::
::
الفصل الأولُ
طـِفـْـلًـــةٌ
" أيها الماضي..لا تغّيرنا كلما ابتعدنا عنك!"( محمود درويش)
نسيمُ الفجرِ يشعرني بجمال ابتداء وخطات الشروق ، و ذراتُ النسيم العليل تشي بي لأن أحلق في مخابئ الكون وأنهل من كل بستانٍ زهرة ..
يشعرني الصباح اللذيذ بدفقة أمل لا متناهية ، بطريقٍ جميلٍ يدفعني للعطاء .. ببدايةٍ واثقةٍ كما بدايتي..
وحدها شرفتي ، تقاسمني ابتسامات الربيع تلك .. مع فنجان الحليب و ملعقة العسل ..
وذكرياتي ..
كنتُ طفلةً ، أبصرُ الكون زهرة ، والحياة عمرًا رائعًا أجمع فيه ألعابي .. وحتى والدي ، ظننتُه يومًا خارج قائمة العائلة ..ولم أحبَّ شيئًا كما أمـي .. التي كنتُ أغرقُ في ابتسامتها كل يومٍ ، و تعقدُ فوق رأسي بعضًا من خصلاتي حتى أبتسم جذلى ، كنتُ هادئة الطباع خجولة لا أشاركُ في اصطخاب الصغارِ عدا مع خالي ( عزوز) إذ كان صديقي ، صديق الطفولة العزيز ، ألاعبه حتى تتراقص وجناتنا فرحًا عبثيًا ، نلهثُ حين نركض وسط المزارع المنتعشة بهجةً ، نبني قلاع الطين و نلطخُ ثيابنا بفاكهةِ الفرح ، ندخلُ البيوت المتهرئة طينًا و ننشرها حبًا ، نصعدُ الجبال و نرتقي السحاب ، نحاولُ الوصول للسماءِ جذلًا ، نلاعب الحيواناتِ من حولنا ، ثم نهجع مع سحر الغروبِ لفرشنا ، حالمَينِ بالغدِ القريب ..
وقتها ، كنتُ ولازلتُ (عذاري) البريئة ، التي تشبهُ طفلةً تنشدُ للقطارِ باسمةً : قَدِمَ قطاري من بيروت ..
وقتها ، كان الفرحُ جزءًا من خفقاتي ، و كان (عزوز) جزءًا آخر من مملكتي ، و كذا جاء البقيةُ ..وحتى هذه اللحظاتِ ما زلتُ ألاطفه بـ (عزوز) الاسمُ الذي أردف مع اسمه مذ ذلك الحين ..
كلما تذكرتُ تلك اللحظاتِ ، وتذكرتُ مواقفي الصغيرة .. ابتسمتُ ، مواقفي التي ما فتئت أثبتُ فيها قوتي وصلابتي ، والتي أنال آخرها جزاء فعلتي ، إما بالتوبيخٍ أو بالذهابِ للمشفى أو بلا خسائر ، وتذكرتُ جدتي الرقيقة ، وحرب الكويت .. و كفاح والدي للحفاظ علينا ..حينها أتوق لأن أعود تلك الطفلة الصغيرة ، أشقى بحزنِ صديقي ، أجمعُ طعام النمل ، أنادي أمي وأبكي لتضمد جرحي ، أنتظرُ الغد بشوقٍ ليس يهدأ ..طفلةً حرةً ، تلون المطر ، وتجمع قطر الندى ، وتعيد بهاء القمر حلوًا ، و تبحثُ عن بلاد الأحلام السعيدة ..
في مراحل حياتي الأولى .. وعند عتبات المدرسة دلفتُ بخوفٍ في ثوبي الرمادي ، وبكيتُ بشدة في أسبوعِ اللعب*، وحين بدأت المعلمةُ بعدِّ الأسماء ذكرت اسمًا مشابهًا لاسم أختي التي تدرسُ الصف الثالث الابتدائي وقتها ، فتساءلتُ ببراءةٍ صرفة : (فلانة) هذه أختي ؟! كيف علموا عنها ؟
وقتها ، أردتُ التشبث بأختي .. رفضتُ الحلوى و أصناف ما عُرِضَ عليَّ ، حتى نادوا : ( فلانة ) تُنشِدُ الآن ..
انتشيتُ فرحةً وركضتُ أنظرُ أختي ، لأجدها فتاةً أخرى وأكمل النحيب ..
