بسم الله الرحمن الرحيم
ها أنا اليوم أرى نفسي مضطراً إلى إعادة كتابة كافة مشاركاتي السابقة
ما أقدمه اليوم هو أول جزء من رواية قمت بترجمتها وهي رواية توم جونز فأرجو أن تنال إعجابكم
عاش الإقطاعي أولوورثي في غرب انكلترا. وكان رجلاً غنياً ولطيفاً جداً ؛ ماتت زوجته , فتولت أخته الآنسة بريدجت أولوورثي الاهتمام بشؤونه.
كانت امرأة طيبة جداً في حوالي الثلاثين من عمرها ( أو أكثر قليلاً ) ولكنها لم تكن على قدر من الجمال.
بعد غياب دام ثلاثة أشهر في لندن , عاد السيد أولوورثي إلى منزله في وقت متأخر من إحدى الأمسيات. وبعد أن تناول طعام العشاء مع أخته , توجه إلى غرفة نومه فقد كان متعباً جداً , وبعد تلاوة صلواته جذب أغطية السرير وكان على وشك الاستلقاء على فراشه عندما رأى طفلاً رضيعاً يتمدد نائماً بين الأغطية .
" يا للمسكين الصغير ! " تمتم السيد أولوورثي ثم راح يقرع الجرس منادياً مدبرة المنزل التي لم تكن دهشتها أقل من دهشته عندما رأت الطفل.
فصاحت : " آه يا سيدي , ماذا نفعل ؟ "
في هذه الأثناء , كان السيد أولوورثي قد وضع إحدى أصابعه في يد الطفل , فأخذ هذا الأخير يضغط عليها وكأنه يطلب المساعدة .
" خذي هذا الطفل إلى سريرك واطلبي من إحدى الخادمات أن تطعمه. وفي الصباح هيئي له بعض الملابس الملائمة ثم أحضريه إلي " قال السيد أولوورثي لمدبرة المنزل.
في الصباح التالي , قرعت الآنسة بريدجت أولوورثي الجرس داعية السيد أولوورثي لتناول طعام الفطور . وقبل أن يبدأ باحتساء الشاي قال لها : " عندي لك هدية يا أختي العزيزة " . فردت قائلة : " آه , شكراً لك يا أخي العزيز . . لابد أنها ثوب جديد أو حلية جلبتها لي مـن لندن ! ". ولكنها لم تلقى ما توقعته عندما أحضرت مدبرة المنزل الطفل الصغير . ثم روى السيد أولوورثي لأخته كيف وجده , وأردف قائلاً : " إنني أنوي العناية به وتنشئته كما لو كان طفلي ".
(2)
من هي الأم ؟
بعد أن خرج السيد أولوورثي , انتظرت مدبرة المنزل لترقب سلوك الآنسة بريدجت , التي نظرت إلى الطفل ثم قالت وهي تقبله : " يا له من طفل جميل ! " .
وبعد ذلك , أمرت بسخاء كبير إحضار كل ما يحتاجه الطفل , كما اختارت له إحدى أفضل الغرف في المنزل لتكون غرفته الخاصة . وانتهت إلى القول : " بما أن الاحتفاظ بهذا المخلوق كان فكرة أخي السخيفة , فإنني أعتقد أننا يجب أن ننزل عند رغبته " .
وانتشر الخبر بسرعة بين نساء القرية المسنات , فأخذن يتساءلن فيما بينهن , " من هي والدته ؟ " ؛ وذكرن عدة فتيات ممن كن يسكن في القرية , وفي نهاية الأمر تركزت شكوكهن على جيني جونز .
لم تكن جيني جونز على قدر من الجمال , ولكنها كانت شديدة الذكاء . عاشت عدة سنوات مع أستاذ مدرسة يدعى بارتريدج , وكان قد اكتشف رغبتها وسرعتها في التعلم , فعلّمها اللاتينية . وقد حصلت في الواقع على قسط من التعليم أوفر بكثير من معظم أفراد القرية , مما جعل جيرانها ينفرون منها .
قالت إحدى النساء : " كان الناس غالباً ما يرون جيني في منزل السيد أولوورثي , فقد كانت تقوم برعاية الآنسة بريدجت فترة مرضها وتسهر على راحتها . وقد رأوها هناك في اليوم الذي سبق عودة السيد أولوورثي " .
(3)
من هو الأب ؟
قيل للسيد أولوورثي أن جيني هي الأم , فأرسل في طلبها , وعندما وصلت أدخلها إلى غرفته وقال : " أنتي تعرفين يا صغيرتي أنني أستطيع أن أعاقبك بشدة , لكنني لن آخذ بعين الاعتبار أنك قد ضاعفت ذنبك بوضعك الطفل في منزلي , فأنا أدرك أنك ما فعلت ذلك إلا بدافع المشاعر الطبيعية التي تحملينها تجاهه وبأمل حصوله على رعاية أفضل من تلك التي يمكنك أنتي أو ولده توفيرها له . وكنت فعلاً سأغضب كثيراً لو أنك تركته في مكان ما تحت المطر والبرد كما تفعل بعض النساء . إلا أنك يجب أن تعي نتائج ما فعلت " .
فصاحت جيني : " آه يا سيدي , إنني حقاً نادمة على ما فعلت " .
" أنا أصدقك في هذا , وقد تحملت كل هذا العبء لأنني اعتقدت فعلاً بأن لديك مشاعر طيبة . ماذا أفعل بخصوصك الآن ؟ " .
