؤ على السباحة هنا؟؟
لم أفهم بادئ الأمر هل يتكلم بجد أم أنه يمزح، لولا أنه تابع بانبهار:
_ الله، الله، الله، الله... ما أروعك! أنت مدهش، أنت بطل، أنت قمت بما لم يفعله أحد من قبلك، على الأقل منذ ولدتُ أنا، أي منذ خمسة وخمسين عامًا، لا، لا... بل منذ خمسة وخمسين عامًا وستة أشهر وثلاثة أيام، و...
كنت هنا قد تهاويت تمامًا، وشعرت بالساقية تكاد تجرفني في مياهها، وأنني أرى الموت بعينيَّ...
عينيَّ المسكينتين اللتين اتسعتا عن آخرهما ذهولًا وقهرًا وغضبًا، والرجل يصرخ متحمسًا:
_ انظروا إليه انظروا! يا لها من مهارة في السباحة، (فشر في عين) سمك القرش نفسه أن يسبح مثله!
تلاشى وعيي، ولم أشعر إلا بأيادٍ تمسك بي وتجذبني بقوة، وأصوات ملهوفة تصرخ في أذني لتسألني عن أمور لم أفهمها، وكنت أستعيد وعيي أحيانًا لأرى أنني ممدد قرب نيران مشتعلة، وأنني أبكي مما أشعر به من التجمد...
لقد أفادني صراخ الرجل الأبله في شيء واحد، أنه جذب بعض الناس إلينا، ولولا ذلك لكنت قد متُّ، وهو يتفرج ويصرخ متحمسًا منبهرًا بي!!
قضيت ساعات ممددًا تحت أشعة الشمس، بجانب النيران، ليستعيد وجهي لونه الحقيقي، ويستعيد جسدي القدرة على الحركة...
وكان أول ما أعلنته رغبتي في العودة إلى قريتي وعلى الفور...
فلقد كرهت ذلك المكان كرهًا شديدًا...
ومع عودتي، وعجز ذهني عن إعادة إنتاج تلك الرواية، واكتفائي بقصص قصيرة، كان لا بد من ملء الفراغ...
لذا اشتريت مسدسًا...
دمية بالطبع، وليس حقيقيًا...
ووضعته في حزامي...
وأحسست أنني أصبحت رجلًا...
وأنه لا يمكنني السير بدونه...
وبدأت أعجب كيف لم أشترِ مسدسًا من قبل...
من المؤكد أنه لو كان معي مسدس، لما جرؤ المدير أو الأساتذة، على معاملتي إلا كما يحلو لي!!
هذه طبعًا خواطر سخيفة لا محل لها من الإعراب...
لكنني كنت مقتنعًا بها...
آهٍ من المراهقة!!
وآهٍ من التعاسة!!
فحتى في أحلامي لاحقتني تعاستي ...
ذلك اليوم، كنت مارًا قرب شلة من الشباب الأشقياء، فخطر لي أن أتباهى بأنني أملك مسدسًا ليعترفوا بزعامتي!!
وهكذا كشفت قليلًا عن القميص لأظهر مقبض المسدس...
لكن أحدهم لم يُعِرنِي انتباهًا...
فأعدت الكرة...
أكثر من مرة...
حتى بدأوا يشيرون إليًّ...
وقبل أن أعبر عن سعادتي اتجهوا نحوي...
وجمدت مكاني من الخوف...
وبابتسامة شريرة، سحب أحدهم المسدس مني...
ثم بدأت الملحمة!!
ضربوني بمسدسي، حتى جعلوه غير واضح المعالم...
وكذلك وجهي!!
فرميت المسدس مقسمًا على ألا أقتني غيره أبدًا...
وبدا لي في تلك اللحظة كم كنت تافهًا...
وأخذت أسأل نفسي: متى كان المسدس يجعلنا رجالًا؟!
الهاتف الخلوي هو الذي يفعل ذلك!!
كيف لم أفكر في ذلك من قبل؟!
يا للغباء!!
اشتريت جهازًا (تالفًا بالطبع)...
أنت ترى أنني تافه؟؟
لكنك ستفعل نفس الشيء لو كنت في موضعي...
فمع كل الأسى واليأس اللذين مررت بهما، كان من المحتم أن أبحث عما أشعر معه بالأمان...
نعم، الأمان...
لن يضربني أحد لأنني أحمل جهازًا تالفًا...
بل لن يعرف أحد أنه تالف...
يمكنني التذرع بأنني لا أملك وحدات اتصال لو طلب أحدهم استعمال هاتفي...
لكن تعاستي لم تترك الأمر يمر بسلام...
فبعد أيام قليلة، ذهبنا إلى عرس أحد أصدقاء العائلة...
واجتمع الرجال أمام مائدة حَوَتِ المتناقضات من المأكولات والمشروبات...
وما زلت لا أفهم كيف يجتمع عصير الأناناس المجلد مع القهوة الملتهبة؟!
