قبل فترة طويلة , كتبت رواية بعنوان (فتاة الجبل الفاتنة) ولقد نال استحسان الكثيرين , والآن إليكم الجزء الثاني من الرواية , وهي من تأليفي شخصيا ..

(الفصل الأول : رياح غامضة .. من دوفر )

بعيداً عن أحضان الجبل الهادئة , نحن الآن في ضاحية من ضواحي لندن البعيدة عن العمران, في الريف الإنجليزي العريق , والشمس تتثاءب بنعومة خلف الأفق في ساعات الصباح الأولى , و الضباب البريطاني الشهير مازال يلف المكان, في أجواء مألوفة ..
في ذلك الريف الهادئ شيد قصر آل (ستيوارت), حيث الغابات المحتضنة أشجارها منذ سنوات , وبالرغم من قسوة الحرب , إلا أن الطبيعة اللندنية استعادت قواها تدريجياً , وعادت تمارس حياتها الاعتيادية , الطيور رجعت تعانق زرقة السماء الصافية , والنهر الجاري يتدفق بحيويته المعتادة , حاملاً معه الرقة وخريره العذب ..
والسناجب الصغير ة على الأغصان , تقضم حبات الجوز بأسنانها الرفيعة , لتلج بيوتها في سرعة مع أدنى صوت يتناهى لمسامعها ..
عاد الوجود كما كان , وكأنما شيئاً لم يحدث ..
وفي قصر (ستيوارت) , حدث الكثير بعد عودة (ويلي) ..
صارحه عمه الحبيب بسر غموضه وصمته الدائمين , وقرر (ويلي) احتمال عمه أكثر من ذي قبل , إكراماً لعطفه وحنانه , لم يتغير في حياتهما الكثير , مازال (وليم) كما هو , يحب عزل نفسه في مرسمه , صموتاً , ولكنه لم يعد نادر الحديث كما في السابق بالكاد حدث تغير طفيف على شخصيته, أصبح يجاذب ابن أخيه أطراف الحديث بين الفينة والفينة , وان كانت بضع كلمات , لكنها كافية له .

في مرسمه الغامض , الموجود في نهاية رواق طويل بالطابق الأسفل للقصر , حيث الهواء المتجدد والنوافذ المطلة على حديقة القصر , والتي يوليها البستاني ـ بأمر (ويلي) ـ جل رعايته واهتمامه , قبع (وليم ستيوارت) في تلك الساعة المبكرة , يحتسي القهوة المرة التي يعشق , وهو يقف في منتصف مرسمه , متطلعاً في شرود إلى اللوحات المجنونة المعلقة منها والملقاة أرضاً في إهمال , وقبضات الأوراق المتناثرة في كل المرسم , أسند ظهره إلى حاجز النافذة المفتوحة خلفه , ووضع قدح القهوة الفارغ على المنضدة الرخامية قربه , ليلتقط رسالة ما , وأخذ يعيد قراءتها , والنسيم اللطيف يداعب قماش الدانتيلا خلفه , ويعبث بمقدمة شعره الذهبي الجميل ويحاول بنعومته انتزاع الرسالة منه , كل هذا الجمال غاب عن ذهنه وإمارات التركيز تحتل الجانب الأعظم من وجهه , وعيناه تجري على الكلمات في بطء وتوتر ..
حمل له الخادم هذا الصباح , رسالة وصلته من إحدى قريبات زوجته الراحلة , رسالة غريبة من أرملة صغيرة , تطلب منه استضافتها في قصره لبضعة أشهر , بغية علاج شقيقتها الصغرى على يد طبيب شهير في المدينة , وبسبب بعد المسافة عن مسكنها وأسرتها , قررت المكوث في قصره حتى يتم شفاء شقيقتها الصغرى ..
قرع أحدهم باب مرسمه وقطع عليه حبل أفكاره , فرفع (وليم) عينيه عن الرسالة , وقال بصوته الهادئ :
ـ تفضل .
ولج (ويلي) المرسم مبتسماً في حنان , وهو يلق تحية الصباح بمودة , وأغلق الباب خلفه , وتطلع لعمه صامتاً محتفظاً بابتسامته , وأردف في مرح :
ـ أخبرني (جون) برغبتك في رؤيتي ..
تلاشت ابتسامته تدريجياً , عندما تنهد عمه في حرارة , وهو يقدم له الرسالة , فالتقى حاجبيه وهو يتنقل بصره بين الورقة الممدودة وعيني عمه الذابلة , وألتقط الرسالة وقرأها في عناية ..
عزيزي (وليم ستيوارت) ..
سنوات مضت ولم نتقابل , وأراهنك أن لا أثر لملامحي في ذاكرتك المتخمة بالجراح , عقب رحيل ابنة عمتي ـ زوجتك ـ والأسباب عديدة , وكلانا يعرفها , فلا داع للخوض في غمارها ..
أنا (كريستين هارولد) , المرأة التي رأت الكثير في حياتها , بأكثر مما تحتمله سنوات عمرها الأربع والعشرين , تزوجت وترملت , مات زوجي في الحرب كما زوجتك , وغرقت في الحزن والوحدة , ولا أرى في الدنيا سواك لأبث له بهمومي وأحزاني ..
عزيزي ..
لست أستدر عطفك , ولكن أناشدك العون في مسألة لا أظن صدرك سيضيق بها , شقيقتي الصغرى (ديانا) تعان من عيب خلقي في القلب , وتحتاج لمتابعة مستمرة من الدكتور (ألبرت جونز) , والذي يعمل في مستشفى لندن , وبما أننا نقيم في (دوفر) , فمن الصعب علينا زيارته على نحو أسبوعي , لهذا قرر والدي ترشيحك لأقيم في قصرك , مع معرفته التامة بوجودك فيه وحدك , فلست أظنك ترفض رفقتي طوال مدة علاج أختي .. لاسيما ألا أقارب لنا هنا سواك .. صدقني , لن تندم على استضافتي , كلانا وحيد , وكلانا يحتاج لبعض التغيير , والنذر اليسير من الاهتمام ..