وصمت السيد أولوورثي وأخذ يفكر بعمق , ثم قال : " سوف أتدبر أمر نقلك إلى مكان بعيداً عن هنا حيث يمكنك أن تبدئي حياة أفضل تحت اسم آخر " . فقالت جيني : " ولكن . . الطفل . . ؟ " .
" لا تشغلي نفسك بالتفكير فيه , فأنا سأعتني به وأنفق عليه أكثر مما كنت تأملين " .
" ما أحب طيبة قلبك يا سيدي . سوف أجعلك قدوة لي وأحاول أن أعيش حياة أقوم في المستقبل " .
" إذاً , لم يبق إلا أن تخبريني باسم والد الطفل , فغضبي منه أكبر بكثير من غضبي منك " , رد السيد أولوورثي .
" أوه ! أتوسل إليك سيدي ألا تسألني عن اسمه , فقد قطعت عهداً على نفسي أمام الله بعدم البوح به الآن , ولكنني أعدك بالبوح لك به يوماً ما " .
(4)
السيد سمّر والكابتن
كان السيد أولوورثي رجلاً طيب القلب . وكان من عادته أن يستضيف في منزله أناساً محتاجين ولكنهم شرفاء . وكان السيد سمّر واحداً من هؤلاء الناس .
وقد كان والده صديقاً قديماً للسيد أولوورثي .وعندما توفي الأب , تكفل السيد أولوورثي بنفقات تعليم الابن في المدرسة والجامعة . وبعد أن ترك الجامعة , عاش مع السيد أولوورثي لمدة عام , وقد كان السيد سمّر رجلاً وسيماً , محترماً , ولكنه لم يعش طويلاً , فقد هاجمه المرض ووافته المنية قبل حوالي ستة أشهر من بداية قصتنا.
كان الكابتن بليفيل , وهو ضيف آخر من ضيوف السيد أولوورثي , لا يزال في ضيافته . كان في حدود الخامسة والثلاثين من عمره , أسنانه منضدة وابتسامته جذابة . وقد تلقى تعليمه الجامعي ليصبح راهباً , كما كان والده يريد , إلا أنه بعد وفاة والده أصبح ضابطاً في الجيش . عاش بعد ذلك في ضيافة أولوورثي . وكرس وقته كله لدراسة الإنجيل .
يقول الحكماء إنه قد قُدّر على الناس أجمعين أن يقعوا في الحي مرة واحدة في العمر . وحب الفتيات الصغيرات حب متقلب , إذ أنهن يقعن في حب رجل وسيم ولا أحد يعلم ما هن فاعلات ومن المشكوك فيه أن يكنّ أنفسهن يعلمن ذلك .ولكن الآنسة بريدجت قد بلغت السن الأنسب للوقوع في الحب . لم تغرم بوجه جميل , إذ أن وجه الكابتن كان مغطى تماماً بلحية سوداء , جعلت من المستحيل رؤية لون وجنتيه . كان بسيطاً في اختيار ملابسه , ضخم الجثة , قوي البنية , وأشبه بمزارع في الحقل . ولكن بريدجت لم تر أياً من هذه العيوب في مظهره بل فتنها أسلوب حديثه الآسر والمليء بالسحر .
لم يكن الكابتن يأبه لجمال المرأة , بل يميل لأن يحيا حياة مستقرة وإن مع امرأة قبيحة . وقد أحب أكثر ما أحب منزل السيد أولوورثي وحديقته وأراضيه , وكان قد علم منه أنه لا ينوي أن يتزوج ثانية . وبما أن أخته كانت أقرب المقربين إليه فإن كل ما يملك سيؤول إليها بعد موته . لهذا كان الكابتن يخشى أن يشك السيد أولوورثي بأمره إذا علم بما كان يجري , فكان دائماً يعامل الآنسة بريدجت ببرود وتكلف في حضوره.
إلا أن الأمور سارت على ما يرام , فبعد شهر طلب الكابتن بليفيل من الآنسة بريدجت أن توافق على الزواج منه . وبالطبع رفضت هذا العرض للمرة الأولى كما هي العادة . كرر طلبه بإلحاح فاستمرت هي برفضها , ولكنها لم تعد جازمة . وفي المرة الثالثة لانت وأجابت بـ (( نعم )) .
أصبح المهم الآن هو كيفية إخبار السيد أولوورثي بالأمر .
بينما كان السيد أولوورثي يتمشى ذات يوم في الحديقة , جاء الكابتن إليه وقال : " لقد جئت يا سيدي لأحدثك بأمر هام جداً . إنه أمر يخجلني . . . . ." .
فقال السيد أولوورثي : " لا حاجة بكما أنت وأختي لتكونا خجلين : .
" يا إلهي ! هل تعرف بأمر علاقتنا هذه ؟ " .
"نعم . لقد تجاوزت أختي الثلاثين من عمرها , ومن المفترض أن تعرف ما يسعدها .
لذلك فأنا لا أرى سبباً يجعلني أرفض الموافقة على اختيارها . إنك رجل ذو حس سليم ولا شك في أنك تحبها بقدر ما تحبك . . . " .
ثم أخذ يتحدث عن الزواج بالتفصيل , وكان الكابتن يشيد بحكمة السيد أولوورثي ويحاول أحياناً جاهداً إخفاء ابتسامات الغبطة والحبور .
المفضلات