المهم أن أحد الرجال تذكر بغتة أنه نسي إخبار أولاده بشيء بالغ الأهمية يتعلق بعمله...
وبتوتر سأل:
_ هل يمتلك أحدكم جهازًا خليويًا؟
وبلا أدق تفكير أجبته:
_ نعم، أنا.
نظر إلي والدي بدهشة، لكني أبرزت جهازي وأنا أسأل الرجل:
_ كم الرقم؟!
أملاه عليَّ، فأخذت أضرب الأزرار، ثم وضعت الجهاز على أذني للحظات قلت بعدها:
_ الهاتف يرن، لكن لا أحد يرد!!
وهنا حُلَّتْ عقدة لسان والدي، فسألني:
_ من أين لك هذا الهاتف الخليوي؟!
أجبته بترفع وكبرياء:
_ كل الرجال لديهم هاتف خليوي.
وكانت إهانة غير مقصودة، فقد بدأ الهمس والغمز تجاه والدي، وأنقذني من حرجي هتاف الرجل المتضرع :
_ هل تستطيع إعادة الاتصال؟!
أجبت بغرور :
_ بضربة زر أعيد الاتصال كله، إنها التكنولوجيا التي يمتاز بها جهازي.
قال أحد الحضور، وهو رجل محترم:
_ هذه ليست ميزة لهاتفك، فلدي تلفون عادي، وزر redial كفيل بإعادة الـ...
قاطعته بازدراء:
_ لا يتحدث في الخليوي إلا من يفهم به!!
احمر وجه الرجل، حتى غدا كالطماطم الناضجة، ولولا تضامن الناس مع صاحب الاتصال لأوسعوني ضربًا...
المهم أنني تظاهرت بإعادة الاتصال مرات عدة، حتى أصابني الضجر، فقلت للرجل:
_ لا فائدة، الهاتف يرن ولا أحد يرد، من المؤكد أن شيئًا قد حدث لهم!!
كاد الرجل يفقد وعيه رعبًا، وعلى الفور استعد الجميع للذهاب معه إلى بيته، لولا وصول آخر الحضور في تلك اللحظة، وكان (للأسف) يحمل جهازًا خليويًا، وفور معرفته بالأمر، تطوع لإجراء الاتصال، فأسرعت أتظاهر بإعادته، وهززت رأسي آسفًا، لكنه تجاهلني، وضرب الرقم و...،
وحدث الاتصال!!
وأخذ الرجل يصرخ غاضبًا عبر الجهاز :
_ ماذا أصابكم؟! كم مرة يجب أن يرن الهاتف كي تتفضلوا بالرد؟!!
صمت لحظة قبل أن يهتف بدهشة:
_ ماذا؟! إنها المرة الأولى التي يرن فيها الهاتف؟!!
خفض والدي رأسه خجلًا، وواصلت طعامي وشرابي كأن شيئًا لم يكن، فانقض الناس عليَّ، وأخذوا يغمرونني بأصناف الطعام والشراب، وبدأت أتنقل من الجليد إلى الجحيم في لحظات، ونالني من الصفعات ما لا يعد ولا يحصى، ولولا كرامة والدي لأجهزوا علي حتمًا...
هل رأيت مدى تعاستي؟!
لعلك ترى أنني أستحق ذلك؟!
ولكن، ما لا أستحقه، أن الجميع اتخذوا من ذلك مادة للسخرية مني...
فقررت ترك قريتي فترة ما...
ومن دون أن أخبر أهلي، ذهبت إلى المنطقة المجاورة بالتاكسي...
ثم توجهت إلى موقف الحافلات...
وركبت أول حافلة صادفتها من دون أن أسأل عن وجهتها...
وفي الطريق، وبسبب السرعة الفائقة التي ينطلق بها السائق، والحركات البهلوانية التي يقوم بها رغم اعتراض الركاب... اصطدمت الحافلة بعمود كهرباء بعنف، وانقلبت، وأخذت تتدحرج مرات عديدة...
ثم استقرت...
وقد اشتعلت فيها النيران!!
تابعوا معنا!
ملحوظة: حادثتا المسدس الزائف وجهاز الخلوي التالف حقيقيتان، حصلتا لشخص عرفناه تلك الأيام، وكان يحب التفاخر بما هو موجود وغير موجود، وبما لا يصدقه العقل نهائيًا، غير أنه في الحادثة الأولى رحمه الأولاد الأشقياء حينما أخذ يبكي ويسترحم ويؤكد أنه كان يمزح معهم فحسب، ولم يكسروا المسدس على وجهه، بل ربما اكتفوا ببعض اللكمات لا أكثر، وحادثة محاولة اتصاله في العرس حقيقية بتفاصيلها كلها.
(وطبعًا الحوار والوصف في الحادثة من عندي).

رد مع اقتباس

المفضلات