مع فائق تقديري / كريستين هارولد

طغى التوتر على قسمات (ويلي) وهو يبعد الرسالة عن عينيه , ورمق عمه في اهتمام وعمق , في حين أشعل (وليم) سيجاراً, ونفث مع أنفاسه هموم قادمة , فسأله (ويلي) في حذر:
ـ وما رأيك يا عمي ؟
عقد (وليم)أحد ساعديه أمام صدره وثنى الآخر , وجذب أنفاس أخرى من سيجاره , وغمغم في قلة حيلة:
ـ سأستضيفها كما تريد .
وسعل في شدة وكأنما ذكر أمراً يفوق قدرته على الصبر , فتوترت أعصاب (ويلي) واستمر يرمق عمه في صمت قلق , وهبات شذى الصباح تصر على اللهو بشعره , من النافذة خلفه ..
هو أعلم الناس بحالة عمه الحبيب ..
وهذه المرأة لا ريب تخفي أمراً ما ..
إحساسه الداخلي يخبره بوجود متاعب قادمة في الطريق ..
وحالة عمه لا تحتمل مزيداً من الضغوط ..
مطلقاً..
ماذا لو حدث بقدومها الأسوأ ؟
هل سيحتمل عمه مزيداً من الأحزان ؟
أم أنه بحاجة حقاً لوجود امرأة في حياته ؟
قال (وليم ) بعد فترة من الصمت , وهو يسحق سيجاره بحذائه ومازال في العقب المزيد :
ـ عرفتها في طفولتها, كانت الفتنة مجسمة.
رمقه (ويلي) في إشفاق , ووضع الرسالة جانباً , وقال في رفق :
ـ أخشى أن يرهقك وجودها .
تطلع إليه في حيرة, وترك اللوحة البيضاء التي استعد للرسم عليها, فازدرد (ويلي) لعابه, مع نظرة عمه المتسائلة, فاستطرد في خفوت:
ـ أقصد أن القصر سيضم أشخاص سوانا, وأنت بالكاد تحتملني , و..
قاطعته ابتسامة عمه الدافئة , فتضرج وجهه بحرة الخجل , وشعر أنه أهان عمه دون قصد , وأشاح بوجهه حينما بسط عمه كفيه على كتفيه , وضغطهما في لطف , وسمعه يقول في حنان :
ـ أتخشى علي من امرأة ؟
تدفقت دماء الخجل أكثر لوجنتي (ويلي) وعجز تماماً عن الحديث , أو النظر لوجه عمه , ولام نفسه على عبارته ..
وان كانت شكوكه في مكانها السليم , فليس من حقه الاعتراض على ضيوف عمه , مهما كانوا ..
ومهما أنبأه إحساسه الداخلي بعدم الارتياح ..
لكن ما العمل ؟
وأين كانت تلك المرأة ؟
ولماذا الآن تحديداً ؟
وهل غايتها ما ذكرته كلمات الرسالة فقط ؟
أم أنها تخفي أمراً ؟
ماهذه الحيرة ...؟




ملاحظة / من دواعي سروري مشاركتي الرأي