ضاق الجمع ذرعًا بي فما كان من فتاتين إلا أن عرضتاني على الفصول فصلًا فصلًا ، أملًا أن نجد أختي ، تفتحان باب الفصل وتسألان : أخت من هذه ؟!
وببراءةٍ أتتبع الوجوه المتصفحة لي ، ونتحركُ عبر الفصول مرارًا ، حتى وصلنا لصف أختي فردت : أنــا
رمقتني المعلمةُ وقتها ثم وافقت على دخولي الفصل على عهدٍ أن أنتظر أختي في المراتِ القادمةِ ، فجلستُ مسرورةً بجانبها ، بينما تحركت الفتاة جانبها لمكانٍ آخر ..
وفي الأسبوع الثاني تمَّ اختيار الفصول ، كنت في الفصل الأول بين الفصول **، حينها ..تطلّعتْ إلي فتاةٌ تُدعى ( سعيدة) .. سعيدةُ المبسمِ ، جميلة الحركة .. مشاكسةٌ تحبُّ التنقل بين الطاولات و القفز فوقها مع البقية ..وأرقُبُها جاهلةً بنظام الفصلِ و نظامِ ترتيب الفتيات ، ومعنى كلمة: "فصل" ..
كانت مضامين حياتي الصغيرة التي تخصني هي كلّ حياتي ، أما محيطُ المدرسةِ فوقتها لم أعرف ماذا يعني أن أذهب للمدرسةِ ، وأقابلَ الصديقاتِ أو حتى أفضي بما لديَّ من جواهر ..
اقتربت (سعيدة) مني وسألت بلطفٍ : ما اسمكِ ؟
-.....
فكرتُ برهةً : اسمي ! ماذا تعني اسمي ! .. أعلمُ أنهم ينادونني (عذاري) ، لكن أيجبُ أن أخبر الناس به ؟
وقتها ، كانت الحياةُ أشبه بلعبةٍ تفاجئني .. أفكرُ قبل أن أقدم على الخطوة التالية .. و أترقبُ النتائج بشغفٍ ..
لذا لم أُخبر ( سعيدة ) باسمي ، حتى بدأت معلمتي بإذاعة الأسماء لترتيبنا فركضت (سعيدةُ ) قائلةً: عرفتُ اسمكِ ..
( سعيدةُ) .. طفلةُ الأمسِ ، وصديقةُ الطفولة حتى أواخر المراهقة ، والتي اكتشفتُ فيما بعدُ أنها ابنةُ جيراننا .. وأسماءٌ كثيرة أذكرُ منها وجهًا صافحني عند أولى الخطواتِ في عالمِ المدرسة ( فادية ) ..ووجوهٌ وأيدٍ و ألعاب .. وقلبًا كان أنا ..
في نهايةِ الفصلِ ، تسلقتُ الجدارَ اقتداءً بإخوتي ، ووقعتُ لأحدثَ جرحًا على جانب جبهتي ، وكم أسعدني ذلك الجرح إذ نلتُ اهتمام معلماتي يوم استلام الشهادةِ : ما بكِ ( عذاري )؟ عسى أن يكونَ خيرًا ؟!
شعرتُ أن الجروح تعني مزيدًا من حبٍ واهتمام ، فطفقتُ أتمنى أن أشهر جرحي أمام الجميع ، لأنال ذات الاهتمام مرةً بعد أخرى ..
****
ذكرياتٌ محكمةُ الائتلاق في عقلي ، ذكرى حصة القرآن ، والأستاذة ( بدرية ) .. والصفِّ الثاني الابتدائي ..
كان من عادةِ الطالبات أن يقرأن من المصحفِ ويتتبعن الآياتِ بأصابعهن الرقيقة ، وكنتُ أنا التفردَ الصغير بينهن ، فلم أكنْ أتتبعُ بإصبعي .. في عقلي الصغير كنتُ أسخرُ ممن يلمسُ الآياتِ بإصبعه !
كنّا نقرأ سورة " الماعون" ، وكنتُ أتتبعُ المصحف ببصري ، لأفاجأ بصفعةٍ قويةٍ على وجهي ، أرفع رأسي وعيناي تتساءل : لماذا ؟!
-لمَ لا تتابعين بإصبعكِ؟
لم يتحرك لساني من هول صدمتي ، أحسستُ بسهامٍ حارقة موجهةٍ إليّ في شكلِ نظرات الطالبات المشفقات عليّ من حولي ..
