بسم الله الرحمن الرحيم
إليكم أجمل ما قرأت من قصص الإبتلاء والتي تعيد الصبر لقلب كل مكلوم ومبتلى..
وحتما ستشعر بأن مصابك ليس بشئ أمام هذه القصة...
نحن الآن في الدار الخضراء قصر الخلافة الأموية، في يوم من أيام سنة 86هـ، في أزهى عهد من عهود أمية في الشرق، في عهد الوليد الذي حقق هذا الحلم، الذي لا يزال يتعلل بذكره قادة المعسكر الشرقي والغربي، حلم العدالة الإجتماعية، فجعل الأمة كلها أسرة واحدة، ليس فيها عاجز ولا محتاج، وفعل في القرن السابع الميلادي مالم تفعل مثله دولة في القرن العشرين.
نحن الآن في قصر الخلافة، ولكن القصر لا يضحك بالبشر، بل هو واجما كئيب، لأن ضيف الخليفة مريض، وقد حشد له الأطباء، فجاؤا من كل مكان، وحملوا معهم كل ما وصل إليه الذهن البشري، من معلومات وتجارب، فهم مجتمعون يفحصون ويبحثون...
ستقولون: ومن هذا الضيف؟أي أمير من أمراء البيت الأموي؟ أي ملك من ملوك الأطراف ؟ أي قائد من أعظم القواد؟؟؟
إنه أعز من كل امير، وأكبر من كل ملك وقائد، إنه عالم من أجل علماء المسلمين، ذلكم هو عروة بن الزبير شقيق الخليفة عبدالله بن الزبير، وابن أبيه وأمه، هذا هو ضيف الخليفة، الذي حشد له الأطباء من كل مكان، ليداووه من هذا الداء الذي نجم في رجله، وخرج الأطباء وقرروا أنه لابد من قطع رجله، وجزع الخليفة، ولم يدع بابا من أبواب الترغيب والترهيب إلا فتحه لهم وعرض عليهم كنوز الخزائن ولكنهم عجزوا، وترك لنا التاريخ وصفا لهذه العملية الجراحية، التي قبل ألف وثلاثمائة سنة...
عرضوا عليه الخمر ليسكروه، فلا يحس بألم القطع فأبى وقال: لا أستعين على قدر الله بمعصية الله.
فأرادوا ، أن يشرب المرقد" البنج"، فأبى وقال": لا أحب أن أسلب عضوا من أعضائي ، وانا لا أجد ألم ذلك فأحتسبه عند الله.
إنه يفضل أن يتألم ويلقى الثواب، عن أن يفقد الألم ويحرم الثواب.
وورد على الأطباء مالم يكونوا يتوقعوه، وسمعوا عجبا، كيف يتحمل هذا الشيخ قطع رجله، وهو صاح واع، ولم يدروا أن عنده ماهوأقوى من المسكر والمرقد، لديه شئ يستطيع أن يغيب به عن الدنيا كلها، وينساها ولا يعود يفكر فيها.
وعرضه عليهم فدهشوا،قال: إني سأدخل في ذكر الله، فإذا رأيتموني استغرقت فيه، فشأنكم بها، وذكر الله، لا كما نذكره نحن حين نذكره بألسنتنا، وقلوبنا في غفلة عن الذكر، ولكن ذكر اللسان والقلب والجوراح، فلما رأوه استغرق، بدأت العملية، قطعوا اللحم بالسكين المحمي بالنار، حتى إذا بلغوا العظم نشروه بالمنشار، وهو يهلل ويكبر، وقد جلله العرق، ثم عمدواإلى طريقة التعقيم التي كانوا لا يعرفون غيرها، فحموا الزيت في مغارف الحديد حتى إذا كووه به، أغمي عليه.
وكان الخليفة نفسه قاعدا في ناحية أبى إلا أن يحضر العملية إكراما للشيخ، ولكنه لم يستطع أن يرى، فلما شم رائحة الزيت علم أنها قد انتهت، ولما أفاق الشيخ من غشيته، رأى القدم في أيديهم، فأخذها يقلبها، قدمه التي كانت بضعة منه ثم قال: أما والذي حملني عليك إنه ليعلم أني مامشيت إلى معصية قط، وكان قلب الخليفة يتقطع أسفا وحزنا، ولكن ماذا يصنع له ، وهو رجل قد فرغ من حب الجاه وحب الغنى.
وإنه لفي هذه الغمرة وإذا بصرخة تخرق حجب الصمت أن لقد مات ابن الشيخ، ابنه محمد الشاب العالم الصالح، الذي كان أمل أبيه، وكان قرة عينه، يدخل الإسطبل ليخرج فرسا له، فيرفسه ويموت لساعته.
وهكذا تجتمع المصائب على هذا الشيخ الجليل، وفي هذه المحن يظهر الإيمان ويكون الصبر.
لقد أدرك الشيخ أنه لا ينفع في مثل هذا الموقف إلا الصبر، فما زاد على أن قال:"لقد لقينا في سفرنا هذا نصبا".
وقدم على الوليد من الغد وفد بني عبس، وفيهم رجلا ضرير، فسأله ماحاله، فقال ياأمير المؤمين، بت ليلة في بطن واد، ولا أعلم عبسيا يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل، فذهب بما كان لي من أهل وولد وومال، غير بعير وصبي مولود، وكان البعير صعبا فوضعت الصبي، وأتبعت البعير، فلم أجاوز إلا قليلا، حتى سمعت صيحة ابني ورأيت رأسه في فم الذئب وهو يأكله، فلحقت البعير لأتبعه، فرفسني برجله في عيني ففقدت بصري، فقال الخليفة : أرسلوه لعروة ليعلم أن في الدنيا من هو أشد مصابا منه.
واتعظ عروة وقال: اللهم إن كنت أخذت طرفا، فقد تركت أطرافا، وإن أخذت ولدا فقد تركت أولادا، ولك الحمد على ما أعطيت وما أخذت.
وعاد عروة إلى المدينة، وتلقاه الناس يعزونه، فكان أبلغ ماقيل له، قول إبراهيم بن محمد بن طلحة:
والله مابك حاجة للسعي، ولا السباق، وقد أبقى الله منك ما نحن أحوج إليه، علمك وفضلك، وإن الله ولي ثوابك والضمين بحسابك.
بمثل هؤلاء فليتواسى المبتلون....
المفضلات