جدي..
عرفته والشيب قد صبغ لحيته.. ورزانة المؤمن قد أخذت بلبه..
وتمضي الأيام, بعد أن رضعت حبه صغيراً, ثم عراني دم الشباب وأنا أتردد بين أكنافه, إلى أن جاء أجله المحتوم, بعد مصابه بوعكة صحية دامت ردحة من الزمن..
ثم صعدت روحه ترجوا رحمة ربها..
طـار الحمـام وقُـوِّض المخيـامُ
وطغى على كبد السـماء قتــامُ
واستنشتِ الأحزانُ من لحْـظِ الهوى
نـاراً لهـا بين الضـلـوع هُيَـامُ
وتلاقتِ الآهاتُ مُبْهَـمَةَ الصَّـدَى
تـرثـي الإمـامَ ودَمْعُهَـا نَمَّـامُ
فيُثارُ في سكنَ الجوانـح والحشـى
قـزعٌ من الأنّاتِ .. ثمّ غـمـامُ
وتُمـدُّ أشـرعـة المـآقي للنوى
فتسـيـلُ مـدراراً ولا تلـتـامُ
بالأمس (غَزَّةُ) حال دون قريضهـا
كَسْرُ الجناحِ وغيْهبٌ صَمْـصَـامُ
واليوم (جـدي) سار ممتطيَ الرَّدَى
والنّعش طـوّقَه الأسـى وزِحـامُ
كم كنـت أرجو أن أراه منـعمّاً
يـردُ الحيـاةَ ويعـتـريـه قِـوامُ
لكنّـهَا الأيَّـامُ تَخْـتِـلُ نَفْسَهَـا
ويجيشُ في صدري أسـىً وضـرامُ
وخبا من الليل الطـويـل سنـاؤه
وحـوى على القمر المنـير ظـلامُ
وسرى خفوت القلب في جثـمانـه
بسـكيـنـةٍ تُجْبَـى إليـه كـرامُ
والروح تصعد للسـمـاء خفيفـةً
من ذنبـهـا ويريحـهـا العـلاّمُ
(ودّعتُ نفسي حـين جاء نعيّـهُ)
وهـوت علـيَّ أسنّـةٌ وسهـامُ
يا ساكنَ الحرم المضمّـخ بالهـدى
يرثيك في البيت العـظيـم مقـامُ
ورثاءُ زمـزم والمشـاعر والصـفا
والركن .. والحجـر الجليل بُغَـامُ
يا سـاقيَ الحـرم المجمّـل بالندّى
تبكيـك مكّـة دمعهـا سجّـامُ
قد كنت في كنف الحيـاة متـوجاً
تسعـى علـيك سمـاحةٌ وسـلامُ
واليـومَ أودعـتَ الثـرى متنـعمّاً
تحيا.. وإن بليـت لديـك عظـامُ
إني لأذكـر ذلك العهـد الـذي
مُحِيَتْ نضارتــه وبـات يُـرامُ
وأظل أذكر ذلـك الجسـم الذي
أكداه في طـول الظـلام قيــامُ
تتنـعم الفـقـراء عنـد نوالـه
وتَخُبُّ نحـــو فعالـه أقـوامُ
ولقد عشقت اليوم أنغامَ الصبـا
وجميـلَ دهـر سـاقه إنعــامُ
فأروح أغدو بين أحضان الهـوى
(والجَدُّ) مـني ضـاحـكٌ بسّامُ
عهدٌ مضـى بشعـاره ودثـاره
فرثاه من فرْطٍ جـوىً وحِمَـامُ
أيَدَ المنون خطـفت جمعاً قبلـهُ !!
وقطعتِ آمـالاً !! فـلا إيـلامُ
هذي الحياة كطرفـةٍ أو ومضـةٍ
تزكو بها الأنّـات وهـي رِمـامُ
فالغرّ من أمن القـرار بـدارهـا
والخبِّ من نُكِستْ لديـه الجـامُ
الموتُ حـقٌّ .. والبريّةُ رُحّـلٌ ..
تفنيـهم اللحظـات والأيّــامُ
فاجعل بقاءك في البسيطة غربـةً
أو عـابـراً لسـبـيـله إلمـامُ
لا تأمنِ الدهر الخؤون مسـالمـاً
فالعيش لا يبـقـى عليـه دوامُ
لولا رهام العين ما انطفأ الجـوى
والصـبر منّـي بـدْأةٌ وختـامُ
مرآك في قلبي وحبـك في دمـي
وإليـك منّـي دعـوةٌ وسـلامُ
أبو الليث الشيراني 16/1/1430هـ
مكة المكرمة
-حرسها الله-
المفضلات