-أكملي اقرئي .. قالتها لفتاةٍ أخرى ..
و دسستُ وجعي بين كفيَّ وتركتُ الدموع لتحكي ، وسافر الودُ من قلبي إلى مكانٍ آخر ..
***
بياضُ شرابي يذكرني بأولِ حبٍّ طفوليٍّ مارسه قلبي الغض ، أحببتُ ( سارة ) معلمة الرياضيات .. أحببتُها لأنني وجدتُ عبق أمي فيها ، و رائحة حنانٍ لذيذة دغدغت شغاف طفلة الصف الخامس الابتدائي ، يقفزُ قلبي طربًا كلما حظيتُ بشيءٍ منها دون الأخريات .. يقتلني انتظارُ يومِ جمع الدفاترِ خاصتي .. لأفرح بلقائها ، حتى جاء يوم الأربعاء ..
-(عذاري) ، اجمعي الدفاتر .
-حاضر .
جمعتُ الدفاتر وأسرعتُ لأذهب إليها في غرفة المعلماتِ ، نزلتُ درجات السلمِ وسط المبنى ، وتوقفتُ برهةً حين سمعتُ شجارًا قويًا ، معلمتي ( سارة ) والمساعدة ، عندها خفق قلبي خوفًا و ضممتُ الدفاتر ترقبًا .. كنتُ كمن اكتشفَ جرمَ من يحبُّ لأول مرة .. أردتُ الرجوع أو الركض ، لم أرِدْ أن أجعل معلمتي تغضبُ أكثر، فتراحعتُ قليلًا .. لكنني لاحظتُ طيف معلمتي يعبر الدرج فتقدمتُ نحوها ومددتُ بكومة الدفاتر لها..وتحدثتُ خائفةً:
-معلمتي .. هذه هي دفاتر الرياضيات ، جمعتُها ...
هوتْ ضربةٌ على ظهري بدت وكأنها تشقُ جسدي الصغير وتخترق قلبي ، أحسستُ أن غضبها قد تكوّم في قبضتها ليجد طريقه إلى فؤادي .. وتساقط دفترٌ وراء الآخر على إثرها ..
ذهبت معلمتي وتركتْ جسدًا واقفًا ذاهلًا ، نظرتُ إلى الدفاتر التي جمعتُها على الأرض ، تذكرتُ الفرحة الجميلة التي غمرتني لأذهب إليها ، و خيالي للدخول إلى غرفة المعلماتِ ، ولقاء معلمتي .. وتحدر خطانِ بحجمِ ألمي على وسادة خدّي ، أحسستُ أن ألم ظهري اليتيم يعادلُ آلام انقطاع أنفاسي مع الشهقاتِ التي أكاتمها ، بحثتُ في الجوار عما إذا كانت إحداهنّ قد شاهدتْ وجعي ، فكانت تلك معلمةُ الغياب والحضور ( مها ) ، اقتربتْ ولاطفتني : أتودين أن تذهبي بهذه الدفاترِ لمكانٍ ما ؟
رددتُ وأنا ألملم الدفاتر المتناثرة : أجل ..
و بدأت دموعي تتشكلُ في بلوراتٍ متناميةٍ و ترتسمُ على وجهي المحمر..
أخذت المعلمةُ الدفاتر ومضت ، لأدخل لدورة المياه أغسلُ بقايا دموعي ، و أعود لفصلي .. وأودع قلب الأستاذةِ ( سـارة ) ..
لمْ يدُرْ بخلدي ، أن الجروح قد لا تندملُ بكثيرِ اهتمام ، وأنها تبقى في القلوب كالوشم الباقي على مر الزمن ..
وغدًا إذا ارتجفت اللحظاتُ ، وذاب لحنٌ في الحياة، أغمضتُ جفني واستعدتُ هاتيك الأيام..
وابتسمتُ كما الآنَ وارتشفتُ لحظةً أخرى ، في دوحة حياتي ، فبعضُ الزمان لا يرحمُ بقايا السكون..
- أسبوع اللعب : أسبوعٌ لتعويد طلاب الصف الأول الابتدائي على محيط المدرسة .
- * يتم ترتيب فصول الابتدائية الحكومية ( غير الخاصة وتحفيظ القرآن ) بطريقة الأرقام ( أولى أول ، أولى ثانِ ..إلخ ) وعذاري في الصف ( أولى أول ) .
الفصلُ القادمُ : واكتملَ القِطافُ ..
.
.
.
المفضلات